الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
القيم الأخلاقية عند
جيش التحرير
(*)
عندما بدأت الثورة الجزائرية زحفها المظفر، بجماعات قليلة من الشباب الثائر، تلقاها الشعب الجزائري كله بالفرح والتأييد، فكثرت فرق المجاهدين، وتوسعت مناطق النفوذ، وبدأت النظم التي كانت حتى الأمس أملا في الصدور، وفكرة في العقول، تبرز حقيقة ساطعة وواقعا حيا.
لقد استطاعت الثورة الجزائرية أن تتقدم نحو النصر، بسبب ذلك التجاوب العميق الذي كان بين الرأس الموجه للثورة، وبين الشعب الذي وجه إليه النداء. وكان ذلك التجاوب نفسه هو الذي أعطى للجماعات المجاهدة من اليوم الأول للثورة، ذلك الطابع القوي من الخلق الفاضل، والسلوك المثالي، لقد تطهر الشعر الجزائري من أدرانه بعد سنوات الاحتلال الافرنسي الغاشم، وبعدما أنزله الاستعمار من محن ونوائب بهذا الشعب الذي عاد للظهور وهو يحمل كل فضائله الدينية والأخلاقية التي بقيت كامنة طوال أكثر من
(*) المرجع: مجلة (المجاهد) العدد 9 - (20 أوت - آب - 1957).
قرن من الزمن، تنتظر الفرصة المناسبة وتتحين الظرف الملائم الذي أوجدته ثورة الفاتح من تشرين الثاني - نوفمبر - 1954. فكانت هي الإيذان لتلك القيم بالظهور، على طبيعتها، فبهرت الدنيا وأدهشت العالم.
…
كان جيش التحرير الوطني هو التنظيم الذي مكن تلك القيم التي كانت حتى الأمس كامنة، بالظهور. وكان جيش التحرير هو الذي آلت إليه تلك القيم، فأعطاها النظام الملائم. لقد بدأت فرق جيش التحرير، في أول الأمر، قليلة لا تملك إلا التوجيهات العامة، ثم جاء مؤتمر (20 أوت - آب - 1956) الذي أعطى بعد ذلك نظاما موحدا لجيش التحرير في كامل ولايات الكفاح في القطر الجزائري، والذي سن قوانين محددة لا يتعداها المجاهد، ويرجع إليها جميع القادة. وهكذا أصدر ذلك المؤتمر قرارا بتحريم الإعدام ذبحا، وتحريم جميع أنواع التمثيل بالشخص أو التشويه بخلقته. كما نص على أن كل من يتعدى على عرض فتاة أو امرأة محكم عليه بالإعدام. وعلى أن تنفيذ الإعدام لا يتم إلا بعد محاكمة شرعية قانونية، يتمكن فيها المتهم من الدفاع عن نفسه، كما أمر بوجوب العناية بالأسرى. وانصرف قادة الجيش بعد المؤتمر إلى مختلف ولاياتهم يطبقون نظاما واحدا، ويرجعون إلى قانون واحد، وتقودهم إلى الهدف الواحد أخلاق واحدة، وسلوك مثالي مشترك. وبذلك تكون الثورة قد أقامت الدليل عل أنها تمثل القيم الأخلاقية للشعب الجزائري.
لم تكن تلك النظم برنامجا من وضع شخص بمفرده، ولكنها كانت
الإعداد النفسي، محاضرة في معاقل الثوار
نظاما يتجاوب مع ما يشعر به كل جزائري في أعماقه من إحساس عميق، وما يؤمن به داخل نفسه من سلوك، وما يطبقه في حياته من أخلاق. ولذلك لم يجد قادة جيش التحرير، عندما رجعوا الى مراكز عملهم، صعوبة في تطبيق تلك النظم، ولذلك أيضا لم تبق تلك النظم مجرد عبادة مكتوبة أو قاعدة محفوظة، ولكنها صارت حقيقة ثابتة يعيشها المجاهد في وحدته ويطبقها في حياته اليومية، ويؤيدها الشعب كله، وهذا هو ما مكن جيش التحرير من إحراز انتصاراته بالرغم من قلة عدده. وقد اعترف الأعداء ذاتهم بهذه الحقيقة التي كانت سببا في إحباط جميع الدعايات الاستعمارية التي حاولت أن تبرز مجاهدي الثورة في صورة قطاع الطرق، الذين لا يقيمون وزنا لأي مثل أخلاقي أعلى ولقد شاهد الصحافيون الأجانب بأنفسهم ما يتمتع به المجاهدون الجزائريون من سلوك فاضل وروح عالية وانضباط رائع.
