الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
7 -
هجوم الخريف وجبهة
الصحراء (1957)
كان من المتوقع أن تبدأ السنة الثالثة للثورة (1957) بتحولات سياسية وعسكرية. وفي الواقع، فقد أخذت الصحافة الأجنبية -والافرنسية منها بصورة خاصة - بالاكثار من الحديث عن حملة سيشنها جيش التحرير خلال فصل الربيع واتخذت الصحافة من عمليات (تلمسان) و (الغزوات) برهانا للتأكيد على ما كانت تتوقعه.
ولم يكن جيش التحرير يعتزم في الحقيقة شن حملة شاملة على المواقع الإفرنسية في وقت محدد ومعين، وإنما كان يخطط للقيام بهجمات كثيفة ومركزة على بعض المواقع والأهداف التي تم اختيارها بدقة، لا سيما وأن فصل الربيع لم يكن يتيح للمجاهدين فرص العمل التي يقدمها فصل الشتاء باعتباره الفصل المناسب لحرب العصابات. وكان الأمر الواضح - لقادة الثورة - أن تركيز أجهزة الاعلام المعادية على موضوع (حملة الربيع المزعومة) هو وسيلة لاغراء جيش التحرير على شن هجوم عام في فصل تكون فيه جميع أسلحة الجيش الإفرنسي على استعداد للعمل، الأمر الذي يساعد السلطة الاستعمارية على ضرب الكتلة الرئيسية لقوات جيش التحرير وتدميرها. ولهذا لم يؤخذ جيش التحرير بأساليب الدعاية الإفرنسية
المنظمة، وظل يعمل وفقا لمخططاته وفي حدود إمكاناته لتوجيه الضربات في الزمان والمكان اللذين يختارهما.
على كل حال، فقد وقعت في فصل الربيع مجموعة من العمليات الهامة التي يمكن وصفها (بحملة ربيعية) إلا أنها لم تتخذ طابع الهجوم العام، وإن اتسمت ببعض الهجمات الجريئة، على مناطق لم تكن القيادة الإفرنسية تتوقع إمكانية مهاجمتها من قبل قوات جيش التحرير. ومن تلك الهجمات - على سبيل المثال - ذلك الهجوم الصاعق الذي شنته القوات الجزائرية يوم (10 ماي - أيار) على مدينة قسنطينة، واحتلت بعده ضواحي المدينة والقسم الشرقي منها، وحاصرت الحي الأوروبي مدة ست ساعات، وجرت بين المجاهدين الجزائريين والإفرنسيين معارك في الشوارع، أدت الى قتل مائة إفرنسي، واسشتهد من الجزائريين ثلاثون مجاهدا. ثم انسحبت قوات جيش التحرير من المواقع التي كانته تحتلها في المدينة، مدمرة وراءها المراكز الإفرنسية، وحاملة معها ما أمكن الاستيلاء عليه من كميات الأسلحة الكبيرة والذخائر.
يمكن الاشارة بعد ذلك إلى تلك المحاولة التي قامت بها قوات الافرسنيين لتطويق فرقتين من فرق جيش التحرير على بعد (14 كيلومترا من العاصمة (الجزائر) في يوم (11 ماي - أيار) غير أن المجاهدين تمكنوا من خرق الحصار، وقاموا بهجوم مضاد على قوات الإفرنسيين التي أخذت في الفرار تحت ثقل ضربات المجاهدين المحكمة والقوية. ولم يلبث المجاهدون أن انطلقوا في مطاردة فلول القوات الممزقة، وأوغلوا في مطاردتهم حتى ضواحي العاصمة.
لم تكن هذه العمليات إلا صورة عن الأعمال البطولية الرائعة التي ساعدت جيش التحرير على فرض سيطرته التامة في كل المناطق العسكرية الست. ولم يبق أمام جيش التحرير إلا أن يفتح المدن التي تعتصم فيها قوات العدو وراء تحصيناتها المنيعة. ثم يزحف على الصحراء الكبرى لاكمال عملية تحرير البلاد، وهذا ما فعله فيما يطلق عليه اسم (حملة الخريف).
