المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ سنوات الصراع - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٠

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ سنوات الصراع

2 -

‌ سنوات الصراع

استمرت الثورة الجزائرية منذ أن انطلقت رصاصاتها الأولى وحتى جلاء القوات الاستعمارية عن الأرض الطهور، أرض الجزائر المحروسة، زهاء سبعة أعوام وثمانية أشهر وخمسة أيام (أو 91 شهرا وخمسة أيام، أو 2803 يوما تقريبا) ودفع شعب الجزائر خلال هذا الصراع المرير حياة مليون ونصف من مواطنيه، أو ما يعادل 535

فردا مع شروق شمس كل يوم.

طوال (2803) يوما والشعب الجزائري المجاهد يقدم كل يوم على مذبح حريته وكرامته وسيادته زهاء (535) فردا. أي ما يعادل 26 حتى 27 شهيدا في كل ساعة من ساعات النهار والليل، تقريبا. وهو ثمن فادح ربما لم يقدمه شعب من شعوب الأرض في مثل ظروف الصراع الذي عاشه شعب الجزائر عبر محنته الرهيبة. فإذا ما أضيف إلى ذلك ما قدمه شعب الجزائر طوال سنوات الصراع الذي رافق الاستعمار الإفرنسي طوال مائة واثني وثلاثين عاما، سيظهر بوضوح قدر تلك التضحيات الضخمة التي دفعها شعب الجزائر المجاهد، مع ما رافق هذه التضحيات من معاناة مريرة، وآلام دفينة. وتعجز الكلمات عن وصف جوانب المأساة التي عاشها

ص: 55

الشعب المجاهد طوال ليل الاستعمار.

يظهر من خلال هذه الصورة القاتمة أن كل ساعة من ساعات عمر الثورة الجزائرية الأخيرة - ثورة التحرير- كانت حافلة بالأحداث المثيرة، ومن هنا، فالوجيز الذي سبق عرضه لا يمثل أكثر من صورة عامة لأحداث الثورة، غير أن هذا الوجيز- على قصره - يبرز الملامح الرئيسية لمسيرة الصراع وتطوره. وهي الملامح التي تعطي للثورة الجزائرية، خصوصيتها، ولعل من أهم هذه الملامح:

1 -

تحديد الهدف بوضوح منذ بداية الثورة وحتى نهايتها وهو (حق تقرير المصير المؤدي إلى الاستقلال الكامل)، والثبات عند الهدف في كل الظروف.

2 -

التكامل في استخدام طرائق الصراع السياسي والمسلح، من غير إهمال لإحدى الطريقتين، أو الاعتماد على إحداهما على حساب الأخرى.

3 -

التوازن في توجيه الصراع على المستويات الداخلية والعربية والدولية. والاعتماد على جناحي الجزائر - الجغرافيين - المغرب وتونس، والاستناد بصورة طبيعية إلى الأرضية الصلبة والثابتة (الأرضية العربية - الإسلامية) من غير إهمال للظروف الدولية.

4 -

تطوير الصراع المسلح وتصعيده بصورة مستمرة بما يتناسب وثقل الهجمة التي كانت تعمل فرنسا الاستعمارية على تطويرها بصورة ثابتة.

5 -

البدء قبل كل شيء بدعم أرضية الثورة، وذلك بالقضاء على أعداء الثورة في الداخل وتدمير المتعاونين مع فرنسا، وعزل النظام الاستعماري وتطويقه.

ص: 56

6 -

نقل الحرب بكل أبعادها السياسية والعسكرية إلى فرنسا ذاتها وتوجيه التهديد الى قلب فرنسا الأمر الذي خلق في فرنسا انقساما خطيرا. وهكذا وبينما كانت الجبهة الجزائرية تتزايد تلاحما يوما بعد يوم، كان استمرار الصراع يمزق الجبهة الداخلية لفرنسا بصورة متزايدة، وكان ذلك هو العامل الحاسم في تقرير مصير الصراع.

