المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الإسلام دين الفطرة ‌ ‌تمهيد قال الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: {فَأَقِمْ - سهام الإسلام

[عبد اللطيف سلطاني]

الفصل: ‌ ‌الإسلام دين الفطرة ‌ ‌تمهيد قال الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: {فَأَقِمْ

‌الإسلام دين الفطرة

‌تمهيد

قال الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} آية 30 من سورة الروم.

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه كما في الصحيحين: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟ حتى تكونوا أنتم تجدعونها) ثم قرأ أبو هريرة رضي الله عنه قول الله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .

وروى الإمام أحمد رحمه الله في مسنده عن عياض بن حمار المجاشعي قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته: (إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما

ص: 13

علمني في يومي هذا: كل ما نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا) الخ الحديث وهو طويل، كما رواه الإمام مسلم في صحيحه على ما سيأتي قريبا، قال ابن كثير في تفسيره لآية الروم السابقة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} الخ: انفرد بإخراجه مسلم فرواه من طرق عن قتادة به. وقوله أتتهم الشياطين فأضلتهم الخ - وفي رواية مسلم فاجتالتهم - أي حولتهم عن فطرة الله فأهلكتهم، ومعنى هذا أن المولود بعد الولادة لو تركته شياطين الإنس والجن كما خلقه الله على الفطرة والجبلة - فطرة الله تعالى - لما اختار غير ما فطره الله عليه، من التوحيد والطاعة لله تعالى، وهي الفطرة التي فطره عليها كما نراه الآن في سكان البوادي الذين لم يخالطوا المدن التي تكثر فيها الطوائف المختلفة وتتنوع فيها المجتمعات التي تتأثر بما تسمع فيها من مختلف الأفكار والعقائد البشرية، وقد نقل عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول:"اللهم ارزقني إيمانا كإيمان العجائز" ذلك لأن البدوي متهيء لقبول الحق والتوحيد طبعا وطوعا لفراغ فكره من المؤثرات الخارجية والبعيدة عن فكره وعقله، وفي صحيح مسلم:(ما من مولود إلا وهو على الملة) وفيه أيضا (ليس من مولود إلا على هذه الفطرة، حتى يعرب عنه لسانه) ذلك أن الله تعالى خلقه وفطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله إلا هو، كما تشهد بهذا آية سورة الأعراف، وهي قوله تعالى:

ص: 14

{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} الآية 172 من سورة الأعراف.

أما حديث مسلم فهو عن عياض بن حمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا الخ) والحديث طويل كما قلت ومن أراده فعليه به في الجزء 17 منه في باب (الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار) فنفهم من قوله تعالى: {أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا} أن من معاني هذه الإقامة أن تجعل الدين - دائما - إمامك وقدوتك في حياتك، وتسير أنت وراءه وفي خطه واتجاهه باتباعك له، وإياك أن توليه ظهرك وقفاك.

فبناء على ما تقدم تفصيله يظهر منه استعداد المولود حين ولادته لتلقي الدين الحق - دين الفطرة - وشرع الله (الإسلام) لو لم يصرفه صارف خارج عن أصل خلقته، جاءه من أبويه اللذين ظلا قائمين عليه بالتربية والتدريب على ما هما عليه من الدين والعقيدة التي ورثاها - هما أيضا - عن أبويهما، فيوجهانه الوجهة التي وجهاهما إليها.

ص: 15

وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا التوجيه الأبوي مثلا، وهو البهيمة الحيوانية التي تولد كاملة الخلقة لا ينقص منها شيء، حتى تمتد إليها يد الإنسان، فتشق أذنها - مثلا - أو تقطع منها قطعة، دفعها إلى هذا القطع أو الشق لها عقيدة كامنة في نفس صاحبها، ورثها ممن قبله، مثل البحيرة والسائبة، أو يفعل بها ذلك ليميزها - بما فعل - عن غيرها من بقية نظيراتها، حتى لا تشتبه بغيرها، وهو مثل صادق تماما على أصل خلقة الإنسان.

وكلمة "الفطرة" مأخوذة من أصل فطر، بمعنى خلق وشق.

فمن ورود الفطر بمعنى الخلق والإيجاد قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) أي خلقني وحده لا شريك له، وقوله:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) أي خالقهما ومبدعهما، وقوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (3) أي لا أعبد الأوثان التي تعبدونها، وإنما أعبد الله الذي خلقني وحده، فلا أشرك في عبادته أحدا، فجعل كلمة التوحيد باقية مستمرة في عقبه وذريته إلى يوم القيامة.

(1) الآية 22 من سورة يس.

(2)

الآية 14 من سورة الأنعام.

(3)

الآيات 26، 27، 28 من سورة الزخرف.

ص: 16

والفطرة - بالكسر - الخلقة، والفطرة أيضا ما فطر الله عليه الخلق من معرفته والاهتداء بها إلى أنه خالقهم ولا خالق لهم سواه، وفطر الله الشيء بمعنى: أنشأه وابتدأه وابتدعه، ومن هذا قوله تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} وفي الحديث المتقدم (ما من مولود إلا يولد على الفطرة).

ومن ورود الفطرة المأخوذة من فطر بمعنى شق قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} بمعنى انشقت، وقو له:{فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} أي شقوق، وفي حديث قيام الليل (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تفطرت قدماه) أي انشقت قدماه، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، أي بدأتها وابتدعتها.