لقد كتب صحافي إفرنسي زار ولاية وهران في السنة الماضية (1956) يقول: (ومما لاحظته أثناء مقامي في المناطق التي زرتها، أن جنود جيش التحرير يحترمون بكل دقة قوانين الحرب. وقد شاهدت بعيني أسيرين إفرنسيين يعيشان بين الجنود، ويأكلان مما يأكلون، ويطالعون الصحف، ولسنا في حاجة إلى أن نورد أسماء الأسرى الذين أطلقت قيادة جيش التحرير سراحهم فعادوا الى أهلهم يعيشون في سلام. أولئك الأسرى الذين تعمدت الصحف الإفرنسية أن تصمت عنهم، فلم تشر إليهم بأكثر من إشارة غامضة، إلا أن ذلك لم يمنع الحقيقة من أن تنتصر في النهاية. وها هم اليوم مبعوثو الصحف الكبرى والمجلات الأجنبية، التي لها صدى كبير في العالم أجمع، يزورون معاقل جيش التحرير، في جبال الجزائر، فيرون عن كثب أن ما تنشره قيادة جيش التحرير ليس دعاية مبالغا فيها ولكنه الواقع المحض).
إن جيش التحرير الوطني هو جيش ثوري تتألف أغلبيته من شبان ملأ الإيمان قلوبهم، ودفعهم الهدف النبيل الى الكفاح الشاق والمرير، ومن ذلك، أن الشباب الطامح يتخرج منه الضباط والمسؤولون العسكريون الذين يشرفون على توجيه الثورة وقيادة فرق جيش التحرير. ولنرجع إلى شهادة الإفرنسي الذي زار ولاية (وهران) فقد كتب يقول:(لقد لمست هذا الإيمان في محادثة أجريتها مع أحد المجاهدين، إذ قال لي: هل يحسب المستعمرون أن أولئك الذين صمدوا إلى الجبال سوف ينزلون منها دون أن يحصلوا على الاستقلال؟ فلو فرضنا أنه لم يبق في الجزائر إلا امرأة عمياء، فإنها لن تتردد في حمل السلاح وفي الكفاح من أجل وطنها. ولو فرضنا أن تلك المرأة تسقط بدورها شهيدة الواجب، فإن الجزائر بأكملها - الجزائر التي أحرقت غاباتها وأبيد أهلها - سوف تثور حجارتها على المستعمر الطاغية).
…
يجمع المجاهدون الجزائريون، إلى هذا الإيمان العميق، إقداما عجيبا على الموت وطلب الشهادة، لا تردهم عن غايتهم رغبة في حياة، أو تعلق بملذة من ملاذ الحياة. إنهم واجهوا العدو، في ثبات منقطع النظر، واستطاعوا أن ينسجوا بتفانيهم في أداء الواجب، أروع قصص البطولة والتضحية. ومن من الناس يجهل اليوم أحاديث تلك المعارك الرهيبة التي خاضها جيشنا في كل مكان. فأظهر من صنوف الإقدام والثبات ما بهر العدو، وزعزع معنوياته، وجعله يتأكد أنه لن ينتصر على جيش التحرير الوطني؟.
إن جيش التحرير في مواجهته للعدو الإفرنسي لا يعتمد إلا على الشعب، ولذلك تراه يعتني بالمدنيين، ويجنبهم هجمات العدو،
ويبذل قصارى جهده لحماية المدنيين العزل من ضربات (وحوش التهدئة) ليس هذا فقط، بل إن جيش التحرير قد وضع في كامل (ولايات الكفاح) منظمات اجتماعية وصحية للعناية بعلاج المرضى والجرحى. بل كثيرا ما ساهم المجاهد الجزائري في حراثة الأرض، وتقديم العون للفلاح على أداء عمله الشاق. وتلك هي خطوط عامة ولمحات وجيزة عما يمتاز به جيش التحرير من فضائل خلقية، فهو رؤوف بالمدنيين. شجاع في مقابلة العدو، إنسان في احترام قوانين الحرب. ولذلك فليس من تجاوز للحقيقة عندما يوصف جيش التحرير الوطني بأنه الممثل الوحيد للقيم الأخلاقية العليا التي يتصف بها شعب الجزائري.
