المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ معركة القلاب (1958) - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٠

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ معركة القلاب (1958)

5 -

‌ معركة القلاب (1958)

(*)

كان يوما من أيام شهر (أوت - آب - 1958)، وفي مكان يدعى (القلاب) على مقربة من مدينة (باتنة) حيث نصب المجاهدون كمينا لقافلة تموين عسكرية تحرسها دبابتان ونصف مزنجرة - هاف تراك - وقد إحتل كل مجاهد موقعه المحدد له وفقا للمخطط الموضوع: المدفع الرشاش (24) لإقتناص الدبابة الأمامية وقد تم تمركزه في موقع مرتفع يهيمن على الطريق الذي تسلكه القافلة، كما تمركز مجاهدان مسلحان ببندقيتين من نوع (قاران) لإقتناص الدبابة الخلفية. وانتشرت بقية قوة المجاهدين على حافتي الطريق، ومعظمهم يحمل الرشاشات القصيرة، وبما أن القوافل الإفرنسية لم تكن تتحرك إلا تحت حماية الطائرات، فقد أتقن المجاهدون تمركزهم، في الخنادق، ووراء الأشجار، وأجادوا عملية التمويه حتى كان من الصعب على أي مراقب ملاحظة أي شيء غير عادي في منطقة الكمين.

وبينما المجاهدون في صمتهم وتحفزهم، دوى من فوقهم هدير

(*) المرجع: مجلة (المجاهد) 25/ 2 / 1959 بعنوان (معارك وأحداث).

ص: 145

طائرات الاستطلاع التي كانت تسبق دائما القوافل، واختلط ذلك بزمجرة محركات السيارات مؤذنة باقتراب قافلة العدو من موقع المجاهدين. وتوترت أعصاب الرجال الذين وضعوا أصابعهم على الزناد، وحبسوا أنفاسهم بانتظار اللحظة الحاسمة التي تنطلق فيها طلقات الأسلحة الآلية (الأوتوماتيكية) المكلفة بعزل الدبابتين الأمامية والخلفية. وفجأة، ارتفع صوت رامي الرشاش مجلجلا في وسط السكون المطبق (الله أكبر) وفي الوقت ذاته، انطلقت الطلقات من الرشاش (24) وهي تصفر بصوت حاد، وتنفست الرشاشات الصامتة الصعداء بعد طول انتظار ورافقتها كل الأسلحة مشكلة جوقة موسيقية متكاملة: نيران البنادق المختلفة، والقنابل اليدوية وهي تنهمر على سيارات العدو. وبوغت الجنود الإفرنسيون مباغتة كاملة، فارتفعت منهم صرخات الرعب وصيحات الاستغاثة بينما كانت سياراتهم قد تحولت إلى مشاعل ملتهبة.

تقدم المجاهدون بعد ذلك فجمعوا الأسلحة التي رميت على الأرض، أو رقدت فوق جثث القتلى، وكانت دهشة المجاهدين مذهلة عندما بوغتوا وهم يجمعون الأسلحة بظهور أربع فتيات إفرنسيات خرجن من خندق وراء الطريق، لقد كن في القافلة، وليس هناك من يعرف كيف نجون من الرصاص والحريق. وتقدمت إثنتان منهن مرتعشات وصاحتا (لا تقتلونا! نحن نسوة! ..) وأجابهن مجاهد:(لا عليكن! نحن ثرنا لنحارب الرجال لا النساء!) هذا فيما كان مجاهد آخر يأخذ منهن السلاح الذي كن يحملنه عندها، وعندها فقط، لاحظ المجاهدون أن الدبابتين اللتين كانتا في مقدمة القافلة قد لاذتا بالفرار، متوجهتين إلى بلدة - سريانة - فحمل المجاهدون غنائمهم وانسحبوا مسرعين.

