المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ عام الانتصارات (1960) - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ١٠

[بسام العسلي]

الفصل: ‌ عام الانتصارات (1960)

10 -

‌ عام الانتصارات (1960)

(*)

مضت خمسة أعوام على بداية الثورة وهي تسير قدما، بتصميم وثبات، نحو النماء والتعاظم، حتى إذا ما بدأت السنة السادسة من عمر الثورة، مع بداية سنة 1960، أصبح باستطاعة جبهة التحرير الوطني وجهازها التنفيذي (جيش التحرير الوطني) السير بخطوات أوسع نحو النهاية الحتمية لخط الثورة. فكانت سنة (1960) بحق (سنة الانتصارات) على كل الصعد والمستويات. وبصورة خاصة منها صعيد (الصراع المسلح). وقد يكون من العسير رسم لوحة شاملة لهذا التطور. إلا أنه ليس من الصعب تكوين فكرة عامة من خلال استقراء ملامح بعض المعارك الذي جرت في ناحية محدودة (من نواحي بني صالح) خلال مدة وجيزة لا تزيد على الشهر وبضعة أيام.

في صبيحة يوم 31 - اكتوبر - تشرين الأول - 1959. قامت

(*) المرجع: مجلة (المجاهد) الجزائرية، العدد 59 - 11/ 1 / 1960.

ص: 184

كتيبة من كتائب جيش التحرير كانت مقيمة بنواحي (بني صالح) بإرسال دورية استطلاع، وعندما عادت الدورية أفادت بأن هناك وحدة من الجيش الافرنسي تضم ثلاثين جنديا تقريبا، قد توقفت في الجبل المقابل، فسار مجاهدو الكتيبة على الفور، سالكين الشعاب الضيقة والدروب الصعبة حتى لا يشعر العدو بحركتهم. وعندما وصلوا إلى مسافة قريبة من العدو، نظموا قوتهم، وضربوا نطاقا حوله. ويظهر أن العدو لم يكن يتوقع ظهور المجاهدين في تلك الناحية، ولهذا أهمل ترتيبات الأمن، وانتشر أفراده فوق الأرض وقد ربطوا خيولهم إلى جانبهم. وبعد أن أحكم المجاهدون الحصار حول أعدائهم. أطلقوا نيرانهم كلها دفعة واحدة، فلم يتمكن الجنود الافرنسيون من إبداء أية مقاومة، وحاول بعضهم الفرار فصرعتهم رصاصات المجاهدين المحكمة. وما هي إلا ربع ساعة حتى كان المجاهدون يغادرون أرض المعركة التي امتلأت بجثث المرتزقة الاستعماريين، ومعهم خيول العدو وأسلحته. وبعد فترة قصيرة، بدأت نجدات العدو بتطويق الناحية من كل جانب، وامتلأت السماء بالطائرات المتعددة الأشكال (من ب 26 وموران والطائرات المطاردة وطائرات الاستطلاع) كما أخذت (18) طائرة عمودية (هيليكوبتر) بإنزال قوات إفرنسية فوق قمم الجبال، في حين كانت الأرض تهتز بالقنابل المتساقطة من كل مكان، واشتعلت الغابة بقنابل النابالم التي كانت الطائرات تلقيها من غير توقف حتى أصبح الجبل كله مشعلا من اللهب الحارق، ولكن المجاهدين الذين كانوا يعرفون شعاب الجبل الخفية ودروبه السرية، لم يعبأوا كثيرا بما يحيط بهم، وأمكن لهم الخروج من دائرة الحصار بعد أن خاضوا اشتباكا رهيبا مع إحدى وحدات العدو كبدوها فيه (65) قتيلا، بحسب اعتراف

ص: 185

الضباط الافرنسيين ذاتهم. واستطاع المجاهدون فتح الثغرة، والمرور بين قوات العدو، واستشهد منهم (7) مجاهدين خلال عملية فتح الثغرة كما أصيب خمسة آخرون بجروح مختلفة.

