الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
معركة الجرف
لا جرم أن الاستعمار الافرنسي قد خاب أيما خيبة (بالجرف) واعتبره موقعا مشؤوما عليه ففي شهر سبتمبر (أيلول) سنة 1955 هزمت جيوشه المرتزقة في ذلك المكان الموجود في جبال (النمنشة) أشنع هزيمة، حيث استطاع مجاهدو جيش التحرير الوطني قتل أربعمائة جندي وإسقاط ثماني طائرات وإصابة ثلاث مصفحات، وقتل ثمانية عشر بغلا، وغنم مدفعين من نوع (بازوكا) وأربعين بندقية، وجهازا لاسلكيا (مرسل لاقط).
وفي السادس من شهر ابريل (نيسان)1956. وقعت في المكان ذاته معركة أخرى انتصر فيها جيش التحرير انتصارا رائعا على فيالق ضخمة من القوات الاستعمارية، مدعمة بسرب من الطائرات المقاتلة وبعض الطائرات العمودية (الهيليكوبتر) وعدد وافر من رجال المظلات.
وقد روى بعض أبطال هذه الأيام المجيدة تفاصيل المعركة بقولهم:
(تصوروا ناحية كلها جبال شاهقة وصخور عالية ومغاور عميقة
وشعاب ملتوية يشقها واد بعيد الغور، وبها مكامن يتعذر الوصول إليها. ولقد وردتنا معلومات أكيدة بأن فرقة كبيرة من جيوش الأعداء تضم الجنود الشبان الذين قدموا حديثا من مدينة (نانت) قد كلفت باقامة مراكز للمراقبة فى تلك الناحية (المشكوك فيها). وكانت تلك المعلومات الواردة من مصلحة (استعلاماتنا) دقيقة جدا، إذ مكنتنا من معرفة المسالك التي ستمر بها الفرقة المذكورة، وكذلك أوقات تحركها، ومواعيد توقفها في كل مرحلة من المراحل، وحتى عدد جنودها ونوع أسلحتها وأسماء ضباطها. ولم يبق علينا إلا التهيؤ لاستقبالها والاستعداد للقضاء عليها.
وعلى هذا، فما انبثق فجر يوم 6 ابريل (نيسان) حتى كان جميع رجالنا على علم بتفاصيل العملية التي سيتم تنفيذها، إذ أن من مبادىء جيشنا الفتي أن يعرف المجاهدون دائما هدفهم، والى أين هم قاصدون، وماذا يريد قادتهم منهم، وكثيرا ما تدرس مخططات العملية، ويتم الاعداد لها بحضورهم ومشاركتهم الفعلية.
قام الضباط والموجهون السياسيون بتزويد المجاهدين بتعليماتهم الأخيرة والتحق كل رجل بمركزه المحدد له، ونصبت الرشاشات الثقيلة منها والخفيفة في المراكز المناسبة، وانتشرت البنادق الرشاشة والمدافع الصغيرة في أماكنها، كما اختار (مهرة الرماة) أفضل المواقع المناسبة لهم بأعلى الجبال وبين الصخور. وكمن الجميع بانتظار العدو الذي بات من المتوقع ظهوره بين فترة وأخرى. ولم يطل الانتظار، فما هي إلا فترة وجيزة حتى بدأت جنبات الوادي العميق والعاري من كل نبات، في ترديد أصداء هدير المحركات. وأيقن المجاهدون، وهم ينتظرون بصمت وخشوع، أن عددهم بات قريبا منهم، ففيم كانوا يفكرون في تلك
اللحظة؟
…
هل كانوا يفكرون في وطنهم المكبل بالقيود منذ مائة وخمس وعشرين سنة؟ أم كانوا يفكرون فيما لحق بهم من ضروب الذل والهوان وهم في وطنهم؟ أم كانوا يفكرون في آبائهم ونسائهم وأطفالهم الذين خلفوهم وراءهم في المدن والقرى؟
لقد اعترف الكثيرون من أولئك الأبطال الذين خاضوا المعركة، فيما بعد، بأنهم ما فكروا إلا في إخوانهم المجاهدين الذين تصدوا في القرن الماضي للهجمات الافرنسية، خصوصا وأن أحد المندوبين كان قد حدثهم في الليلة السابقة عن أولئك (المسبلين) الأماجد الذين كبلوا أنفسهم في القيود تأكيدا على تصميمهم على الثبات أمام الجيوش الإفرنسية، ومنعها من احتلال قريتهم أو الموت دونها. هذا بينما كان آخرون يفكرون في أصدقائهم ورفاقهم الذين سبقوهم الى الشهادة في المعارك السابقة.
على كل حال، وبينما المجاهدون في صمتهم وترقبهم، تناهى إلى سمعهم صوت أيقظ انتباههم، ووجه أبصارهم نحو العدو وقد بدت طلائعه. لقد سمعوا آذانا وتكبيرا صادرا عن أعلى الربوة، وأخذوا في انتظار سماع صوت المؤذن وهو يرسل تكبيراته من التل المقابل ليطلقوا نيرانهم. وما هي الا لحظة حتى ترددت صيحة (الله أكبر). ودوت في الجبال طلقات الرماة الأحرار. وانهمر الرصاص على الأعداء، فتوقفت سياراتهم وشبت فيها النيران من كل جانب، وانتشرت الفوضى، وهيمن الاضطراب على قوات العدو، وما هي إلا ربع ساعة حتى تكدست الجثث، ولم ينج من الموت إلا بعض الجرحى، فخرج إذ ذاك المجاهدون من مكامنهم، واستولوا على كميات مذهلة من الأسلحة والذخائر.