ص: 146

ولم تمض ساعة أو بضع ساعة، حتى زحفت إلى مكان الحادث قوات برية ضخمة تدعمها القوات الجوية واكتفت من المعركة بالانسحاب حاملة معها جثث القتلى الإفرنسيين الذين شوههم الحريق، واختلط رماد بعضهم بحطام السيارات. وأفسح المجال للطيران والمدفعية الثقيلة للانتقام، فصبت هذه الأسلحة حممها على الجبال والمداشر (القرى) القريبة من (القلاب). وقذفت عليها آلاف القنابل طوال ساعات من غير توقف. وترددت أصداء الإنفجارات بقوة حتى حسب المجاهدون أن كثيرا من القرى قد أبيدت وسكانها من عالم الوجود ولشد دهشتهم عندما اكتشفوا أن أضرار القصف لم تتجاوز حدود قتل بعض الحيوانات.

تجمعت فئة من معمري بلدة (سريانة) في صباح اليوم التالي، وقامت بتظاهرة أمام مركز ضابط الناحية احتجاجا على مقتل جنودهم، ومقتل بعض المعمرين في الكمين (ولم يكن المجاهدون يعرفون حتى تلك اللحظة بأن القافلة كانت تحمل معها بعض المعمرين). وطالب المتظاهرون بالانتقام من المدنيين، فأذن لهم الضابط في أخذ الثأر من المدنيين الجزائريين العزل. ووعدهم بأنه سيعمل وجنوده على مطاردة (فرقة الفلاقة) التي تتجول في الناحية، وإلقاء القبض عليهم.

أما المجاهدون، فقد ساروا طوال الليل حتى نزلوا بجبل (مستوى) الواقع إلى جنوب (باتنة) حيث توجد مواقعهم الحصينة وقواعدهم القوية. ومن هناك أرسل المجاهدون دورية إلى إحدى القرى المجاورة للاتصال هناك مع (موزع البريد) واستلام الرسائل التي كان من بينها رسالة بعث بها المسؤول في قسم الاتصال والأخبار

ص: 147

بتلك الناحية، يقول فيها: (علمت من مصدر مشتبه فيه بأن القوات الاستعمارية تستعد للقيام بعملية تفتيش واسعة النطاق بجبل -كاسرو - ويظهر لي أن هذه خدعة استعمارية قصد بها تضليلنا حتى لا نكون على استعداد، خذوا حذركم وكونوا على أهبة

).

شرع المجاهدون من فورهم بالعمل، فتزودوا بالماء والمواد التموينية وتنظيف الأسلحة وإعداد الذخائر، وكانت الريح في تلك الليلة شديدة عاصفة حتى كان من العسير أن يتحدث المجاهدون بعضهم إلى بعض، إلا بالصراخ وبالصوت المرتفع. وما أن أزفت الساعة الثالثة صباحا حتى كان كل مجاهد قد احتل مكانه، ونظمت الحراسة. وانصرف الآخرون لأخذ قسط من النوم والراحة. فكانوا يرقدون كالذئاب - عين مغمضة وعين ساهرة - واستلقى بعضهم على التربة الكريمة الطيبة وقد ضموا أسلحتهم الغالية إلى صدورهم.

في تلك الليلة ذاتها، جمع الإفرنسيون كل ما قدروا على حشده من القوى والوسائط القتالية. فحشدوا عشرة آلاف جندي أرسلوهم تباعا بفرق صغيرة إلى الجبل لتنظيم حصار محكم حول (جبل مستوى) الذي اعتصم فيه المجاهدون. ولكن، وفي الوقت ذاته، قامت قيادة العدو بتنفيذ عملية خداعية، حيث أرسلت عشر دبابات نحو جبل (كاسرو) وتحركت هذه الدبابات بشكل علني مثيرة الكثير من الضجيح حتى تخدع المجاهدين وتقنعهم أن الإفرنسيين يوجهون حملتهم إلى جبل (كاسرو).

وإمعانا في الخداع، فقد أرسلت القيادة الإفرنسية رتلا طويلا من عربات النقل الكبيرة التي سارت على طريق الدبابات ذاته، وأحصى مراقب المجاهدين عددها فكان (ثلاثمائة سيارة). غير أن المجاهدين اكتشفوا بسرعة أن تلك العربات كانت خالية فارغة، إلا

ص: 148

من سائقيها. وتأكد المجاهدون من حقيقة مناورة العدو الخداعية .... لقد كان من الصعب على العبقرية الافرنسية خداع هؤلاء المجاهدين الذين عمر الإيمان قلوبهم، وملأت الخبرة بأساليب العدو عقولهم.