فالفطرة من معانيها الخلقة، كقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . أي خالقهما ومبدعهما، ومنها فطرة الله التي فطر الناس عليها، وهذا ما ذكره الله في شأن خليله إبراهيم عليه السلام حين اهتدى بفطرته - من صغره - إلى أن ما عليه قومه من عبادة غير الله أمر باطل وعمل خارج عن أصل الخلقة ذلك قوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (1).

(1) الآيتان 51 - 52 من سورة الأنبياء.

ص: 17

ففطرته لم تبدل ولم تغير، لهذا توصل بها إلى توحيد الله وأنكر ما كان عليه قومه من صغره، كما قال تعالى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} . الآية 83 من سورة الأنعام.

هذه هي الفطرة التي فطر الخالق الخلق عليها، خلقهم ليكونوا مؤمنين به، بأنه إله واحد لا شريك له، وكل خلقه محتاجون إليه وهو غني عنهم، فإذا لم يقروا له بالوحدانية، وإذا لم يتبعوا شرعه الذي جاءهم من عند خالقهم بواسطة رسله إليهم، إذا لم يكن منهم هذا فقد نقضوا عهدهم الذي أخذه منهم خالقهم وهم كالدر في أصلاب آبائهم، واتبعوا الشياطين التي أضلتهم واجتالتهم عن دينهم الحق، وهذا ما تشير إليه الآية السابقة - آية سورة الأعراف - وهي قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (1).

فقد ذكر الله فيها ما أخذه من العهد والميثاق على ذرية آدم وهم في أصلاب آبائهم، وقد بينت كتب السنة كيف تم أخذ هذا العهد والميثاق من ذرية آدم، على أن يكونوا مؤمنين به موحدين له لا يشركون به شيئا يعبدونه، فلا يعبدون غيره، فإذا أشركوا معه غيره، وعبدوا سواه وأطاعوا الشياطين وعصوا ربهم وخالقهم فقد هلكوا وضلوا.

(1) الآية 172 من سورة الأعراف.

ص: 18

وقد ذكر المفسرون لهذه الآية أحاديث مروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم في تفسيرها، فالمجال هنا ليس للعقل يجري فيه كما يشاء ويريد، بل القول هنا لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، والروايات عنه متعددة، وكلها تحوم حول كيفية أخذ هذا العهد من بني آدم، ونقتصر منها على واحدة رواها الإمام مالك في الموطأ بسنده إلى مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (1) قال عمر بن الخطاب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن الله خلق آدم ثم مسح ظهرة بيمينه، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله النار) كما أخرجه الترمذي في سننه، وأخرجه أحمد في مسنده وأبو داود والحاكم في المستدرك وقال الترمذي هذا

(1) الآية 172 من سورة الأعراف.

ص: 19

حديث حسن، ولاحظ على سنده بأن مسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وبين عمر رجلا مجهولا، وقال بعض رجال الحديث أن هذا الرجل المجهول هو نعيم بن ربيعة الأزدي، والمعروف عن الإمام مالك رحمه الله أنه يتحرى في نقله للأحاديث، وإذا رأى واحدا مجهول الحال فإنه يهمله من السند.

والحديث روي من طرق متعددة ومختلفة، وكلها تؤيد وتفسر ما جاء في الآية الكريمة، ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي أخرجه الإمام أحمد والنسائي والحاكم، وهو (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرهم بين يديه كالذر ثم كلمهم قبلا قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى) أي أنت ربنا.

فندرك من كل ما تقدم أن الدين الحق هو دين التوحيد، وهو ما وافق خلقة الإنسان وجبلته وطبيعته التي خلقه الله عليها، ولهذا كان ديننا "الإسلام" الحنيف دين الفطرة والخلقة الأولى للإنسان، ليس فيه وثنية ولا أحكام إلا يقبلها العقل السليم من المؤثرات الخارجة عن أصل الخلقة، والتي لا تستسيغها الطبائع البشرية السليمة، كما نرى ذلك في غيره من الأديان الغابرة والحاضرة من أعمال وتشريعات تخالف تماما العقل النير الصافي، ذلك لما طرأ عليها من تحريف أتباعها.

وتظهر الفطرة السليمة في الإنسان البدوي البعيد عن الحضارة البشرية، وهو الذي لم يتلق العلم في المدرسة، ولم يكن ممن

ص: 20

نشأ في المجتمعات المتحضرة، فقد سئل بعض الأعراب: ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فأجاب: يا سبحان الله. (إن البعرة لتدل على البعير، وإن أثر الأقدام ليدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على اللطيف الخبير؟) فقد اهتدى هذا الأعرابي البدوي بفطرته السليمة البسيطة على وجود الصانع لهذا العالم، في حين لم يهتد إلى هذا فلاسفة هذا العصر المادي وكبار العلماء من مخترعي الذرة والصواريخ الدافعة للمركبات الفضائية، والصواريخ الجهنمية المحطمة لما بنته وشيدته يد وعقل الإنسان، فقالوا فيما قالوا:(لا إله والحياة مادة) .. اهتدى بآثار صنع الله في هذا الكون.

فجاء الإسلام بما يوافق ما تتطلبه الفطرة السليمة، التي لا زالت على سلامتها وبساطتها، لم تدنس بدنس الإيحاء الشيطاني، فيأمر الإسلام بالاعتراف بوجود الإله الواحد القهار القادر العليم الحكيم، الخالق لكل مخلوق الموجود لكل موجود، سبحانه (لا إله إلا الله) فهي أساس كل دين سماوي جاء من خالق الأكوان، وهو رب العالمين كلهم.

***

ص: 21