المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الزكاة المفروضة، فالقرآن لم يوضح لنا ما هو نوع المال - سهام الإسلام

[عبد اللطيف سلطاني]

الفصل: الزكاة المفروضة، فالقرآن لم يوضح لنا ما هو نوع المال

الزكاة المفروضة، فالقرآن لم يوضح لنا ما هو نوع المال الذي تؤخذ منه، ولا المقدار المأخوذ، ولا، ولا، إنما وكل هذا إلى صاحب الشريعة المرسل بها من الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لقد أوتيت القرآن ومثله معه" يشير إلى أن الوحي الذي أنزل عليه منه ما هو قرآن يتلى، ومنه ما هو شرح وبيان للقرآن، فهو الذي بلغ وبين وشرح للمسلمين دينهم.

‌مسألة خطيرة

وبمناسبة الكلام على الصلاة والزكاة، وخاصة هذه الآية الكريمة {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ننبه إخوان التوحيد والإسلام إلى شائعات خطيرة تشاع وتذاع، فتسربت إلى عقول وأفكار بعض المتنطعين ممن ينتسبون إلى الإسلام والعلم الناقص، تلقفوها من أفواه أعداء الإسلام من ملاحدة ومستشرقين وغيرهم من الذين يبثون دعايتهم الدنسة وأفكارهم المسمومة في أوساط الشباب المنسوب إلى الإسلام، ذلك الشباب الناقص التفقه في الدين ومعرفة أسرار شريعتهم وأهدافها. بث المستشرقون والملاحدة في أوساط شباب المسلمين - شبهة - أولئك الشبان الذين دخلوا مدارسهم وتخرجوا منها بشهاداتهم العلمية، وبالطبع فإن التعليم الديني الإسلامي غير موجود فيها البتة، بل فيها تعليم إلحادي يحارب الدين ويعاديه، هذه الشبهة التي قد تخفى عليهم معرفتها هي قولهم:

إننا نعلم أن أحكام الدين الإسلامي مستمدة من القرآن، فهو كتاب الفرائض الدينية الواجبة على المسلمين، لكننا لا نجد فيه

ص: 79

أحكام بعض المسائل الدينية، سواء منها الواجبة أو المحرمة، مثل الصلاة والخمر - مثلا - فالقرآن لم ترد فيه آية تحدد صلاة واحدة وتبين صورة أدائها وكيفية فعلها، كما لم يذكر فيه آية تنص على تحريم شرب الخمر وكل ما يتصل بالخمر من بيع وشراء وعمل الخ فيكون فيها حروف تنص على تحريحها "حرم" فمن أين جاء هذا التحريم؟ وكأنواع الصلوات الخمس فلم يرد فيه ذكر أسمائها ولا أوقاتها ولا صفاتها.

هكذا يفتنون شبابنا - بهذه الفتنة - ليصدوهم عن دينهم ويشككوهم فيه وفى تشريعه، وفعلا كان لكلامهم هذا تأثير على البعض من الشباب، فزهدوا في واجبات دينهم، وتعاطوا بعض ما حرمه الله.

ولكشف شبهتهم هذه، ونقض كلامهم الباطل ورد دعايتهم المسمومة نقول: إنه لا يخفى على ذوي الألباب النيرة والادراك المبني على الحجة والدليل أن أحكام الشريعة الإسلامية مستمدة من أصول التشريع الخمسة وهي/ الكتاب والسنة، والقياس، والاجماع - اجماع العلماء المجتهدين - والمصالح المرسلة، عند بعض العلماء في هذا الأخير. فالكتاب - القرآن - كتاب الله، والسنة النبوية هي أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وإقراره، وسكوته. أما القياس فهو عند عدم النص من هذين الأصلين - الكتاب والسنة - فيقاس عليهما، أما الاجماع فهو اجماح العلماء المجتهدين على حكم فيما إذا حدث أمر ولم يكن فيه نص، مما ذكر، فهو متفرع عن الكتاب والسنة.

