الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 -
معركة الحوض (*) 1959
كانت مجموعة المجاهدين تسير في طريقها إلى (جبل الحوض) تحت سيل المطر المنهمر بغزارة، والليل مظلم موحش، وشعر المجاهدون بالتعب وهم يخوضون في الوحل الكثيف، ويحملون فوق أعبائهم ثقل ثيابهم المبللة. ولاح لهم أن موعد الفجر بات قريبا عندما وصلوا إلى مكان في الجبل، تغطيه الأشجار الكثيفة. فنظموا الحراسة من كل جانب، وعلى كل اتجاه، وانصرف من لا عمل لهم لأخذ قسط من الراحة والنوم. غير أنه لم تمض أكثر من فترة وجيزة حتى ارتفع صوت مجاهد من الحرس وهو يعطي أمره بالوقوف لرجل ظهر أمامه. وأسرع قائد المجموعة نحو مصدر الصوت ليستوضح جلية الأمر. فإذا به أمام رجل الحرس وقد أصدر هذا أوامره إلى رجل يقف أمامه: قف، ارفع يديك!
وامتثل الرجل للأمر، وعاد رجل الحرس ينادي طالبا رئيس الحرس الذي قدم بدوره مسرعا. وتقدم قائد المجموعة ورئيس الحرس من الرجل الغريب، فوجدوه مدنيا - مواطنا جزائريا -
(*) المرجع - العدد 42 من مجلة (المجاهد) الجزائرية1/ 11/ 1959. (بتصرف)
.
وعرفوه
…
إنه أيضا من مجاهدي الناحية، وممن يعملون في عمل إداري في صفوف جبهة التحرير الوطني. وكان مع (الرجل الغريب) صبي يحمل في يده إبريقا من القهوة، وسلة (قفة) صغيرة يغطيها منديل. وسرعان ما اكتشف (الرجل الغريب) أنه يعرف رئيس مجموعة المجاهدين، فأقبل عليه يعانقه بدفء وحرارة، ومضى رئيس المجموعة وبرففته (الرجل الغريب) والصبي حامل القهوة إلى حيث ينتشر المجاهدون.
طلع النهار، وجلس الجميع تحت شجرة كثيفة، يرتشفون جرعات القهوة الساخنة. ووجه رئيس المجموعة سؤاله إلى هذا الغريب - الذي لم يعد غريبا - وقال له: كيف حال الأخوان هنا؟ وأجابه الرجل: إننا والحمد لله بأحسن حال! وسكت قليلا، ثم أردف قائلا: لقد لمحتكم وأنتم تجتازون السهل الذي بجانبنا، فعرفتكم. وأظن أن حرس المراكز المجاورة لناحيتنا (دوارنا) من الناحية الشرقية قد شعر بكم أيضا، لأن هذا الحرس قد أسرع بالتحول عن مراكزه، واتجه نحو مركز (يوكس الحمامات). ولهذا فقد أسرعت أنا بدوري للقدوم عليكم وإعلامكم بذلك لتكونوا على استعداد للطوارىء. فشكره رئيس المجموعة على يقظته وحزمه.
ثم استدعى على الفور ثلاثة جنود وجندي أول، وشكل منهم دورية أمرها بالتوجه إلى الناحية المشرفة على مركز (يوكس الحمامات). ثم أرسل دورية ثانية إلى ناحية (مسكيانة). وأتبع ذلك بإصدار مجموعة من التعليمات لتشديد الحراسة في عدد من النقاط الأخرى. وكان هذا المجاهد - المدني - ينظر بإعجاب إلى الجنود وهم ينفذون الأوامر بسرعة، رغم ما هم عليه من التعب الذي
حل بهم بعد عناء المسير الشاق، فالتفت نحو الصبي الذي كان يرافقه، وقال له: أرأيت يا بني! ما رأيك؟ قد تصبح جنديا، تدافع عن وطنك مع أبطال جيش التحرير الوطني؟ لا بأس. أنه عندما يكبر سيصبح جنديا يدافع عن حرية الجزائر. وهنا تدخل قائد المجاهدين وقال للرجل:(والآن يا أخى، يجب أن تذهب - مع الصبي - لأن المكان سيصبح هنا خطيرا. ولا ندري ما ستتمخض عنه الأحداث) وانصرف الرجل وابنه بعد وداع حار ومؤثر حمل كل صفاء المجاهدين وإخلاص الثوار الأحرار.