7 -

الافادة من الأخطاء السياسية والعسكرية للاستعماريين الإفرنسيين - وهي أخطاء متلاحمة في صلب النظام الاستعماري ذاته - واستثمار هذه الأخطاء الى أبعد الحدود.

8 -

تطبيق استراتيجية رائعة من قبل (القادة التاريخيين للثورة) وتجنب الوقوع في الأخطاء الخطيرة، والتحرك بحذر شديد على كافة مستويات الصراع.

تلك هي أبرز الملامح - لا كلها - وعودة إلى قصة الثورة.

استطاع الثوار التاريخيون إثبات وجودهم على المسرح القتالي، وتمكنوا من تجاوز مرحلة الخطر طوال السنة الأولى من الصراع المسلح، وامتد لهيب الثورة مع بداية سنة 1956 ليشمل كامل تراب الوطن الجزائري تقريبا. وتحرك المغرب العربي (مراكش) وحصلت تونس على استقلالها الذاتي، وخاضت فرنسا معركة الانتخابات التي فاز فيها الاشتراكيون، وأصبح (غي موليه) رئيسا للوزراء، وبات لزاما عليه تنفيذ وعده لناخبيه بتحقيق (السلم في الجزائر). غير أنه لم يكن يعرف ما يتضمنه هذا السلم، ولا ما يعنيه. وعند وصوله إلى السلطة سافر إلى الجزائر العاصمة. فاستقبله الأوروبيون بنفور ظاهر، وهاجموه بالطماطم الفاسدة (البندورة). ثم قام بزيارته للجزائر كلها، واستشار العسكريين

ص: 57

فيها. وكان كل ما عرفه أو تعرف عليه، جديدا بالنسبة إليه. فالمسألة مختلفة كل الاختلاف عما كان يتصوره. وفجأة، غير (غي موليه) سياسته، وعين (لاكوست) وزيرا مقيما في الجزائر، وأعطى للإدارة الإفرنسية في الجزائر سلطات خاصة، واستدعى قرعات جديدة من الجنود، ودعم قوات حفظ الأمن (الجندرمة والبوليس) في الجزائر حتى بلغ تعداد أفراد القوات المقاتلة (400) ألف رجل.

لقد زجت هذه الإجراءات فرنسا في طريق لا نكوص عنها ولا تراجع فيها: فإما الانتصار السريع والحاسم وإما التخلي عن الجزائر. وكان هذا الجهد العسكري بمثابة السد الذي لا يسمح بأية تسوية سياسية .................... هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية، فقد كان من المحال على فرنسا الاستمرار في تقديم مثل هذا الجهد العسكري لمدة طويلة جدا، في حين ظهر بوضوح أن عملية إخماد الثورة في الجزائر - عسكريا - حتى من وجهة نظر الإفرنسيين تتطلب مهلة زمنية لا تقل عن العشر سنوات.

حاول (لاكوست) ومعه (الجنرال لوريو) استخدام التعزيزات الضخمة في محاولة لانتزاع المبادرة من قبضة قيادة جبهة التحرير. ونفذ في محافظة قسنطينة منهجا للقضاء على الثورة، والسيطرة على مناطق متميزة بصورة قوية. وفي منطقة القبائل، حاول الجنرال (أوليه) القيام بعمل سياسي على مستوى (الكومونات البربرية) وتطويره وردت جبهة التحرير على ذلك بعنف، فوقعت مذبحة (باليسترو) الرهيبة. ثم دعمت جبهة التحرير وحدتها ومناهج عملها بالمؤتمر الذي عقدته في (وادي الصومام) وطورت الإرهاب المضاد للإرهاب الإفرنسي في العاصمة (الجزائر) حتى بات المناخ

ص: 58

المعادي لفرنسا صعبا للغاية.

