المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السهم الثامن:الجهاد في سبيل الله - سهام الإسلام

[عبد اللطيف سلطاني]

الفصل: ‌السهم الثامن:الجهاد في سبيل الله

‌السهم الثامن:

الجهاد في سبيل الله

هذا السهم من أسهم الإسلام شرعه الله لحماية الدعوة إلى الله، والدعوة إلى دين الله المحاربة من قوى الكفر والالحاد، لأن هذه القوى من أول يوم ظهر فيه هذا الدين - دين التوحيد - وهي لم تدخر وسعا وطاقة للكيد له ولأهله بشتى أنواع المكايد والحيل، لتصد الناس عن الدخول فيه والاهتداء بهديه القويم، ذلك أن هذه القوى تعلم أن هذه الدعوة الإسلامية هي دعوة من الله حقا، وما كانت عليه هذه القوى مخالف للحق والصواب، فقد حرفت شرائع الله وأحكام دين الله، وشرعت لأتباعها شرائع هي من وحي الشيطان لا من وحي الرحمن ولم يثبت في التاريخ القديم أن أي دين من الأديان وجد من خصومه ما وجده الإسلام من أعدائه، من الاعراض والصدود عنه إلى محاربته بشتى أنواع الحروب، حتى بالتجويع والحصار والقهر والتعذيب والاغتيال والمكائد وغير هذا، ولا زال هذا الوضع إلى الآن، حتى من بعض حكومات الشعوب الإسلامية، لهذا شرع الله الجهاد في سبيل الله.

ص: 167

وكلمة الجهاد في اللغة مشتقة ومأخوذة من الجهد، والجيم فيها تفتح وتضم ولكل معنى، فإن كانت كلمة الجهاد مشتقة من الجهد بفتح الجيم فهذه المادة تدل على المشقة والتعب، فمعنى الجهاد عليها المبالغة في اتعاب النفس في ذات الله وإعلاء كلمته ورفع منار شريعته وإشاعة دينه وعقيدة الحق بين عباده، لأن هذا كله جعله الله سبيلا وطريقا إلى رضوانه ودخول جنته.

فالجهاد هو محاربة الأعداء الذين يحاربون الإسلام وعقيدته، وهو فرض كفاية - إذا قام به البعض سقط عن الباقين - إذ هو لنصرة الإسلام وإعلاء كلمة التوحيد، وهي (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويتعين في حالة دخول الأعداء إلى بلاد المسلمين، - بمعنى يصير فرض عين - على كل من هو قادر عليه بأي شيء من أنواع القدرة، بالنفس، أو بالمال، أو بالجاه أو غير ما ذكر، من كل ما هو من شرع دين الله، ويطلق الجهاد أيضا على مجاهدة النفس والهوى والشيطان وكل ما يصد عن العمل بدين الله، وهذا من أعظم وأشد أنواعه.

فالجهاد إذن هو المبالغة في استفراغ الطاقة والقوة والوسع، سواء بالحرب أو باللسان أو بأية وسيلة تكون لتثبيت العقيدة ونشر الدين ومحاربة الصادين الناس عن دين الله بكل ما يطيق الإنسان من نفس أو مال أو علم، أو غير هذا من كل ما فيه توجيه صالح لعباد الله.

ومن العلماء من يرى أنه مشتق من الجهد - بضم الجيم - بمعنى الطاقة والقدرة والوسع، والكل صحيح، وأكثر

ص: 168

العلماء يميلون إلى أنه مأخوذ من الجهد - بفتح الجيم - نظرا للمشقة والتعب التي تلحق المجاهد في سبيل الله، من مكابدة الموت أو الجراح أو غير هذا، فتقول - مثلا - فلان أصابه جهد وهو ما جهد الإنسان وأتعبه، من مرض أو أمر شاق، كما تقول هو مجهود.

ومشروعية الجهاد كما تقدم كانت لحماية الدين من عدوان المعتدين، وكل شيء في هذه الحياة يحتاج إلى حماية وصيانة من أهله وأولي شأنه يدفعون بها الراغبين والطامعين في أخذ ما يريدون أو إتلافه، مما هو خاص بأهله وأولي شأنه، إذ الواجب على الإنسان أن يصون عرضه ومتاعه وما يملكه ممن يطمعون فيه وفى الاستيلاء عليه.

