المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌السهم الخامس:حج بيت الله

‌السهم الخامس:

حج بيت الله

من أسهم الإسلام الثمانية حج بيت الله الحرام، وهو الخامس منها، وهو قصد بيت الله الحرام في بلدة مكة المكرمة من أرض الحجاز، واستعمال كلمة الحج في لغة العرب يدل على القصد والتوجه، فإذا قلنا حج بيت الله الحرام معناه قصد بيت الله والتوجه إليه، والحج المذكور كان مشروعا ومقررا لدى العرب من القديم، من زمن إبراهيم الخليل عليه السلام، أي قبل الإسلام، فقد كان العرب يحجون إلى مكة لزيادة بيت الله العتيق الذي بناه أبو العرب اسماعيل وأبوه خليل الرحمن ابراهيم عليهما السلام، وقد حكى الله هذا في قوله:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (1).

والعرب المشركون في زمن جاهليتهم كانوا يعتقدون أنهم متمسكون بملة ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ويقولون هذا،

(1) الآيه 126 من سورة البقرة.

ص: 105

لهذا كانوا يترددون على البيت الحرام وخاصة في زمن الحج، ويقولون إنهم على دين إبراهيم، والواقع يكذبهم، لأن إبراهيم الخليل كما حكى الله عنه كان حنيفا مسلما ولم يكن من المشركين جاء هذا في قوله تعالى:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) فحرفوا وبدلوا دين التوحيد الذي كان عليه أبواهم - إبراهيم واسماعيل عليهما السلام، وأشركوا مع الله غيره من آلهة عبدوها وسووها برب العالمين ونذروا لها النذور، وأعطوها حقوق الاله، من عبادة وطاعة وخضوع وطلب قضاء حوائجهم منها، وحموها ودافعوا عنها، فدافعوا الحق وحاربوه من أجلها، وأخرجوا الرسول من بينهم لما أظهرها على حقيقتها من عجزها وفساد عبادتها.

فلما جاء الإسلام بالتوحيد الخالص والطاعة لله وحده لا شريك له في ذلك كفروا به، والإسلام هو دين جميع أنبياء الله ورسله من لدن آدم إلى آخر رسول من رسل الله قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عيسى عليه السلام.

ان الدين الحق الذي رضيه رب العباد للعباد إنما هو الإسلام، دين جميع الرسل الكرام الذي جاء به إبراهيم وغيره، فكل من العرب المشركين واليهود والنصارى كانوا يزعمون ويدعون أنهم على دين إبراهيم وملته، وهم المحرفون والمغيرون لها،

(1) الآية 67 من سورة آل عمران.

ص: 106

فأكذبهم الله في قولهم هذا بقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .

فشأن العرب في هذا الحج شأن الأمم السابقة، فإن التاريخ يحكي لنا أن الأمم المتقدمة في التاريخ القديم، كأمة اليونان كانت تحج إلى هياكل مقدسة عندها، وكان اليهود يحجون إلى الموضع الذي فيه تابوت العهد القديم، وكان المسيحيون يحجون إلى بيت المقدس والى بيت لحم مقر ولادة المسيح عليه السلام ولا زالوا إلى يومنا هذا - ويسمون هذا حجا، ومثلهم الصينيون واليابانيون وغيرهم من الأمم، قال الله تعالى مشيرا إلى هذا:{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (1) وفسر النسك بمكان الذبح وبالشريعة.

فكان للأمم الموغلة في القدم أماكن يعظمونها ويحجون إليها، ويجتمعون فيها لعبادة معبوداتهم، ويذبحون عندها الذبائح والقرابين، ويرون أن هذا الحج إليها يقربهم منها ويرضيها عنهم، وبهذا تدفع عنهم المصائب وتعينهم على قضاء مصالحهم الدنيوية، وبقطع النظر عن فساد هذا الاعتقاد، فإنه لا زال سائدا لدى بعض الشعوب الوثنية إلى وقتنا هذا، كما هو معروف وجار لدى الأمة الهندوكية وغيرها.

(1) الآية 67 من سورة الحج.

ص: 107

فلما بعث الله محمدا الرسول العربي بالإسلام الشريعة الطاهرة المطهرة للأفكار والعقول من بقايا الشرك والوثنية توجه إلى أصنام العرب يعيبها ويبين عجزها وغباوة عابديها، ويدعو المشركين إلى هجرها والابتعاد عنها لأنها مخلوقة عاجزة، وعبادتها ضلال وخسران وانحطاط عقلي وسخافة لا يليق بالعاقل أن يتخذها آلهة دون الله الخالق لكل شيء الواحد في ملكه لا شريك له، لا في الربوبية - الخلق والتكوين - ولا في الألوهية - العبادة والطاعة - لأنها عاجزة، وعجزها ظاهر غير خفي على أحد.