أعد (غى موليه) عملية الهجوم على قناة السويس، وأوصى بالقيام بها ضد مصر، معتقدا بأن هذه العملية ستصيب الثورة الجزائرية في جذورها وأصولها. ولكن العملية الإفرنسية - البريطانية - الإسرائيلية كانت سيئة الإعداد جدا من الناحية السياسية، كما أخضعتها القيادة البريطانية من الناحية العسكرية لخطة بطيئة جدا، وانتهت هذه المغامرة على ما هو معروف بسبب تدخل الأمريكيين والسوفييت معا، وكانت فشلا سياسيا مثيرا، انعكس على صفحة الثورة الجزائرية بصورة فورية، فزال التوتر الذي سيطر على الموقف خلال اليوم الأول للإنزال في السويس، وانطلت الثورة بقوة دفع جديدة، بعد أن اكتسبت هيبة مؤكدة.

بدأت الثورة مرحلة جديدة مع بداية سنة 1957، فقد عرفت قيادة جبهة التحرير الوطني ما تتمتع به ثورتها من أهمية دولية. كما أدركت بعمق ضعف السياسة الإفرنسية في قلب العاصمة الإفرنسية. فتابعت نشر عملها السياسي على امتداد الصفحة الجغرافية للجزائر؛ وأخذ جهدها يتركز الآن على ثلاثة اتجاهات:

1 -

استخدام الجزائر العاصمة ميدانا للإثارة، فضاعفت أعمال الإرهاب المضاد للإرهاب الإفرنسي.

2 -

إبراز الكيان السياسي للجزائر على المسرح الدولي، واتخاذ جبهة التحرير صفة الحكومة الشرعية.

3 -

ممارسة العمل السياسي والعسكري في فرنسا بهدف إحداث انقسام في الرأي العام الإفرنسي تجاه قضية (الحرب الجزائرية). وإزاء هذا العمل، حاولت الحكومة الإفرنسية التي عينت (الجنرال سالان) في الجزائر، حل المسألة الجزائرية بالوسائل العسكرية، وبإعطاء العسكريين السلطات التي تتمتع بها قوات الأمن. وتلقت فرقة

ص: 59

المظليين العاشرة التي عادت من عملية السويس مهمة إعادة الأمن في الجزائر العاصمة، وقسمت البلاد إلى مربعات، وجمعت المسلمين في القرى. وقد برهنت هذه التدابير على عقمها وعدم جدواها. إذ تزايدت الصعوبات أمام الفلاحين ودفعتهم أعمال الإرهاب لتطوير جهادهم وكفاحهم. وكان هذا العمل غير الكامل، غير كاف بنفس المقدار أيضا، لأنه أهمل الطابع الدولي للصراع إهمالا تاما. وكان الوهم السياسي الذي أصرت عليه فرنسا هو:(أن الجزائر جزء لا يتجزأ من الأرض الوطنية الإفرنسية) وأن منظمة الأمم المتحدة، أو أية منظمة دولية أخرى لا علاقة لها بهذه الحرب (باعتبارها مشكلة داخلية تخص فرنسا وحدها). وبذلك لم تجد فرنسا من يدافع عنها في الخارج. واستثمرت قيادة جبهة التحرير الوطني هذا الموقف إلى أبعد الحدود، فانفردت بكل الامتيازات التي يتطلبها التحرك على المستوى الدولي.

في هذا الوقت بالذات تركز الاهتمام السياسي على الجزائر العاصمة حيث نشبت معركة قاسية بين مجاهدي جبهة التحرير ومظليي (ماسو). وأعطى وجود الصحافة الدولية في الجزائر لكل ما جرى أصداء دولية واسعة، إذ كان لا بد لأساليب التعذيب الوحشية، وطرائق القمع البربرية من أن تستنفر الرأي العام العالمي وتستفزه، وقد وصلت الاستثارة حدا قسمت فيه الرأي العام الإفرنسي ذاته. واعتبارا من هذه اللحظة، أصبح لجبهة التحرير الوطني أنصارها ومؤيدوها في الأوساط الإفرنسية. وتمزقت الوحدة الوطنية الإفرنسية تمزقا رهيبا لم يلتئم حتى بعد انتهاء الحرب. ومع هذا فقد ربح المظليون معركة الجزائر العاصمة، وأعادت عمليات (سالان) بوسائله التي عززت في ذلك الوقت درجة معينة من الأمن في الريف.