لم يثمل المجاهدون بما أحرزوه من نصر، فقد كانوا على ثقة بأن العدو سيرسل نجدات عاجلة لإنقاذ قواته ودعمها، فكان لزاما عليهم التربص لهذه القوات، وفي الحقيقة، فإنه لم تمض فترة طويلة حتى ظهرت قوات جديدة وهي تقترب من مسالك الجبال، بالإضافة إلى تلك القوات من المظليين التي أخذت في الهبوط من الطائرات العمودية. وكانت الامدادات تتدفق من كل مكان. ولاحظ المجاهدون أن هناك بعض مفارز المظليين (ذوي القبعات الحمراء) قد جاؤوا من (تبسة) ذاتها. واستمر تقاطر القوات طوال فترة المساء، واستؤنف في اليوم التالي. فعرف المجاهدون أن في انتظارهم موقعة ستكون من أقسى المعارك التي دارت رحاها بين المجاهدين وبين قوات الاستعمار الإفرنسي، منذ أن اندلعت نار الثورة.
كان الرماة المجاهدون، وهم في مكامنهم العالية المنيعة، يطلقون النيران الكثيفة من رشاشاتهم على الطائرات المقاتلة والطائرات العمودية حتى يمنعوها من الهبوط وكانت الطائرات المقاتلة مختلفة في نوعها، منها قاذفات القنابل ومنها المطاردة - الاعتراضية .. استمرت الاشتباكات العنيفة طوال الليل، على ضوء الشهب المنيرة التي كانت تطلقها الطائرات الإفرنسية فتحيل ليل المعركة نهارا وتجددت الاشتباكات بوتيرة متصاعدة في الساعة الخامسة والنصف من صباح الغد. وأظهر المجاهدون من الإقدام والثبات بقدر ما أظهروه في معركة اليوم السابق، ما وهن لهم عزم، ولا ضعفت منهم إرادة، ولم يفتر تصميمهم في وقت من الأوقات عن طلب النصر أو الشهادة. ولهذا لم يكن يهمهم الإسراع لملاقاة عدو يتفوق عليهم بكثرة عدده ووفرة عتاده وتفوق أسلحته
وجدير بالذكر أن المجاهدين أفادوا في معركتهم من الأسلحة والذخائر التي غنموها في معركتهم الأولى، فكبدوا العدو خسائر فادحة، وكانت رمايات المجاهدين مميزة بدقتها وإحكامها، بحيث أنه قلما انطلقت رصاصة إلا وأصابت معتقلا من جند العدو. وأثناء ذلك، كان سيل قوات العدو مستمرا في تدفقه، وقد تمكنت هذه القوات من تشكيل سياج أحاط بميدان المعركة على مساحة قدرها خمسون كيلومترا مربعا. واشتركت في تشكيل السياج ومحاصرة قوات المجاهدين قوة ضمت آلاف الجنود الافرنسيين المدعومين بست طائرات مطاردة، واثنتي عشرة طائرة عمودية (هيليكوبتر) وثلاث طائرات استطلاع (بيبركاب)، وعدد من جنود المغاوير البحرية (ذوي القبعات الخضراء - المظليين أيضا) والذين استمر إنزالهم خلف قوات المجاهدين طوال ساعات عديدة. وظهرت للمجاهدين خطة العدو واضحة تماما: إنه يريد تدميرهم وإبادتهم. غير أن ذلك لم ينل من روحهم المعنوية، فرفعوا أصواتهم بالنشيد الوطني (وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر) ذلك النشيد الذي بات لحنا حلوا على لسان الجزائريين، رجالهم ونسائهم وأطفالهم، والذي باتت تردد أصداءه الجبال والوديان وجدران السجون والمعتقلات والمحتشدات.
قرر المجاهدون الخروج من دائرة الحصار، ووضعوا خطتهم، وأعادوا تنظيم قوتهم، واختاروا النقطة التي سيفتحون فيها ثغرتهم، وقاموا بالانقضاض مستخدمين كل قوة نيرانهم، وأمكن لهم شق طريقهم، وخلفوا العدو وراءهم. غير أنهم لم ينسوا في مأزقهم، وبالرغم من سرعة انسحابهم، أن يحملوا معهم ما غنموه من السلاح، بقدر ما تسمح لهم قدرتهم على الحمل، فكان في
غنائمهم: (25 رشاشة، و7 بندقيات رشاشة، ومدفعان من عيار - 60 - و7 بندقيات من نوع - ماس 49 - و4 بنادق من نوع - ماس 36 - علاوة على كمية وفيرة من المسدسات والعتاد وأربعة أجهزة لاسلكية (مرسلة آخذة) راديوفون).
لقد تناقضت البلاغات الإفرنسية التي صدرت بصدد هذه المعركة، وحاولت الصحافة الإفرنسية والأجهزة الإعلامية التابعة لها، التخفيف من حجم الخسائر. غير أن أحد كبار الضباط الإفرنسيين ذكر بأن (معركة الجرف) قد أسفرت عن مصرع (374) رجلا بينهم عدد من الضباط، هذا بالإضافة إلى مئات الجرحى. وخسر المجاهدون مقابل ذلك ثمانية قتلى و (21) جريحا.
وتمكن المجاهدون من إسقاط (6) طائرات عمودية (نموذج سكورسكي)، وطائرة مطاردة (نموذج تندربلت)، وإصابة طائرة (بيبركاب) مع إحراق (7) سيارات كبيرة من سيارات نقل الجند، علاوة على تدمير كميات من أعتدة العدو وتجهيزاته القتالية.
***