المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السهم السابع:النهي عن المنكر - سهام الإسلام

[عبد اللطيف سلطاني]

الفصل: ‌السهم السابع:النهي عن المنكر

‌السهم السابع:

النهي عن المنكر

من حظوظ وسهام الإسلام مقاومة الشرور والمخازي والفساد بجميع أنواعها وأشكالها، وهو المعروف في الشريعة الإسلامية باسم النهي عن المنكر، وهو كل فعل قبيح أو قول شنيع لا تستسيغه الفطر السليمة الصافية من الدغل والخبث، وهو - السهم - الذي جعله الله علامة ودليلا على يقظة المسلمين واهتمامهم بأمر دينهم ومجتمعهم، ليبقى سليما لهم من كل طارىء يطرأ على جوهره النقي، فيبدله أو يحرفه عن خطه الذي رسمه له رب العالمين.

والمنكر عرفه العلماء وبينوه بأنه كل أمر فظيع يستحي فاعله - إذا كان من ذوي المروءات - من فعله أو قوله جهارا وأمام الملأ من الناس، أو سرا حيث لا يراه أحد إلا خالقه المطلع عليه في كل حالاته.

والمنكر هو ما أنكره الشرع ونهى عنه لما فيه من المفاسد والأضرار التي يعود ضررها على الفرد أو المجتمع، وذلك لقبحه

ص: 139

أيضا، ومن المشاهد أن الناس في درجات الايمان بخالقهم وتحليهم بحلية الايمان والحياء من الله ومن الناس متباينون ومختلفون، فمن الناس من يتغلب على طبعه الايمان والحياء، فيعز عليه أن يهان أو يسخر منه العباد، أو يتأثر - في نفسه - بما فعله من مخالفة لشرع الله، فيما نهى الله عنه، ذلك النهي الشديد المؤدي بفاعله إلى الوعيد والعذاب الشديد، فهو يترك المنكرات المنهي عنها لهذا المعنى.

والمنكرات التي تفسد على المسلم إسلامه قد تصدر ممن لا يخافون الله فيما يأتون، ولهذا يجب على الأمة جمعاء أن تكون يقظة منتبهة إلى ما يحدث في وسطها من كل ما لا يليق بالمسلم فعله إن كان قبيحا، أو تركه إن كان واجبا عليه فعله، وهذا من باب النصيحة لخاصة المسلمين وعامتهم، وقد بين العلماء من هم أهل الإنكار على فاعلي المناكر واشترطوا في القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عالما بما يأمر به أو ينهى عنه، ليخرج الجاهل منه، لأنه ليس أهلا له، وقد يكون أمره أو نهيه سببا يؤدي إلى الضرر والفساد في وسط المجتمع، فينتج عنه خلاف المقصود، وهو الضرر لا النفع، أو الفساد لا الصلاح، كما يشترط فيه أيضا الإسلام، فلا يتولى هذا المنصب الكافر، لأنه أولى بنفسه من غيره أن يتولى إصلاحها، فهو في حاجة إلى من يأمره هو بالمعروف - الإسلام - وينهاه عن المنكر - وهو الكفر - المتلبس به لأن هذا من خصال الإيمان، إذ المؤمن يدفعه إيمانه إلى القيام بهذا الواجب الكبير، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ص: 140

وللقيام بهذا الواجب العظيم - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - يتحتم على المسلم القادر عليه أن يفعل ما هو مطالب به دينا من غير حاجة إلى إذن خاص من الحاكم، ولا يتوقف هذا عن التصريح - أو التسريح - له بذلك، لمن أراد أين يتولى هذا، بل عليه أن يقوم بما فرضه الله عليه حسب القدرة والطاقة والتحمل لمسؤولية ما اعتزم القيام به، إنما عليه أن يتجنب ما قد يحدث عن فعله، إذ قد يحدث منه ردود فعل قد تكون أقبح وأسوأ من فعله، إذ ربما يجلب الضرر عليه أو على غيره، وبهذا يسقط عنه القيام به.

والقيام بهذا الواجب العظيم على كل واحد من أهله، سواء كانوا من علماء الدين أو كانوا من حكام المسلمين صار في وقتنا هذا مقيدا غير مطلق، ذلك أن رؤساء وملوك المسلمين الحاليين تركوا القيام بهذا الركن العظيم، إما لعدم معرفتهم به حيث لم يكونوا من أهله، وإما لأن تعلمهم كان في مدارس غير إسلامية، فتغذوا بلبانها، فامتزج بها دمهم ولحمهم، ومن المعروف المسلم به أن هذه المدارس والمعاهد لا تعلم الدين ولا تدعو له ولا تشجع عليه، بل تحاربه، ولربما تسخر منه وترميه بالنقص، هذا هو الغالب عليهم، ومن القليل جدا من خرج عن هذا الإطار - لأمور خارجة عن تعلمه، كتربيته في صغره وسط أسرة محافظة على دينها وعقيدتها فعملت للدين وتقويته ونشره - وقليل ما هم - فاهتدى هذا القليل بهديهم، واقتدى بأسلافه أهل الدين والتقوى.