وقد شرع الجهاد في سبيل الله بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، مثلما كان القتال مشروعا في الأديان السابقة قبل الإسلام، وبه صلحت الشرائع واستمرت أعمالها لهداية الناس، ولولاه لتغلب الكفر وأهله على الدين وأهله، وهذا ما أشار إليه القرآن وصرح به كما في قوله تعالى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (1) فإذا ضعف مفعول الدين في المجتمع الإنساني ولم يستطع المقاومة تغلب الكفر والإلحاد على

(1) الآيه 40 مر سورة الحج.

ص: 169

الدين وأهله، إلى أن يأتي زمان يشتد فيه ساعد الدين والعقيدة فتكون الغلبة له، وهكذا الحال في كل زمان ومكان.

وقد رغب الإسلام فيه، وحبب إلى أتباعه القيام بهذا الفرض الكفائي الذي لا يستقيم أمر المسلمين ولا تستقر لهم الحياة الهنية إلا به وفى ظله، لحمايته وحماية الدعوة إليه وبقائهما قائمين، من غير أن يظن ظان أنه يهدف إلى التوسع في امتلاك الأراضي، لأن التاريخ شاهد عدل يشهد بأن المسلمين في جهادهم وحروبهم مع الكفار لم تكن لهم نية في الاستيلاء على أراضي المحاربين وقهر أهلها واستعبادهم لأغراض تتنافى مع الإنسانية ومساعدتها على النهوض بنفسها من كبوتها بمرور سنوات التعسف والظلم التي ناءت بأثقالها قرونا طوالا، فجاء الإسلام لنشر العدل والرحمة والأخوة الحقيقية لا الزائفة، والتاريخ شاهد أيضا بأن الدعاة إلى الإسلام والفاتحين منهم لم يقهروا سكان الأوطان التي حلوا بها ولم ينتزعوا منهم أراضيهم ليعطوها إلى إخوانهم وأبناء عمومتهم مثل ما فعله المستعمرون في الأراضي التي استولوا عليها بالقهر والقوة من المسلمين، فلم يفعل المسلمون مثل هذا إلا إذا وجدوا من يقف أمامهم في طريق تبليغ الدعوة ويعارض ويقاوم دعوتهم، فإذا استولوا على الأراضي فإنما أخذوها لأن أهلها حاربوا دعوة الله إلى توحيده وقاوموا ناشري شريعة الإسلام.

ص: 170

إن الجهاد في الإسلام إنما هو إنقاذ للبشر من عبادة غير الله الواحد القهار، فمن قبل الدعوة الإسلامية ولم يحاربها فإن ماله يبقى له بكامله، وكذلك نساؤه وكل ما يملك، كما يشهد التاريخ بأن المسلمين الأعفاء لم يعتدوا على عفاف أية امرأة ممن يحاربونهم، ولم يدعوها إلى الخنا لا بالقوة والترهيب ولا بغيرهما من أنواع الاحتيال والترغيب مثلما فعله المتمدنون - كما يزعمون - من الأوروبيين الذين حاربوا المسلمين في أوطانهم، للاستيلاء عليها وعلى أراضيهم وأموالهم وحتى نسائهم - اللائي لم يحاربن - وحليهن، وكان الفرنسيون في حربهم العدوانية في سبيل استيلائهم على الجزائر سنة 1830 يقطعون أعضاء الجزائريات بحليهن ويباع هذا في الأسواق العامة أو يرسل لذويهم كهدايا كما ذكره الفرنسيون أنفسهم، ويكفي شهادة عالم منصف من مؤرخيهم النزهاء عن الكذب والتدليس، ذلكم هو (قوستاف لوبون) قال في كتابه (حضارة العرب):(لم يعرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب) يقصد المسلمين، لتهذيب الإسلام لهم ونهيهم عن الباطل والظلم.

ونسأل: هل سمعتم أن أحد الصحابة المجاهدين في سبيل الله أرغم امرأة على الخنا والفجور - حاشاهم رضي الله عنهم من قوم أعفة - لم نسمع بهذا أبدا، بل كانت تصدر الأوامر من مركز القيادة إلى المجاهدين باحترام أهل الدين والشيوخ والعاجزين والصبيان والنساء - ما لم يحملوا السلاح ويحاربوا - فإن الإسلام أمر بصون الجميع وعدم التعرض لهم بأذى، إلا من

ص: 171

أخذ منهم في حالة الحرب مع المسلمين، فإنهم يؤخذون عبيدا وإماء، وحكمهم في الشريعة الإسلامية مقرر ومعروف.