ص: 60

وظهر بعض الاضطراب في عمل جبهة التحرير، فظن الافرنسيون أن ذلك بداية الهزيمة للثورة. لكن الجبهة كانت في هذه المفترة قد أخذت في تطوير عملها في تونس والمغرب. وسمحت لها معونة الحكومتين المستقلتين لهذين البلدين الشقيقين، بأن تشكل نواة جيش نظام - هو جيش التحرير الوطني - والعمل على تطويره بفضل الأسلحة التي تسلمتها الجبهة من تشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي. وانتقل الاهتمام العسكري من جديد إلى الحدود التي حاولت فرنسا تحويلها إلى حدود مغلقة بإحكام بواسطة تجهيزات دفاعية تجمع بين الشبكات الكهربائية ورادارات الكشف. وتم إنشاء خط موريس في الشرق، وخط آخر لم تطلق عليه أية تسمية في الغرب، كانا يقومان بتحديد تسلل قوات جيش التحرير الوطني. وأصبح هذان الخطان مسرحين لمعارك دموية ضارية. وكان الإغراء يدفع الإفرنسيين للتحرك الى تونس والمغرب لتدمير قوات جيش

التحرير الوطني. ولكن ضغط الرأي العام الدولي منعهم من القيام بهذا العمل. وتطور جيش التحرير في حمى هذه المحرمات إلى أن شكل قوة هامة أصبحت فيما بعد أداة سيطرة جبهة التحرير الوطني على الجزائر، ومصدر سلطة العقيد (الهواري بومدين). وفي الوقت ذاته، شكلت جبهة التحرير الوطني حسب سياق (نقلته عنها الفيتكونغ فيما بعد) حكومة مؤقتة للجمهورية الجزائرية. وهكذا حصلت جبهة التحرير على كل الواجهة الدولية للثورة - كما حصلت على الجهاز الضروري لإدارة البلاد.

خلق هذا التدهور في الموقف، بالرغم من النجاحات الواضحة جدا في المجال العسكري، استياء متزايدا في وسط الجيش الإفرنسي الذي أحس بحرمانه من جهوده التي بذلها. ووقعت في

ص: 61

غضون ذلك حوادث خطيرة، مثل حادثة (بازوكا الجزائر)(*) و (قضية فور)(**) فكشفت عن وجود شر يستفحل أمره. وفي (أفريل - نيسان - 1958) أدت بعض الرمايات التي قام بها جيش التحرير الوطني من الأراضي التونسية - على حد زعم السلطات الإفرنسية - إلى قيام القوات الإفرنسية بإغارة جوية على (ساقية سيدي يوسف) الواقعة على الحدود التونسية. وأثارت هذه القضية، التي أثيرت بصورة رائعة، انفعالا خطيرا في منظمة الأمم المتحدة وفي فرنسا ذاتها.

وتقدمت الولايات المتحدة الأمريكية بعرض وساطتها (للتدخل الودي والمصالحة) وأرسلت سفيرها (مورفي) إلى تونس. فهب الجيش الإفرنسي، وثار الرأي العام الأوروبي في الجزائر، وتحولت الجزائر العاصمة الى مسرح للتظاهرات الشعبية العنيفة. ولم يتمكن الجيش من السيطرة عليها إلا بعد جهد مضن. وفي العاصمة الإفرنسية، تحركت الحكومة بلا خطة أو هدف، وهي على ما هي

(*) وقع هذا الحادث في 16 جانفي - كانون الثاني - 1958، إذ أطلق الإفرنسيون المستوطنون في الجزائر قنبلة بازوكا من أحد السطوح في ميدان (ايسلي) على مكتب (الجنرال سالان) فقتل أحد مساعديه (المقدم روديه) وجرح العقيد (بوسيه). وقد اتهمت جبهة التحرير الوطني بالحادث في بداية الأمر، غير أن تحقيقات الشرطة الإفرنسية أثبتت ان العمل هو من صنع الإفرنسيين المسوطنين.