ص: 141

للسبب المذكور وغيره طغى الباطل على الحق، وانتشر الفساد في جميع الطبقات، وعم وطم وغطى كل فضيلة كانت في المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

هذا من جانب الحكام الذين تخلوا عما هم مطالبون به أمام الله يوم القيامة، وأمام التاريخ الذي سجل عليهم تخليهم عن أداء واجباتهم وتقصيرهم في مهماتهم، فتسرب بذلك الشيطان وأتباعه بالفساد إلى هيكل الأمة، تسرب إليها بوسواسه الذي نخر عظامها، فسقط هيكلها مهشما لا حراك له.

لم يحك التاريخ - فيما حكى - أن حكام المسلمين السابقين منعوا علماء المسلمين من أداء ما هو - فرض عليهم إلا ما صدر من بعض الحكام لأغراض ودوافع سياسية أو شخصية بعيدة عن عداوتها للدين والعقيدة - إلا ما فعله حكام المسلمين في وقتنا الحاضر، ذلك أنهم منعوا العلماء من إلقاء دروسهم الوعظية الدينية في مساجد المسلمين المشيدة بأموال المسلمين لا بأموالهم هم، فتجاوزوا سلطتهم المحدودة إلى ما ليس لهم فيه أي حق، فارتكبوا بهذا خطأ كبيرا وشنيعا لا ينجيهم منه أمام الله أي عذر أو اعتذار، فتركوا أمتهم المحكومة بقوانين غير إسلامية على أيديهم، تركوها تتخبط في ظلمات جاهلية جهلاء، مع فساد الزمان، وفساد الزمان إنما يكون بفساد أهله، مع قلة علماء الدين الذين هم أهل للقيام بهذا الفرض الكبير، هذا ما هو واقع الآن في كل بلد ووطن إسلامي - فيما أعلم - فقد منعوا علماء الإسلام من أداء ما فرضه الله عليهم ليصيروا مثلهم، فهم

ص: 142

قد أهملوا هذا الواجب فكيف لا يمنع منه العلماء ليتساووا معهم، إذ منعوا العلماء من تعليم الدين في بيوت الله ومساجد المسلمين، وقالوا لهم لا يسمح لكم بالتعليم في المساجد إلا بالاستظهار برخصة من الوزارة المكلفة بالشؤون الدينية تسمح لكم بالقيام بما تريدون، (وهذا ما كان ساءدا في زمن الاستعمار، ويكفي أنه استعمار غربي ضد الدين) فإذا طلب العلماء هذه الرخصة فإنها لا تمنح لهم، لأنهم لم يكونوا من الموالين للحكومة الحاكمة في البلاد، أو لأنهم يسيرون في اتجاه معاكس لاتجاهها أي في خط مناقض لخطها غير الإسلامي، وهذه كلها أسباب واهية اتخذت وسيلة للمنع لا غير، وفى المساجد أئمة لم تكن لهم الكفاءة للقيام بهذا الفرض العظيم، إما لعجزهم وضعفهم وأكثريتهم من هذا النوع، وإما لموافقتهم على خطة حكومتهم رضوا بها لأنها

والأمر كله لله من قبل ومن بعد، وهنا نسأل: هل يسمى عالما إسلاميا من يقر ويرضى بغير الإسلام دينا للمسلمين؟؟

هناك صنف آخر من الناس كانوا يتسمون بالعلم في فترة قريبة خلت، ويسمون علماء المسلمين، رأيناهم قد تخلوا عن هذا اللقب الشريف، وانكمشوا وانزووا على أنفسهم، وتركوا ما كانوا يلهثولن وراءه يوم كان الأمر بيد جمعية العلماء، فما بالهم اليوم سكتوا؟ وأين ذهبت صيحاتهم وانفعالاتهم وحماسهم والإسلام يهان ويبعد عن معاقله؟؟

ص: 143

أخزى الله هذه الدنيا وقبحها فقد أضلت كثيرا من الناس وأخرجتهم من خطهم إلى خطوط أخرى لم تكن لهم ولم يكونوا لها، ونشكرها من جهة ثانية على ما فعلته مع هذا الصنف من العلماء، فقد كشفتهم للعامة على حقيقتهم حتى لا يغتر بهم وبأمثالهم أحد.