…
والآن لننظر ما هو نصيب الجيش الافرنسي من الأخذ بتلك الأخلاق والفضائل، وما هو أسلوب الجيش الافرنسي في حربه ضد شعب الجزائر المجاهد؟ - إن الجيش الافرنسي لا يخوض حربا بالمعنى المعهود للكلمة، لأن جنده وقادته وموجهيه تحولوا كلهم الى وحوش تنشر الدمار والخراب، وتحرق الغابات والمنازل، وتقتل الأبرياء والمدنيين، إنهم يحاولون إبادة الشعب الجزائري. إن فرسا في حربها ضد الجزائر المجاهدة قد حشدت جميع قوى البغي والطغيان والشر، وراحت تحاول بشتى الوسائل، في المدن كما في القرى، في الجبال كما في السهول، القضاء على المقاومة المسلحة وتدميرها. وأخبار الفظائع الافرنسية باتت بارزة على صفحات معظم المجالات والصحف في العالم، ولم تعد خافية على أحد. بل ان الافرنسيين ذاتهم قد تعرضوا لبعض صور (حرب الابادة) التي جعلت من الافرنسيين أمة من أكثر أمم الأرض وحشية
ونذالة، وهل هناك من بات يجهل قصص (فظائع التهدئة) التي عمت الجزائر؟
…
وهل من الناس من لم يعرف ما نظمته فرنسا في سنة (1956) من إحراق للغابات، مع من يقيم فيها من المواطنين، وبما فيها من خيرات؟ وهل في الناس من يجهل اليوم (أخبار المشوهين) الذين يموتون تحب التعذيب، لا لسبب إلا بسبب حظهم العاثر الذي جعلهم يصادفون جنديا إفرنسيا في الطريق؟ ومن يجهل أيضا حوادث الإعدام بدون ذنب ومن غير محاكمة؟ ومن من الناس يجهل حوادث المشبوهين الذين تقذف بهم الطائرات الإفرنسية، فيقضون أجلهم في الفضاء قبل أن يتحطموا على الأرض كتلا آدمية، وقطعا متداخلة من لحم وعظام؟ وهل هناك من لم يعرف بتلك المجازر الاجماعية التي لم يتردد الافرنسيون المتحضرون في أن يستعملوا الفؤوس لتهشيم الرؤوس وقطع الرقاب، ليصدق الناس - حسب توهمهم - أنها من فعل الثوار؟
…
لم يقف جند فرنسا - المتحضرة - عند حدود تقتيل المدنيين والأبرياء، بل تجاوزوا ذلك الى ذبح النساء والشيوخ والأطفال، وبقر بطون الحوامل ليروا ما تحمله من ذكر أو أنثى، بعد أن يكونوا قد قامروا عليها فيما بينهم بزجاجة خمر أو حتى علبة لفافات تبغ (سجاير). وكأن ذلك كله لم يكف السلطة الاستعمارية الإفرنسية، فراحت تقتل في وضح النهار باسم القانون، وتعلن للدنيا قاطبة، وكأنها تتحدى العالم أجمع، تقتيلاتها تلك، فنصبت المقصلة تقطع رؤوس المجاهدين الجزائريين الذين يعتبرون في نظر الاتفاقيات الدولية أسرى حرب، لا حق لفرنسا في أن تحاكمهم، فضلا عن أن تنفذ فيهم أحكام الإعدام.
إن الافرنسيين، لما توالت هزائمهم في البوادي أثناء الاشتباكات والمكامن يوقعهم فيها (جيش التحرير الوطني) ولما فشلوا في المدن أمام أعمال الفدائيين، لم يسلكوا طريق الحرب وقوانينها. وإنما لجأوا إلى الأساليب التي تعبر عن الجبن والنذالة، وأملهم في ذلك قمع الثورة، وتدمير الروح المعنوية للشعب الجزائري حتى يتراجع عن طريق الجهاد. غير أن ذلك ما نال شيئا من إيمان الشعب، وما أضعف أبدا من الروح المعنوية للمجاهدين الجزائريين الذين تعاظم تصميمهم، وتزايد عنادهم - لدى رؤيتهم لتلك المجازر الوحشية. فمضوا على طريق الجهاد للقضاء على ذلك الوجه الاستعماري الذي ما كانوا يعرفون عنه إلا القليل.
ذلك هو أسلوب المستعمرين الذي قادهم إلى الهزيمة، وذلك هو أسلوب الثوار الذي قادهم إلى النصر.