كان من نتيجة تطور عمليات المجاهدين حدوث هياج في الأوساط الاستعمارية، فأسرعت القيادة الافرنسية في طلب النجدات من حلفائها. وأخذت قوات الدعم ووسائط القتال في التدفق من فرنسا وأمريكا وحلف شمال الأطلسي إلى الجزائر. وكان من بين هذه النجدات (379) مدرعة خفيفة مسلحة بمدفع من عيار (27 مم) - من عربات الاستطلاع المدرعة - التي برهنت على فاعليتها في الحرب ضد الثوار بسبب مرونتها وخفة حركتها وتسطيحها الجيد وقوة تصفيحها. جابهت قيادة جيش التحرير هذا الموقف بالمزيد من التصميم والعناد، فأعلنت التعبئة العامة (في 19 افريل - نيسان - 1957) ووجهت الدعوة الى الشبان من سن 18 الى من 20 عاما. من أجل حمل السلاح. وحملت الدعوة طابع الفورية والإجبارية، وتعرض من يخالفها للعقاب القانوني. وفي الواقع، فإن قيادة جبهة التحرير لم تجد حاجة لفرض العقوبات، فقد وجد هذا النداء صداه العميق في نفوس المواطنين الذين أقبلوا على التطوع بحماسة، والإلحاق بمراكز التدريب.
وصلت كتلة الإمدادات الأمريكية للجيش الافرنسي في الجزائر خلال شهر (جوان - حزيران - 1957) وجابه جيش التحرير ذلك بتصعيد أعماله القتالية، وأمكن له إحراز النصر تلو النصر، وما فتئت
في الثلج، في الليل، وفي كل وقت حركة دائمة وقتال مستمر
الرقع المحررة تتزايد اتساعا، حتى أن اللجنة البرلمانية التي أوفدتها فرنسا للتحقيق في الجزائر، لم يسعها إلا الاقرار بالواقع، وجاء في تقرير لها بتاريخ (22 جوليه - تموز) ما يلي.
(يينما يظهر الثوار الوطنيون وهم أكثر تنظيما وأقوى مما كانوا عليه في العام الماضي، فإن الموقف العسكري للقوات الافرنسية هو أسوأ مما كان عليه
…
وتبلغ القوة الحالية للثوار 25 ألف رجل ولديهم من الأسلحة ما يكفي لتجهيز (15) ألفا منهم فقط. وقد تحسنت أسلحة الثوار كثيرا بالمقارنة مع ما كانت عليه في السنة الماضية، ويتلقى الثوار ما بين (700) و (800) قطعة سلاح حديثة في الشهر، منها حوالي 500 من تونس والباقي من المغرب - مراكش - ولا تزال تونس تساعد الثوار علنا).
تطلبت هذه التطورات من قيادة جيش التحرير العمل باستمرار من أجل إعادة تنظيم قواتها، بهدف تجاوز الصعوبات التي كانت تجابهها قوات جيش التحرير، ومن أجل تصعيد الصراع للتأكيد على قدرة المجاهدين في مجابهة القوات الافرنسية وما تتلقاه من دعم ومساعدة. وقد انتقلت لجنة التنسيق والتنفيذ في أواسط العام الى تونس بنتيجة معركة العاصمة (الجزائر). وأدى ذلك إلى تعاظم الحاجة للتنسيق وتنظيم الاتصالات. وتضمنت الإجراءات التنظيمية القيام ببعض التبدلات في حجم وحدات الجيش وطريقة تكوينها، وإجراء المزيد من التدريب على أعمال المواصلات. مع التوسع في استخدام مناطق الحدود التونسية والمغربية (المراكشية).
لم تكن هذه الاجراءات بعيدة تماما عن مراقبة الاختصاصيين من الضباط الافرنسيين الذين أخذوا في الاعلان (منذ يوم 2 أوت -
آب): (بأن الجزائريين يحشدون قواتهم للقيام بهجوم كبير في الخريف). ولم يكن هذا (الاعلان الافرنسي) بريئا على كل حال، فقد أراد الافرنسيون استثمار الموقف لاقناع الرأي العام العالمي بأن الجزائريين لا يحاربون إلا حين يقترب موعد انعقاد الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، ويتجاهلون أن الصراع المسلح في الجزائر هو حرب حقيقية غير مرتبطة بمكان معين أو وقت محدد. وعلى كل حال، فقد أخذ المجاهدون الجزائريون بتوسيع نطاق عملياتهم اعتبارا من شهر (أوت - آب - 1957) بهدف تحرير الجنوب الجزائري والصحراء الكبرى، وقد نفذ المجاهدون في هذا المضمار خطتين متصلتين ومتكاملتين:
الخطة الأولى: القيام بهجوم عام على القوات الإفرنسية في الشمال بهدف محاصرة هذه القوات في قواعدها ومناطق تمركزها، وإرغامها بالتالي على استدعاء قواتها المنتشرة في الجنوب والصحراء. وفي هذا الوقت تشرع قوات جزائرية أخرى في التجمع على حدود الصحراء وفي الجنوب لاجتياح هذه المناطق.