كنت في ربيع سنة (1397) التقيت بأحد العلماء الأفذاذ الذين خدموا الدين الإسلامي وخلصوا السنة من التزييف وأزالوا الغطاء عنها بتبيين أحاديثها الصحيحة من الضعيفة والباطلة، وسألته يا فضيلة الشيخ هل لكم دروس تؤدونها للسملمين فيها التوجيه والنصح والارشاد؟؟ فأجابني بأن وزارة الدين في بلدهم منعته من التدريس في بيوت الله إلا أن يستظهر برخصة من وزارة الشؤون الدينية تسمح له بما يرغب فيه، قال ولما قدمت الطلب للتحصيل على تلك الرخصة جاء الرد من الوزارة بالرفض والمنع منها، قلت له هذا ما هو معمول به في عامة بلدان الدول العربية، أما غير العربية فلا علم لي بها، فقلت له وبعد هذا فما هو العمل؟، قال تراني عدت إلى التأليف ونشر وطبع الكتب، وفى هذا خدمة للدين الحنيف نرجو من الله التوفيق والقبول.

ذلكم هو فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله.

أما في الأوطان التي لا تدين بالإسلام فإن حكوماتها تسهل - ما أمكن - على المسلمين المستوطنين فيها كل أمر تراه يعينهم على تأدية شعائر دينهم، وفعلا فقد رأينا وسمعنا من هذا الشيء الكثير، فالمساجد منتشرة في مدينة باريس وبلجيكا وألمانيا

ص: 144

الغربية وهولندة ولندرة وغيرها، والمجال واسع وفسيح للدعاة إلى الدين بينما الأمر على العكس من هذا في البلدان التي كتبت في دستورها عبارة "الإسلام دين الدولة" وهذا تناقض مفضوح وقد قال لي أحد العمال الجزائريين المستوطنين في فرنسا هذه الكلمة:"ما فهمت الإسلام إلا بعد أن جئت إلى فرنسا" فهمته من الدروس التي نتلقاها عن العلماء في المساجد!! أليس في هذا عبرة للمعتبرين، ينتشر الإسلام في أرض الكفر ويوسع على تدريسه وتعليمه بينما يضيق عليه في بلاده، أمر مؤسف والله!!؟

نفكر كثيرا في هذا السلوك الذي سلكه حكام المسلمين إزاء الإسلام والدعوة إليه وتبليغه فنرى أنهم اختاروا هذه الخطة ليؤمنوا مراكزهم وكراسيهم المضعضعة لأنهم يخافون غضبة الأمة المسلمة وانتفاضتها في يوم - ما - إذا هي فقهت دينها وأرادت أن لا تحيد عن نهجه وخطه، وإنني لأفكر من الآن - إن دام هذا الحال - في أنه ربما يأتينا يوما لا نصلي فروضه إلا برخصة من الحكومة - كما في الحج الآن - أما صوم رمضان فإنه قد فرغ منه، إذ صار يعين أول يوم منه مقدما بسنة أو ما يقرب منها، عند طبع وإحراج اليومية للسنة الجديدة، والعتاب الشديد واللوم القاسي والتوبيخ اللاذع إنما يتوجه إلى من يسمون أنفسهم بالعلماء لسكوتهم وجبنهم، أو رضاهم بالأمر الواقع حسب الاصطلاحات السياسية، والأمر واضح لو أرادوا أن يقفوا إلى جانب الدين، لأنه لا دخل للحكومات في أمر ديني

ص: 145

بحت، يعود النظر فيه من قديم الزمان إلى العلماء لا إلى الحكومات، لأنه يندرج في اختصاصاتهم، فنحن مقبلون على ما تذمر منه العربي في القديم من الزمن حين قال:

إِنْ دَامَ هَذَا الْحَالُ يَا مَسْعُودُ

فَلَا جَمَلُ يَبْقَى وَلَا قُعُودُ

نعود إلى الموضوع، حيث أننا نعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر درجات ثلاث، حسبما يحدث في المجتمع الإسلامي ففيهما الواجب المتأكد - وهي الدرجة الأولى - ويكون باليد أي بالقوة على المعتدي على حدود الله، وهذا ما يطلب من سلطة الحكومة الإسلامية، وقد ألغى هذا ولم تعد سلطة الحكومة تمارسه، وإذا لم يمكن هذا، فليكن باللسان والكلام، أي بالأمر أو النهي لمن ترك الواجب أو فعل المحرم، وهذا من واجب العلماء على من بقي منهم مواليا لدينه وعقيدته، وهي الدرجة الثانية، والدرجة الأخيرة الضعيفة كما جاء في نص الحديث، هي فيما إذا عجز المطالب عن الدرجتين المتقدمتين فإنه ينكر إهمال الواجب أو فعل المحرم بقلبه ولا يرضى بالمنكر يقع أو بالواجب يترك من أي كان، وهذه درجة عامة المسلمين، لا يختص بها واحد دون آخر.