(**) قضية (الجنرال فور) هي قضية مشهورة في الصحافة الإفرنسية. وتتلخص بإقدام (الجنرال فور) على مفاتحة (تيتجن) مفتش بوليس محافظة الجزائر بانقلاب يعتزم القادة - الجنرالات - الإفرسنيون القيام به في الجزائر. وأعلم (تيتجن) رئيسه (شوساد) الذي أخبر بدوره (لاكوست) الوزير الإفرنسي المقيم في الجزائر. وتم تسجيل حديث (فور) ثم استدعي الى فرنسا واعتقل. وتسرب الحادث إلى الصحافة الإفرنسية، فهاجم بعضها (تيتجن) واعتبره بعضها بطلا وطنيا.

ص: 62

عليه من احتمال تدخل الجيش الإفرنسي في الجزائر ضدها. وانهارت الجمهورية الرابعة.

تم استدعاء الجنرال ديغول لاستلام السلطة في الجمهورية الخامسة، وكان (ديغول) يظن أن باستطاعته حل (القضية الجزائرية) بتسوية ليبيرالية مشرفة. غير أنه كان يمتلك من الإحساس السياسي ما حمله على رفض الصيغة التي ختمت (13 ماي - أيار) بصورة عفوية وتلك الصيغة هي أن (الجزائر إفرنسية). وكان (ديغول) يعرف أن (هضم الجزائر وتمثلها) الذي ربما كان ممكنا قبل عشرين عاما، قد تجاوزته الأحداث الآن، وأن على فرنسا أن تقدم تنازلات واسعة؛ ولكي يحصل على التسوية التي يتصورها، فإنه اعتمد على الضغط العسكري للعمليات، فعاد من جديد لممارسة الاستراتيجية السابقة. إلا أن (13 ماي - أيار) قد أعطى كل السلطات المدنية لجيش الجزائر. وكانت نتيجة هذا الموقف الجديد بالنسبة لمعظم القادة - الجنرالات - هي تحول عملهم عن المهام العسكرية.

عين ديغول (الجنرال شال) مكان (الجنرال سالان) على أمل الحصول على نصر عسكري حاسم، يسمح له بتنفيذ التسوية السياسية. وأعلن عن هذه التسوية بتصريحات واضحة جدا عن (حق تقرير المصير الذاتي) و (سلم الشجعان) وذلك في (سبتمبر - أيلول - وأكتوبر - تشرين الأول 1958). وبدأ الجنرال شال سلسلة من العمليات العسكرية الكبرى، التي طارد فيها الفلاحين حتى مخابئهم وملاجئهم. ووجدت قيادة جبهة التحرير

ص: 63

صعوبة كبرى في المحافظة على قواعدها، والاحتفاظ بقوات ضخمة، فقسمت قواتها إلى مجموعات صغرى انتشرت في كل الولايات. وظن ديغول أنه بات يسيطر على (95) بالمائة من الجزائر. ووقف ينتظر استسلام الحكومة المؤقتة لإرادته وكان انتظاره هذا مشابها تماما لانتظار نابليون على أبواب موسكو سنة 1812. فقد رفضت حكومة الجزائر الخضوع لمنطق القوة، واستمرت في إصرارها التام على رفض عروض ديغول. ووقف الرأي العام العالمي إلى جانبها، يدعمها ويشد أزرها. وهكذا حصل ديغول على النصر العسكري غير أنه لم يحقق أبدا هدفه السياسي.

