المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس الرابع والعشرون - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ٢

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس الرابع والعشرون

‌المجلس الرابع والعشرون

في الكلام على باب ?فإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ? [التوبة: 5]

وعلى باب من قال: الإيمان هو العمل

قوله: «باب ? فإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ? [التوبة: 5] » .

الرواية «بابٌ» بالتنوين ويجوز تركه بالإضافة، والتقدير على الأول: باب في تفسير قوله تعالى: ?فإن تَابُوا? وعلى الثاني: باب تفسير قوله تعالى: ?فإن تَابُوا? وإنما جعل الحديث الآتي تفسير للآية لأن المراد بالتوبة: الرجوع عن الكفر إلى التوحيد، يفسره قوله في الحديث:«حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله» .

ومعنى: «تَابُوا» : خلعوا الأوثان وأقبلوا على عباده الرحمن، وهذه الآية آخر آية نزلت من القرآن على قول، والصحيح: أن آخر آية نزلت من القرآن ?وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ? [البقرة: 281] إلى آخر الآية كما قدمنا ذلك.

قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُسْنَدِيُّ، قَالَ حَدَّثَنَا أبو رَوْحٍ الْحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ سَمِعْتُ أبي يُحَدِّثُ، عَنِ ابن عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إله إِلَاّ اللَّهُ وإن مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فإذا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَاّ بِحَقِّ الإسلام، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» (1) .

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها: قوله: «أمرت» أي: أمرني الله، لأنه لا آمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الله، وقياسه في الصحابي إذا قال: أمرت، فالمعنى أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر، لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر، وإذا قاله التابعي احتمل. والحاصل: أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الآمر له هو ذلك الرئيس.

قوله: «أن أقاتل» أي: بأن أقاتل، وحذف الجار من «أن» كثير.

قوله: «حتى يشهدوا» جعلت غاية المقاتلة وجود ما ذكر، فمقتضاه: أن من شهد وأقام وآتى، عُصم دمه ولو جحد باقي الأحكام. والجواب: أن الشهادة بالرسالة تتضمن التصديق بما جاء به، مع أن نص الحديث وهو قوله:«إلا بحق الإسلام» يدخل فيه جميع ذلك. فإن قيل: فلم لم يكتف به ونص على الصلاة والزكاة؟ فالجواب: أن ذلك لعظمهما والاهتمام بأمرهما، لأنهما أمَّا العبادات البدنية والمالية.

قوله: «ويقيموا الصلاة» أي: يداوموا على الإتيان بها بشروطها، أو المراد بالقيام: الأداء -تعبيراً عن الكل بالجزء- إذ القيام بعض أركانها. والمراد بالصلاة: المفروض منها، لا جنسها، فلا تدخل سجدة التلاوة مثلا، وإن صدق اسم الصلاة عليها. وقال الشيخ محيي الدين النووي: في هذا الحديث: أن من ترك الصلاة عمداً يقتل. وسئل الكرماني هنا عن حكم تارك الزكاة، وأجاب: بأن حكمهما واحد لاشتراكهما فى الغاية، وكأنه أراد في المقاتلة، أما في القتل فلا. والفرق أن الممتنع من إيتاء الزكاة يمكن أن تؤخذ منه قهراً، بخلاف الصلاة، فإن انتهى إلى نصب القتال ليمنع الزكاة قوتل، وبهذه الصورة قاتل الصديق مانعي الزكاة، ولم ينقل أنه قتل أحداً منهم صبراً. وعلى هذا ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظراً للفرق بين صيغة أقاتل وأقتل. والله أعلم.

وقد أطنب ابن دقيق العيد فى شرح العمدة فى الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك، وقال: لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل، لأن المقاتلة مفاعلة تستلزم وقوع القتال من الجانبين، ولا كذلك القتل.

وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله.

قوله: «فإذا فعلوا ذلك» فيه التعبير بالفعل عما بعضه قول، إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة المعنى الأعم، إذ القول فعل اللسان.

قوله: «عصموا» أي: منعوا.

قوله: «وحسابهم على الله» أي: فى أمر سرائرهم، ولفظة «على» مشعرة بالإيجاب، وظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام أو على سبيل التشبيه، أي: هو كالواجب على الله فى تحقق الوقوع. وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة والحكم بما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء فى قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافاً لمن أوجب تعلم الأدلة، ويؤخذ منه ترك تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع، وقبول توبة الكافر من كفره، من غير تفصيل بين كفر ظاهر أو باطن. فإن قيل: مقتضى الحديث قتال كل من امتنع من التوحيد، فكيف ترك قتال مؤدي الجزية والمعاهد؟ فالجواب من أوجه:

أحدها: دعوى النسخ بأن يكون الإذن بأخذ الجزية والمعاهدة متأخراً عن هذه الأحاديث، بدليل أنه متأخر عن قوله تعالى ?فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ? [التوبة: 5] .

ثانيها: أن يكون من العام الذى خص منه البعض، لأن المقصود من الأمر حصول المطلوب، فإذا تخلف البعض لدليل لم يقدح في العموم.

ثالثها: أن يكون من العام الذى أريد به الخاص، فيكون المراد بالناس في قوله:«أقاتل الناس» أي: المشركين من غير أهل الكتاب، ويدل عليه رواية النسائي بلفظ «أمرت أن أقاتل المشركين» . فإن قيل: إذا تم هذا في أهل الجزية، لم يتم في المعاهدين، ولا فيمن منع الجزية. أجيب: بأن الممتنع فى ترك المقاتلة رفعها لا تأخيرها مدة كما فى الهدنة، ومقاتلة من امتنع من أداء الجزية بدليل الآية.

رابعها: أن يكون المراد بما ذكر من الشهادة وغيرها: التعبير عن إعلاء كلمة الله وإذعان المخالفين، فيحصل فى بعض بالقتل، وفي بعض بالجزية، وفي بعض بالمعاهدة.

خامسها: أن يكون المراد بالقتال هو، أو ما يقوم مقامه، من جزية أو غيرها.

سادسها: أن يقال: الغرض من ضرب الجزية اضطرارهم إلى الإسلام، وسبب السبب سبب، فكأنه قال: حتى يسلموا أو يلتزموا ما يؤديهم إلى الإسلام، وهذا أحسن، ويأتى فيه ما فى الثالث وهو آخر الأجوبة، والله أعلم. انظر فتح الباري (1/75 - 77) .

ص: 5

وقوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت» قال ابن حجر: معناه أمرني الله حيث لا آمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الله، وقياسه في الصحابي إذا قال:«أمرت» فالمعنى: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحتمل أن يريد أمرني صحابي آخر، لأنهم من حيث أنهم مجتهدون لا يحتجون بأمر مجتهد آخر وإذا قاله التابعي احتمل، والحاصل: أن من اشتهر بطاعة رئيس إذا قال ذلك فهم منه أن الأمر له هو ذلك الرئيس.

والمراد «بالناس» عبده الأوثان دون أهل الكتاب، لأن أهل الكتاب سقط عنهم القتال بقبول الجزية لقول الله تعالى: ?قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخر وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ? [التوبة: 29] .

والمعنى: أمرني ربي أن أقاتل عبدة الأوثان إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وإنما خص الصلاة والزكاة بالذكر مع أنه يجب قتال من منع واجباً من واجبات الإسلام، لأنهما أصل العبادات البدنية والمالية، فلذلك تسمى الصلاة عماد الدين، والزكاة قنطرة الإسلام.

وقوله: «فإذا فعلوا ذلك» أي: قالوا أشهد أن لا إله إلا الله، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وفي قوله:«فعلوا ذلك» التعبير بالفعل عما بعضه قول إما على سبيل التغليب، وإما على إرادة المعنى الأعم إذا القول فعل ذلك.