فالدرجة الأولى الإنكار باليد. - أي بالقوة - فمن لم يستطع أن يقوم بها انتقل إلى الدرجة الثانية، أي باللسان، فإن خشي الضرر له أو لغيره، فلا أقل من أن ينكر ذلك بقلبه، وهو عدم الرضا بالمنكر والمنكرات، وهذا أقل ما يستطيع فعله، لأن الإنكار بالقلب لا يخشى منه شيء، إذ لا سلطان على القلوب إلا للخالق علام الغيوب ..

ص: 146

وولاة المسلمين في زمننا هذا أكثر الناس جرأة - إلا من قل - على ترك الواجبات وفعل المنهيات، فكيف يرجى منهم الأمر والنهي؟ ودليل ما تقدم حديث مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان".

ولرواية هذا الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قصة معروفة وهي: أن مروان بن الحكم الأموي كان واليا على المدينة المنورة من قبل معاوية بن أبي سفيان الأموي أيضا، وحضر العيد فجاء مروان ليصلي بالناس صلاة العيد، كما هي العادة المتبعة في الإسلام من أن صلاة الجمعة والعيد يقوم بهما الولاة - فيا حسرة على ما مضى - فأول ما بدأ به أنه قدم الخطبة وأخر الصلاة، على العكس مما يأمر به الشرع من تقديم الصلاة على الخطبة، وإنما فعل هذا مروان كي لا يتفرق من حوله المصلون بعد الصلاة مباشرة من غير أن يبقوا لسماع الخطبة، لأن الناس لا يحبون أن يسمعوا خطبة واحد من بني أمية، ذلك لأن بني أمية كانت خطبهم تشتمل على شتم وسب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، لما وقع بينه وبين معاوية من الخلاف على الخلافة ولم يبطل هذا المنكر الشنيع إلا عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي العادل الصالح رضي الله عنه، فتقدم الوالي مروان بن الحكم وصعد المنبر للخطبة فجذبه من ثوبه الصحابي "أبو سعيد الخدري" رضي الله عنه ودار بينهما هذا

ص: 147

الحوار كما جاء في صحيح الإمام البخاري من كتاب صلاة العيدين، قال أبو سعيد الخدري، فلم يزل الناس على ذلك، - يريد الصلاة قبل الخطبة، كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه من بعده - حتى خرجت مع مروان، وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذته بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له، غيرتم والله، فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة اهـ - وكان هذا الحوار بينهما فقط - فكان هذا العمل من مروان خلاف السنة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الأربعة الراشدون من بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما صعد المنبر الوالي المذكور صاح به أحد الحاضرين للصلاة فقال له بصوت عال على رؤوس الناس: الصلاة قبل الخطبة، - يعني أنك خالفت السنة - فما كان من الوالي إلا أن رد عليه بقوله: قد ترك ما هنا لك، فالظاهر من صيحة هذا المصلي في وجه الوالي أنه كان يظن أن الوالي نسي أو أخطأ من غير عمد لتقديمه، الصلاة على الخطبة، لهذا صاح به لما ذكر، والسهو والغفلة قد تحدث للإمام كما تحدث لغيره، غير أنه تبين له من رد مروان عليه أنه متعمد مخالفة السنة النبوية فيما فعل، وغرضه الذي يرمي إليه من هذه المخالفة أن الناس سيبقون إلى الصلاة ولا ينصرفون عنه، لهذا قدم الخطبة وأخر الصلاة.

ص: 148

وكان حاضرا في المصلى - كما مر - الصحابي / أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فلما سمع إنكار المنكر على الوالي ولم يرهبه ويخف منه لهذه الصيحة، عند هذا فال أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد قضى ما عليه، ثم ذكر الحديث المتقدم فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رآى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان" فدل قوله: أضعف الايمان، على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصال الايمان وذكرا في القرآن متلازمين، في الغالب من الآيات التي دعت إليهما ورغبت في القيام بهما، وروى الترمذي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجيب لكم".

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهما نوع من الجهاد كما جاء في الحديث الذي رواه ابن ماجة وغيره عن أبي السعيد الخدري رضي الله عنه وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " أفضل الجهاد كلمة حق - وفى رواية عدل - عند سلطان جائر".

وقد روى معنى حديث أبي سعيد الخدري من وجه آخر، فخرجه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره

ص: 149

ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". فهذا الحديث أعم وأشمل من ذلك.

إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أولى وأجل وأفضل ما يقدمه المسلم الخالص لدينه وأمته، ذلك المسلم الذي يسره الله عليه وأكرمه به وبصره بما يكون بعد القيام بهما من الخير والصلاح لهذه الأمة، وفى تركهما من الشر والفساد - وحتى الكفر - في هذه الأمة، فإنها لا تستقيم أحوالها ولا يستقيم أمرها إلا بالعودة والرجوع إلى ما كان عليه سلفها الصالح، وهذه نصيحة إمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه، وكلمته التي بقيت بعده مضرب الأمثال، ومرجع الآمال، في كل وقت وحال، ويتسابق إليها الوعاظ الناصحون في مواعظم، وتلك الكلمة هي قوله:"لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها".

وقد ينال من قام بهذين الفرضين، أو السهمين الإسلاميين - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - ما تكرهه النفوس الضعيفة من أذى وضرر ومكروه في سبيل القيام بهما غير أن الواجب على القائم بهذا هو الصبر والتحمل لكل ما يصيبه في سبيلهما من مكروه، وأين نحن مما أصاب رسل الله في سبيل تبليغ الرسالات إلى من أرسلوا إليهم منهم، وأخبار ذلك مفصلة

ص: 150

ومجملة في القرآن، فقد اتهم الرسل عليهم الصلاة والسلام بالجنون وهم أكبر الناس عقولا إلى آخر ما هو معلوم وكان من قبلنا يفتنون ويعذبون بأنواع شتى من العذاب كي يتركوا دينهم ولكنهم حافظوا على التمسك به، وأبوا أن يستجيبوا للظالمين فيما دعوهم إليه، فنشروا بالمناشير، وخدت لهم الأخاديد وأضرمت لهم فيها النيران وألقوا فيها فما صدهم كل ذلك عن دينهم، ولا اتبعوا سبيل الظالمين، فهذا هو الايمان بالله صدقا وهذا هو التصديق بوعد الله حقا، وهذا هو اليقين الذي ينجي صاحبه من عذاب الله.

فقد ذكر الله في القرآن ما أوصى به لقمان الحكيم لولده، فقد أوصاه بالصبر وتحمل الأذى في سبيل القيام بهذين الواجبين الخطيرين اللذين لا يستطيع أن يتحمل المكروه في سبيل أدائهما والقيام بهما إلا المخلصون المحبون للخير والفضيلة أولي العزم والصدق في اللقاء والعمل لله وحده، فقال:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (1).

حقا إنها درجة عالية لا يهبها الله إلا لذوي النفوس الصبورة على ما يصيبها من أجل القيام بذلك، وأي شيء هذا الذي ينوه به خالق الخلق؟ وما هي فائدة هذا الذي يضعه الخالق في قلوب طاهرة ونفوس قوية الايمان، لا ترضى لهذا المجتمع أو ذاك إلا

(1) الآية 17 من سورة لقمان.

ص: 151

ما يرضاه لها ربها وخالقها؟ كل ذلك من أجل المحافظة على سلامة العقيدة والدين والمجتمع، حتى لا يصيبه ما أصاب المجتمعات التي سبقتنا، حيث أهمل فيها هذا الركن العظيم من بين أفراد المجتمع وحكوماته المتتالية، فحل بالجميع الهلاك والدمار، وبقيت أخبارهم تتلى في المجتمعات تتناقلها كتب التاريخ، حقا ان في ذلك لعبرة لأولي الألباب.

إن هذه المناكر الطارئة والطاغية على حياة المجتمع أكثر ما تكون من الغنى بعد الفقر، والوجد بعد الحرمان كما قال رب العالمين:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} إن وقوع هذه المناكر في المجتمعات التي لم تكن معروفة فيها من قبل تشبه إلى حد بعيد تلك الأمراض الوافدة من خارج الوطن، والتي تفد مع من يفد إلى مجتمع - ما - لأغراض متعددة كالتعاون في وقتنا الحاضر، ومن خاصتها أنها سريعة الانتشار والعدوى، لأن أهل الوطن ينظرون إلى كل ما جاءهم من الخارج أنه حسن لائق بهم، ولهذا رأيناهم يتسابقون إلى فعله ليصبحوا من أهله.

ومن المعروف من أقدم الأزمنة إلى يومنا الحاضر/ أن المسؤولين عن تدبير أمور البلد - الولاة - إذا أحسوا بحدوث أي مرض خطير - كالطاعون مثلا - فإنهم يسارعون لدفع خطره عن الوطن بالعلاج النافع الذي يقي الأمة شره وخطره كالتطعيم وغيره، فإذا تركوه من غير عناية به وأهملوا شأنه فإنه يلحق بالأمة أشد أنواع الأمراض وأخطرها ولربما يؤدي إلى هلاكها

ص: 152

وفنائها، والتساهل في مقاومته يودي بخلاصة الأمة وزهرتها، وبعد هذا تندم على تفريطها، ولات ساعة مندم. فترك المعروف من الدين يسمى إهمالا أو تهاونا، وفعل المنكرات يسمى استخفافا وعدم مبالاة بها، والسكوت عنها ممن هم أهل للتصدي لها يؤدي حتما إلى غضب الله وسخطه، وفى غضب الله وسخطه العقاب السريع في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة، فالعذاب والعقاب إذا نزل بأمة فإنه يصيب الجميع الفاعل للمنكر والتارك للمعروف والساكت عن الزجر والتقريع والتغيير.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سكوت أمته عن مقاومة الظلم: (إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: إنك ظالم فقد تودع منهم) أخرجه الأئمة أحمد والحاكم والطبراني وغيرهم عن عبد الله بن عمرو.

وخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث عدي بن عمير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة" وفى سنن أبي داود العرس بن عميرة الكندي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عملت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها" فالحديث يدل بصراحة على أن

ص: 153

المنكر للخطيئة والمعصية التي وقعت يعامله الله معاملة الغائب عنها فكأنه لم يشهدها ولم يسمع بها حتى يطالب بإنكارها، فهو لا إثم عليه لأنه غير مطالب بشيء حيث لم ير ولم يسمع، أما إذا رضي بها وبوقوعها ولو كان غائبا عنها ولم يشهدها كان عليه الإثم كإثم فاعلها.

إن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات، ومن أجل هذا شهر القرآن بسكوت أولي الأمر عن فاعلي المنكرات فلم ينهوا عنها، فقد لعن الله الساكتين عن تغيير المنكرات، إذ يراهم كأنهم راضون بفعلها، كما قص علينا ربنا في القرآن قصة بني إسرائيل في هذا المعنى فقال:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (1).

فما أقبح هذا الذم وما أشنعه، فليس في العقوبات نوع أشنع من اللعن، إذ معناه أن الملعون مغضوب عليه من رب العالمين، ومطرود من ساحة رحمة الرحمن الرحيم، فإلى أين يتجه هذا الملعون؟ ليس له إلا اتجاه واحد هو عقاب الله الشديد وعذابه الأليم في نار جهنم التي أعدت للعصاة والكافرين.

واللعن جاء في القرآن على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم لأناس خالفوا المنهج الإسلامي وغيروا وزوروا ودلسوا الحقائق

(1) الآيتان 78 - 79 من سورة المائدة.

ص: 154

ليخفوا ما وراءها، ولما كثر فعل ما لا يليق بالمسلمين فعله من الزور والتزوير حذر منه نبينا عليه الصلاة والسلام، من هذا ما ورد منه في صحيح الأخبار والآثار من النهي الشديد وأقبح الوعيد في حق طائفة من الذين لا تعنيهم حقائق الأشياء إلا إذا غيروها وبدلوها وزوروا فيها. من ذلك عملية الواصلة والمستوصلة الخ، فقد ورد في صحيح الإمام مسلم والبخاري وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواشمة الخ فقد ورد في صحيح مسلم عن أسماء بنت أبي بكر قالت جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن لي ابنة عريسا أصابتها حصبة فتمرق شعرها أفأصله؟ فقال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة" والواصلة هي المرأة التي تصل وتربط شعرا بشعر لتزيد في طوله، والمستوصلة هي المرأة التي تطلب ذلك، ومعنى تمرق وفى رواية أخرى تمرط بمعنى تساقط، وهذا من أثر مرضها بالحصبة، والمرأة من الأنصار، فزجرها عن فعله لما فيه من التغرير بالرجل والتزوير والكذب وطمس الحقائق، هذا ما كان في القديم أما الآن فقد يقصر الشعر الطويل، وفي مسلم زيادة عمن ذكره جاء لعن الواشمة والمستوشمة الخ. فقد جاء فيه عن عبد الله - بن مسعود رضي الله عنه قال:"لعق الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله" قال فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها "أم يعقوب"

ص: 155

وكانت تقرأ القرآن فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت (الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله). فقال عبد الله: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهو في كتاب الله، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته، فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال الله عز وجل:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} . فقالت المرأة: فإني أرى شيئا من هذا على امرأتك الآن، فقال: اذهبي فانظري، قال فدخلت على امرأة عبد الله فلم تر شيئا فجاءت إليه فقالت: ما رأيت شيئا، فقال: أما لو كان ذلك لم نجامعها، أي لم نجتمع معا يريد أنه طلقها لو فعلت ما ذكر، وفى رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة). وهؤلاء الملعونات على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم هن:

1 -

الواصلة هي التي تصل شعر المرأة بشعر آخر فتضم شعرا غريبا عن شعر المرأة إلى شعر امرأة أخرى.

2 -

المستوصلة هي التي تطلب فعل هذا الوصل، أي وصل شعر آخر بشعرها.