تصدى لأصنام العرب فقضى عليها وعلى عبادتها المخلة بكرامة ابن ادم، وكانت له مواقف مع عابديها - المشركين - وحطمها في مناسبات عدة، إلى أن قضى على آخر معاقلها يوم فتح مكة المكرمة سنة ثمان من الهجرة وبعيدها وأزالها إلى الأبد - إن شاء الله - وتبين للعرب المشركين أنهم كانوا خاطئين مخطئين، وعلى ضلال مبين، حين كانوا يعبدونها ويسوونها برب العالمين، كما حكى الله عما سيقع بين الأصنام وعابديها من الخصام يوم القيامة عند ساعة الحساب بين يدي رب الأرباب، وهو قوله تعالى:{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ} (1) هذه المخاصمة التي ستقع بين عبدة الاصنام والاصنام دليل على

(1) الآيات 96 - 99 من سورة الشعراء.

ص: 108

ما يصيب عبدة الأوثان من الحسرة والندم، حيث لا واسطة ولا شفيع ولا منقذ لهم مما لحقهم من العذاب بسبب عبادتهم وطاعتهم لغير الله، ومثل ما قيل في حق الأصنام وعابديها يقال في حق الذين يستجيبون لأوامر الحكام الظالمين في الدنيا فيطيعونهم ويعصون الله تعالى، حيث فضلوا طاعة الحاكم الظالم على طاعة الله الخلاق العليم، في يوم الحساب يقول أتباع الظلمة وهم في حسرة وندامة من غير أن ينفعهم شيء:{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} (1) فجزاء الذين يطيعون أوامر الظالمين ويعصون أوامر الله نار جهنم وهو ما قصه الله في القرآن، حتى يعلم كل أحد مصيره من الآن.

ان العرب أسرفوا في عبادة الأصنام بإيحاء وتزيين لهم من الشيطان، فعبدوها وحجوا اليها وذبحوا عندها ورجوا منفعتها وغير هذا، كل ذلك كون فيهم سوء الاعتقاد، مما دل على جهلهم وسوء فهمهم للواقع، فقد نصبوها داخل الكعبة المشرفة - البيت الذي بناه أبو الموحدين إبر اهيم - وخارجها، وعلى الصفا والمروة، وفى كل حي من أحياء العرب إله معبود - من دون الله - لأهل الحي وغيرهم.

(1) الآيتان 67 - 68 من سورة الاحزاب.

ص: 109

فلما من الله على الإنسانية بإخراجها من هذا الضلال المبين، وجاء الإسلام دين التوحيد، أبطل عبادة المخلوق للمخلوق، وخصها - وهذا هو الحق - بالخالق الواحد، لا معبود بحق غيره "لا اله الا الله محمد رسول الله" سعدت الإنسانية وزال عن وجهها ظلام الكفر والجهالة، والحمد لله رب العالمين.

والحج إلى بيت الله الحرام فرض فرضه الله على من توفرت فيه الشروط من المسلمين القادرين، كما جاء في قوله تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (1) وقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (2) وقال عليه الصلاة والسلام: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر.

وكان فرضه من الله على هذه الأمة في السنة السادسة من الهجرة، مرة واحدة في العمر، فمن أبي هريرة رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام، يا رسول الله؟

(1) الآيتان 96 - 97 من آل عمران.

(2)

من الآية 196 من سورة البقرة.

ص: 110

فسكت حتى قالها ثلاثا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت، ولما استطعتم".

وكانت مكة إبان فرض الحج إلى بيت الله الحرام لا زالت بلد شرك ووثنية، إلى أن تم فتحها سنة ثمان من الهجرة فحج رسول الله صلى الله عليه بالمسلمين سنة عشر، فكانت حجته لتعليم المسلمين مناسك وأفعال الحج، وقال لهم:"خذوا عني مناسككم" وبين للمسلمين ما يفعلونه في أيام حجهم.

وكان قبل حجته صلى الله عليه وسلم بعث صاحبه أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليحج بالناس، وكان هذا سنة تسع من الهجرة وبعث بعده علي ابن أبي طالب رضي الله عنه في مهمة خاصة وهي إبلاغ المشركين أن الله تعالى أنزل في حقهم آيات من سورة "براءة" ينهاهم الله فيها عن الحج إلى بيت الله بعد هذا العام، وأمر عليا أن يقرأها على الناس في هذا الموسم العظيم، وأن لا يحج مشرك بعد هذا العام، وأن لا يطوف بالبيت عريان، وكان المشركون يطوفون بالبيت عراة.