ص: 80

فالسنة شارحة ومبنية للقرآن، ففي تحريم الخمر - مثلا - نستطيع أخذ حكم التحريم لها من القرآن - زيادة عن النصوص الكثيرة والأحاديث الواردة من صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم نفسه، من غير احتياج إلى حروف - حرم - لأن الله تعالى قال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) فقوله تعالى {فَاجْتَنِبُوهُ} هذا أمر، والأمر إذا أطلق في اللفط ولم يقيد بشيء أفاد الوجوب، كما هي القاعدة الأصولية، أفلا يفهم هؤلاء المتنطعون من هذا الأمر التحريم؟ فالقرآن نزل باللسان العربي، فمن أراد أن يفهمه فعليه بتعلم العربية والا فليمسك لسانه عن الخوض فيه، فمعنى الآية/ أيها المؤمنون يجب عليكم اجتناب وترك هذه المذكورات هنا وهي: الخمر، والميسر - القمار - والأنصاب - وهي الأوثان التي كانت العرب تعبدها، والأزلام - عملية القرعة على أمور معروفة عند العرب، كل هذه المذكورات في هذه الآية رجس وقذر من وساوس الشيطان وتزيينه لها في أعين الجاهلين لعواقبها السيئة، فظهر من أعمال بعض المستشرقين والملاحدة أنهم تطوعوا من تلقاء أنفسهم، واكتشفوا ما لم يكتشفه علماء المسلمين منذ أربعة عشر قرنا واكتشافهم هذا باطل ولا أصل له، اللهم الا اعانتهم للشيطان في خدماته المعروفة، وهي فتنته وإفتانه للمؤمنين، فشاركوا إبليس

(1) الآية 90 من سورة المائدة.

ص: 81

فى أعماله، والا فما هو الحامل والدافع لهم على هذا التشكيك الذي حاولوا نشره في مجتمعات وملتقيات الشباب الإسلامي غير الواعي لدينه وشريعته، فهؤلاء القوم دائمو البحث والتنقيب عن شبهات يبثونها في مجتمعات الشباب الجاهل لدينه، ولكن هيهات لما يريدون هيهات، فديننا قوي متين في حجته وفى تشريعه.

ان المسلم الصادق في إسلامه لا يفرق بين ما شرعه القرآن وبين ما شرعه الرسول صلى الله عليه وسلم، لايمانه بهما معا، فقد قال الله تعالى في القرآن:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1) وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم توقع أنه سيحدث في وقت - ما - من يفتن المسلمين ويصدهم عن دينهم بما يذيعه وينشره بينهم من شبهات، فيقول قائلهم: لا نعمل إلا بما هو مذكور في القرآن، كما صرح بهذا في المدة الأخيرة أحد الحمقى من زعماء التجديد ممن له سلطة في حكومة لشعب مسلم ذاق ألوانا من الاستعمار الفشيستي، ولما تحرر منه تسلط عليه هذا الطائش فراح يصرح ويتهم علماء الحديث الصحيح ويشكك الناس في دينهم وسنة نبيهم، بناء على جهله وطيشه وخفته، والا فمن أين له أن يصل إلى مرتبة العلماء ذوي الرأي الصائب والفكر الثاقب فقد فضح نفسه، وجعل من كان يحترمه بالأمس يسخط عليه لوقاحته وسوء أدبه مع نصوص الشرع الإسلامي الحنيف وسار في خط الملاحدة والمستشرقين الذين

(1) الآية 7 من سورة الحشر.

ص: 82

يشككون المسلمين في أصول دينهم، فقد أقدم بتصريحاته على القدح في أمانة رجال الحديث كالإمام البخاري رحمه الله، وهو الذي كرس حياته وأفناها في تخليص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من دسائس المزورين والمدلسين وجمع الصحيح فقط من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فخدم بعمله هذا الدين الإسلامي خدمة تذكر له بالاعجاب والتقدير والاحترام، فيجيء في آخر الزمان رجل يستهين بهذا العمل الجليل، فيشكك الناس في الحديث ويدعي أن واحدا لا يستطيع أين يجزم بما في صحيح البخاري على أنه من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، من أمثال هذا جاء تحذير رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، فقد جاء في كتب الحديث الشريف قوله عليه الصلاة والسلام:"لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" أخرجه الأئمة/ أحمد في مسنده، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة في سننهم، وكذا ابن حبان والحاكم في المستدرك، كلهم عن أبي رافع، وقد رواه الحاكم في المستدرك بألفاظ وطرق متعددة، كلها عن أبي رافع، وجاء في آخر بعضها: فيقول ما ندري هذا هو كتاب الله وليس هذا فيه وجاء في آخر البعض منها، فيقول: ما وجدنا في كتاب الله عملنا به وإلا فلا، كما جاء في بعضها قوله:"بيني وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالا استحللناه، وما وجدنا فيه حراما حرمناه" فقال رسول

ص: 83

الله صلى الله عليه وسلم رادا عليهم أقوالهم: "وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله".