ومعنى: «وحسابهم على الله» أي: إنها أدعى على أفعالهم الظاهرة، فلا أدع أحداً أن يترك فرضاً من فرائض الله تعالى، وإن يظلم أحداً فإن ما يخفون في بواطنهم ويسرون في ضمائر من النيات والعقائد فليس له إليه سبيل، فيثيب المخلص ويعاقب المنافق، ويجزي المصر بفسقه أو يعفو عنه، وليس معنى:«على» هنا الوجوب فإن الله لا يحب عليه شيء، بل يكون بمعنى اللام أي: على سبيل التشبيه أي: هو كالواجب

ص: 7

على الله في تحقق الوجوب (1) .

وفي هذا الحديث فوائد:

الأولى: وجوب قتال الكفار إذا طاقه المسلمون حتى يسلموا أو يبذلوا الجزية إن كانوا ممن تقبل منهم.

الثانية: وجوب قتال تاركي الصلاة والزكاة.

الثالثة: قتل تاركي الصلاة عمداً مع اعتقاد وجوبها.

واعلم أن مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه أن من ترك صلاة واحدة من الصلوات الخمس كسلاً وهو يعتقد وجوبها لا يكفر، وإنما يكفر إذا جحد وجوبها، ولكنه يقتل إذا أخرجها عن وقت الجمع لهذا الحديث ولما رواه أبو داود وابن حبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«خمس صلوات كتبهن الله على العباد، فمن جاء بهن فلم يضيع منهن استخفافاً بحقهن، كان له عهد عند الله أن يدخله الجنة، ومن لم يأت فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة» (2) فلا يقتل بترك الظهر إلا إذا غربت الشمس، ولا يقتل بترك المغرب إلا إذا طلع الفجر، ويقتل بترك كل من العصر والعشاء والصبح إذا خرج وقتها.

قيل: تقول الملائكة لتارك الفجر يا فاجر، ولتارك الظهر يا خاسر، ولتارك العصر يا عاص، ولتارك المغرب يا كافر، ولتارك العشاء يا مضيع ضيعك الله.

وجاء في الخبر: «من نام عن صلاة العتمة نادته الملائكة لا نامت عيناك ولا قرتا، حبسك الله بين الجنة والنار كما حبستنا» .

وينبغي أن يستتاب تارك الصلاة قبل قتله، واختلفوا هل هي واجبة أو مستحبة؟ ذهب جماعة إلى وجوبها لكن المرجح في التحقيق للنووي استحبابها، وإذا تاب تارك الصلاة بأن فعلها فإنه لا يقتل، واستشكل ذلك الأسنوي بأنه يقتل حداً والحدود لا

(1) قال ابن حجر في ذلك: ولفظة «على» مشعرة بالإيجاب وظاهرها غير مراد، فإما أن تكون بمعنى اللام أو على سبيل التشبيه أي: هو كالواجب على الله في تحقق الوقوع، وفيه دليل على قبول الأعمال الظاهرة، والحكم بما يقتضيه الظاهر، والاكتفاء في قبول الإيمان بالاعتقاد الجازم خلافاً لمن أوجب تعلم الأدلة. انظر: فتح الباري (1/77) .

(2)

أخرجه أبو داود (1/115، رقم 425) ، وابن حبان (5/23، رقم 1732) . وأخرجه أيضاً: الطبراني فى الأوسط (5/56، رقم 4658) ، والبيهقي (2/215، رقم 2985) ، والضياء (8/320، رقم 385) جميعاً عن عبادة بن الصامت.

ص: 8

تسقط بالتوبة، والقتل على التأخير عن الوقت وقد وجد، وكيف تنفع فيه التوبة قال: وهذا كمن سرق نِصَاباً ثم رده فإن القطع لا يسقط.

وأجاب عنه الزركشي وقال: لا خلاف عندنا أن تارك الصلاة إذا تاب يترك، وقول من قال الحدود لا تسقط بالتوبة قضية كليتها غير مسلمة، فالحد لا يسقط في ثلاث صور: قاطع الطريق إذا تاب قبل القدر عليه، والذمي إذا زنا ثم أسلم كما نص عليه الشافعي، وتارك الصلاة إذا تاب.

وذهب أبو حنيفة وجماعة إلى أن تارك الصلاة عمداً يعزز ويحبس ولا يقتل، واختلف العلماء من الشافعية في صلاة الجمعة إذا تركتها وقال أصلي عوضها ظهراً فقال الغزالي: لا يقتل لكن الذي رجحه النووي أنه يقتل بتركتها، وإن كان يصلي الظهر لأنه لا يتصور قضاؤها، وليست الظهر قضاء عنها، وإذا ترك المكلف الوضوء وصلى بلا طهارة عمداً قتل عند الإمام الشافعي رضي الله عنه لأن الامتناع منه امتناع من الصلاة، لأنه شرط لها لا تصح بدونه، وكذا إذا صلى لغير القبلة فإنه يقتل كترك الوضوء.

وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن الإنسان إذا صلى بلا طهارة لغير القبلة يكفر، وأما إذا وجب على الإنسان التيمم لفقد الماء مثلاً فصلى بلا تيمم عمداً، فإن كان ذلك التيمم تسقط الصلاة به فهو كالوضوء يقتل بتركه، وإن كان لا تسقط الصلاة به فلا يقتل بتركه، وإذا نذر صلاة في وقت فتركها عمداً حتى خرج وقتها المعين لا يقتل، وإذا ترك فاقد الطهورين الصلاة عمداً مع إنها واجبة عليه لحرمة الوقت لا يقتل لاختلاف العلماء في وجوبها عليه.

وإذا قدم تارك الصلاة عمداً للقتل فأبدى عذراً كأن قال: تركتها ناسياً أو للبرد أو لعدم الماء ولنجاسة كلب ونحو ذلك من الأعذار فالمذهب لا يقتل.

فائدة: قال الإمام أحمد بن حنبل وبعض أصحاب الشافعي وجماعات من الصحابة: إن الإنسان المكلف إذا ترك الصلاة من غير جحة يكفر، وتجري عليه أحكام المرتدين فلا يورث ولا يغسل ولا يصلى عليه، وتبين منه امرأته واستدل على ذلك بحديث مسلم وغيره:«إن بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة» (1) .

(1) أخرجه مسلم (1/88، رقم 82) عن جابر بن عبد الله.

ص: 9

وحديث الترمذي: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر» (1) .

وقال أبو هريرة وعبد الله بن شقيق العقيلي كما رواه الترمذي: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة (2) .

لكن جمهور العلماء كالإمام الشافعي وغيره لا يكفر إلا الجاحد بوجوبها، وأجاب عن هذه الأدلة بأنها على مقاربة الكفر وعلى كفر النعمة كقوله صلى الله عليه وسلم:«سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» (3) على أن معناها أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي القتل، وإنما أولناها بهذا التأويل وإن كان خلاف الظاهر كما مر في الحديث السابق:«ومن لم يأت فليس له عند عهد الله إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة» فلو كفر بذلك لامتنع دخوله الجنة.

ومن الأدلة على أن تارك الصلاة لا يكفر بتركها ما ورد في السنن: «أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة مكتوبة، فإن أتمها وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك» (4) .

وإذا قتل عند الشافعية حداً على ترك الصلاة فهو كسائر أهل الكبائر من المسلمين يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين ولا يطمس قبره.

وإذا ترك صوم رمضان عمداً وهو معتقد لوجوبه لا يقتل بحبس، ومنع من الطعام الشراب نهاراً، لأن الظاهر أنه ينوبه لاعتقاد وجوبه عليه.

