المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ماذا وقع بعد الكمين - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٠

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ ماذا وقع بعد الكمين

6 -

‌ ماذا وقع بعد الكمين

(*)

وقع اشتباك عنيف بين ثلاث فصائل من جيش التحرير الوطني، وبين قوة صخمة من الوحدات الافرنسية المدعمة بالدبابات والمدفعية الثقيلة والطائرات قاذفات القنابل والطائرات العمودية (الهيليكوبر) وذلك على قمم جبال (ميمونة) غير بعيد من (بو سعادة). وعلى الرغم من إشتعال الأرض بنيران القنابل البكتريولوجية (الميكروبية) السامة التي لم يتورع أعداء الإنسانية عن إلقائها على المجاهدين، فقد إستطاعت قوات جيش التحرير أن تتفادى ضربات العدو، وأن تنزل به أفدح الخسائر، حيث سقط في ميدان المعركة مئات من جنود الإستعمار بين قتلى وجرحى، وفيهم عدد كبير من الضباط على رأسهم النقيب - الكابتن - (سينكا) كما تحطمت ثلاث قاذفات قنابل وطائرتان عموديتان، واحترقت جميعها في الجو بمن فيها.

وقد استمرت هذه المعركة الرهيبة من طلوع الشمس إلى الساعة التاسعة مساء، حيث عاد الهدوء إلى ميدان المعركة، وساد

(*) المرجع: مجلة (المجاهد) 20/ 3 / 1959.

ص: 154

الصمت، إلا من الصراخ والأنين والأصوات الحزينة الشاكية تنبعث من جرحى الأعداء وهي تائهة مختنقة، وبينما كانت قوات المجاهدين تنسحب مبتعدة عن ميدان المعركة ظهرت الطائرات وهي تدوي بهديرها في وحشة الليل لترسل أنوارها الكشافة فتضيء السماء، وتساعد قوات العدو على إخلاء جرحاه وإحصاء قتلاه. وكان منظرا مثيرا قيام قادة الوحدات الاستعمارية بصب النفط على الجثث المبعثرة والرؤوس المتناثرة لقتلاهم ثم إشعال النار فيها، وكان باستطاعة المراقب البعيد أن يرى سفوح جبال (ميمونة) وهي تحترق بجثث الأعداء، في محاولة لإخفاء آثار الهزيمة المنكرة التي نزلت بهم.

لم تقف قصة الكمين عند هذه النهاية، فإذا ما عجزت قوات الاستعمار عن مجابهة المجاهدين المسلحين فلا أقل من أن تنتقم من المدنيين العزل. وهكذا إتجهت وحدات العدو للبحث عن ضحايا بريئة تصب عليها نقمتها، وتثأر منها لهزيمتها، فوصلت عند العاشرة مساء إلى مضارب بعض البدو الرحل من قبيلة (أولاد سليمان) وهناك، جمع الرجال الموجودون في الخيام، وكانوا تسعة عشر رجلا، بينهم شيوخ عجز لا يستطيعون رفع أيديهم في الهواء، وبعض الشبان ثم طفلان عمرهما (14) و (15) عاما.

وأراد جند الإستعمار أن يظهروا أمام هؤلاء المدنيين العزل شجاعتهم التي فقدوها في ميدان المعركة، فأخذوا يضربونهم بمقدم بنادقهم ويصيحون فيهم (أنتم فلاقة - عصاة) ثم أجبروهم على المبيت عراة طوال الليل، والبرد القارص يعضهم بنابه، ثم إقتادوهم

ص: 155

في الصباح إلى المركز العسكري في (دوسان) وهناك قسموهم إلى فئتين: فئة تضم الشبان الأقوياء وعدد أفرادها ستة شبان، وفئة تضم الباقين وعددهم أحد عشر رجلا. وبدأت عملية التعذيب بالوسائل التقليدية، حيث تعرضت الفئة الأولى (فئة الشبان) لكل أنواع التعذيب، من كهرباء وماء مضغوط وجلد وضرب مبرح، إلخ