لم تمض فترة طويلة على ذلك حتى عادت الدورية الأولى لتعلم القائد بأنها شاهدت أضواء خافتة لرتل طويل من المركبات يسير على طريق (يوكس الحمامات) وهو يتجه إلى حيث موقع المجاهدين. ولم يكن من الصعب عندها رؤية أضواء المركبات على البعد وهي تسير في وسط الضباب. وأسرع القائد، فأصدر أمره إلى المجاهدين باحتلال مواقعهم على القمم الأمامية المشرفة على الطريق، ولم يكن عدد المجاهدين يزيد على سبعين رجلا. احتل المجاهدون مواقعهم على الشكل التالي: رشاش خفيف (24) في الجناح الأيمن ومعه رشاشتان قصيرتان وخمس بنادق (موزير). وفي الجناح الأيسر احتل مجاهدو الفصيلة الثالثة مواقعهم بمثل هذا الترتيب. وتمركز الرشاش الثقيل (هوتشكيس) في الوسط. استمرت القوات الافرنسية في تقدمها تحت مراقبة المجاهدين الذين يتابعون تحرك أعدادهم بهدوء وصمت، فيما كان الضباط يتنقلون بين المجاهدين يزودوهم بأوامرهم وتوجيهاتهم وأهمها: عدم التحرك من المواقع إلا إذا صدرت أوامر مضادة، وعدم إطلاق النار إلا عند صدور الأمر بذلك.
أرسلت الشمس خيوطها الدقيقة من خلال سحب الضباب الرقيقة. وظهرت في الوقت ذاته ثلاث طائرات استطلاع قامت بالتحليق فوق رؤوس المجاهدين مرات متتالية، ويظهر أنها اكتشفت وجود بعض المجاهدين فأرسلت الشهب الدخانية نحوهم، موجهة بذلك رتل القوات الاستعمارية الذي كان يمعن في توغله مهتديا بتوجيه الطائرات له.
حافظ المجاهدون على هدوئهم، ومكثوا في صمت تام ينتظرون الأمر بإطلاق النار. هذا فيما كانت قوات الإفرنسيين تتابع تقدمها نحو المجاهدين بحذر كبير حتى إذا لم يبق من مسافة تفصل بين المجاهدين وأعدائهم تزيد على عشرات الأمتار، صدر الأمر بفتح النار، وانطلقت النار دفعة واحدة من كل الأسلحة، وبوغت العدو بكثافة النار العالية الموجهة إليه، فبدأ بالتقهقر إلى الوراء تاركا فوق أرض المعركة عددا من القتلى والجرحى.
وكان المجاهدون يتوقعون أن يعود العدو للهجوم بعد أن يعيد تنظيم قواته، غير أنه ذهب بعيدا في انسحابه، فأدرك المجاهدون على الفور بأن العدو يريد من انسحابه إفساح المجال أمام مدفعيته لتدمير قوة المجاهدين، بعد أن تأكد أن خسائره ستكون كبيرة إذا ما عاد إلى الهجوم وذلك بفضل الأسلحة الحديثة التي ظهرت مع المجاهدين، والتي لم يكن العدو يتوقع وجودها معهم. وهكذا، وبينما كانت قوات الافرنسيين تسرع في انسحابها، كان المجاهدون يسرعون بدورهم أيضا لتبديل مواقعهم. ولم تمض أكثر من دقائق قليلة حتى شرعت المدفعية فعلا في قصف المواقع التي كان يحتلها المجاهدون قبل قليل. ثم عادت القوات الافرنسية الى التقدم والزحف من جديد تحت حماية المدفعية، حتى كادت تقتحم على
المجاهدين مواقعهم. وهنا أصدر القائد أمره الى الجناح الأيسر بالتحرك إلى الناحية الغربية، كما أمر الجناح الأيمن بالتحرك الى الناحية الشرقية، ثم أصدر أمره إلى الفصيلة الوسطى بالتقدم قليلا نحو الأمام، وبذلك أصبحت قوات العدو مطوقة بشبه دائرة.