وهذا بعد ما أنزل عليه أول سورة "براءة" بعد رجوعه من غزوة "تبوك " وقد هم بالحج وعزم عليه، لكنه ذكر أن المشركين سيحجون ويحضرون هذا الموسم على عادتهم في ذلك، لأن المنع من حج المشركين إلى البيت لا زال لم يبلغهم، وأنهم يطوفون بالبيت عراة كسالف عهدهم، ولم يرغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رؤيتهم على ما ألفوه جاهليتهم، وقبل فتح مكة، وقد

ص: 111

فتح مكة سنة ثمان وحطم الأوثان التي كانت في الكعبة وما حولها، وفى غيرها من الأماكن التي كانت فيها، وهذا نوع مهم من التطهير، لأن تطهير العقول من سوء الاعتقاد له تأثير كبير في تلقي ما يقدم لها من إرشاد وتوجيه، وهذا ما نراه في تبديل الحكومات في وقتنا هذا، فإن نجاح الحكومة الجديدة يتوقف إلى حد بعيد على نباهة رئيسها في إلغاء ما تركته الحكومة السالفة عليه، وإزالة بقاياها من الرجال والقوانين التي سنتها ولربما تكون جائرة، فإذا قام الرئيس الجديد بهذا فإنه يجلب إلى صفه كل من اضطهد في عهد الحكومة السالفة، وهذا سر نجاح الحكومة الجديدة وألا تفعل هذا فإن الأمة لا تميل إليها وتراها نسخة طبق الأصل، من أجل هذا التطهير تأخر حج الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا العام - العام التاسع من الهجرة - وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه مكانه أميرا على الحج ليقيم للناس مناسكهم، فلما خرج أبو بكر متوجها إلى مكة المكرمة بمن معه من الحجاج نزلت آيات سورة براءة فبعث في أثره علي ابن أبي طالب رضي الله عنه مبلغا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام الحج، وأن ينادي في الناس ويخبرهم بما نزل من القرآن، من أول هذه السورة - براءة - وذلك ثلاثون آية وقيل أربعون آية من آياتها الأولى، وفيها {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} إلى آخر الآيات المذكورة، فقرأها علي على الناس كما أمره بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، قرأها عليهم في أماكنهم التي تعودوا النزول فيها، وفى أماكن بيعهم وشرائهم وفى عرفة ومنى، حتى

ص: 112

سمع كل الناس ما أنزل من القرآن في حق منع المشركين من الحج، ومما قاله لهم:"لا يحجن بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان".

وهكذا تطهرت بيت الله وحرمه من كل ما لا يرضي الله ورسوله من أفعال المشركين التي لا تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية التي تأمر بالحياء والأخلاق الطيبة. وكان العرب في جاهليتهم لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي كانوا يتعاطون فيها أعمالهم، فإذا أراد الواحد منهم أن يطوف بالبيت اتخذ ثوبا جديدا، وإذا لم يكن عنده ثوب جديد استعار ثوبا من أحد القرشيين الذين يسمون أنفسهم - الحمس - فإذا لم يسعف الطائف به طاف بالبيت عريانا، وحتى النساء كن يطفن بالبيت عاريات، إذا لم يجدن أثوابا جديدة، فمنع الله المشركين - المناجيس - بعد مجيء إلإسلام من الطواف بالبيت عراة، قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (1).

والحمس جمع أحمس هم أهل مكة/ قريش، وكنانة، وخزاعة ومن دان بدينهم، وهم سكان الحرم، - والأحمسي المتشدد في دينه والشجاع في القتال، فإذا حج - الصرورة - والصرورة/ هو الرجل أو المرأة اللذين لم يتقدم لهما حج، لا يسمح له أن يطوف بالبيت ألا وهو عريان، ولا يطوف بالبيت في ثيابه التي جاء بها، إلا أن يطوف في ثوب أحمسي، إما إعارة وإما إجارة،

(1) الآية 28 من سورة براءة.