وفي يوم 6 تشرين الثاني - نوفمبر - 1959. وقعت معركة أخرى في (بوغنبوز) حيث كانت فرقة من فدائيي جيش التحرير الوطني مدعم بفوج من المجاهدين - جند جيش التحرير - ومعهم م فع هاون ومدفع رشاش ثقيل، وهم يتمركزون جميعا في المنطقة. ولاحظت عناصر استطلاع هذه القوة أن هناك دورية استعمارية تنتقل في المنطقة دون أن تلاحظ هذه وجود قوة جيش التحرير. فانتظر المجاهدون حتى الساعة السادسة مساء (1800) وبدأوا تحركهم في اقتفاء أثر الدورية الافرنسية. وكان تحرك المجاهدين بصمت تام وحذر شديد حتى وصلوا إلى منطقة مكشوفة (عارية من الأشجار) يحيط بها الجبل من كل جهاتها، وفيها بركة ماء توقفت عندها الدورية الإفرنسية، وانصرف أفرادها للراحة من عناء السير المستمر طوال النهار، وأخذ جند الدورية بغسل وجوههم، دون الالتفات إلى ما حولهم، حيث كان المجاهدون يتابعون تقدمهم حتى وصلوا إلى مسافة لا تبعد عن أفراد الدورية بأكثر من ثمانين مترا تقريبا. وفجأة، فتحوا عليهم نار أسلحتهم الآلية - الأوتوماتيكية، وقذفوهم بقنابل الهاون والقنابل اليدوية، فأصيب أفراد الدورية الإفرنسية بالهلع، وتعالت صرخاتهم مختلطة بدوي الانفجارات ولعلعة الرصاص وأنين الجرحى واستغاثات المصابين، وكان الجرحى يتوسلون إلى رفاقهم بألا يتخلوا عنهم، أو يهربوا ويتركوهم. وعندما حاولت المدفعية الإفرنسية التدخل لدعمهم، وقعت قنابلها على القوات الإفرنسية

ص: 186

دراسة مخطط المعركة - تصميم وفكر وعمل.

ص: 187

التي كانت قادمة لنجدة الدورية المحاصرة. وتابع المجاهدون مهمتهم، وحملوا الأسلحة الكبيرة التي غنموها من معركتهم، وانسحبوا بعد أن كبدوا العدو (23) قتيلا و (12) جريحا. ولم يصب أحد منهم بأذى، وأمكن لهم النجاة سالمين بالرغم من وفرة قوات العدو التي أخدت في البحث عنهم.

وفي يوم 23 تشرين الثاني - نوفمبر - 1959. خاض المجاهدون معركتين (في عين القصبة) و (تافر) وكان النصر حليفهم في المعركتين.

سارت قوة من المجاهدين متوجهة نحو هدفها حتى وصلت الى مرتفع (القروم الأكحل) وصعد مراقب من هذه القوة إلى صخرة مرتفعة عالية تشرف على المنطقة كلها، وأخذ ينظر باحثا من خلال عدسات منظاره المقرب على أمل العثور على ضالته المنشودة، والتي أخبرته عن وجودها في المنطقة مصلحة الاستعلامات في قيادته، ولم يطل البحث به كثيرا فقد كشف له المنظار عن وجود تحركات للعدو فوق مرتفع (عين القصة) والذي كان يبعد عن نقطة مراقبته مسافة لا تزيد على الميلين فقط. ولما كان وجود العدو فوق هذا المرتفع يعيق مجموعة المجاهدين عن تنفيذ المهمة المحددة لها. فقد عمل قائد قوة المجاهدين على تقسيم قوته إلى وحدتين وكلفهما السير على اتجاهين مختلفين للوصول إلى المرتفع وعند الاقتراب منه، تابع المجاهدون تقربهم زحفا وبوثبات قصيرة، حتى لا تكتشف وجودهم وحدة معادية أخرى، كانوا قد مروا بها في طريقهم قبل ذلك. وكان الوقت ظهرا عندما وقع الاشتباك القصير والحاسم، والذي أسفر عن قتل ثمانية جنود للعدو، وجرح أربعة