ثم أرغموهم على ارتداء الملابس العسكرية التي تظهرهم بمظهر جنود التحرير، وعين أقواهم بنية ليكون رئيسا لهم، ثم أمروهم برفع أيديهم في الهواء، وأخذت لهم الصور (التذكارية) على هذا الوضع. وكان الهدف من ذلك تغذية أجهزة الإعلام والدعاية الإستعمارية، والترفيه عن أرملة (الكابتن سينكا) التي كانت تشهد المنظر لتشفي غليل إنتقامها. ثم أخذوهم بعد ذلك، وطافوا بهم على سكان القرية - إمعانا في الإرهاب ونشر سياسة الرعب - ولم يتمكن مواطنو القرية المسلمون من إخفاء مشاعر السخط والإشمئزاز، لهذه الأساليب القذرة. وفي المساء، جمعوهم في ساحة مركز (دوسان) العسكري، حيث قيدت أيديهم وأرجلهم، وأطلق ثلاثة من الجلادين الإفرنسيين نار رشاشاتهم عليهم، ثم أفرغوا رصاص مسدساتهم في رؤوس هؤلاء الأبرياء.

لم ينج أفراد الفئة الثانية (الشيوخ) من وحشية الإستعماريين الذين قذفوا بهم جميعا في حفرة ملؤها الماء الآسن الذي يصل حتى مستوى بطونهم. وراح جند الاستعمار بالترفيه عن أنفسهم وذلك بقذف هؤلاء الشيوخ بالحجارة، أو بغمر رؤوسهم بماء الحفرة، حتى إذا ما أشبعوا رغبة التعذيب الجنونية في نفوسهم المريضة. غيروا طريقتهم، وأخرجوهم إلى شمس الجنوب المحرقة، وأمروهم بجمع المعاول والرفوش المتناثرة في ساحة المركز، وطلبوا

ص: 156

(ليل الانتقام - كما تظهر في زاوية الصورة- بالافرنسية -)

ص: 157

إليهم حفر حفرة كبيرة. وكان صوت الحديد المرتطم بالأرض يختلط بأنين الشيوخ العجز الضعفاء، فيشكل لحنا حزينا يثير الأسى ويبعث الألم وعندما تجرأ أحد الشيوخ، وقد خارت قواه، فطلب جرعة ماء، يطفيء بها نار أحشائه، بادره جندي شجاع بلكمة قوية في بطنه قذفت به كالكرة وهو يتدحرج على أقدام إخوانه.

وكلما نال الإعياء من هؤلاء الضحايا المعذبين، صاح بهم الجنود يأمرونهم بالإسراع في العمل وهم يوجهون إليهم الكلمات بالأيدي والرفس بالأرجل حتى نال الإعياء أخيرا من هؤلاء الجنود ذاتهم، فذهبوا للراحة، وأسلموا ضحاياهم إلى بعض الجنود (السنيغاليين) الذين أظهروا سخطهم على عمل زملائهم. وأبدوا نحو هؤلاء المستضعفين كثيرا من الرأفة والشفقة - باعتبارهم مسلمين مثلهم، وباعتبارهم خاضعين للاستعمار أيضا، فمكنوهم من الاستراحة، وقدموا لهم بعض الماء، وهذا كل ما كان باستطاعتهم عمله.

جاء اليوم التالي، وسلك جنود الاستعمار طريقا جديدة للتعذيب، فحزموا ضحاياهم بأربطة من الأسلاك الشائكة على ظهورهم، وأمروهم بالسير (أمام أرملة - سينكا) وكانت الجراحات العميقة تخطط جلودهم. وقام أحد الجنود بإشعال النار في ذقن (لحية) شيخ وقور فيما وقف رفاقه المجرمون يقهقهون ضحكا على هذا المشهد الغريب ويطلقون تعليقاتهم الساخرة. وأعيد بعد ذلك الشيخ إلى حفرة الماء، حيث إلتهب جراحهم، واستمر تعذيبهم على هذه الصورة طوال خمسة أيام - لم يقدم لهم خلالها أي طعام ولا ماء.

ولم تعرف لهذه القصة الحزينة نهاية.

ص: 158