ص: 113

فإذا جاء من يريد أن يطوف - صرورة - فإن وجد من يعيره ثوبا يطوف فيه أو يكريه إياه طاف في ثوب ذلك "الأحمسي" وإلا ألقى ثيابه من خارج ثم يدخل إلى الطواف وهو عريان وكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة إذا لم تجد من يعيرها أو يكريها ثوبا تطوف فيه، وهي تقول - حياء - كما جاء في كتب التاريخ والسير، بعد أن تستر عورتها بيديها وهي تقول:

الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ

وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ

وهذا من تزيين الشيطان لهم أعمالهم التي بدلوا بها وحرفوا وغيروا شرائع الله التي جاءهم بها الأنبياء والمرسلون وعملوا بما زينه لهم الشيطان، فقد غيروا الشريعة الحنيفية، شريعة أبيهم إبراهيم الخليل وأبيهم اسماعيل عليهما السلام، وحافظوا على شريعة الشيطان الذي لا يأمرهم إلا بما فيه هلاكهم ولا يدلهم إلا على الفواحش والمناكر وقبيح الأعمال.

إن في فريضة الحج من الفوائد والمعاني السامية ما يزيد في الإيمان ويقويه، كما فيه ما يعجز اللسان والقلم عن وصفه، ذلك لأنها كثيرة وذات أهداف سامية، فهي زيادة عما فيها منه طاعة الله فيما أمر به وحث عليه من الطواف بالبيت العتيق والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة، إلى آخر أقوال الحج وأعماله، تلك الأقوال والأعمال التي تجسد للحاج وتريه ما في تلك الأماكن من حقائق تاريخية لا يجدها إلا هناك، فهي تعطيه كذلك ضوءا يستنير به في بقية حياته - لمن فقه سر ما يفعل - من زيارته لتلك الأماكن والمشاهد، التي تترك أثرها الطيب في نفوس الحجاج.

ص: 114

والمهم - زيادة عما ذكر - هو مغزى هذا اللقاء العام والكبير بين أبناء الملة الإسلامية من مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها، عربها وعجمها حاضرها وباديها، فقيرها وغنيها، حاكمها ومحكومها إلى آخر ما في الأمة من طبقات وأصناف جمعت بين كل هؤلاء غاية واحدة وروح واحدة هي استجابة الدعوة وتلبية النداء.

فالحج - بحق - مؤتمر إسلامي من الطراز الأول في الملتقيات والمؤتمرات الدولية والشعوبية التي نسمع بها تعقد بين رجال السياسة والاقتصاد والمشاكل الدولية، وحتى أهل الأديان من غير المسلمين في شتى بقاع العالم، وما ذلك الا من أجل تأثير دعوة الداعي - وهو الله الخالق الحكيم - في نفوس المسلمين الصادقين.

إن المسلمين - في وقتنا الحاضر - لم يفكروا في حكمة هذا المؤتمر التفكير الجدي المفيد، لتستفيد منه عامتهم أينما كانوا، ونعني بالمسلمين من بيدهم تصريف أمورهم وهم ولاتهم وزعماؤهم وقادتهم، فالإلحاد والشيوعية ودعاة إبليس كلها تعمل بجد ونشاط متواصلين لتخريب العقائد الدينية والأخلاق المرضية، كل هذه القوى وغيرها تعمل بنشاط وحزم في أوساط العمال والشباب الإسلامي لكي تصرف المسلمين عن دينهم، وكان من بين هؤلاء العمال والشباب من هم دعاة لهذه القوى المخربة، وفى نفس الوقت تزين لهم أنواع المعاصي والفجور والإلحاد، وما يتبعها من إغراء ووسوسة لا تقل عن وسوسة إبليس، وأعانها على ذيوعها وانتشار مبادئها ما تلقاه من السكوت الذي ضرب خيمته

ص: 115

على العلماء - إلا القليل منهم - حيث اشتغلوا بما يخصهم في غالب الأوقات، وتخلوا عن مهمتهم المكلفين بها.

ومن جهة أخرى تشجيع بعض الحكام المخربين للمفسدين، وذلك بغض الطرف عن أعمالهم وأقوالهم المناهضة للإسلام وعقيدته.

إنه لم تظهر أعمال كافية وناجعة ممن يفكرون في الاستفادة من هذا اللقاء السنوي العظيم، وإذا وجد من يفكر فيه فإنه لم يعمل من أجله ما يناسبه، من وضع أسس له وبرامج تدرس فيه أو قبله، ثم تعرض على مفكري المسلمين وقادتهم، وخاصة اجتماعهم لحجهم، يوم يتفرغون من أعمالهم التي حضروا من أجلها، ويدعى إلى هذا الاجتماع كل ذوي الرأي الصائب ممن لهم الخبرة العامة والدراية التامة بأحكام الشريعة الإسلامية وما ترمي إليه من توحيد الصف وجمع كلمة المسلمين وبحث مشاكلهم ومستقبلهم، سواء كانت هذه المشاكل مما له صلة بالحج وأعماله أو كانت تحدث بينهم في أوطانهم، مع بعضهم البعض أو حكوماتهم وزعمائهم، ولكن هل يتركهم أعداؤهم ينفذون هذه الرغبة؟ والكثير من حكام المسلمين ينقادون بطواعية إلى أعدائهم، وفى الكثير من الأوقات ينفذون لهم رغباتهم وإن أضرت بدينهم وعقيدتهم.