وإذا ترك الزكاة عمداً وامتنع من إعطائها للمستحقين لا يقتل ولكن تؤخذ منه قهراً ويعذر على تركها.

(1) أخرجه الترمذي (5/13، رقم 2621)، وقال: حسن صحيح غريب. وأخرجه أيضاً: النسائي (1/231، رقم 463) ، وابن ماجه (1/342، رقم 1079) جميعاً عن بريدة.

(2)

انظر: سنن الترمذي (5/14، رقم 2622) .

(3)

متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (1/27، رقم 48) ، ومسلم في صحيحه (1/81، رقم 64) ، والترمذي في سننه (4/353، رقم 1983) وقال: حسن صحيح. والنسائي في سننه (7/122، رقم 4108) ، وابن ماجه في سننه (1/27، رقم 69) جميعاً عن ابن مسعود.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (1/229، رقم 864) ، والترمذي في سننه (2/269، رقم 413) وقال: حسن غريب، والنسائي في سننه (1/233، رقم 466) ، وابن ماجه في سننه (1/458، رقم 1425) جميعاً عن أبي هريرة.

ص: 10

وفي الحديث دلالة على أن من أظهر الإسلام وفعل الأركان نكف عنه، ولا نتعرض له.

وفيه دلالة على قبول توبة الزنديق، وهو الذي يبطن الكفر ويظهر الإسلام وإن تكرر منه الارتداد والإسلام، وعند الإمام مالك لا تقبل توبته، نعم إن كان صادقاً نفعه الله تعالى.

وفيه دلالة على تكفير أهل البدع المقرين بالتوحيد الملتزمين للشرائع.

وفيه دليل على تحريم الامتناع من دفع الزكاة وعلى تحريم إخراج الصلاة عن وقتها، وقد نص العلماء على أن إخراج الصلاة عن وقتها عمداً من كبائر الذنوب وتجب المبادرة إلى قضائها.

قال ابن حزم: لا ذنب بعد الشرك أعظم من ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وقتل مؤمن بغير حق.

وقد ذم الله تعالى ورسوله من تركها قال الله تعالى: ?فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ? [مريم: 59] وضمير «بَعْدِهِم» راجع إلى النبيين المذكورين قبل هذه الآية.

«والخلف» بسكون اللام يستعمل في الصالح «والخلف» بالفتح يستعمل في الصالح، ومعنى الآية: فخلف من بعد النبيين قوم سوء أضاعوا الصلاة أي: تركوا الصلاة المفروضة.

وقيل: معنى أضاعوها أخروها عن وقتها بأن لا يصلي الظهر حتى يدخل وقت العصر، ولا العصر حتى تغيب الشمس.

ومعنى: {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} أنهم ارتكبوا المعاصي كشرب الخمر أي: آثروا شهوات أنفسهم على طاعة الله.

{فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياًّ} والغي قيل: نهر في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه.

وقيل: وادي في جهنم، وأن أودية جهنم نستعيد بالله من حرها أعدت للزاني المصر عليه، ولشارب لخمر المدمن عليه، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور، ولتارك الصلاة.

وقال تعالى: ?فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ? [الماعون 4، 5] أي: مضيعون لوقتها.

ص: 11

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: «هي إضاعة الوقت» (1) وقيل: معنى {سَاهُونَ} لا يبالون صلوها أو لم يصلوها.

وقيل معناه: غافلون يتهاونون به.

وقيل معناه: أنهم الذين إن صلوها صلوها رياء، وإن فاتتهم لا يندموا عليها.

وقيل: لا يصلونها لوقتها ولا يتمون ركوعها وسجودها.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يحافظ على الصلاة كانت له نوراً وبرهاناً [ونجاةً يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان] ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف» (2) رواه أحمد.

وقال صلى الله عليه وسلم: «أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، فإن فسدت فقد خاب وخسر» (3) حسنه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا إيمان لمن لا أمانه له، ولا صلاة لمن لا طهور له، ولا دين لمن لا صلاة له، وإنما موضع الصلاة من الدين كموضع الرأس من الجسد» (4) رواه الطبراني.

قال العلماء: لا تسقط الصلاة عن الإنسان بعد بلوغه ما دام عاقلاً بحال.

قال الإمام الغزالي: ولو زعم زاعم أنه بلغ بينه وبين الله حالة أسقطت عنه الصلاة وأحلت له شرب الخمر وأكل مال السلطان، كما زعمه بعض المتصوفة فلا شك في وجوب قتلة، وإن كان في دخوله في النار نظر، وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر، وإن ضرره أكثر.

فإذا عجز المكلف عن فعلها قائماً صلاها قاعداً، ولا ينقص ثوابه لأنه معزور.

(1) أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (2/214، رقم 2983) وقال: هذا الحديث إنما يصح موقوفا وعكرمة بن إبراهيم قد ضعفه يحيى بن معين وغيره من أئمة الحديث.

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (2/169، رقم 6576) قال الهيثمي (1/292) : رجاله ثقات. وأخرجه أيضاً الدارمي في سننه (2/390، رقم 2721) ، والبيهقي فى شعب الإيمان (3/46، رقم 2823) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/139، رقم 353) جميعاً عن ابن عمرو. وما بين المعكوفتين سقط من الأصل وأثبت من مسند أحمد.

(3)

أخرجه الترمذي في سننه عن أبي هريرة (2/269، رقم 413) وقال: حسن غريب.

(4)

أخرجه الطبراني فى الأوسط (2/383، رقم 2292) ، وفى الصغير (1/113، رقم 162)، قال الهيثمي (1/292) : تفرد به الحسين بن الحكم الحبري.

ص: 12

أما قوله صلى الله عليه وسلم: «من صلى قاعداً فله نصف أجر القائم» (1) فهو محمول على المتنفل، وإن عجز على فعلها قاعداً صلى مضطجعاً على شقيه الأيمن كما يوضع الميت في اللحد، ويجوز على الأيسر ولكن الأيمن أولى مراعاة للتيامن، فإن عجز الاضطجاع صلى مستلقياً على ظهره ورجلاه إلى القبلة، وإذا صلى مضجعا أو مستلقياً وأمكنه الركوع والسجود وجب عليه فعلها، وإن لم يمكنه ذلك لشدة مرضه أومأ إلى صوب القبلة بالركوع والسجود، ويومئ بالسجود أشد من الركوع حيث يقرب رأسه من الأرض ليتميز الركوع عن السجود، فإن عجز عن الإيماء برأسه أومأ بطرفه، فإن عجز عن تحريك أجفانه والنطق بلسانه صلى بقلبه، بأن يجري الأفعال والقرآن والأذكار على قلبه فلا تسقط بحال إلا إذا أختل عقله.

وهنا فوائد متعلقة بتارك الصلاة:

الأولى: قال فقهاؤنا: لا قصاص ولا دية ولا كفارة على من قتل تارك الصلاة، بل دمه هدر إذا قتله المصلي، أما إذا قتله شخص آخر تارك الصلاة فيجب القصاص على القاتل، كالزاني المحصن إذا قتله مسلم لا يقتل إلا إن يكون القاتل مثله فإنه يقتل.

الثانية: لو خير الإنسان بين زواج ذمية بشرطه ومسلمة تاركة للصلاة كسلاً فالذمية أولى، لأن تاركة الصلاة إذا أصرت على تركها صارت مرتدة على مذهب أحمد بن حنبل فيصير في نكاحها خلاف، والذمية متفق على صحة نكاحها قاله ابن العماد.