أقام الرسول صلى الله عليه وسلم في بلده مكة ثلات عشرة سنة - بعد أن أتته الرسالة من ربه وأمر بالتبليغ من ربه - يدعو الناس إلى الله في المجتمعات العامة وفي أيام الحج وفى الأسواق، يدعو الناس إلى عبادة الله وحده، فرادى وجماعات إلى أن اشتدت عليه وطأة عداوة قومه له، وبعد موت عمه أبي طالب وزوجه خديجة رضي الله عنها، وقد كانت درعه الواقية له من أذاهم كعمه، فأمره الله بالهجرة والانتقال من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وهذا بعد أن ساق الله له جماعة من أهلها آمنوا برسالته وبدعوته إلى الإسلام، وصدقوه في كل ما جاء به من عند الله، وتعهدوا له بالحماية والدفاع عنه هو وأصحابه وعدم تعرض أي كان إلى دعوته إذا هو انتقل إليهم، وكان هذا التعهد في موسم الحج الأكبر، فوعدهم وبقي ينتظر الإذن من الله حتى جاءه الإذن فهاجر إليها واستقر فيها. هاجر إليها في ليلة تآمر فيها على قتله أعداء الدعوة إلى الله كفار قريش، واتخذ المدينة دار إقامة واستيطان، وقد سبقه إليها أو لحق به من آمن به وبدعوته وكان مستطيعا على الهجرة ولم يطق أن يصبر على أذى المشركين عباد الاحجار، فماذا وجد الرسول صلى الله عليه وسلم في دار هجرته - المدينة أو يثرب كما كانت تسمى قبل الهجرة؟ وجد فيها طوائف مختلفة متفرقة، وبين البعض منها عداوات وخصومات وحروب وقهر واستعلاء استمرت سنين

ص: 172

طوالا، فقوم منهم آمنوا به وبدعوته ورسالته، فكانوا من أنصاره السابقين السباقين للخير والهدى والصلاح، بالاسراع إلى إجابة دعوة الله، فشدوا أزر الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقوى بهم الإسلام وبمساندتهم له بأنفسهم وبأموالهم، وهذا شيء مبسوط في محله من كتب التاريخ.

ويوجد طوائف من المشركين والمنافقين بهرتهم سرعة الاستجابة لهذا الدين وتغلغله في أوساط سكان يثرب بل وانتشر إلى ما وراءها من الديار، فبهتوا منه ولم يطيقوا صده ولا حربه، فبقوا يناوشونه من وراء بالصد عنه والكيد له، وإن آمنوا به - ظاهرا وهم المنافقون - وأمر المنافقين معروف، فقد أنزل الله فيهم سورة كاملة من القرآن تكشف عن خباياهم، وتحذر من دسائسهم وأكاذيبهم، فإنهم كانوا يعرقلون مسيرة الايمان بالدين وبمن جاء به إلى أن قوي ساعده، عند هذا غلبوا على ما كانوا يذيعونه ورجعوا على أعقابهم خاسرين، وهذا شأن الباطل وصراعه للحق من القديم.

كما وجد طائفة أخرى ممن كانوا يسكنون "يثرب" وأحوازها، وهذه الطائفة أعظم خطرا على الإسلام من المنافقين، وهم اليهود، فلما استقر الرسول صلى الله عليه وسلم في "يثرب" وخشوا منه عاهدوه على أن لا يتعرضوا له ولا لدعوته، ولا يتعرض هو لهم في القيام بدينهم، بحيث لا يتدخلون في أمره وأمر الإسلام

ص: 173

والدعوة إليه، ولكن هل لليهود عهد يلتزمون به ويقفون عند حده، أو ميثاق يوفون به؟ الجواب عن هذا السؤال عند التاريخ، وهذا واضح في قوله تعالى فيهم وفي أمثالهم من الناس:{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} (1).