الخطة الثانية: إحراق حقول النفط الاستعمارية في الصحراء، وتدمير مراكز التنقيب عن البترول، والقيام بعمليات إزعاج ضد الافرنسيين يكون من نتيجتها - بصورة حتمية - بسط السيطرة العربية على هذه المناطق. وقد بديء فعلا بتنفيذ الخطة الأولى؛ وجاء تسلسل الأحداث على النحو التالي:
في 15 أوت - آب - قام (800) مجاهد من رجال جيش التحرير - متنكرين بالزي الافرنسي - بالهجوم على مقر القيادة العامة الإفرنسية الواقع على بعد ثلاثين كيلومترا من مدينة الجزائر. وقد
أحدثوا في القيادة حرائق كبيرة، وأنزلوا فيها خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
في 16 أوت - آب - صرح الأستاذ (أحمد توفيق المدني) رئيس وفد جبهة التحرير في القاهرة (بأن جيش التحرير يقوم الآن بهجوم عام على المراكز الإفرنسية) وقال: (إن المستعمرين دهشوا لما رأوا الجيش الجزائري يستخدم الأسلحة الثقيلة).
في 22 أوت - آب - صرح السفاح (لاكوست) بأن (معركة الحدود ستكون المعركة الفاصلة في الجزائر). وأشار السفاح في هذا التصريح إلى المعارك الدامية التي اشتدت في الآونة الأخيرة على الحدود التونسية والمراكشية (المغربية) وعلى امتداد الحدود الصحراوية بين ليبيا والجزائر.
في 23 أوت - آب - عقد القادة الافرنسيون مؤتمرا عسكريا هاما في مدينة (وهران) للبحث في الهجوم الخريفي المتوقع شنه من قبل قوات جيش التحرير. وقد حضر الاجتماع السفاح (روبير لاكوست) ووزير الدفاع الافرنسي (آندريه موريس) والجنرال (ايلي) القائد العام للقوات الإفرنسية، والجنرال (سالان) قائد القوات الاستعمارية في الجزائر.
في 24 أوت - آب - هجوم عنيف للقوات الجزائرية، على المواقع العسكرية والبوليسية في مدينتي (معسكر) و (تيارت - أو تيهرت).
في 2 سبتمبر - أيلول - هجوم خاطف تقوم به قوات جيش التحرير على ثكنات اللفيف الأجنبي في مدينة (سيدي بلعباس). وقد اعترف الضباط الافرنسيون بدقة مخطط الهجوم وكفاءة
المجاهدين، مما أدى إلى إصابة عدد كبير من الجنود الافرنسيين بجراح خطيرة.
في 21 سبتمبر - أيلول - أعطت الخطة الأولى ثمارها، وأظهرت فائدتها، ودخلت الخطة الثانية في حيز التنفيذ، وسرعان ما بدأت تبشر بنتيجة ناجحة. فقد تمكنت القوات الجزائرية العاملة في الصحراء من إحراق حقول النفط، خاصة في الجهة الغربية من الصحراء. وحررت هذه القوات بلاد (الهقار) (*) وقد صرح مصدر مسؤول في جبهة التحرير الوطني هذا اليوم:(بأن الجزائريين استولوا على مناطق عديدة في (الهقار) ولم يبق للافرنسيين أي نفوذ هناك. وقد دمر الجزائريون كثيرا من آبار البترول الموجودة في الصحراء الغربية، ولم يعد للافرنسيين وجود إلا في بعض المراكز العسكرية).
في 26 سبتمبر - أيلول - هاجم المجاهدون مدينة (قسنطينة) هجوما خاطفا استخدموا فيه الرشاشات.
في 7 اكتوبر - تشرين الأول - هاجم المجاهدون للمرة الثانية في هذه المرحلة مدينة (بلعباس).
في 13 اكتوبر - تشرين الأول - صرحت القيادة الاستعمارية: بأن قوات الجزائريين تتجمع على الحدود الجنوبية، وأن قواتهم تبلغ
(*) الهقار: هي موطن (الطوارق - الملثمين) ويقع في أقصى الصحراء الجزائرية، يتكلم الطوارق اللغة البربرية ويدينون جميعا بالإسلام. أما نظامهم الاجتماعي فهو إقطاعي تحت إشراف الادارة العسكرية - الاستعمارية. وتسمى طبقة الأسياد فيهم (ايهقار) وكان معظم هؤلاء يتزلفون للسلطات الاستعمارية. أما طبقة الشعب فيطلق عليها اسم (ايمراد) وقد مارست هذه الطبقة التي يبلغ عدد أفرادها نصف مليون نسمة تقريبا، دورا كبيرا في تحرير المنطقة، والتعاون مع إخوانهم المجاهدين.