لقد أدى هذا التطور إلى وضع ديغول أمام مأزق حرج، فقد بدأ القلق ينتاب الرأي العام الإفرنسي في الجزائر، وجزءا من الجيش الإفرنسي، بسبب السياسة الليبيرالية التي حاول ديغول تحقيقها بطرائق ملتوية لإخراج فرنسا من الوحل على حد زعمه. ونجم عن هذا الوضع سلسلة من الحوادث التي تفاقت حدتها وخطورتها: فالحواجز أو المتاريس التي أقيمت في العاصمة - الجزائر - تشير إلى طلاق (الجزائر الإفرنسية) من الحكومة. ووجدت الحكومة الإفرنسية نفسها وهي مرغمة على مهادنة جبهة التحرير الوطني، أو حتى دعمها، للقضاء على التظاهرات التي اجتاحت المدن، الأمر الذي عزز من هيبة الجبهة ودعم من مكانتها. وأعيد (الجنرال شال) إلى فرنسا بعد أن انتهب مهمته العسكرية. وسمحت هذه الضمانات أخيرا بالبدء في مفاوضات (مولان) وأعقبها خطاب ألقاه (ديغول) تحدث فيه عن (الجمهورية الجزائرية). وكان التطور قد أصبح الآن تاما. بيد أن ديغول لا زال يأمل أيضا بأن تسمح التسوية السياسية

ص: 64

النهائية بإنقاذ ما يمكن إنقاذه لتحقيق بعض المكاسب، والمحافظة على المصالح الإفرنسية كما كانت من قبل.

كانت هذه السياسة ليبيرالية بأكثر مما كان يتوقعه الإفرنسيون من ديغول، ولهذا فقد خابت آمالهم في الجزائر، كما خابت آمال الجيش الذي جعل من جبهة التحرير الوطني وجيشها الهدف الأساسي لعدائه، واشتد التوتر في الجزائر. وانفجر المأزق عن الانقلاب الذي دبره القادة - الجنرالات في الجزائر العاصمة. وكانت عملية هذا الانقلاب قد أعدت بصورة سيئة. ونفذت باستخفاف ورعونة، فكان الفشل الحتمي مصيرها. غير أنها نجحت في شيء واحد، وهو تمزيق الجيش الإفرنسي تمزيقا لم يعرفه من قبل. وزاد الموقف سوءا بظهور حركة (منظمة الجيش السري) التي لم تكن في واقعها إلا ترجمة سيئة ورديئة لطرائق الحرب الثورية. وقد شنت هذه الحركة حملة إرهاب عنيفة وحمقاء، زادت من تدهور الموقف بين الإفرنسيين والمسلمين الجزائريين. ووجدت حكومة ديغول نفسها مرغمة على وضع حد نهائي للفوضى والاضطراب، فعادت إلى استئناف المفاوضات (في إيفيان). واعترفت باستقلال الجزائر، وسيطر جيش التحرير الوطني على البلاد، وتجمعت القوات الإفرنسية في الموانيء والمطارات، وبدأت بتنفيذ عملية الجلاء. كما غادر الإفرنسيون المقيمون في الجزائر البلاد، على أمل إرباك البلاد الجزائرية وهي في فجر استقلالها. غير أن حكومة الجزائر تمكنت من تجاوز العقبات.

وانهار البناء الذي عملت فرنسا على إقامته طوال (132 عاما). وباشر أبناء الجزائر في تضميد جراحهم وبناء حياتهم

ص: 65

الجديدة. وعادت المآذن مضيئة ترتفع فيها دعوات الخير - والله أكبر.

لقد حاول الكتاب الغربيون - والافرنسيون منهم خاصة - تحليل التجربة الجزائرية، وتعليل أسباب (الفشل الإفرنسي) وجاؤوا بافتراضات كثيرة، منها - على حد زعمهم - ضعف القوات الإفرنسية في بداية الثورة، وسوء إدارة الحرب، وفشل القيادات السياسية في معالجة المواقف المتتالية، ولكن الحقيقة الأولى التي كانت سبب الفشل في الواقع هي أن (الاستعمار ذاته هو الذي يحمل في جوف نظامه بذور مصرعه) أما الحقيقة الثانية والتي لا تقل في أهميتها عن الأولى فهي (تصميم شعب مؤمن بالله الواحد القهار، وبحقه في الحرية والكرامة والسيادة واستعداده لتقديم التضحيات مهما بلغت للدفاع عن دينه والذود عن حياضه؛ فكان في ذلك نصره وهزيمة أعدائه).

ص: 66