الثالثة: إذا اشترى الإنسان رقيقاً عبداً أو جارية فوجده تارك الصلاة فهو عيب فيه، فللمشتري رده على البائع بذلك إن أراد.

الرابعة: يجوز غيبة تارك الصلاة لأنه يفسق، وقد ورد في الخبر:«لا غيبة لفاسق» (2) .

(1) جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه (1/375، رقم 1064) ، والترمذي في سننه (2/207، رقم 371) وقال: حديث حسن صحيح. والنسائي في سننه (3/223، رقم 1660) ، وابن ماجه في سننه (1/388، رقم 1231) جميعاً عن عمران بن حصين.

(2)

أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (19/418، رقم 1011)، قال الهيثمي (1/149) : فيه العلاء بن بشر ضعفه الأزدي. والبيهقي فى شعب الإيمان (7/109، رقم 9665) وقال: قال أبو عبد الله (يعنى الحاكم) : غير صحيح. وأخرجه أيضاً: القضاعي في مسند الشهاب (2/202، رقم 1185) جميعاً عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.

ص: 13

الخامسة: نقل شهاب الدين الأذرعي (1) عن فتاوى ابن البزري (2) أنه يجب على الرجل أن يأمر زوجته بالصلاة، قال تعالى: ?وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا? [طه: 132] وقال تعالى: ?يَا أيها الَّذِينَ آمنوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً? [التحريم: 6] قال: فإن أصرت على تركها فعليه إن يطلقها.

السادسة: وهي واقعة وقعت أيام الشيخ الإمام العالم الصالح سيدي عبد العزيز الديريني (3) : شخص حلف بالطلاق أن لا يدخل على زوجته إلا في يوم مشؤم غير مبارك، فسأل العلماء عن ذلك فقالوا جميع الأيام مباركة متى ما دخلت عليها في يوم من الأيام وقع عليك الطلاق، ثم سئل الشيخ عبد العزيز الديريني فقال له: صليت اليوم شيئاً من الصلوات فقال: لا. فقال له الشيخ: ادخل عليها ولا يقع عليك الطلاق لأنه يوم مشؤم عليك غير مبارك بتركك الصلاة فيه.

لطيفة من نزهة المجالس: ركب بعض الأكابر في البحر، فرأى السمك يأكل بعضه بعضاًَ فتوهم أن القحط وقع في البحر، فهتف به هاتف أنه قد شرب من البحر رجل تارك الصلاة فلما علم ملوحته قذفه من فمه في البحر، فوقع القحط من ذلك في الماء الذي قذفه من فمه فيه.

أخرى: قال في نزهة المجالس: مر عيسى عليه السلام على قرية كثيرة الأشجار والأنهار والأرزاق فأكرمه أهلها فعجب من طاعتهم، ثم مر عليهم بعد ثلاث سنين فرأى الأشجار يابسة والأنهار ناشفة وهي خاوية على عروشها فتعجب من ذلك، فأوحى الله إليه أن قد مر على هذه القرية رجل تارك الصلاة فغسل وجهه في عينها فنشفت، ويبست الأشجار وخربت القرية، يا عيسى لما كان تارك الصلاة سبب لهدم الدين كان سبباً لخراب الدنيا.

أخرى: قال أبو الليث السمرقندي: حكي أن رجلاً دفن أختاً له ثم ذكر أنه نسي كيساً له في قبرها، فأتى القبر فنبشه فوجد الكيس، ثم رفع ما على اللحد فرأى القبر يشتعل ناراً، فسأل أمه عن عمل أخته، فقالت: كانت تؤخر الصلاة ولا تصلي بطهارة كاملة، وتأتي أبواب الجيران لتسمع حديثهم لتمشي بالنميمة.

قال شيخ الإسلام ابن حجر في فتح الباري في الكلام على التشهد: فائدة: قال القفال في فتاويه: ترك الصلاة يضر بجميع المسلمين، لأن المصلي يقول: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، ولابد أن يقول في التشهد السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فيكون مقصراً بخدمة الله وفي حق رسوله وفي حق نفسه وفي حق كافة المسلمين

(1) الأذرعي هو: أحمد بن حمدان بن أحمد بن عبد الواحد، أبو العباس، شهاب الدين الأذرعي فقيه شافعي، ولد بأذرعات بالشام سنة: 708 هـ، وتفقه بالقاهرة، وولي نيابة القضاء بحلب، وراسل السبكي بالمسائل الحلبيات وهي في مجلد، وجمعت فتاويه في رسالة، وله من المصنفات: جمع التوسط والفتح، بين الروضة والشرح في عشرون مجلداً، وشرح المنهاج شرحين أحدهما: غنية المحتاج، والثاني: قوت المحتاج، وفي كل منهما ما ليس في الآخر. وعاد إلى القاهرة سنة 772 هـ، ثم استقر في حلب إلى أن توفي سنة 783 هـ.

(2)

هو: عمر البزري واسمه: عمر بن محمد بن أحمد بن عكرمة البزري، فقيه شافعي، كان إمام جزيرة «ابن عمر» وفقيهها ومفتيها، مولده في سنة 471 هـ، في هذه الجزيرة، ووفاته فيها أيضاً سنة: 560 هـ، له من المؤلفات: الأسامي والعلل، وشرح إشكالات المهذب للشيرازي.

(3)

الديريني هو: عبد العزيز بن أحمد بن سعيد الدميري المعروف بالديريني، فقيه شافعي من الزهاد. نسبته إلى «ديرين» في غربية مصر ولد بها سنة: 612هـ، ووفاته سنة: 694 هـ، وقبره بها، ومن كتبه: التيسير في علم التفسير وهو كتاب به أرجوزة تزيد على 3000 بيت، في غريب القرآن ومعانيه، والدرر الملتقطة في المسائل المختلطة وطهارة القلوب، والخضوع لعلام الغيوب في التصوف، وإرشاد الحيارى.

ص: 14

ولذلك عظمت المعصية بتركها.

واستنبط منه السبكي: في الصلاة حقاً للعباد مع حق الله وإن تركها أخل بحق جميع المؤمنين من مضى ومن يجيء إلى يوم القيامة، لوجوب قوله فيها السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (1) .

* * *

(1) انظر: فتح الباري (2/317) .

ص: 15

قَالَ البُخَارِي:

باب مَنْ قَالَ: «إِنَّ الإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ»

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ?وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ? [الزخرف: 72] .

وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أهل الْعِلْمِ فِي قوله تَعَالَى: ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أجمعين * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [الحجر: 92، 93] عَنْ قَوْلِ لَا إله إِلَاّ اللَّهُ.

وَقَالَ تعالى: ?لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ? [الصافات: 61] .

قوله: «باب من قال: الإيمان هو العمل لقول الله عز وجل ?وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ? [الزخرف: 72] »

مقصود البخاري بهذا الباب الرد على المرجئة القائلين: بأن العمل لا يحتاج إليه مع الإيمان، وغلط غلاتهم فقالوا: إن ناطق الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقدها.

وأراد «بالعمل» ما هو أعم من عمل القلب واللسان والجوارح، واستدل على ذلك بآيات من كتاب الله تعالى، وحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الآية الأولى: ?وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ? [الزخرف: 72] يحتمل أن تكون مصدرية أي: بعملكم، ويحتمل أن تكون موصولة أي: بالذي كنتم تعملون، ووجه الاستدلال بها: لأن «تَعْمَلُونَ» بمعنى تؤمنون كما قاله المفسرون، فأطلقوا العمل وأريد به الإيمان، واستشكل العلماء هذه الآية وقالوا: الإرث يقتضي مورثاً، وهو الذي ينتقل منه الشيء بعد موته إلى غيره، ووارثاً هو الذي انتقلت إليه التركة، فإن أريد بالمورث في قوله: ?أُورِثْتُمُوهَا? الله، فالله سبحانه وتعالى حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم فكيف يقال ورث الجنة للمؤمنين؟

وأجابوا عن هذا الإشكال بأوجه:

الأول: أن المورث هو الكافر فإن الكافر لولا كفره لكان له نصيب في الجنة، فلما مات كافراً انتقل نصيبه إلى المؤمن، بسبب كفره الذي هو موت روحه، فالمورث هم الكفار والورثة هم المؤمنون.