فقد نقضوا العهد وغدروا بالوعد، كما هو طبعهم في كل وقت حتى مع خالقهم وأنبيائهم ومع كل من يعاملهم على شيء، ودفع بهم هذا الغدر إلى التحالف مع المشركين - عباد الأوثان - على محاربة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، مثلما وقع في غزوة "الأحزاب" بعد أن فثسلوا في مقاومتهم له وحدهم، وهذا في سبيل القضاء على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ففضلوا الشرك بالله وعبادة الأحجار على الايمان بالله وحده وهو الواحد القهار، وهذا في قولهم للمشركين حين سألوهم عما هو أفضل، هل ما هم عليه - أعني المشركين - أو ما هو عليه محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال اليهود للمشركين: دينكم وما أنتم عليه أفضل وأحسن من دين محمد وما هو عليه، وهذا جاء في قوله تعالى في سياق هذا السؤال، للتعجيب من أمرهم وخداعهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ

(1) الآية 102 من سورة الاعراف

ص: 174

فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} (1) والذي دفعهم إلى تفضيل الشرك بالله على الايمان به وحده، ومعنى هذا تفضيل المشركين على المؤمنين، إنما دفعهم إلى هذا الحسد لا غير، إذ هم يعرفون حق المعرفة أنهم في هذا التفضيل كاذبون، كما جاء في الآية بعد هذه، وهي قوله تعالى:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} والناس هنا المقصود به هو محمد صلى الله عليه وسلم كما قاله المفسرون لكتاب الله.

ومواقفهم من الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته مشهورة، ومن أهمها محاولة قتله والقضاء عليه في عدة مناسبات، منها أنهم هموا باغتياله، بواسطة إلقاء صخرة - حجر رحا - عظيمة عليه من أعلى دار كان جالسا بجنب حائطها، ذلك أنه خرج إلى "بني النضير" - وهم فرقة من يهود المدينة - ليستعين بهم على أداء دية رجلين - لما بينه وبينهم من العهد - فاغتنموها فرصة مواتية للقضاء عليه والتخلص منه، فتآمروا فيما بينهم أيهم يصعد إلى السطح ويلقي عليه هذه الصخرة العظيمة لتكون القاضية على حياته إلى الأبد؟ فإذا قام أصحابه يطالبون بدمه قلنا لهم أنها سقطت عليه من تلقاء نفسها، فالتزم بهذا رجل منهم، وبينما هو يتهيأ لفعلته الغادرة نزل عليه الوحي من ربه يأمره بالابتعاد عن المكان الذي كان جالسا فيه، وأخبره بتدبير المكيدة له، فرجع إلى المدينة مسرعا، وخرج من وسط هؤلاء القوم الغادرين.

(1) الآيتان 51 - 52 من سورة النساء.

ص: 175

وجاء في حوادث غزوة خيبر أن امرأة من يهود "خيبر" تسمى زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم قد أهدت له شاة مصلية - مشوية - وجعلت فيها "سما" فلما جلس هو وبعض أصحابه ليأكلوا منها، تناول عليه السلام منها الذراع - على عادته - فلاك منها مضغة، فلم يسغها ولفظها من فمه وقال لمن معه: ارفعوا أيديكم إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم، ثم دعا بها فاعترفت بما فعلت، ولما سألها عما حملهما على هذا، أجابت بأنها تريد أن تختبره بما فعلت فإن كان نبيا حقا فإنه يعلم به، وإن كان كاذبا فإنه يموت فنستريح منه.

وفي قصة لبيد بن الأعصم الساحر للرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على كيد اليهود له، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها في قصة سحره: يا عائشة: أشعرت أن الله أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان - ملكان - فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ فقال مطبوب - مسحور -، فقال: من طبه؟ قال لبيد بن الأعصم، قال: في أي شيء؟ قال في مشط ومشاطة، وجف طلع نخلة ذكر، قال: أين هو؟ قال: في بئر ذروان إلى آخر الحديث" وفى أول الحديث قالت السيدة عائشة: سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتى كان رسول الله

ص: 176

صلى الله عليه وسلم يخيل إليه أنه كان يفعل الشيء وما فعله، ولبيد بن الأعصم هذا الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم قيل أنه يهودي وقيل بل هو منافق من بني زريق قبيلة من الأنصار وكان حليفا لليهود، وهم الذين طلبوا منه أن يسحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل، روايتان ذكرهما الإمام البخاري في صحيحه.