3 -

والواشمة هي فاعلة الوشم، وهي المرأة التي تغرز إبرة أو نحوها في الجلد حتى يخرج منه الدم، فتحشو ذلك الموضع

ص: 156

بكحل أو حبر أو غيرهما، فإذا جف الدم بقي مكان غرز الإبرة على لون الكحل أو غيره، وهو حرام على الفاعلة والمفعول بها إذا كانت طلبته ورضيت به وكانت عاقلة مدركة وإن كانت صغيرة فالإثم على من فعله لها.

4 -

والمستوشمة هي التي تطلب بأن يفعل لها هذا، والموضع الذي وشم يصير نجسا، فإن أمكن إزالته بالعلاج وجبت إزالته.

5 -

والنامصة هي التي تزيل الشعر من الوجه، أو من الحواجب بقصد ترقيقهما للتزين.

6 -

والمتنمصة هي التي تطلب فعل ذلك بها، ويقال للمنقاش الذي ينتف به الشعر "منماص".

7 -

والمتفلجات وهو من الفلج، وهو فرجة تكون بين الأسنان الثنايا أو الرباعيات، والتفليج أن تبرد بالمبرد ما بين هذه الأسنان حتى تجعل منه الفلج، وذلك يعتبر من الحسن والزينة للمرأة، وتفعله المرأة العجوز لتظهر وكأنها صغيرة، لأن الفلج كثيرا ما يكون في البنات، فهو من تغيير خلق الله.

وهذه المنهيات هي من المحرمات والمعاصي الكبائر، وهي من وحي الشيطان وأمره، كما حكى القرآن عنه أنه توعد بني آدم وقال:{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} والوشم كان في القديم في النساء فقط فصار الآن فيهن وفي الرجال.

ص: 157

وبصور وأنواع مختلفة، وعلى جميع أعضاء الجسد، من صدر وساعد وغيرهما، زيادة عن الوجه، وفيه نوع منه يوضع على الجبهة في مكان السجود في الصلاة، ويسمى "الذبابة أو الذبانة " وهو يمثل صليبا واضحا، ولعله من علامة عباد الصليب جعلوه علامة على التعارف بينهم، وإن لم يشعر فاعله به، والكل حرام، وهو من المعاصي الكبائر، كما نبه عليه الإمام ابن حجر في كتابه "الزواجر عن ارتكاب الكبائر" لأن من أمارات المعصية الكبيرة (اللعن).

ومن هذا القبيل ما ورد في صحيح الإمام مسلم وغيره عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام حج وهو على منبر المدينة وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسي (شرطي) يقول - معاوية -: "يا أهل المدينة أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذه ويقول: إنما هلكت بنو اسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم" ووردت رواية أخرى فيه عن سعيد بن المسيب قال: قدم معاوية المدينة فخطبنا وأخرج كبة من شعر فقال: "ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود"، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغه فسماه الزور، ولاشك أن ما قاله معاوية قد رآه في نساء المدينة المنورة من وصل الشعر بالشعر كما تقدم، وفى حديث معاوية هذا اعتناء الخلفاء وسائر ولاة أمور المسلمين بإنكار المنكر وإشاعة إزالته، بل فيه توبيخ شديد لمن أهمل إنكار المنكرات من العلماء الذين يتوجه إليهم

ص: 158

ذلك التوبيخ، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة من السكوت عن إنكار المنكر وخاصة علماء الدين، فقد روى أصحاب السنن عن الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التحذير بل وفيه الوعيد، أخرج الإمام الترمذي في جامعه عن حذيفة بن اليمان هذا الحديث وقال في آخره "حديث حسن" وهو قوله: عن حذيفة بن اليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه فتدعونه فلا يستجيب لكم".

والمقصود من كل ما تقدم سواء من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أو من قول معاوية: يا أهل المدينة أين علماؤكم، المقصود من هذا ظاهر وواضح وهو توجيه اللوم والعتاب إلى أولي الأمر منا وخاصة علماء الدين الذين يسكتون عن إنكار ما يحدث ويتجدد في وسط المجتمع الإسلامي من المنكرات، على مرآى ومسمع منهم، سواء وقعت المخالفة للدين من الرجال أم من النساء، إذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟:"أفضل الجهاد كلمة عدل - وفى رواية حق - عند سلطان جائر" كما تقدم.

فسكوت علماء الإسلام عن النهي والانكار يطور المخالفات الصادرة من بعض الناس إلى الزيادة في فعل تلك المخالفات - كما هو مشاهد بالأبصار ومعلوم بالروايات عن الثقات - حتى

ص: 159

يستفحل الأمر ولا ينفع بعد ذلك فيها العلاج، فيصعب تركها والاقلاع عنها، بل ويصورها الواقع كأنها مباحة لسكوت علماء الدين عن إنكارها والنهي عن تلك المخالفات للشريعة الإسلامية لأن النفوس ألفتها وتعودتها مع طول المدة.