الثاني: أن المورث هو الله تعالى والإرث هنا مجاز عن الإعطاء على طريقة إطلاق الكل وإرادة الجزء.

واستشكل العلماء أيضاً من جهة أخرى وقالوا: إن ظاهرها يقتضي أن دخول العبد إنما هو بسبب عمله مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لن يدخل أحدكم الجنة

ص: 16

بعمله» (1) فإن ظاهره يدل على أن العمل ليس سبباً لدخول الجنة.

وأجابوا عنه وجمعوا بين الآية والحديث من وجوه أحسنها كما قاله شيخ الإسلام ابن حجر: أن المنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرد عن القبول، والمثبت في الآية دخولها في العمل المتقبل والمقبول إنما يحصل برحمة الله تعالى فلم يحصل الدخول إلا برحمة الله تعالى (2) وحاصل معنى الحديث: لن يدخل أحدكم الجنة بسبب عمله الذي لم يتقبل منه، ومعنى الآية: وتلك الجنة التي أورثتموها بسبب عملكم المقبول برحمة الله تعالى.

فالحاصل: أن الدخول برحمة الله وليس عمل العبد مستقلاً بدخولها فقد روى أبو نعيم من حديث أبي الزبير أن جابراً قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل أحداً منكم عمله الجنة، ولا يجيره من النار، ولا أنا إلا بتوحيد الله» (3) وإسناده على شرط مسلم.

نعم العمل نافع في الدرجات فقد نقل عن سفيان وغيره أنه قال: كانوا يقولون النجاة من النار بعفو الله، ودخول الجنة برحمته، واقتسام المنازل والدرجات بالأعمال.

وفي الحديث أيضاً: «سددوا وقاربوا وأبشروا واعلموا أن أحداً منكم لن ينجو بعمله، قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» (4) وهي سعة رحمة الله تعالى.

يقول الحسن: يقول الله تعالى يوم القيامة: جوزوا الصراط بعفوي، وادخلوا جنتي برحمتي، واقتسموها بأعمالكم.

وجاء في الحديث: «ينادى مناد من تحت العرش: يا أمة محمد ما كان لي قبلكم فقد وهبته لكم وبقيت التبعات، فتواهبوها فيما بينكم وادخلوا الجنة برحمتي» (5) .

لطائف وأخبار في أن الدخول الجنة برحمة الله:

اللطيفة الأولى: قال في الروض الفائق: قال عبد الواحد بن زيد رحمة الله تعالى:

(1) جزء من حديث متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه (5/2373، رقم 6102) ، ومسلم في صحيحه (4/2171، رقم 2818) .

(2)

انظر فتح الباري (1/78) .

(3)

الحديث أصله في صحيح مسلم (4/2171، رقم 2817) .

(4)

متفق عليه، أخرجه البخاري في صحيحه (5/2373، رقم 6102) ، ومسلم في صحيحه (4/2171، رقم 2818) .

(5)

أخرجه الديلمي في الفردوس (5/496، رقم 8871) عن أنس بن مالك.

ص: 17

خرجنا جماعة من الفقراء نريد سفراً في البحر، فعصفت الريح بنا فطردتنا إلى جزيرة في البحر فرأينا فيها رجلاً يعبد صنماً من دون الله فقلنا له: أي شيء تعبد؟ فأومأ بأصبعه إلى الصنم، فقلنا له: يا مسكين إن معنا في السفينة من يحسن أن يصنع مثل هذا، وإن هذا ليس إلهاً يعبد، قال: فأنتم تعبدون من؟ قلنا: نعبد الله. قال: وما الله؟ قلنا: الذي في السماء عرشه وفي الأرض سلطانه وفي البحر سبيله وفي الأحياء والأموات قضاؤه. قال: فكيف علمتم به؟ قلنا: أرسل إلينا رسولاً أخبرنا بذلك. قال: فما فعل الرسول؟ قلنا: لما أدى رسالة الملك قبضه إليه. قال: فما ترك عندكم علامة من الملك؟ قلنا: بلى ترك عندنا كتاب الملك. قال: أروني كتاب الملك فإن كتاب الملوك حسان. فأتيناه بالمصحف فقرأناه عليه سورة فما زال يسمع ويبكي إلى أن تممنا السورة فقال: ينبغي لصاحب هذا الكلام أن لا يعص، فأسلم فحملناه معنا وعلمناه شرائع الإسلام وشيئاً من القرآن، فلما أقبل الليل صلينا العشاء وأخذنا مضاجعنا للنوم، فقال: يا قوم الإله الذي دللتموني عليه ينام؟ قلنا: لا يا عبد الله هو حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم. قال: فبئس العبيد أنتم تنامون ومولاكم لا ينام. فأعجبنا كلامه فلما وصل إلى عَبْادان (1) وأردنا أن نفترق جمعنا له دراهم، وقلنا: أنفق هذه عليك. فنظر إلينا مغضبا وقال: لا إله إلا الله دللتموني على طريق ولم تسلكوها، أنا كنت في جزيرة في البحر أعبد صنماً من دونه فلم يضيعني، فكيف الآن وقد عرفته. ثم تركنا، ومضى عبد الواحد فلما كان بعد ثلاثة أيام أتاني أت فأخبرني عنه أنه بأرض كذا وهو يعالج سكرات الموت فجئته وقلت له: ألك حاجة قال: قد قضى حوائجي من عرفتني به، فبينما أنا أكلمه إذ غلبتني عيناي فنمت، فرأيت في المنام روضة خضراء وفي

الروضة قبة وفيها سرير وعليه جارية أجمل من الشمس والقمر وجهاً وهي تقول: سألتك بالله ألآ ما عجلت به علي فانتبهت فإذا به قد مات فجهزته ودفنته في قبر، فلما نمت رأيته في المنام في القبة التي رأيتها أولاً والجارية إلى جانبه وهو يتلو قوله تعالى: ?وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ? [الرعد: 23، 24] فهذا أسلم ولم يعمل إلا قليلاً، وقد تفضل عليه مولاه بدخول الجنة برحمته من غير عمل كثير، وهذا وإن كان مناماً فهو شيء يستأنس لما ذكرناه.

(1) هكذا بالأصل ويبدو أنه اسم مكان وصلوا إليه.