هذا من مواقف اليهود من الإسلام ورسوله ودعوته.

بعد هذا التحالف والاتفاق الذي تم بين هذه العناصر الثلاثة المحاربة للإسلام/ المشركين، والمنافقين، واليهود وبسعي من اليهود على محاربة الإسلام ودعوته، نزل من الله الأمر بالقتال والجهاد في سبيل الله حماية للدعوة من كل من يعترض طريقها ليصد الناس عن الدعوة إلى الله كيفما كانت قوته وجيوشه، من ذلك قوله تعالى:{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} سورة التوبة آية 30.

ونزل في أمر الجهاد قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ

ص: 177

عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} سورة الحج.

قال كثير من الصحابة والسلف الصالح: هذه أول آية نزلت من القرآن في الجهاد في سبيل الله، وقوله تعالى:{وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} يشعر بأن الله قادر على نصر المؤمنين من غير قتال، ولكنه تعالى القادر على كل شيء أراد من عباده أن يبذلوا جهدهم وطاقتهم في سبيل الله وطاعته ونصر دينه ليعظم لهم بذلك الثواب والأجر، كما في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} سورة التوبة آية 111.

والقتال المشروع في الإسلام يكون من أجل أمور منها: الدفاع عن النفس أو المال أو العرض، دفعا لظلم الظالمين المعتدين، أو للدفاع عن العقيدة والشريعة التي آمن بها المؤمنون، فإنها كثيرا ما تتعرض لمحاولة محوها وإزالتها من لدن أعدائها، وفى مثل هذه الحالة جاءت الآية الكريمة في سورة الشورى، وهي قوله تعالى:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآيتان 41 - 42 منها،

ص: 178

وقال جل جلاله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} الآية 190 من سورة البقرة. (ولا يسمى القتال جهادا - شرعيا - إلا إذا كان لنصرة الدين والعقيدة).

والجهاد في سبيل الله ونشر دينه وتعميمه إلى بني الإنسان عبادة كبقية العبادات تحتاج إلى نية صادقة وإخلاص في العمل واجتهاد فيه، لأن النية هي التي تميز العبادة والدافع لها، ولا يقبل الله أية عبادة على ظاهرها إلا إذا كانت بنية وجه الله ونشر دينه، وقد يكون القتال للمغنم والكسب الدنيوي، وهذا لا يسمى شرعا جهادا، وإن سماه الانتهازيون للظروف والوقائع جهادا، والجهاد الشرعي - كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم للسائل له عنه - أن يكون القصد منه نشر دين التوحيد ومقاومة الشرك والظلم في الارض والفساد، {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فهو كما قلت عبادة تفتقر إلى نية القصد منه، حتى لا يسمى القتال لارتجاع التراب والشجر والحجر من أيدي الغاصبين لها جهادا، وقد صار القتال لما ذكر "جهادا" والمقاتل مجاهدا، ويعلم الله أنه لأغراض دنيوية وأطماع أخرى لا تتفق مع مشروعية الجهاد والدعوة إلى العمل بشرع الله ونصر دين الإسلام، فقد انكشف القصد منه كما لمسنا هذا في المحاربين للمستعمرين في وقتنا هذا، حيث صارت كلمة المجاهد تعطى لمن حمل السلاح

ص: 179

وقاتل المستعمرين الغاصبين للأوطان، أو لمن سجن، أو عذب لذلك الغرض، فأخرجت كلمة المجاهد من إطارها الديني الخاص بها وأعطيت لأناس هم ضد الدين، إن لم نقل إنهم من أعظم خصومه الصادين عنه، وقد اتضح أمرهم أنهم يعملون ضد الإسلام، ولمحوه وقتله {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} .

ويكشف عن القصد منه ما رواه الإمام البخاري في صحيحه، من كتاب الجهاد عن أبي موسى - الأشعرى رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه - وفى رواية يقايل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل غضبا - فمن في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله" فهذا هو الجهاد في الشريعة الإسلامية، وهو الذي قصد من ورائه المجاهد رفع كلمة "لا إله الا الله محمد رسول الله" وهي كلمة الله، ومن غير هذه النية والقصد فلا يسمى المقاتل مجاهدا.