وقد تكرر حدوث هذا الشك في السنوات الأخيرة، حتى من بعض من ينتسبون للعلم والدين، ممن كانوا تلقوا تعلمهم في المدارس غير الإسلامية، فتأثرت عقولهم بكلام المستشرقين والملاحدة، وبالفعل وقعت بيني وبين بعضهم محاورة في هذا الأمر مما دل على أنهم أخذوا بآراء أعداء الإسلام، وان نزغاتهم قد تأثرت بها عقولهم، فقلت لمحدثي: - وهو شيخ طاعن في السن - يا شيخ أعيذك بالله من هذه الآراء الضارة بالدين والعقيدة، فإنها مدسوسة بين المسلمين لافساد دينهم عليهم، وتشكيكهم في أحد مصادر دينهم المعتبرة، بعد القرآن كلام الله، وتلوت عليه الحديث المتقدم (لا ألفين أحدكم الخ) وقد بلغني عنه أنه كان ينطق بلفظ الإمام البخاري بتفخيم الخاء، على أنه مأخوذ من البخار لأن كلامه ورأيه يتبخر في الفضاء، وهو منطق منه عجيب، هدانا الله وإياه وجميع المسلمين لاحتيام ديننا وعلمائنا.

وما وقع لي مع هذا الشيخ العالم وقع لغيري من هذا الصنف في قديم الزمان وحاضره، ولا زال يقع إلى يومنا هذا مع من لم يشرب من معين الإسلام الصافي، ولم يتذوق طعمه الحلو المرىء، ومن القديم ما أخرجه الحاكم في المستدرك - في كتاب العلم منه - بسنده إلى الحسن - يعني البصري - قال: (بينما عمران بن حصين يحدث سنة نبينا صلى الله عليه وسلم، اذ قال له رجل: يا أبا نجيد حدثنا بالقرآن، فقال له عمران: أنت

ص: 84

وأصحابك تقرأون القرآن، أكنت محدثي عن الصلاة وما فيها وما حدودها؟؟؟ أكنت محدثي عن الزكاة في الذهب، والابل، والبقر، وأصناف المال؟؟؟ ولكن قد شهدت وغبت أنت، ثم قال: قد فرض علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة كذا وكذا، فقال الرجل: أحييتني أحياك الله، (1) قال الحسن: فما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين، وقد أقر الذهبي هذا الأثر ولم يعترض عليه لثقة رواته.

من أجل هذا التلاحم بين ما شرع بواسطة القرآن كلام الله وبين ما شرع من طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العلماء: ان من لم يصدق بما جاء في السنة النبوية عن صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام فقد كفر بالله وبرسوله وبشريعته والعياذ بالله، نسأل الله السلامة من هذا، والتوفيق إلى طيب الأقوال والأعمال.

ان الزكاة المفروضة على المسلمين في أموالهم من رب العالمين سهم مهم من أسهم الإسلام، له بال في الشريعة الإسلامية، وأثر بالغ الأهمية في المجتمع الإسلامي لا يخفى على أحد ممن لهم عناية واهتمام بالمجتمع.

أما المعرض عنها والمانع لها فيا ويله يوم الحساب من أليم العذاب، كما أوضح القرآن ذلك، قال عز من قائل: "وَلَا يَحْسَبَنَّ

(1) ج 1 ص 109.

ص: 85

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (1).

فالمال كله ملك لله، وما العبد الا نائب ووكيل عنه، وخليفة للمالك الحقيقي، ورب المال هو الذي أمر هذا الخليفة بالانفاق منه، فلماذا لا يعمل هذا الخليفة بما أمره به صاحب المال ومالكه؟ والله يقول وهو بما أمر عليم، اذ هو رب المال وصاحبه، وهو قادر على انتزاعه من خليفته:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (2) فالمال مال الله، "والخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله"(3).

ان الدين الإسلامي ربط بين أتباعه برباط الاخوة والمحبة حتى لا يبتعد المسلمون بعضهم عن بعض، فتبقى هذه الصلة قائمة بينهم في كل الأوقات والأزمنة، وأن الايمان يبعث في النفوس الاهتمام والرعاية لهذه الأخوة والنسب الديني في كل الظروف، في الرخاء والشدة، واليسر والعسر، ووصايا الإسلام لا زالت شاهدة على هذا، وان أهملها أتباعه، وكشاهد

(1) سورة آل عمران الآية 180.

(2)

الآية 7 من سورة الحديد.

(3)

أخرجه أبو يعلى في المسند والبزار عن أنس وأخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عمر.