حوالي مائة مجموعة مسلحة. وأضافت القيادة الاستعمارية في تصريحها: (بأن معدل قتلى الافرنسيين قد ارتفع إلى حوالي مائتي جندي في الأسبوع، هذا عدا عن الهجمات الشديدة التي يسقط فيها عادة كثير من الافرنسيين).
كان جيش التحرير في هذه الفترة قد حصل على أسلحة حديثة بكميات كبيرة. منها مدافع رشاشة مضادة للطائرات، ومدافع بازوكا مضادة للمدرعات ومدافع هاون. وقد أمكن الحصول على معظم هذه الأسلحة من المصانع الإفرنسية (*) ومن مخازن الجيش الافرنسي التي كان المجاهدون يستولون عليها في هجماتهم. هذا بالإضافة إلى ما كان المجاهدون يحصلون عليها عن طريق الغنائم، إذ كانت القوات الإفرنسية تترك في ميادين القتال كثيرا من وسائطها القتالية إلى جانب القتلى والأسرى. وتطورت أسلحة جيش التحرير حتى صارت كلها ذات فعالية، وأخذت أجزاؤها في التناسق والتكامل (التوحيد في العيارات والذخائر) بحيث لم يعد من الصعب على المجاهد استخدام أي قطعة منها.
في 20 اكتوبر - تشرين الأول - شرع جيش التحرير مساء هذا اليوم في عمليات واسعة النطاق بمناسبة انتهاء السنة الثالثة لانفجار الثورة، وبدأت العمليات الكبرى في جميع أنحاء الجزائر.
(*) علمت السلطات الإفرنسية خلال سنة 1956، أن بعض المصانع في فرنسا تقوم بصنع الأسلحة وتهريبها للثوار الجزائريين. وقد شكلت لجنة برلمانية للتحقيق في هذا الحادث، إلا أن هذه المصانع سارعت بدفع رشوة إلى أعضاء اللجنة، وشلت بذلك مهمتهم (الثورة الجزائرية - أحمد الخطيب 212).
كما أصبح تحت تصرف قيادة جيش التحرير أسلحة ومعدات ثقيلة (كالدبابات والمصفحات ومدافع الميدان والطائرات النفاثة) غير أن قلة أعداد هذه الأسلحة بالمقارنة مع ما كانت تمتلكه القوات الافرنسية، منع قيادة جيش التحرير من المغامرة بزج كل رصيدها في القتال. وعلاوة على ذلك، فقد كان مخطط عمليات جيش التحرير يفرض على القوات عدم التمركز في منطقة ثابتة تتحول الى بؤرة لالتقاء ثقل قوات العدو عندها، الأمر الذي يساعد العدو على الافادة من تفوقه في القوى والوسائط لسحق الثورة. وهكذا بقيت الأسلحة الثقيلة في مخابئها ومستودعاتها السرية، ولم تظهر الا في المرحلة الأخيرة من الثورة. ويظهر ذلك مقدرة قيادة جيش التحرير على التخطيط بعيد المدى، لا من أجل مجابهة متطلبات الصراع اليومية، وإنما من أجل تأمين القدرة الذاتية وتصعيدها حتى تتمكن من مجابهة كل احتمالات الصراع في المستقبل.
مهما كان عليه الموقف، فقد نقلت قيادة جيش التحرير مسرح عملياتها إلى الصحراء، وعلى الرغم من أن عمليات الصحراء لم تتجاوز حدود بعض الاشتباكات العنيفة، الا أن هذه العمليات كانت ذات أهمية كبرى من الناحية السياسية إذ أكدت تصميم جبهة التحرير على الاحتفاظ بحق الجزائر في صحرائها، وامتلاكها للمناطق التي تم اكتشاف آبار البترول فيها حديثا. وكانت الحكومة الافرنسية، لأسباب سياسية واقتصادية معا، قد عملت على إقامة خط مؤقت للأنابيب يصل ببترول الصحراء إلى السوق الإفرنسية (وقد قطع الخط المذكور سنة 1958 - على الرغم من أن الكميات التي وصلت إلى فرنسا عن طريقه كانت محدودة للغاية).