فاللهم لا تجعلنا من الذين يرون الباطل ظاهرا - وماثلا - أمام أبصارهم ولا ينكرونه، واجعلنا ممن يرفعون أصواتهم - دائما - بإنكار المنكر من غير أن يتأثروا بمراعاة جانب فلان أو فلتان، فإن الباطل عند السكوت عنه يرفع رأسه وصوته عاليا ليراه الناس ويسمعوه، لأنه لم يجد في طريقه من يصده ويقاومه.

إن عصرنا هذا الذي نعيش فيه، أو هذه الفترة التي تمر بها أمتنا الإسلامية فترة صعبة وقاسية على الدين من أجل ما يلاقيه الدعاة إلى الله من الشدة عليهم والعنف معهم، وبالأخص تلك الأوطان التي اشتهرت بمواقفها الحاسمة في أيام تاريخها القديم، فنكوصها على أعقابها أمر لا يليق بماضيها المجيد، فإن الكثير من هذه الأوطان قد انكمش على نفسه، ولا نقول أنه تخلى عن تلك الدعوة والمواقف بتاتا، إنما أصابته فترة فتور، وهذا يرجع إلى أمرين اثنين فيما أعتقد وهما:

الأمر الأول طغيان حكامهم الذين تجاوزوا حدود وظائفهم، كرعاة ناصحين ومسؤولين مخلصين لأمتهم رعاة حقا لمصالح الإسلام والمسلمين أولا، وقبل مراعاة مصالحهم الخاصة،

ص: 160

فقد خيل إليهم أنهم وحدهم أصحاب الكلمة والحق في توجيه المسلمين، ولو كان ذلك التوجيه إلى غير الوجهة التي يحبها الله ويرضاها للمسلمين، ولم يستسيغوا مواقف العلماء من هذا الأمر - توجيه المسلمين إلى غير ما دعا إليه الإسلام - ولم يدركوا أن مسؤولية العلماء في ذلك ربما كانت فوق مسؤولياتهم، إذ لهم المحافظة على سلامة الأوطان وما يتبع ذلك، وللعلماء مسؤولية الدفاع عن سلامة الدين والعقيدة والأخلاق الفاضلة من كل طاريء ودخيل، فقد رأيناهم ولمسناهم في مواقفهم وتصرفاتهم أنهم كلما تكلم عالم نصوح لأمته في أي موضوع ديني أو اجتماعي إلا وتخوفوا منه، واعتقدوا أن هذا منه تهديد لسلامتهم وراحتهم (وأمن الدولة) وأمنهم هم، فناصبوه العداء وراقبوا أعماله وتنقلاته كأنه مثير فتنة، أو يريد الاستيلاء على السلطة كما توهموا هذا، فحاربوه ما وسعهم ذلك بالتضييق عليه في أعماله وأقواله والحد من نشاطه الديني، بل وسد الأبواب في وجهه.

والقرآن يصور لنا أن مثل هذا لا يصدر إلا عن المنافقين، كما قال تعالى في حق المنافقين الذين حاربوا الإسلام في أيامه الأولى:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (1).

(1) الآية 4 من سورة المنافقون.

ص: 161

والأمر الثاني يرجع إلى مواقف العلماء من أولئك الحكام، فمنهم الرعديد الجبان، الذي حمل أمانة العلم لتكون حجة عليه لا له يوم القيامة، ومنهم المداهن المتملق المسالم لضعفه لقول من قال:(سلم تسلم) ومنهم الذين أشربوا في قلوبهم حب المال والكسب والمغنم على حساب الدين، ولا عليه بعد هذا أانتصر الدين والعقيدة على المهاجمين أم انهزما أو وقفا في مكانهما؟. وقد كان العالم الورع الشيخ عبد الله بن المبارك كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات ويقول:

رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ

وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا

وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ

وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا

وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ

وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا

وفى كلا الأمرين يوجد رجال آمنوا بوعد ربهم وبمبدئهم وبمسؤوليتهم، ولم يثنهم عن عزمهم قوة أولئك، ولا ضعف هؤلاء، فأدوا ما عليهم من واجبات، قد تكون ثقيلة في بعض الأوقات، وقاموا بمسؤولياتهم خير قيام يقتضيه عامل الزمان والمكان، فكانوا - إن شاء الله من الناجين - ولم تخل الأرض من داع يدعو إلى الله ومن قائم بأمر الله، والحمد لله.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوب كل مسلم مؤمن بربه حتى الجالس في قارعة الطريق، حيث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس في طرقات الناس، فقال الصحابة له ما لنا منها بد يا رسول الله، فقال: (فإن أبيتم إلا المجالس

ص: 162