ص: 188

آخرين، وأصيب مجاهد بجرح بسيط. وانسحبت قوة المجاهدين بسرعة قبل قدوم النجدات الإفرنسية التي لم تكن بعيدة عن موقع الاشتباك (في عين القصبة). وسار المجاهدون على الطريق المؤدي إلى (تافر). وقبل الوصول إلى مفترق الطرق هناك، لاحظ المجاهدون آثارأ تشير إلى وجود قوة إفرنسية، وأدرك المجاهدون على الفور أن هذه القوة قد نصبت لهم كمينا عند مفترق الطرق. وأفاد المجاهدون من معرفتهم الدقيقة لكل شبر من الأرض بقدر ما أفادوا أيضا من معلوماتهم الدقيقة عن قوات العدو في المنطقة وتحركاتها، ولهذا انسحبت قوة المجاهدين إلى الخلف قليلا، تحت حماية الرشاشات التي اختارت مواقع مناسبة لها للعمل ضد قوات الكمين فيما إذا حاولت التدخل. وأقام المجاهدون بدورهم كمينا غير بعيد عن المنطقة، ولم يطل بهم الانتظار فقد أقبلت قوة إفرنسية من الاتجاه المقابل نحو موقع الكمين وفتح عليهم المجاهدون نيرانهم الكثيفة والمركزة، فأسقطوا الأنساق الأولى منهم وأرغموهم على التراجع بعد أن دمروا بنيرانهم أيضا قوة الكمين الإفرنسي. وانسحب المجاهدون تاركين وراءهم عشرات القتلى والجرحى، وعادوا الى مركزهم الأصلي من غير أن يصاب أحدهم بأذى ..

وكانت قد وقعت معركة كبيرة في أوائل شهر تشرين الثاني - نوفمبر- 1959 عند الجهة الغربية من (واد - سودان) وقد يكون من المناسب الإشارة إليها باعتبارها من أهم المعارك التي وقعت في هذه الناحية خلال تلك الفترة. وقد اشتركت في المعركة فرق متعددة من جيش التحرير وكانت بداية المعركة عندما نصبت كتيبة من

ص: 189

كتائب جيش التحرير كمينا لقوة إفرنسية، وأسفر الكمين عن قتل أربعين جنديا إفرنسيا، ثم بدأت القوات الإفرنسية في التدفق من كل مكان حتى بلغ عدد أفرادها نحوا من أربعة آلاف جندي، تدعمهم الدبابات ونيران المدفعية الثقيلة وتحميهم الطائرات. وقد استطاعت فرق جيش التحرير تجنب الاشتباك في معارك كبرى مع قوات العدو الضخمة، كما أمكن لها تفادي قنابل المدفعية وضربات الطيران بفضل ما توافر لها من الخبرة في تعاملها مع العدو وأساليبه، واكتفت فرق جيش التحرير بتوجيه ضرباتها إلى الجوانب الضعيفة من تنظيم العدو، ونصب الكمائن لوحداته المنعزلة، ثم الاختفاء بسرعة مذهلة عند قدوم نجدات كبيرة من قوات الافرنسيين.

واستطاعت بذلك قتل خمسين جنديا افرنسيا - آخرين - من بينهم ضابط برتبة نقيب (كابتن). هذا ولم تتجاوز خسائر المجاهدين حدود استشهاد مجاهد واحد، وإصابة أربعة مجاهدين آخرين بجراح متفاوتة. ونجحت كافة فرق المجاهدين في التسلل من بين قوات العدو التي اندفعت كلها نحو جبل (واد - سودان) ولشد ما كان ذهولها عندما وجدت أنها وقعت على (فراغ) فلم تعثر على أحد من المجاهدين الذين ما كان لهم أن ينجزوا ما حققوه من انتصارات، وأن يبلغوا ما حصلوا عليه من نجاح، لولا ذلك الدعم الذي كان يقدمه لهم الشعب، وهو يرافقهم في كل خطوة من خطواتهم، ويقدم لهم المساعدة في كل أمر كانوا يحتاجون فيه للمساعدة. وبذلك استطاع المجاهدون العودة إلى مراكزهم المحصنة وقواعدهم المأمونة، سالمين ومحملين بالغنائم.