ص: 18

الثانية: ورد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «خرج من عندي أخي جبريل آنفاً وقال: يا محمد والذي بعثك بالحق إن لله عبداً من عباده عبد الله تعالى خمسمائه عام على رأس جبل، عرضه وطوله ثلاثون ذراعاً في ثلاثين ذراعاً، والبحر يحيط به أربعة آلاف فرسخ، من كل ناحية وأخرج الله له عيناً عذبة بعرض الأصبع تفيض بماء عذب، وأنبت شجرة رمان كل يوم تخرج رمانة، فإذا أمسي نزل إلى العين توضأ من الماء وأخذ الرمانة وأكلها تغنيه عن كل طعام، ثم يقوم إلى الصلاة فيصلي فسأل ربه عند وقت الأجل أن يقبضه إليه وهو ساجد ولا يجعل للأرض ولا لشيء على جسده سبيلاً حتى يبعثه وهو ساجد ففعل، قال جبريل: ونحن نمر عليه إذا هبطنا وإذا صعدنا وهو ساجد، فنحن نجد في العلم أنه يبعث يوم القيامة فيوقف بين يدي الله تعالى فيقول الرب تبارك وتعالى: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول العبد: بل بعملي يارب، فيقول: أدخلوا عبدي الجنة برحمتي ثلاثاً، فيقول العبد: بل بعملي يارب، فأين عبادتي خمسمائة عام فيقول الله: حاسبوا عبدي بنعمتي عليه وبعمله، فوجد نعمة البصر قد أحاطت بعبادة خمسمائه سنة، وبقيت نعمة الجسد، فيقول: فأين عبادتي؟ فيقول الله تعالى: من خلقك ألم تك شيئاً؟ فيقول: أنت يارب، فيقول: من قواك على عبادة خمسمائه سنة؟ فيقول: أنت يارب، فيقول: من أنزلك في هذا الجبل وأخرج لك عينا من الماء الزلال، وأنبت لك كل يوم رمانة، وإنما تخرج في السنة مرة، وسألتني إن أقبضك ساجداً ففعلت، قال: نعم يارب، قال الله تعالى: فأعطني حق نعمتي عليك، قال: فبهت العبد بهتة شديدة فيقول الله تعالى: خذوه إلى النار فيسحبوه حتى إذا أشرف على جهنم التفت إلى الله تعالى كالمتوسل فيقول الله وهو أعلم: ما تريد يا عبدي؟ فيقول: إلهي أنعمت علي في الدنيا برحمتك، وردني إلى الجنة برحمتك فيؤمر به إلى الجنة، ويقول جل جلاله: أدخلوا

عبدي الجنة برحمتي فنعم العبد كنت، يا عبدي إنما الأشياء برحمة الله» (1) . ذكر هذا الخبر الترمذي الحكيم في نوارد الأصول في الأصل السابع.

(1) ذكره الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (1/94) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/278، رقم 7637) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي فى شعب الإيمان (4/150، رقم 4620) جميعاً عن جابر.

ص: 19

الثالثة: ذكر الإمام الغزالي في كتاب كشف علوم الآخرة: أنه يؤتى برجل يوم القيامة فما يجد حسنة يرجح بها ميزانه، وقد اعتدل ميزانه بالسوية فيقول الله تعالى: هل لك من حسنة، إذهب في الناس فالتمس من يعطيك حسنة ترجح ميزانك وتدخل الجنة، قال: فيحوس بين خلال العالمين فما يجد أحداً يكلمه في ذلك الأمر إلا يقول: أنا خائف من خفة ميزاني، قال: فييأس، فيقول له رجل: ما الذي تطلب؟ فيقول: حسنة واحدة يرجح بها ميزاني، فيقول ذلك الرجل: نظرت أنا في صحيفتي فما وجدت فيها سوى حسنة واحدة فما أظنها تغني عني شيئاً إلا أن يرحمني بكرمه، فخذها هبة مني لك، فينطلق فرحاً مسروراً فيقول الله تعالى له: ما بالك؟ وهو أعلم، فيقول: يارب كل الخلائق ما نظر منهم أحد لي سوى عبدك هذا، فينادي سبحانه وتعالى بصاحبه الذي وهبه الحسنة، ويقول له: يا عبدي لأي شيء وهبته الحسنة فيقول: إلهي نظرت في صحيفتي فما رأيت فيها سوي حسنة واحدة، فقلت: إذا كان المولى كريماً فما تنفع الحسنة للعبد السقيم، فيقول سبحانه وتعالى: كرمي يا عبدي أوسع من كرمك، خذ بيد صاحبك فادخلا الجنة بكرمي ورحمتي.

وروي أبو موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أمتي أمة مرحومة، عجل عقابها في الدنيا بالزلازل والفتن، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من أمتي رجل من أهل الكتاب، فيقال: هذا فداؤك من النار» (1) .

وقال صلى الله عليه وسلم: «يتجلى الله تبارك وتعالى لنا يوم القيامة ضاحكاً يقول: أبشروا يا معشر المسلمين، فإنه ليس أحد منكم إلا وقد جعلت مكانه في النار يهودياً ونصرانياً» (2) .

وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام في ورقة، ثم وضعها على العرش ثم نادى: يا أمة محمد إن رحمتي سبقت غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم من قبل أن تستغفروني، من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدي ورسولي

(1) أخرجه أحمد في مسنده (4/410، رقم 19693) ، والحاكم في المستدرك (4/283، رقم 7649) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي فى شعب الإيمان (7/148، رقم 9799) ، والروياني في مسنده (1/334، رقم 505) .

(2)

جزء من حديث أخرجه أحمد في مسنده (4/407، رقم 19671) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/191، رقم 540) كلاهما عن أبي موسى.

ص: 20

أدخلته الجنة» (1) .

ولله در القائل:

ذنوبي كثيرة ما أطيق احتمالها

وعفوك عن ذنبي أجل وأكبر

وقد وسعتني رحمة منك

وإني لها يوم القيامة أفقر

وقيل: إن الله تعالى إذا أراد أن يستر عبده يوم القيامة ولا يفضحه على رؤوس الأشهاد، فيعطيه كتابة بيمينه وهو مشحون بالسيئات، وذلك العبد خائف مما في الكتاب، لعلمه أن ذنوبه كثيرة فيقرأ في الوجه الذي فيه السيئات سراً ويقول في نفسه: ليس لي حسنة واحدة، وتقول الخلائق: سبحان الله ليس في كتاب هذا العبد سيئة واحدة فإذا فرغ من قرأته يقول الله تبارك وتعالى عبدي: هذه حسناتك في ظهر كتابك أظهرتها لخلقي، وسترت عنهم سيئاتك في الدنيا والآخرة، يا ملائكة امضوا به إلى الجنة بعفوي ورحمتي.

ولقد أحسن من قال:

يا من له ستر عليَّ جميل

هل لي إليك إذا اعتذرت قبول

أيدتني ورحمتني وسترتني

كرماً فأنت لمن رجاك كفيل

وعصيت ثم رأيت عفوك واسعاً

وعليَّ سترك دائماً مسبول

فلك المحامد والممادح في الثناء

يا من هو المقصود والمسئول

وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن رجلين ممن يدخل النار يشتد صياحهما فيقول الله تعالى: أخرجوها ثم يقال: لأي شيء صياحكما؟ فيقولان: فعلنا كذلك لترحمنا، فيقول: إن رحمتي بكما أن تنطلقا فتلقيا أنفسكما في النار حيث كنتما، فينطلقان فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها عليه برداً وسلاماً، ويقوم الآخر فلا يلقي نفسه، فيقول له الرب تبارك وتعالى: ما منعك أن تلقي نفسك كما ألقي صاحبك نفسه، فيقول: يارب إن لأرجو أن لا تعيدني فيها بعد أن أخرجتني منها، فيقول الرب تبارك وتعالى: لك رجاؤك فيدخلان معاً الجنة برحمة الله» (2) .

وقال بكر بن سليم الصواف: دخلنا على مالك بن أنس رضي الله عنه في العشية التي قبض

(1) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس (4/415، رقم 7206) عن عمرو بن عبسة.

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (4/714، رقم 2599) عن أبي هريرة، قال الترمذي: إسناد هذا الحديث ضعيف.

ص: 21

فيها فقلنا له: يا عبد الله كيف تجدك؟ قال: لا أدري ما أقول لكم إلا أنكم ستعاينون من لطف الله ورحمته ما لم يكن لكم في حساب، فما برحنا من عنده حتى غمضناه.