والكثير من حكام المسلمين أنانيون انتفاعيون، لهم خطط يعملون على تنفيذها، ولا يهمهم أمر المسلمين، ومنهم من يقول: إننا مستقلون لا نريد من أي كان أن يتدخل في شؤوننا وشؤون بلادنا، ومن أجل هذا ضعف صوت الحق ولم يستطع الدخول

ص: 116

الى قلوب أولئك الحكام، وقوى نداء الباطل وتمكن من الاستحواذ على تفكير بعض القادة والزعماء والمسيرين لشؤون المسلمين، هذا والحجاج المساكين مهملون يرثى لحالهم، ليس هناك من يفكر لا في حالهم ولا في مآلهم، ونشطت حركة الاستغلال الشخصي والثراء غير المشروع وانتهاز الفرص لكسب المال من ضيوف الرحمن كما يوصف بهذا الحجاج، من غير مراقبة ممن بيدهم مقاليد الأمور، فترتفع الأسعار للمواد الضرورية اللازمة لراحة الحجاج وأمنهم، مع العلم بأن النظم الحالية لا تسمح بإخراج المال إلا بمقدار قليل.

فقد رأيت الكثير من الحجاج مهملين ومشردين في الطرقات، يجرون وراء رغباتهم ومشاكلهم، فهذا مع المطوف الذي ساقه حظه إليه، والذي اتخذ من مهمته وسيلة ثراء وغناء على حساب الحجاج الوافدين عليه - ضيوف الرحمن - حيث صاروا كالملوك في كل شيء، لا من يراقبهم لكي يوقفهم عن إفراطهم وتفريطهم وجشعهم الذي لا حد له، كما رأيت من يبحث عن رفيق له ضل عن الطريق - وبالأخص النساء - وهذا سرقت منه نقوده وبقي هائما على وجهه يستجدي أو يستقرض، وهذا، وهذا إلى آخر ما يشاهده الحاج في أيام مكة وعرفات ومنى مما يشوه وجه الإسلام، وجمال الحج، وتلك الأماكن المطهرة من الاستغلال وكسب الأموال، ولو كان في القلوب إيمان بالله وخوف من سطوته وانتقامه للمظلومين لما حدث شيء من هذا، كارتفاع الأسعار مثلا، في حين أن ما يأتي به الحجاج من الأموال هو قدر ضئيل سمحت به لهم أنظمة بلادهم وحكوماتهم.

ص: 117

أرجو لو يفكر قادة الشعوب الإسلامية، وخاصة منهم العلماء في الاستفادة من هذا الجمع والمجمع الهائل العظيم، فيضعوا برامج وتدرس بدقة وإمعان، وتحدد تحديدا يلائم روح العصر من غير أن تخرج عن إطارها الإسلامي، ثم تعرض على النخبة المختارة من المجتمعين والمؤتمرين وتناقش بكل حرية من ذوي الرأي منهم وتؤخذ بعين الاعتبار ما أفصحت عنه آراؤهم بعد التصفية، وتذاع في الحجاج أينما كانوا وتجمعوا، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليقرأ على الناس ما نزل من القرآن في شأن منع كل مشرك من حج بيت الله الحرام بعد ذلك العام، وفعلا منعوا منه لأنهم مشركون، ويطلب منهم بإلحاح العمل بما يقرره هذا المؤتمر بعد رجوعهم إلى أوطانهم، وهذا أمر ممكن إذا وجد من ذوي الرأي من له استعداد للعمل بمعونة الحكام الذين يهمهم أمر الإسلام وحالة المسلمين.