ص: 86

على هذا، الحديث الذي رواه البزار والطبراني عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما آمن بي من بات شيعان، وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به" أي إيماين هذا؟ إذا كان المسلم لا يهمه ولا يهتم إلا بما هو فيه من نعمة وترف، ولا يتألم مما فيه أخوه وجاره الجائع، فلا يطعمه مما أعطاه الله، إذا كان يعلم بحاله وحاجته، ولا يمد له يد المعونة والاحسان، فمن كان هذا حاله مع إخوانه فقد ظهر منه أنه لم يستكمل الايمان، ولم يكن في مستوى المؤمنين.

فدفع الزكاة للفقراء والمساكين دليل على أن مخرجها شاكر لنعمة الله عليه، غير كافر بها، ولهذا يبسط الله خالقه له في الرزق والمال، ويزيده من فضله، وذلك مصداق قوله تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (1) فرب المال - وهو الله تعالى - أخبر عباده بما وعدهم به من الزيادة في مال الشاكرين لنعمه عليهم. وإخراج الزكاة - أيضا - دليل على ما في قلب مخرجها من الرحمة والعطف على البؤساء والمحاويج.

ووجوب الزكاة على المسلمين في أموالهم أمر معلوم من الدين بالضرورة، لكثرة الأدلة على هذا من آيات القرآن الحكيم وأحاديث الرسول ووصاياه صلى الله عليه وسلم، فهي مسألة إنسانية ودينية، فمن لم يعترف بوجوبها فهو كافر بالله، ومن

(1) الآية 7 من سورة ابراهيم عليه السلام.

ص: 87

اعترف بوجوبها ولم يذعن لدفعها من المسلمين ويعطيها لمستحقيها أخذت منه بالقوة - وان بقتال - كما فعل الخليفة الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم الخليفة الراشد: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، مع مانعي الزكاة في أول خلافته، فإنه وقف منهم موقفا دل على حزمه وشدة حرصه على صيانة هذا الدين وحفظه من نقصه، وانتقاص فروضه وذهابها الواحد، بعد الآخر، مثلما نراه في هذا الزمان من ذهابها في كثير من الأوطان التي تدير الإسلام، ولا من يغار عليها ويعمل على بقائها ودوامها وحفظها، فإن الخليفة الراشد أبا بكر اعتبر مانعي الزكاة مرتدين فحاربهم على منعها وسميت حربه لهم في التاريخ الإسلامي بحرب أهل الردة، لأنهم في رأيه مرتدون عن الإسلام، لامتناعهم عن دفعها وقال قولته المشهورة في التاريخ الإسلامي:"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالا - وفى رواية عناقا - كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه" وتسمى هذه الوقعة (بحرب الردة) كما مر قريبا، لأنه اعتبرهم مرتدين عن الإسلام الذي تركه لهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كاملا لا نقص فيه، وأمانة في أعناق المسلمين، يجب عليهم أن يحافظوا عليه كما تركه لهم، سواء منهم الحاكم أو المحكوم، بعد أن آمنوا به وأعطوا العهد على العمل بكل ما جاء فيه، فالواجب عليهم المحافظة عليه سالما كاملا كما تركه لهم صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام، وقد رأى في هذه القضية بعض الصحابة رأيا

ص: 88

غير الذي رآه أبو بكر، فلم يوافقوه في أول الأمر على حرب مانعي الزكاة، منهم عمر بن الخطاب فقال لأبي بكر: كيف تقاتل قوما يقولون لا اله الا الله محمد رسول الله؟ فإن من قالها فقد عصم بها دمه وماله، فأجابه أبو بكر بكلمته المتقدمة:"والله لو منعوني الخ" الدالة على يقظته وحزمه على المحافظة على الإسلام سالما من كل نقص كما تركه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تلك الكلمة الكبيرة في معناها "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاه الخ" فقال أبو بكر لعمر المشهور بالشدة والتصلب في أمر الله، يا عمر "أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام؟ " ثم اقتنع عمر وبقية الصحابة رضوان الله عليهم بما ذهب اليه أبو بكر وارتضوه، وخاصة عمر، فقد شرح الله صدره وقبل ما اختاره أبو بكر من محاربة أهل الردة مانعي زكاة أموالهم عن الفقراء والمساكين، واتفق الجميع على رأي واحد لصيانة قواعد الإسلام من عبث العابثين، حتى لا يتجرأ أحد على نقض عرى الإسلام وقواعده وفرائضه، كما هو واقع الآن في الأوطان الإسلامية، بينما ملوك المسلمين أصحاب الجلالة، ورؤساؤهم أصحاب الفخامة والعظمة وأولياء أمورهم منهمكون وغرقى - إلى أذقانهم - في بحور شهوات نفوسهم، وصيانة قصورهم وكراسيهم بشدة الحراسة وكثرة الجند والسلاح، والإسلام ينتقص منه ويهان - وهم الرعاة والمسؤولون عن رعيتهم - وينقص هيكله شيئا فشيئا، ولا نعلم مآله،

ص: 89

والأمر لله السميع البصير {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (1).