وقيل: إن الله سبحانه وتعالى ألطف وأرحم ما يكون بعبده إذا وضع في لحده ووضع خشن التراب على لين جلده، وجفاه من كان يرغب في قبوله ووده، فإذا وضع الميت على المغتسل أولاً، ودرج في ثيابه، وآيس من أحبابه فينادي: واسوأتاه وافضيحتاه، ولا يسمع نداءه إلا مولاه، فيجيه الحق جل جلاله ويقول: أنا سترك في الدنيا وأنا أسترك في الآخرة.

وقال لله دره:

يا من له ستر الجميل على الورى

ويجود بالإفضال منه وبالقرى

ايدتني ورحمتني وسترتني

وهديتني لطفاً وكنت مقصرا

وارحم بعفوك زلتي يا سيدي

ومصون وجهي في التراب معفرا

وإذا خرج الميت من الدار على النعش فإنه يصيح: واغربتاه، فيقول الحق سبحانه وتعالى: عبدي إذا كنت اليوم غريباً فإني منك ما زلت قريباً، لا تخف فإني مقيل عثرتك، وراحم عبرتك، ومؤنس وحدتك.

وقال لله دره:

يا راحم الغرباء من جوده

قد عمني يا مؤنسي في وحدتي

أمسيت من أهلي غريباً مفرداً

ولأنت يا مولاي راحم غربتي

فإذا وضعوه في اللحد ووضعوا خشن التراب على لين جلده، ثم تركوه وانصرفوا ومضوا عنه فيصيح: يا وحدتاه، فيناديه الكريم الرؤوف الرحيم: عبدي هل تستوحش وأنا أنيسك، هل تشكو الوحدة وأنا جليسك، يا عبدي ألست بربك؟ فيقول: بلى يا ربي، فيقول: كيف تركت ما أمرتك به وتبعت ما نهيتك عنه، أما علمت أن مرجعك إليّ، وأعمالك معروضة علي وبين يدي، أنسيت عهدي أم أنكرت وعيدي ووعدي، فالآن تخلى عنك الصاحب والصديق، وتجردت عن المال الوثيق، فلا المال نفعك في مآلك، ولا الصديق خلصك من قبح أفعالك، فما حجتك ومعذرتك؟ فيقول: يارب احتوى على قلبي حب الدنيا وحب المال، فحملاني على الذنوب والأثقال وها أنا قد صرت في دوارك وأنا الليلة ضيفك، فلا تعذبني بنارك، وإن لم ترحمني أنت فمن يرحمني؟ فيقول الله تعالى: يا عبدي مضوا عنك وتركوك، ولو أقاموا عندك ما نفعوك، إلى بأبي وجهوك، وعلى كرمي خلفوك، يا عبدي طب نفساً وقر عيناً فأنت الليلة

ص: 22

ضيفي، والكريم لا يخيب ضيفه، يا ملائكتي أحسنوا في ضيافته وكونوا عليه أشفق من أهله وقرابته، ولله در القائل حيث قال:

إذا ما الموت في جسمي السقيم

سرى وأتى على عظمي الرميم

وبت مجاور الرب الكريم

فقولوا لي وافى نعيمي

لك البشرى قدمت على كريم

تولى العمر واقترب الرحيل

وزادي من التقى زاد قليل

وفي لحدي إذا حان النزول

فهنؤني أحبائي وقولوا

لك البشرى قدمت على كريم

وقيل: إن موسى عليه السلام قال في بعص مناجاته: يارب. فقال له: لبيك يا موسى. فقال موسى عليه السلام: يارب أنت أنت فمن أنا حتى تجبني بالتلبية؟ فقال: يا موسى إني آليت على نفسي أنه لا يدعوني عبد من عبادي بالربوبية إلا أجبته بالتلبية. فقال موسى: يارب هذا لكل عبد طائع؟ قال: ولكل عبد مذنب. قال: يارب أما الطائع فبطاعته فما بال المذنب؟ قال الله تعالى: يا موسى إني إذا جازيت المحسن بإحسانه، وضيعت المسيئ لإساءته فأين جودي وكرمي.

تعصي وتجهر بالعصيان إعلاناً

وأستر الذنب إنعاماً وإحسنانا

ولا أجازي مسيئاً في إساءته

ولا الذي في العصيان عدوانا

ومن أتى ببابنا بالذل منكسراً

نعطيه من فضلنا عفواً وغفرانا

ثم استدل البخاري رضي الله عنه على استعمال العمل بمعنى الإيمان لأجل الرد عل المرجئة بالآية الثانية فقال: «وقال عدة من أهل العلم في قوله تعالى: ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أجمعين * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [الحجر: 92، 93] عن قول لا إله إلا الله»

المعنى: وقال جماعة من أهل العلم من الصحابة التابعين وغيرهم منهم أنس وابن عمر ومجاهد أن المراد بقوله: ?يَعْمَلُونَ? في قوله تعالى: ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أجمعين * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ?: هو قول لا إله إلا الله، فأطلق العمل على قولهم وأريد به عمل الإنسان فقط، ومقتضى الآية على تفسيرهم: أن المكلفين لا يسألون يوم القيامة إلا عن قول لا إله إلا الله فقط.

فقد اعترضه النووي فقال: الظاهر أن المراد لنسألنهم عن أعمالهم كلها أي: الأعمال التي يتعلق بها التكليف، والتخصيص بقول لا إله إلا الله دعوي لا دليل لها.

ص: 23

وقد استشكل العلماء هذه الآية بقوله تعالى: ?فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ أنس وَلَا جَانٌّ? [الرحمن: 39] فإن هذه الآية تعارض الآية التي ذكرها البخاري، وبيانه: أن قوله تعالى ?فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أجمعين? [الحجر: 92] تدل على أن كل أحد يسأل يوم القيامة، وقوله تعالى ?فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ أنس وَلَا جَانٌّ? [الرحمن: 39] تدل على أنه لا يسأل أحد في القيامة، وقد جمع العلماء بين الآيتين من وجوه:

الأول: أن في القيامة مواقف مختلفة وأزمنه متطاولة، أعاننا الله الكريم على أهوالها ففي موقف أو زمان يسألون، وعليه يحمل قوله: ?فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ أنس وَلَا جَانٌّ? [الرحمن: 39] .

الثاني: المراد بقوله تعالى: ?فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنْبِهِ أنس وَلَا جَانٌّ? [الرحمن: 39] أنهم لا يسألون سؤال استخبار بل سؤال التوبيخ وتقريع.

الثالث: أن المراد لا يسأل عن ذنبه غيره من الإنس والجان كما لا يحمل ذنبه غيره كما قال تعالى: ?وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى? [الأنعام: 164] .

ثم استدل البخاري بالآية الثالثة فقال: «وقال الله عز وجل: ?لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ? [الصافات: 61] والمعنى: لمثل هذا الفوز العظيم فليؤمن الكافرون، فأطلق العمل وأراد به الإيمان.

* * *

ص: 24

قَالَ البُخَارِي:

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَمُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَا حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَىُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ فَقَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ «الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ» . قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا قَالَ: «حَجٌّ مَبْرُورٌ» (1) .

قوله: «حدثنا أحمد بن يونس وموسى بن إسماعيل، قال: أنبانا إبراهيم بن سعد قال: حدثنا ابن شهاب عن سعيد بن المسيب» هذا هو إمام التابعين سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي، من الفقهاء وأبيه وجده صحابيان.