ص: 190

ومن المعارك التي تجدر الإشارة إليها - في هذا المجال - معركة جبل (بوزيد) التي وقعت في يوم 12/ 12 / 1959.ففي فجر هذا اليوم، أفاقت قوة من مجاهدي جيش التحرير كانت تقيم في (جبل بوزيد) وقد أقبل إليها المواطنون ينذرونها بتقدم قوات افرنسية كبيرة نحو الجبل. وأسرع المجاهدون فاحتلوا مواقعهم الحصينة ومراكزهم المموهة باتقان ورابطوا هناك وهم على استعداد كامل لإبادة قوات العدو التي قد تقترب من مواقعهم، غير أن القوات الافرنسية كانت تتحرك بحذر فلم تتوغل كثيرا في تقدمها ولم تقترب من مواقع المجاهدين الذين مكثوا ينتظرون طوال اليوم وقد أتعبهم الانتظار بأكثر مما تتعبهم المعارك والاشتباكات، ومع اقتراب المساء، تم توزيع قوة المجاهدين، وتقسيمها إلى زمر صغيرة مهمتها نصب الكمائن لقوات العدو. وهنا أيضا أفاد المجاهدون من ظلمة الليل ومن معرفتهم لشعاب الجبال ودروبها؛ فمضوا نحو أهدافهم. وتوجه الفوج الأول على المسالك الوعرة المؤدية الى الطريق العام من جانب مستور (خفي) لا يتوقعه العدو. وأمكن لهذا الفوج أن يباغت دورية افرنسية كانت على جانب الطريق ولم تشعر باقتراب المجاهدين من خلفها إلا عندما فتح المجاهدون نيرانهم وقذفوا قنابلهم اليدوية. وعندما حاول بعض أفراد الدورية الفرار، طاردتهم نيران المسدسات الرشاشة واستولى المجاهدون على أسلحة الدورية التي أبيد أفرادها، وانسحبوا آمنين.

أعقب ذلك اشتباك آخر، في ناحية تغطيها الصخور المنيعة التي احتمى بها المجاهدون وراحوا يوجهون إلى العدو نيرانهم الكثيفة من أسلحتهم الحديثة، وأفاد المجاهدون من وجود العدو في منطقة مكشوفة، فأوقعوا به خسائر فادمحة لا تقل عن خمسين قتيلا

ص: 191

وجريحا، واستشهد من المجاهدين رجل واحد، وأصيب ثلاثة بجراح خفيفة. وقبل أن ينسحب المجاهدون، قاموا بزرع لغم مضاد للدبابات فوق أرض الطريق العام، ثم انسحبوا إلى ملاجئهم المأمونة. وفي صباح اليوم التالي جاءت قافلة كبيرة من سيارات العدو متجهة نحو مكان الاشتباك، فانفجر اللغم تحت سيارة نقل عسكرية كبيرة (ج 0 م. س) كانت تحمل عشرين جنديا. وتطايرات أجزاؤها مع أشلاء الجنود الأعداء فوق مساحة تبعد عشرات الأمتار عن الطريق. وتوقفت القافلة بكاملها لمدة تزيد على الثلاث يساعات. ولشد ما كانت فرحة مجاهدي جيش التحرير والمواطنين الذين وقفوا معهم وهم يتابعون العدو من خلال عدسات المناظير المقربة. ولقد انطلق المواطنون والحماسة تملأ نفوسهم، يعانقون هؤلاء المجاهدين الذين انتقموا لهم عما أنزلته بهم القوات الاستعمارية من ضربات وحشية.

خلال هذه الفترة ذاتها، كان الفدائيون يعملون على تصعيد عملياتهم في المدن حتى بلغ معدل هذه العمليات حدود (36) عملية في كل (24) ساعة. وارتفع صوت المتطرفين الاستعماريين مطالبا بفرض حالة الحصار الكامل على المسلمين. وأعلن (المعمرون) سخطهم على السلطة الإفرنسية التي لم تتمكن من حمايتهم - من ضربات الفدائيين - وشكلوا وفدا لمقابلة قائد المظليين- سفاح مدينة الجزائر الجنرال ماسو - لبحث هذا الموضوع. أما القيادة الإفرنسية فقد كان لديها ما يكفيها من المتاعب بسبب وفرة الكمائن التي ينصبها الفدائيون ضد القوات

ص: 192

الإفرنسية، وزاد من حيرة القيادة الافرنسية واضطرابها كثرة ضربات الفدائيين للأجهزة الاقتصادية والعسكرية الإفرنسية. الأمر الذي دفع الناطق الرسمي باسم القيادة الإفرنسية للاعتراف بأن معدل العمليات الفدائية قد بلغ في الأشهر الثلاث الأخيرة - من سنة 1959 - ما يقارب (3240) عملية. هذا مع العلم أن القيادة الافرنسية لم تكن تعترف في بلاغاتها الرسمية بوقوع أكثر من خمس أو ست عمليات في اليوم. تلك هي الوضعية التي كانت عليها الجزائر يوم كان الجنرال شال:(يحدد موعدا قريبا للانتصار النهائي على ثورة الجزائر). وقد يكون من المناسب هنا العودة لمتابعة شريط الأحداث:

عقدت المنظمة الإفرنسية التي كانت تحمل اسم (لجنة الدفاع عن التجار والصناع) اجتماعا لها في مدينة الجزائر يوم 26 ديسمبر - كانون الأول - 1959. صادقت فيه على بيان يعترف بتفاقم خطورة الاضطرابات، وانعدام الأمن الذي بات مهيمنا على المدن الجزائرية. وكثرة عمليات الفدائيين، ووجهت المنظمة المذكورة في بيانها احتجاجا شديد اللهجة الى السلطات العامة بسبب ما وصفته: فقدان التدابير الحاسمة التي عادة ما تطبق في كل بلد يعيش حالة (الحرب الثورية). وطالبت: بفرض حالة الحصار، وقتل كل شخص يثبت أنه قام بعمل إرهابي، أو شارك فيه، وإعدامه فورا مع عرض جثته على العموم.

وفي يوم (4 جانفي - كانون الثاني - 1960) صادق أربعون معمرا من معمري (المتيجة - أو المتوجة) على بيان (استنكروا فيه تهاون السلطات الحكومية وعدم اهتمام البرلمانيين، وطالبوا:

ص: 193

(بتعزيز الجهاز الدفاعي - وتطبيق تدابير ناجحة، وأكثر فاعلية ضد الارهاب) وهي تدابير معروفة للجميع وتقضي (بالعقاب الفوري - لكل مشتبه به) وقرروا (بأن يجتمع كل المزارعين في منظمة واحدة تقدم للسلطات المسؤولة التدابير اللازمة - لضمان حياتنا).

وبعد ثلاثة أيام (في 7 جانفي - كانون الثاني - 1960) اجتمع أربعمائه معمر (*) تقريبا في (الحراش). وقرروا الاستعاثة - بالجنرال ماسو - وأكدوا ما جاء في بيان 4 جانفي).

لقد جاءت هذه البيانات الصادرة عن أوروبيي الجزائر، لتؤكد حقيقة واحدة وهي: وقوع المعمرين تحت هيمنة الرعب. وإذن، فأين ذهبت أفراح الأوروبيين وابتهاجهم قبل سنة عندما أعلن عن برنامج (شال) للقضاء على الثورة؟. وأين ذهبت تلك الآمال الضخمة التي علقها الأوروبيون على مشجب (عملية جوميل) لتهدئة البلاد؟

وأين هي الانتصارات التي طالما بشر بها وأعلنها القادة العسكريون من أمثال: (شال) و (ماسو) و (غامبير) وسواهم؟ ثم أين هي التأكيدات الرسمية التي تقول أن (برنامج شال) قد نجح في تطهير المناطق الجبلية من الثوار، وقضى على الخلايا الإرهابية في المدن؟

لقدظهر فشل (برنامج شال) بوضوح تام، وأكثر من أي يوم مضى، فالاشتباكات المظفرة، والكمائن الناجحة، وتدمير

(*) المعمر - حفيد الاستعماري القديم - والذي ولد في الجزائر وعاش فيها، فشكل مع المعمرين الطبقة الجديدة من القاعدة الاستعمارية.

ص: 194

الخطوط الحديدية، وإغارات الفدائيين الرائعة والمثيرة، باتت تجتاح جميع المناطق التي طبق فيها (برنامج شال). بل إن الاشتباكات والكمائن والمعارك لم تعد محجوزة في حدود المناطق الجبلية البعيدة عن العمران، بل إنها صارت تقتحم أبواب المدن الكبرى، وتمتد الى سهول متيجة (متوجة) وإلى ضواحي العاصمة (الجزائر).