جمع قائد المجاهدين في (جبل مستوى) لمناقشة الموقف، وتم الاتفاق على خطة الدفاع، وعين لكل مجموعة من المجاهدين مواقعها، وأصدر للمجاهدين توصياته وتعليماته الأخيرة:(الاقتصاد بالذخيرة) ثم أعطاهم كلمة السر لليلة القادمة.

بدأت خيوط الفجر الأولى في ملامسة رؤوس الجبال. وكانت أفواج المجاهدين الأربعة قد أنهت تمركزها. ولم تأزف الساعة السادسة صباحا حتى أقبلت الطائرات المقاتلة وهي تحلق فوق المجاهدين على ارتفاع منخفض حتى لتكاد تلامس رؤوس الأشجار، واستمرت طائرات الاستطلاع في جولاتها فيما كانت القوات الإفرسية تتابع تقدمها نحو المجاهدين وقد اتخذت تشكيل القتال: رماة الرشاشات القصيرة في النسق الأول، وخلفهم المشاة يحملون بنادقهم المتنوعة، ويأتي في النسق الثالث زمر المدافع الرشاشة وإلى جانبها زمر مدافع الهاون.

كان لزاما على المجاهدين الامتناع عن إطلاق رصاصهم حتى اقتراب أعدائهم منهم لمسافة لا تزيد على الخمسين مترا. وكانت القوات الإفرنسية تتقدم بوجل وخطوات مترددة، تدفعها كالسياط أصوات القادة الإفرنسيين - إلى الأمام، تقدم (آفانس) وذلك بالرغم من حجم القوة الإفرنسية الكبير الذي ضم أكثر من عشرة آلاف مقاتل تدعمهم الدبابات والمدفعية الثقيلة والطائرات المقاتلة الحديثة.

ص: 149

وكان المجاهدون وهم في صياصيهم، يحبسون أنفاسهم في متابعة المشهد الذي يرتسم على الأرض، تحت سمعهم وبصرهم، وينتظرون اللحظة المناسبة .. ولم يكن من الصعب عليهم ملاحظة الحالة النفسية المتدهورة لقوات العدو، والتي عبرت عنها تحركاتهم المضطربة وأيديهم المرتعشة التي كادت تفلت الأسلحة وتتركها لتسقط على الأرض.

دقت لحظة فتح النار، وانطلقت أصوات المجاهدين بالتهليل والتكبير (الله أكبر) و (العزة لله والمسلمين) و (لتحيا الجزائر) واختلطت أصوات المجاهدين بأزيز رصاصهم ودوي إنفجار قنابلهم، وسقط النسق الأول من القوات الإفرنسية بين قتلى وجرحى - وهم حملة الرشاشات القصيرة، وهيمن الذعر على الآخرين، فانبطحوا أرضا، حاول أحد الضباط تحريض جنوده على الصمود، ودفعهم إلى الزحف. فأردته رصاصة من رصاصات المجاهدين قتيلا على الفور. وكان في مواجهة أحد المجاهدين جندي من جنود اللفيف الأجنبي ومعه جندي آخر من أصل جزائري يعمل (ملقما - شارجور) وقد ألح هذا الجندي بإطلاق النار على المجاهدين، فكان لا بد لهؤلاء من الإهتمام بأمره.

فعمل مجاهد على مشاغلته بالنار. بينما زحف مجاهد ثان من وراء الأشجار لتحديد موقع هذا الرامي، ولم يكن من الصعب إكتشاف مكانه بفضل النار المتدفقة من فوهة رشاشته، وما أن خر جندي اللفيف صريعا مقطع الحشى، حتى أخذ معاونه الجزائري (الملقم) في رفع يديه والتلويح بهما طالبا الإستسلام. ومنحه المجاهدون ما يريده من الأمان. وساد السكون بضع دقائق، حمل

ص: 150

أثناءها الجندي الجزائري سلاح رفيقه (الرشاش) وما تبقى من مخازن الذخيرة ومضى نحو إخوانه المجاهدين. غير أنه لم يكد يمضي لمنتصف المسافة القصيرة التي تفصله عن المواقع الحصينة للثوار المجاهدين، حتى إرتفعت أصوات بعض جنود اللفيف الأجنبي الكامنين قريبا منه وهم يصيحون به:(قف! قف! - آديت). وإلتفت الجندي الجزائري إلى مصدر الصوت، وأفرغ رصاصه، فعاد السكون من جديد، وصمتت الأصوات. ولكن لم يكد الجندي الجزائري يفرغ من عمله، حتى كانت طائرة استطلاع تمر من فوق رأسه، فرماها برصاص خزان كامل من رشاشه. إلا أنها قذفته بقنبلة - روكيت - مزقت جسمه وحطمت الرشاش الذي كان في يده.