إن وسائل التنقل والسفر العصري المتعددة قد جعلت الحج ميسورا على كل أحد، غير أنه حج مبتور لا روح فيه، فقد يرجع الحاج إلى وطنه فارغا من كل معنى عميق للحج في شعوره وإدراكه لمعناه، إن بعض الحجاج يأتون إلى الحج وهم جاهلون لما هم مطالبون به من أعمال الحج التي لا يصح إلا بها، كالاحرام والطواف وغيرهما، ولا يهمهم إلا أن يذهبوا إلى مكة ويقضوا مآربهم ويعودوا بلقب الحاج، ولا يدري هل كان حجه صحيحا مبرورا أو لا، والحج المبرور هو الذي يظهر أثره على الحاج

ص: 118

فى استقامته على نهج الشرع العزيز، بعد عودته إلى بلده، من الاستقامة وحسن السلوك والتمسك بأحكام الدين وعرى الإسلام، بعد أن شاهد موطن الإسلام الأول والثاني، أعني مكة والمدينة، وعلم ما أصاب المسلمين الأولين في سبيل عقيدة التوحيد وإعلان كلمة الإسلام عالية مدوية من تلك الجبال والسهول والرمال، إلى أن وصلت إلى حيث شاء الله لها أن تصل، إلى آخر تلك المشاهد التي من المناسب أن ينبه إليها الحجاج الغافلون والجاهلون، ومسؤولية هذا التقصير ترجع إلى حكوماتهم.

إن من عجائب الزمان أن تكون حكومات الشعوب الإسلامية - وهي على ما هي عليه - هي التي تتحكم في التوجيه الديني، تبعث من يمثلها في تلك المواطن، وأمام الجموع الحاشدة من شتى بقاع المعمورة، وأن المسؤولين عن البقاع المقدسة والمسيرين لشؤونها لا يستقبلون إلا أعضاء الوفود الرسمية - كما يقولون - وهؤلاء بالطبع لا يصرحون إلا بما يرضي عنهم حكوماتهم إذا رجعوا إليها، ولعلهم ينعم عليهم بكلمات يتخذونها مثل الوسام يعلقونه على صدورهم، لأن هذه الحكومات لا يتسع صدرها للنقد والتوجيه والاعتراض، وترى في مثل هذا تشهيرا بأعمالها غير اللائقة أمام الملأ العظيم، وقد رأيت وسمعت في يوم عرفات من بعض من حضر ذلك الموقف من يدعو بصوت عال بعد صلاة العصر لرئيس حكومة بلاده الظالم الملحد أمام أهل بلده الذين يعرفون أحوال بلادهم وتصرفات رجالهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فيبقى المسلمون لا يعرفون

ص: 119

ما هو واقع بإخوانهم المسلمين في جزء - ما - من أجزاء الوطن الإسلامي، وإذا وجد في الحجاج من كشف الغطاء عما يقع في بلده من أمراض شتى فإنه يحاسب بعد عودته إلى بلده حسابا عسيرا - وهذا من ضيق صدور الحكام - وربما لا يسمح له في المستقبل بالعودة إلى معقل الإسلام، والوقت كما قلت وقت علاج أمراض المسلمين من أي بلد جاءت وفي أي بلد كانت.

إن البعض من الهيئات الإسلامية في الأراضي المقدسة عملت وتعمل على أن لا يذهب هذا المؤتمر سدى فتنظم ملتقيات على قدر ما تسمح به حالتها، فتهيىء العلماء لإلقاء محاضرات ودروس في مكة وعرفات ومنى - جزاها الله خيرا وأجرا عظيما - غير أن هذا لا يكفي، لا في الزمان ولا في المكان، بالنظر لكثرة الحجاج من جهة وبالنظر لما تتطلبه مشاكل المسلمين، ومن أهمها زهد الحجاج في الاستفادة من هذه الملتقيات التي لا تخلو من الفوائد العظيمة يتزود بها الحجاج ليسعدوا بها في الدنيا الآخرة، فكما يرجع الحاج إلى بلده بوافر الأجر والمغفرة إن قبل حجه فكذلك يرجع مزودا بالنصائح وما استفاده من تلك المحاضرات المتنوعة المقاصد والمواضيع.

ومن جهة أخرى فإن أولئك العلماء لا يشتغلون بالتوجيه لما يستقبل من الزمن، والبعض الآخر منهم غير مطلع على ما يجري في موطن - ما - من مواطن الإسلام، إذ ليس هناك من يقدم تقريرا مفصلا عما يجري في وطنه لإخوانه المسلمين، وقد شاهدت هذا بنفسي في موسم الحج من سنة 1397 أيام مكة وعرفات

ص: 120

ومنى، هناك دروس من غير تنسيق وترتيب، وأكثرها - فيما سمعت - منصبة على مقاومة البدع المستحدثة والدعوة إلى التمسك بالسنة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وهذا إنما يفيد في ناحية واحدة من حياة المسلم، ولكن هناك نواح ونواح لم تطرق ويكشف عنها الستار، لأن هذه الدروس تلقى من شيوخ وأساتذة هم الذين اختاروا بأنفسهم ما يلقون، ولم تكن هناك - فيما علمت - هيئة هي التي هيأت - بعد دراسة تلك المواضيع - لهم ما يلقون.