هذا بالإضافة إلى العمليات الكبرى التي تصطدم بها الفرق الافرنسية في الجبال، وبالإضافة أيضا إلى ما كان يقوم به الفدائيون داخل المدن الكبرى - بما فيها العاصمة ذاتها -من مضاعفة لنشاطاتهم، وزيادة في حجم عملياتهم وعددها. وقد اعترفت المصادر الإفرنسية ذاتها بهذا النشاط العسكري الكثيف، ونشرت وكالات الأنباء الأجنبية تفاصيل وقائعه. وكان ذلك اعترافا رسميا بفشل (برنامج شال) الذي علقت عليه القيادة الافرنسية أكبر الآمال في القضاء على الثورة، حتى أن الجنرال (ديغول) نفسه، اعتز به، فكان أن وجه في افريل -نيسان - 1959 رسالة الى (شال) يهنئه فيها على نجاح المرحلة الأولى من برنامجه في تهدئة (جبال الونشريس). والراقع أن الجنرال (شال) جاء بأسلوب جديد، وغير تكتيكي معروف، لكنه لم يتمكن من التغلب على المصاعب التي كانت تواجه أسلافه وما انفكت تواجهه، لقد كانت الوضعية قبل (برنامج شال) تتمثل في اللوحة التالية:

كانت الوحدات الكبرى من جيش التحرير الوطني متجمعة في مناطق محصنة، وكان الجيش الافرنسي موزعا على مراكز الكادرياج - المربعات - أما شال فقد أراد تجميع قوات افرنسية ضخمة ليضرب بها مراكز جيش التحرير الوطني ويقضي عليها،

ص: 195

لكنه لم يحسب حسابا للسرعة التي يتكيف بها جيش التحرير مع المواقف المستجدة على ساحة الصراع. وكانت النتيجة أن أصبحت القوات الافرنسية متجمعة في جهات معينة بعد أن جلت عن مناطق شاسعة، وأصبح جيش التحرير الوطني منتشرا على شكل فرق صغيرة حتى يسهل عليها الاختفاء من جهة، ويسهل عليها في الوقت نفسه مهاجمة المراكز المنزلة، وتوجيه الضربات الخاطفة الى الدوريات والقوافل الافرنسية.

وهكذا انعكست الوضعية، فأصبح الجيش الافرنسي هو المتجمع في وحدات ضخمة، وجيش التحرير هو المتوزع في كل مكان، مع فارق أساسي، وهو أن جيوش الاحتلال المتجمعة تجد نفسها أمام ثلاثة أعداء الأرض والمكان وجيش التحرير، بينما يجد جيش التحرير، أينما اتجه، وحيثما حل، تأييدا حارا من المواطنين، ودعما حقيقيا وفعالا باستمرار. وقد اعترف (الجنرال -ديكورنو) المشرف على تنفيذ عمليات (الأحجار الكريمة) في الشمال القسنطيني، بهذه الحقيقة، فقال:(إن مكان هذه المناطق صورة عن الأرض التي يقيمون عليها: إنهم شديدو المراس، غلاظ الطباع، غير متشربين لأفكار فرنسا. لقد كنا في الأوراس نواجه عدوين: الجبال الصعبة والغابات، وكنا في بلاد القبائل نواجه عدوين أيضا وهما: الجبال الصعبة والسكان أما هنا فإننا نواجه ثلاثة أعداء في آن واحد: الجبال الصعبة والغابات والسكان).

لقد تطورت أساليب جيش التحرير بسرعة مذهلة، وهو مما ضاعف من عوامل الفشل العسكري الافرنسي، فما أن اصطدم جيش التحرير بالتكتيك الافرنسي الجديد في ناحية (الونشريس) الواقعة في الولاية الخامسة حتى أسرعت قيادة الولاية الخامسة بإعلام

ص: 196

القيادة العامة عن التكتيك الإفرنسي الجديد، وبادرت القيادة العامة فوجهت تعليمات عسكرية جديدة إلى مجالس جميع الولايات حتى تعمل بمقتضاها، وتستعد على ضوئها لمواجهة البرنامج الافرنسي الجديد. وأفاد جيش التحرير من تجربة الولاية الخامسة في مواجهة (برنامج شال)، ولما انتقل هذا البرنامج إلى الولاية الرابعة ثم الثالثة، كان جيش التحرير في كل مرحلة من تلك المراحل يزيد من إحكام أساليبه وتطويرها وإتقانها، بحيث لم يصل (برنامج شال) الى نهايته - وهي عمليات الشمال القسنطيني - حتى بات جيش التحرير وهو على استعداد كامل لمواجهته. وهذا ما يفسر مقدرة جيش التحرير في هذه المنطقة على توجيه ضربات حاسمة الى القوات الاستعمارية، في الوقت الذي ظهر فيه عجز الاستعماريين الإفرنسيين عن إلحاق خسائر حقيقية بقوات جيش التحرير الوطني. وهذا ما عبرت عنه عمليات جيش التحرير الناجحة في المعارك والاشتباكات والكمائن التي كان

مسرحها (مليلة) و (القل) و (جيجل) و (تاكسانة) و (سيدي زروق) و (تامسقيدة) و (فح مزالة) وهذا أيضا ما يفسر ارتباك القيادة الإفرنسية واضطرابها في إدارة عمليات الشمال القسنطيني.