وبهذا البيان النبوي الشريف الذي قضى به عليه الصلاة والسلام على الزيف والتزييف، ظهر أن من لم تكن عنده نية صادقة في جهاده لرفع شأن الإسلام وإعلاء كلمة الله لا يسمى قتاله جهادا ولا يكون من مات فيه على غير نية إعلاء كلمة الله، شهيدا شرعا، ولو كانت موته في وسط المعركة مع العدو، كما قضى على ما يدعيه الجاهلون من الجهاد والشهادة، لكل

ص: 180

من مات في أيام حرب التحرير الجزائرية، من أجل تحرير الوطن من قبضة المستعمرين في عصرنا الحاضر، بل رأينا البعض من هؤلاء المجاهدين - بالقول لا بالفعل - من تصدى بكليته لمحاربة هذا الدين، الذي ادعى أنه كان من المجاهدين في سبيله، فصارت كلمة المجاهد تعطى - أو تغتصب لتعطى - إلى من هو من المحاربين له، لا من أجله، ليأخذ نصيبه من الغنيمة، وعند الله يوم القيامة يتضح كل شيء، ويظهر تزويرهم وسيجدون جزاءهم بل عقابهم ينتظرهم وسيغرمون ما غنموه في الدني بالكذب والبهتان والخداع.

فالإسلام لم يأمر المسلمين بأن يحاربوا عدوهم من أجل قطعة من التراب أو من الحجر أو من الشجر وكسب الدنيا الخ فهذا أمرت به ودعت إليه الأنفة والغيرة والغضب للأوطان المحتلة من طرف الغاصبين لها، بل أمر الإسلام بالحرب من أجل العقيدة وحرية العبادة لله وحده.

لهذا لم يعترف الرسول صلى الله عليه وسلم حسبما جاء في سؤال السائل - بمن كان يقاتل لإظهار شجاعته، أو ليتحدث الناس بشجاعته وببلائه في الحرب، أو ليعرف له الناس مكانته فيحترموه ويعظموه، كل هذا لا يجعله يتحلى بحلية "المجاهد" أو لينال ما أعده الله في الدار الآخرة للمجاهدين في سبيل رفع دينه وإعزازه وبلوغهم الدرجات العلى ونزولهم منازل الكرامة والتكريم.

ص: 181

وعندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كان الإسلام في حاجة إلى تقوية الصف الإسلامي ببذل الأنفس والأموال وفى سبيل ذلك رغب في الهجرة ودعا إليها، ولما فتحت مكة سنة ثمان من الهجرة في غزوة الفتح أوصد باب الهجرة المرغب فيها، لأن مكة صارت بلدا إسلاميا - بعد غزوة الفتح - لا قوة للشرك فيها ولا سيطرة له عليها، من أجل هذا قال عليه الصلاة والسلام كلمته في حديثه المشهور، ليتوجه المسلمون بكليتهم إلى الجهاد لا إلى الهجرة فقال في حديث ابن عباس عند البخاري "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا" وبهذا يتصدى المسلمون - بأنفسهم وأموالهم - لنشر الإسلام وعقيدته والقضاء على الشرك والظلم والفساد في الأرض، وفى ذلك خير وسلامة للإنسانية كلها، وقال عليه الصلاة والسلام مرغبا في الجهاد وحاثا أمته عليه - كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه عند البخاري، وهو قوله عليه الصلاة والسلام:"لغدوة في سبيل الله، أو روحة خير من الدنيا وما فيها" ذلك أن كل ما يصيب المسلم المجاهد في سبيل الله سيعوضه الله عنه أجرا كبيرا وثوابا عظيما، لأن ما أصابه كان دفاعا عن العقيدة أو نشرا لها، ونلمس هذا المعنى في قول جندب بن سفيان عند البخاري حيث قال: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في بعض المشاهد - الغزوات - وقد دميت أصبعه فقال:

ص: 182

"هل أنت إلا أصبع دميت وفى سبيل الله ما لقيت".

هكذا يصيب الرسول صلى الله عليه وسلم في سبيل نشر الإسلام ما يصيب عامة البشر، ليبعث في نفوس المسلمين روح التضحية والصبر على المصاب.