فلو تولى هذا - الاعداد - عالم مطلع خبير نصوح من كل وطن إسلامي أو هيئة لكان أنفع وأفيد للحجاج، وهذا من باب التواصي بالحق والتواصي بالصبر عليه، فيكون من مادة النصيحة لعامة المسلمين وخاصتهم، والتوفيق من الله وحده.

إن المطلوب - دينا - من العلماء الناصحين هو التفكير الجدي في حالة المسلمين وعلاقتهم بدينهم والعمل على تدعيم الرابطة التي تربط بعضهم ببعض، وتقوية الروح الدينية فيهم، والعمل النافع لإنقاذ الإسلام من الأخطار الكثيرة المحدقة به، سواء التي مصدرها من أبنائه الأدعياء - لأن إسلامهم وراثي - أو من خصومه الأعداء، خصوصا وأن الكثير من حكومات الشعوب الإسلامية ليس لها من الحماس والشجاعة والانتصار والعمل لفائدة الإسلام، حيث مسخت وجه الإسلام النقي بما سنته من دساتير وما شرعته من قوانين وما نفذته من أحكام كلها عملت على إبعاد شريعة الإسلام وجذب شريعة الشيطان إلى شعوبهم (وسمت

ص: 121

هذا تطورا أو تقدما يقبله الإسلام)، وبقي الإسلام حيا بما فيه من طاقات حية ويعيش على رصيد قديم تركه له أبناؤه المخلصون الأولون، هذا إن لم نقل أن الكثيرين من هؤالاء الحكام هم ضد الإسلام ويعملون - جاهدين - لعرقلة الإسلام عن التقدم إلى الأمام بأبناء عقيدته وشريعته، فهم يعملون على نصرة الشيطان وحزبه الخاسر على الإسلام وحزبه الرابح وأنصاره المخلصين، ثم التشهير في تلك المجامع - إن أمكن - بمن بقي مصرا على سلوكه المنحرف ضد الإسلام وإعلان هذا على الملأ من سمع العالم وبصره - ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة - كما ينبغي أن يكون ذلك العمل من المؤتمر - بعد دراسة شاملة لما هو واقع في أي وطن من أوطان الإسلام، وبعد الدراسة لتلك المشاكل - بشجاعة - يكون البحث عن إيجاد الحلول المفيدة والمناسبة لتلك المشاكل التي يعاني منها المسلمون الصادقون من العذاب ألوانا، كل ذلك حسب الاستطاعة والقدرة، ومن أبى ولم يمتثل لما قرره المؤتمر هذا - من غير نظر إلى بلده وشخصيته - يشهر به في كل بلد إسلامي ليكون له درسا ولغيره عبرة ومعروفا بأعماله ضد الإسلام، ويترك الانتقام منه لله الواحد القهار مهلك الظالمين ومبيد الطغاة الجبارين.

إذا لم يقم العلماء بهذا العمل اويتولوا هم الدفاع عن الإسلام وعقيدته فمن يا ترى يقوم مقامهم ويتولى مهمتهم؟ هل يتولى الدفاع عن الإسلام وحمايته حكام وضعوا أنفسهم مواضع الآلهة، يجب أن يطاعوا في كل أمر ولو خالف أمر الملك الديان

ص: 122

وشريعة الله، همهم الوحيد التمتع بالملاذ النفسية، ومنها حب السلطة وقهر العباد، لا ينازعهم فيها منازع ولو كان هو صاحبها، ومن نازهم فيها قصموا ظهره وأخذوا أنفاسه.

إن العلماء قدموا "قرابين" من أنفسهم في القديم الماضي من التاريخ وفى الحديث الذي لا زال في العقول محفوظا، وإن الكثير من الحكام المنسوبين إلى الإسلام قد أصدروا أوامرهم بمنع العلماء من مواعظهم في مساجد بلادهم التي بناها المسلمون بأموالهم لتكون منارات تضيء سبيل الله للمهتدين، فتصرفوا فيها هم - بمنع العلماء منها - تصرف الجبابرة الطغاة، فأخلوها من عمارها إلا لمن يرضون عنه لأنه باع ذمته منهم، فصار محل ثقتهم، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} فالآية تصرح بأن أكثر الظلم وأشده ما جاء ممن منع الناس من ذكر الله ودراسة دينه وتعليمه في المساجد - بيوت الله - ممن عمل واجتهد في فراغها من عمارها، وهذا هو خرابها، ونعوذ بالله منهما معا.