المهم في الأمر، هو أن (برنامج شال) لم يتمكن من القضاء على المصاعب القديمة بقدر ما عمل على زيادة شدتها وتعقيدها، فبات الجيش الافرنسي وهو يواجه في آن واحد ثلاث جبهات: جبهة (بلاد القبائل) حيث فرضت عليه (عملية جوفيل) التمركز هناك. وجبهة (الخطوط المكهربة) في شرق الجزائر وغربها. وجبهة عملية (الأحجار الكريمة) التي بدأت القوات الافرنسية في تنفيذها مع بداية شهر تشرين الثاني - نوفمبر - 1959 - في الشمال القسنطيني.

ص: 197

وكان لا بد من أن يضاف الى ذلك صعوبة جديدة نجمت عن تمديد أنبوب البترول (من حاسي مسعود) الى (بجاية) وقد أدركت القيادة الافرنسية أن هذا الأنبوب معرض لهجمات (فرق التدمير) التابعة لجيش التحرير، وخصوصا في المناطق الجبلية التي يمر بها مثل (جبال الحضنة) و (جهة البيبان). واعتبرت أن أي تدمير للأنبوب في أي نقطة هو ضربة قاصية، ليس فقط للجيش الافرنسي، وإنما للاقتصاد الاستعماري بكامله والسياسة الديغولية بمجموعها، ولا سيما المشروع القسنطيني الذي اعتبر أن بترول الصحراء وغازها هو عموده الفقري. وقد توقح قائد افرنسي كبير المصاعب الناتجة عن الموقف الجديد. فقال لجنوده - قبل الانتهاء من تمديد الأنبوب - ما يلي: ................... (ستصبحون عما قريب حراسا للأنابيب) وقد تأكدت هذه الحقيقة في التعليمات التي وجهها وزير الجيوش الافرنسية (غيوما) الى (الجنرال شال) والتي جاء فيها: (وبما أن البترول قد وصل الى بجاية، فيجب ألا يتوقف عن التدفق مهما كانت الظروف. إن حماية البترول أمر أساسي نظرا للأهمية السياسية والنفسية التي تعلقها فرنسا على استثماره، وهو أمر ضروري أيضا لأن التزاماتنا أمام الشركات البترولية يقضي بضمان وصول البترول).

وهكذا بات لزاما على الجيش الإفرنسي أن يحتمل عبئا جديدا هو حماية أنبوب يمتد على طول (660) كيلومترا. وقد تم توزيع قوات هذا الجيش فكان منها (50) ألف جندي لممارسة الأعمال الإدارية، و (60) ألفا على المدارس. و (50) ألفا لحماية الخطوط المكهربة - هذا عدا الامتدادات التي تستنجد بها هذه القوة كلما شدد جيش التحرير هجماته على هذه الخطوط المكهربة، لا سيما في الفترة التي بدأت في 26 تشرين الثاني - نوفمبر - 1959. وهناك

ص: 198

(30)

ألفا لحراسة الجسور والمعامل الخ .. و (130) ألفا في مراكز التربيعات (الكادرياج). ويبقى هناك (200) ألف وهو عدد لا يكفي للتمركز في المناطق التي يمر بها أنبوب البترول.

ويظهر ذلك سبب عجز (برنامج شال) عن بلوغ أهدافه. فقد اضطر الجيش الافرنسي للجلاء عن معظم الولايات، مما أتاح لجيش التحرير الفرصة للعمل بحرية من أجل تنظيم أمور الولايات وتجنيد المتطوعين، وإقامة الأجهزة الأدارية الخ .. لقد خاض جيش التحرير حروبه بطرائقه وأساليبه، وخاض الجيش الافرنسي حروبه بطرائقه وأساليبه، فكان لا بد من انتصار جيش التحرير على جيش الاستعمار في عصر (زوال الاستعمار).

ص: 199

إحدى عمليات رصد العدو وتحركاته

ص: 200