إن أدعياء الجهاد كثيرون، ومنهم من لم يكن قتالهم لله وفى سبيل الله، ولم يخطر هذا لهم على بال، بل كان من أجل حطام الدنيا الفانية ومتاعها الزائل، أما من أخلص النية منهم لله في عمله، وجاهد جهادا يحبه الله ويرضاه فهذا لا يبخسه الله حقه، ولا ينقصه من ثواب أتعابه التي أصابته في سبيل إعلاء كلمة الله مقدار قلامة ظفر وهو القائل {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} كل هذا راجع إلى نيته وإخلاصه في ذلك.

ولعمري فقد أوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآتي كل شيء وبه ارتفع كل لبس والتباس ولم يبق عمل المقاتل مبهما يفسره الإنسان كما يحب، فلقد أعطانا ميزانا نزن به أعمال المجاهدين والمقاتلين، فلله ما أروع هذا التوضيح والبيان، فلننظر إليه بعين الاعتبار والادكار واستخلاص العبرة منه حيث كثر الأدعياء والانتهازيون للفرص في وقتنا هذا. فإذا أشكلت علينا الأمور رجعنا فيها إلى سنة نبينا صلى الله عليه وسلم.

أخرج الإمام البخاري في صحيحه وبسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال - مقسما بالله -: "والذي نفسي بيده لا يكلم أحد في سبيل الله - والله

ص: 183

أعلم بمن يكلم في سبيله - الا جاء يوم القيمة، واللون لون الدم، والريح ريح المسك".

ما أروع هذا التفسير والاستدراك منه صلى الله عليه وسلم، ليرد به دعوى المدعين للجهاد، في حين أنهم لم يدفعهم إليه حب نصرة الدين وإعزازه، لأن من هؤلاء الأدعياء من ظهرت عليه أمور يخجل الإنسان من ذكرها، في حين أنه يحمل لقب وورقة - مجاهد - أفعال لا يرتضيها الإسلام ولا رب الإسلام الآمر به، فإن النيات لا يعلمها الا علام الغيوب، فرسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهنا إلى أن لا نغتر بالأقوال على ظاهرها، فالله وحده المطلع على سرائر عباده، فليس كل من كلم وجرح زمن القتال كان جرحه لله وفى سبيل الله، بل أمرنا أن لا ننظر إلى الظاهر ولا نحكم بمقتضاه، بل الأمر يحتاج إلى إخلاص النية في العمل لله وحده، كما قال الشاعر العربي "جميل بثينة" لا تغرنكم المظاهر والأقوال، فإن الحقائق قد تكون في غيرهما، وذلك حيث قال:

فَمَا كُلُّ مَخْضُوبِ الْبَنَانِ بُثَيْنَة ٌ

وَلَا كُلُّ مَصْقُولِ الْحَدِيدِ يَمَانِ

إن فضل المجاهد في سبيل الله على غيره كبير، فلا يعلم ذلك الآن بل سيبقى مخفيا علينا حتى نفد على الله يوم القيامة للحساب والجزاء على الأعمال، يوم تكشف فيه السرائر، ويظهر ما كان مخبوءا في الضمائر، حيث يكون الجزاء على الأعمال الخالصة لله لا على ما كان لغيره.

ص: 184

إن الشهيد - حقا - في سبيل الله، عندما معاينته للجزاء الكثير الذي ناله بسبب جهاده أعداء الدين واستشهاده في سبيله، يتمنى على الله أن يعيده إلى الدنيا ليجاهد ويستشهد المرة بعد المرة كي ينال أجره المضاعف، فقد ورد في صحيح البخاري قوله:

"باب تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا"

ثم ذكر بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثه الذي قال فيه: " ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة" وجاء في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يغفر الله للشهيد كل شيء إلا الدين" وفي رواية له: "القتال في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين" ذلك لأنه من حقوق العباد بعضهم على بعض، فهذه الحقوق أو المظالم لا تكفر إلا بالتحلل منها في الدنيا، إما بإرجاعها لأهلها، وإما بالعفو والمسامحة منهم له.

ذلك أن المجاهد الشهيد الذي مات في المعركة مع العدو على نية أن ينصر الحق على الباطل، قد أدى واجبه كمدافع مخلص لعقيدته ودينه، فكيف يكون جزاؤه مماثلا لمن لم يقدم ما قدم هو من تضحيات بالمال والنفس والوقت وكل ما يملك من راحة ومتع

ص: 185