رأى المجاهدون قطع السلاح المتناثرة على الأرض، أو الراقدة على جثث قتلى الإفرسيين. فخرجوا من مكامنهم، وأسرعوا نحوها لالتقاطها، وكانوا خمسة من المجاهدين رغبوا في استبدال بنادقهم القديمة، بأسلحة حديثة، غير أنهم لقوا مصرعهم جميعا، وكانوا يعرفون مدى الخطر الذي سيتعرضون له عندما يغادرون تحصيناتهم، ويتقدمون إلى منطقة باتت حتما تحت مراقبة العدو، وتحت رحمة نيرانه. غير أن الرغبة في الحصول على سلاح أحدث وأقوى دفعتهم إلى التضحية بوجودهم في محاولتهم الخطيرة.

وساد السكون بعد ذلك برهة من الزمن، أخذت بعدها قوات العدو في الإنسحاب، وإعادة تنظيم صفوفها، مفسحة المجال أمام الطيران والمدفعية الثقيلة الإفرنسية للاضطلاع بدورها في تدمير قوات المجاهدين وإنصب على الجبل سيل منهمر من القنابل المتنوعة.

ص: 151

قنابل محرقة وأخرى متفجرة وقنابل الغازات. فكان لا بد من الإنسحاب، وأخذ المجاهدون في الإستعداد لمغادرة هذا الجو الجهنمي، لاسيما بعد أن نفد الماء من المجاهدين، وتناقصت كمية الذخائر من بين أيديهم. وكان المجاهدون يعرفون أن قوات العدو قد شكلت سياجا أحاط بمنطقة القتال كلها. فكان لزاما تنظيم عملية إختراق لفتح ثغرة بين قوات العدو، والمرور منها.

كلف الفوج الثاني بقيادة (سي بلخير) ليكون رأس الحربة في عملية إختراق خط النار، واصطدم الفوج بوحدة إفرنسية كانت تحرس الجهة التي إختارها (سي بلخير) للمرور منها. وجاءت بعد ذلك قوة الفوج الأول الذي كلف بنقل الجرحى وإخلائهم من أرض المعركة، وجاءت بعدهم بقية قوة المجاهدين الذين كثيرا ما اضطروا للاشتباك مع جند العدو بالسلاح الأبيض. وقد ذهل المجاهدون لحجم الخسائر التي تكبدها العدو، إذ كانت كل خطوة من خطواتهم تصطدم بجثة قتيل من قتلى الأعداء. ولما أظلم الليل، تجمعت أفواج المجاهدين في نقطة الازدلاف (مكان الإتصال) الذي تم الإتفاق عليه في الليلة الماضية.

أخذ المجاهدون قسطا قليلا من الراحة، ثم عادوا أدراجهم إلى ميدان المعركة، للتعرف على الشهداء الأبرار، وأداء الواجب تجاههم بمواراتهم التراب.

مضت على المعركة تسعة أيام عندما وصل إلى مقر قيادة مجموعة المجاهدين إثنان من المجاهدين وهما يحملان بندقيتين (من نوع ماص) وبارودة أمريكية (كارابين)، وأخبرا القائد بأن طائرة عمودية (هيليكوبتر) قد سقطت محترقة غربي جبل (مستون)

ص: 152

وأن ربانها - قائدها - ما زال حيا. فتوجهت دورية على الفور نحو المكان، ووجدت الطيار الإفرنسي وهو في حالة غيبوبة بعد أن نزفت دماؤه. وأركبه أحد المجاهدين بغلا، وقفل به راجعا، ولكن لم يبلغ الطيار مركز المجاهدين إلا وفارقته الحياة.

***

ص: 153