وفي هذه اللحظة توقفت المدفعية الإفرنسية حتى لا تصيب بقذائفها جنود مشاتها. واقترب جند الطرفين بعضهم من بعض. وعاد المجاهدون ففتحوا نيرانهم الكثيفة بصورة مباغتة من الجناح الأيمن، فحاول الجنود الافرنسيون التراجع قليلا نحو اليسار فاسقبلتهم نار الفصيلة التي كانت تنتظرهم. وعندما حاولوا التقدم نحو الأمام، صدمتهم نيران فصيلة قلب الدفاع التي كانت لهم بالمرصاد. واستمر إطلاق النار من الجناحين ومن قلب الدفاع في وقت واحد. وأظهر المجاهدون خلال ذلك مهارة رائعة في تنقلهم، وسرعة مذهلة في تحركهم، وهم يقومون بحركات الالتفاف والانقضاض على أعدائهم.
وأصيب الجنود الافرنسيون بالذعر لكثافة النار التي تنصب عليهم من كل جانب، فهيمنت الفوضى على تحركاتهم، وسيطرت الفوضى على مواقفهم وتنقلهم. إلا أن نجدات أخرى للعدو أخذت في التدفق من عدة جهات، (وخاصة من مسكيانة والعاتر وتبسه) واستطاعت هذه القوات الضخمة ضرب نطاق محكم من الحصار حول ميدان المعركة، فأصدر قائد المجاهدين أمره بتقسيم قوة المجاهدين إلى مجموعتين، تتولى مجموعة منهما الاضطلاع بواجب مجابهة النجدات وإعاقة تقدمها نحو مواقع المجاهدين، بينما تتابع المجموعة الثانية معركتها ضد قوات العدو التي تشتبك معها، واتسعت رقعة القتال، وامتد زمن المعركة على هذا المنوال
حتى أشرفت الشمس على المغيب وعندئذ بدأ المجاهدون في التخفيف من قواتهم المهاجمة لدعم القوات المدافعة والتي باتت محاصرة. وما إن أطبق الظلام حتى كانت قوة المجاهدين بكاملها موجهة نحو هدف واحد، هو فك الحصار المضروب على بعض المجاهدين، والخروج من أرض المعركة.
وللوصول إلى هذا الهدف، دفع المجاهدون الرشاشات أمامهم، وانتشروا خلفها، ثم انطلقوا بانقضاض مباغت على العدو الذي كان يحكم الحصار، وكان الصدام دمويا عنيفا بحيث كان لهيب المعركة يزيد في قوته على كل الاشتباكات التي استمرت النهار بطوله. وبعد ساعة كاملة استطاع المجاهدون شق طريقهم بنيرانهم وبقوة حرابهم، وكبدوا العدو خلال ذلك خسائر فادحة لم يتمكنوا من إجراء إحصاء لها، بسبب الظلام الشديد.
ما إن ابتعد المجاهدون عن خط النار حتى توجهوا إلى (جبل بو خضرة) الذي لم يبلغوه إلا عندما طلع النهار. وارتفع قرص الشمس في السماء حتى إذا ما بلغ وقت الضحى، أقبل المواطنون - المدنيون - يحملون إلى المجاهدين الطعام والماء، ويعملون على مساعدتهم في تضميد جراح الذين أصيبوا بها - خاصة - أثناء فك الحصار. وهنا واجهت المجاهدين مشكلة كان من الصعب عليهم حلها، فقد حملوا معهم أثناء انسحابهم الأسلحة التي غنموها، وكانوا يرغبون في توزيعها على هؤلاء - المدنيين - الذين كانوا يطلبون بإلحاح تجنيدهم وتسليحهم إلا أن عدد المتطوعين كان أكبر من عدد الأسلحة. وكان من يحرم من السلاح يشعر بأن مجاهدي جيش التحرير يفضلون عليه من يقبلون تطوعه لقد كانوا جميعا بشوق لحمل السلاح، وكلهم تملؤه الحماسة للجهاد، غير أن قلة
الأسلحة لا زالت مشكلة تعيق تطور جيش التحرير الوطني.
جلس الجميع لتناول الطعام. وقال القائد لمجاهديه: (أرأيتم أيها الإخوان؟ إن الشعب كله يريد التطوع، وهو يغبطكم على شرف حمل هذا السلاح الذي تمسكونه بأيديكم. وهذا هو والله -النصر الحقيقي!).