فى كثير من الآيات القرآنية يحث الله تعالى فيها على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، لأن الدين الحق الذي أمر به الله جل جلاله يتجلى ويظهر من خلال هدين الفرضين المهمين، قال الله تعالى:{أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة في هذا المعنى، وهي متنوعة المقاصد، في الترغيب والحث على دفعها لمستحقيها، والنهي والوعيد لمانعيها، فقد أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوما أهل كتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخد من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب" أورد هذا الحديث بهذه الألفاظ في باب "أخذ الصدقة من الأغنياء وترد على الفقراء ".

(1) الآية 42 من سورة ابراهيم عليه السلام.

ص: 90

فى هذا الحديث يحس المسلم ويشعر من خلاله بالرحمة والشفقة تتجلى للعيان من خلال كلماته، كما يدرك طريقة التشريع الإسلامي في التدرج بالمسلم من درجة إلى أخرى حتى تطمئن نفسه إلى فرائض الإسلام، فمن توحيد الله تعالى والاقرار بوحدانيته إلى الاعتراف برسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ثم إلى طاعة الله بالصلاة الواجبة عليه، إلى إجابة ربه فيما أمره به من إخراج زكاته، فتؤخذ من الأغنياء لتعود فائدتها على الفقراء لا على خزينة الدولة التي لها موارد أخرى، ثم يوصي العامل على جمعها بأن يكون رفيقا بالناس الذين يدفعونها، ويحذره من الشطط في ذلك، فلا يأخذ كرائمها وخيارها منه، فإن هذا قد ينفر دافعها ويوغر صدره على الدولة، بل يأخذ من أموال الناس الوسط، وهو ما بين الكبيرة والصغيرة، والسمينة والعجفاء، ثم يحذره مرة ثانية من ظلم الناس، بأن يأخذ فوق الواجب عليهم، ويقول له:"واتق دعوة المظلوم" ذلك أن المظلوم إذا دعا ربه يستنصره عليه - الظالم - فإن الله يستجيب له ويعاقب الظالم على ظلمه، وباب الله ليس عليها حاجب ولا بواب يمنع من وصولها إلى مالك الملوك، كما هو الحال في أبواب الملوك والرؤساء من البشر، وفى هذا التحذير إيماء إلى منع أخذ الرشوة من أرباب المصالح والأموال، وفى قصة عبد الله بن اللتبية ما فيها من الموعظة للولاة، حين قدم بالزكاة التي سيره الرسول صلى الله عليه وسلم لقبضها ممن وجبت عليهم، فلما جاء بها قال: هذا لكم وهذا أهدي الي، (والحال أن له نصيبا وسهما في الزكاة

ص: 91

التي جمعها يأخذه جزاء على عمله في جمعها، إذ هو أحد الأصناف الثمانية الذين تصرف لهم الزكاة). فغضب من قوله هذا الرسول صلى الله عليه وسلم وجمع الناس وخطب فيهم خطبته المشهورة الناهية عن أخذ الرشوة من الناس فيما يعود إلى عمل الموظفين الذين لهم أجرة من خزينة الدولة، كما هو الحال في وقتنا هذا، مما هو معلوم لدى الخاص والعام.

أورد الإمامان/ البخاري ومسلم في صحيحهما أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل رجلا من الازد يقال له عبد الله بن اللتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدى إلي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:"أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه أو أمه حتى تأتيه هديته ان كان صادقا، والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقيه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلا أعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر" متفق عليه، هذا في الهدية على عمل الموظف الذي له أجر عمله، فما بالك بمن يختلسون أموال خزينة الدولة بشتى الحيل، فإن سلموا من العقاب في الدنيا بالوسائط والشفاعات الخ فإنهم لا يسلمون أمام من لا تخفى عليه خافية يوم القيامة، والحقيقة أن الأموال التي اختلسوها هي أموال الشعب، وفيه الفقير والعاجز واليتيم.

ص: 92