ربما يقال: ان علماء الإسلام ليس لهم قوة أو سلطة على حكامهم في أوطانهم، نعم إن هذا صحيح، فإن البعض من الحكام قد ركب رأسه، وحسب نفسه فوق كل الناس، وأنه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} - وقد قالها أخيرا بعض العلماء

في رئيس دولته

وهذه الصفة في التصرف لا تقال إلا للخالق والمالك

ص: 123

لكل شيء، ويرى بعض هؤلاء الحكام أنه لا يرد عليه ولا يعترض سبيله

، وليس هو بالمعصوم من الخطإ، وقد نقل عن الإمام مالك رضي الله عنه أنه كان يقول في درسه وهو مقابل لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم ومشيرا بيده إلى قبره:"كلكم راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر" تلك هي تربية الإسلام التي لا تبريء المرء من الخطإ مهما كانت درجته في العلم وحصافة الرأي، يقول بعض الحكام هذا ولا يحب أن يعترض سبيله لأن وراءه الجيش بمعداته، وقد استولى على الحكم والسلطة بواسطته، وليست الأمة هي التي بوأته تلك المنزلة وأولته إياها ورفعته إلى كرسي الحكم وقد يكون هذا، ولكن تجب معرفته على حقيقته وواقعه.

ومن الحكام قلة قليلة عملت وتعمل لصالح الإسلام والمسلمين، غير أنها لا تظهر أمام هذه الكثرة ممن يعملون على عرقلة الإسلام بل ومحوه من الوجود، وخاصة تلقاء تشريعه وظهوره أمام الملأ من الناس، والله على كل شيء قدير.

وإنني أخشى أن تقول تلك الحكومات للعلماء: لقد أفسدتم علينا ما بيننا وبين الحكومة الفلانية من علاقات ديبلوماسية وغيرها من العلاقات الأخرى، لأن العلاقات التي تتعامل بها حكومات العصر الحاضر إنما هي العلاقات السياسية والاقتصادية والمصالح المتبادلة بين الدول، لا العلاقات الروحية الدينية التي يجب أن تسود جميع العلاقات القائمة بين الدول الإسلامية وغيرها، فبعض الدول الإسلامية ترغب في تمتين علاقاتها مع الدول الغربية،

ص: 124

وأخرى تحاول تقوية علاقاتها مع الدول الشرقية الملحدة، وها هنا ذهبت علاقات الاخوة الدينية وعصفت بها الرياح.

والحج واجب على كل مسلم بالغ مستطيع توفرت فيه شروطه المفصلة في كتب الفقه، وهو فرض على الذكر والأنثى سواء، الا أن المرأة بالنظر إلى ضعفها في كل شيء فقد حدد الله لها ما يوفر لها حجها كاملا غير منقوص، كالمحرم لها، فلا تسافر - خصوصا إذا كانت المسافة بعيدة - إلا بصحبة زوجها أو مع أحد محارمها، أو مع رفقة مأمونة دينيا وأخلاقيا.

وجاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يخلون رجل بامرأة، ولا تسافرن امرأة الا ومعها محرم" فقام رجل فقال: يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجة، قال له:"اذهب فاحجج مع امرأتك" فقد صرفه عن الجهاد في سبيل الله إلى أن يكون رفيق امرأته في حجها، محافظة على صيانتها وكرامتها.

وحج بيت الله الحرام أوجبه الله على المسلمين مرة واحدة في العمر، وهذا ظاهر من تيسير الله على عباده في أمر القيام بفروض شريعتهم من غير إرهاق لهم ولا تكليف بما قد يعجزون عنه، إلا أن الله رغب عباده المؤمنين في أن لا يقطعوا صلتهم بتلك البقاع الطاهرة، ومواطن ينبوع الرحمة، ومصدر النور الالهي الذي

ص: 125

أضاء به سبل هذه الحياة، وطمس به معالم الشرك ومراكز الضلال، فقد حبب إلى المسلمين زيارة هذه الأمكنة للاعتبار بها وزيادة في تقوية إيمانهم ليزدادوا قوة ونشاطا ومحبة في دينهم، فاستحب منهم أن يتعهدوها - بعد أداء الفريضة - المرة بعد المرة، وهذا للقادر على ذلك - بدنيا وماليا - حتى لا ينسوها ولا تلهيهم أشغال هذه الحياة الدنيا عن مواطن الكرامة الإنسانية، ومنبت دين التوحيد - فقد أخرج أبو يعلى في مسنده، وابن حبان بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قال:"إن عبدا أصححت له جسمه، ووسعت عليه في معيشته، تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي لمحروم".

***

ص: 126