والمسيب بفتح الياء على المشهور وقيل: بكسرها، وكان يكره فتح الياء ويحب أن يقال المسيب بكسر الياء، واجتمع بعمر وعثمان وعلي وسعد بن أبي وقاص وسمع منهم الأحاديث، وروى عنهم وعن أبي هريرة، وكان زوجاً لابنته وأعلم الناس بحديثه،

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها: قوله: «سئل» أبهم السائل وهو أبو ذر الغفاري.

قوله: «قيل ثم ماذا؟ قال: الجهاد» وقع في مسند الحارث أبي أسامة عن إبراهيم ابن سعد «ثم جهاد» فواخى بين الثلاثة في التنكير، بخلاف ما عند المصنف. وقال الكرماني: الإيمان لا يتكرر كالحج، والجهاد قد يتكرر، فالتنوين للإفراد الشخصي، والتعريف للكمال. إذ الجهاد لو أتى به مرة مع الاحتياج إلى التكرار لما كان أفضل. وتعقب عليه بأن التنكير من جملة وجوهه التعظيم، وهو يعطي الكمال. وبأن التعريف من جملة وجوهه العهد، وهو يعطي الإفراد الشخصي، فلا يسلم الفرق. قلت: وقد ظهر من رواية الحارث التي ذكرتها أن التنكير والتعريف فيه من تصرف الرواة، لأن مخرجه واحد، فالإطالة في طلب الفرق في مثل هذا غير طائلة، والله الموفق.

قوله: «حج مبرور» أي: مقبول ومنه بَرَّ حجك. وقيل: المبرور الذى لا يخالطه إثم. وقيل: الذى لا رياء فيه.

فائدة قال النووي: ذكر في هذا الحديث الجهاد بعد الإيمان، وفي حديث أبي ذر لم يذكر الحج وذكر العتق، وفي حديث ابن مسعود بدأ بالصلاة ثم البر ثم الجهاد، وفي الحديث المتقدم ذكر السلامة من اليد واللسان. قال العلماء: اختلاف الأجوبة في ذلك باختلاف الأحوال، واحتياج المخاطبين، وذكر ما لم يعلمه السائل والسامعون وترك ما علموه، ويمكن أن يقال: إن لفظة «من» مرادة كما يقال: فلان أعقل الناس، والمراد من أعقلهم، ومنه حديث:«خيركم خيركم لأهله» ومن المعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس.

فإن قيل: لم قدم الجهاد وليس بركن على الحج وهو ركن؟ فالجواب: إن نفع الحج قاصر غالباً، ونفع الجهاد متعد غالباً، أو كان ذلك حيث كان الجهاد فرض عين -ووقوعه فرض عين إذ ذاك متكرر- فكان أهم منه فقدم والله أعلم. انظر فتح الباري (1/78) .

ص: 25

وأخذ عن خلق من الصحابة وأخذ عنه خلق من التابعين وغيرهم، واتفق العلماء عل جلالته وأمانته، وهو أفضل التابعين كما قاله أحمد بن حنبل.

وأما ما ورد في صحيح مسلم من أن «خير التابعين رجل يقال له أويس» (1) فهو محمول على أنه أفضل في الزهد، وأما سعيد بن المسيب فإنه أفضل التابعين في العلم الشرعي قاله النووي (2) .

ومن فضائله رضي الله عنه أنه جاء رجل وهو مريض مضطجع على شقه فسأله عن حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس بمشقة وحدثه به، فقال الرجل: وددت أنك حدثتني عنه وأنت مضطجع حتى لا تجهد نفسك، فقال: كرهت أن أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مضطجع (3) .

ومن فضائله أيضاً: أنه صلى صلاة الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة (4) .

وقال مولاه: ما نودي للصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد (5) .

ومن كلامه رضي الله عنه: لا تمدوا أعينكم من أعوان الظلمة إلا بإنكار من قلوبكم لكيلا تحبط أعمالكم الصالحة (6) .

ومن كلامه أيضاً: ما أكرمت العباد نفسها بمثل طاعة الله، ولا أهانت نفسها بمثل معصية الله (7) .

ومنه أيضاً: كفى نصرة من الله إن يرى عدوه يعمل بمعصية الله (8) .

ومنه أيضاً: من استغنى بالله افتقر إليه الناس (9) .

ومنه أيضاً: إن الدنيا نذلة، فهي إلى كل نذل أميل، وأنذل منها من أخذها بغير

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (4/1968، رقم 2542) عن عمر.

(2)

انظر شرح النووي على صحيح مسلم (16/95) .

(3)

أورده أبو نعيم في الحلية (2/169) .

(4)

أورده أبو نعيم في الحلية (2/163) .

(5)

أورده أبو نعيم في الحلية (2/163) .

(6)

أورده أبو نعيم في الحلية (2/170) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء (4/232) .

(7)

أورده أبو نعيم في الحلية (2/164) .

(8)

أورده أبو نعيم في الحلية (2/164) .

(9)

أورده أبو نعيم في الحلية (2/173) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء (4/239) .

ص: 26

حقها، وطلبها بغير وجهها، ووضعها في غير سلبها (1) .

مات رضي الله عنه في خلافة الوليد بن عبد الملك بالمدينة سنة ثلاث وتسعين «سنة الفقهاء» لكثرة من مات فيها منهم.

«عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل قال: إيمان بالله ورسوله قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: جح مبرور» .

السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السؤال هو أبو ذر رضي الله عنه.

والجهاد هو: القتال مع الكفار لأجل إعلاء كلمة الله، وإنما كان أفضل بعد الإيمان بالله ورسوله من غيره لأنه بذل النفس في سبيل الله، قال بعضهم: والجود بالنفس أقصى غاية الجود.

قال الحليمي: لولا دفع الله المشركين بالمؤمنين وتسليط المؤمنين على دفعهم عن بيضة الإسلام، لقلب الشرك على الأرض وارتفعت الديانة، فثبت أن سبب بقاء الدين هو الجهاد.

وهو أفضل من العزلة والتفرغ للعبادة فقد أخرج ابن عساكر بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أخبركم بخير الناس منزلة رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، إلا أخبركم بخير الناس منزلة بعده رجل معتزل في غنم له يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعبد الله لا يشرك به شيئاً» (2) .

وكتب عبد الله بن المبارك إلى فضيل بن عياض وهو بمكة يحثه على الجهاد، وكان الفضيل قد اعتزل الناس ولازم العزلة والعبادة وترك الجهاد فقال:

يا عابد الحرمين لو أبصرتنا

لعلمت إنك في العبادة تلعب

من كان يخضب خده بدموعه

فنحورنا بدمائنا تخضب

أو كان يتعب خيله في باطل

فخيولنا يوم الصبحية تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا

رهج السنابك والغبار الأطيب

ولقد أتانا من مقال نبينا

قول صحيح صادق لا يكذب

لا يستوي وغبار خيل الله في

أنف امرء ودخان نار تلهب

(1) أورده أبو نعيم في الحلية (2/170) .

(2)

أخرجه أحمد في مسنده (2/523، رقم 10789) ، والحاكم في المستدرك (2/77، رقم 2379) وقال: صحيح على شرط الشيخين.

ص: 27

هذا كتاب الله ينطق بيننا

ليس الشهيد بميت لا يكذب

فلما سلمت إليه هذه الأبيات ذرفت عيناه ثم قال: صدق عبد الله ونصحني (1) .

وظاهر الحديث يقتضي أن الجهاد أفضل من الحج، وهو محمول على حج النافلة، وأما حجة الإسلام فإنها أفضل من الجهاد، هذا إذا كان الجهاد فرض كفاية، أما إذا كان فرض عين فإنه مقدم على حجة الإسلام قطعاً لوجوب فعله على الفور.

والحج هو قصد الكعبة لأجل النسك مع الوقوف بعرفة والحج المبرور قيل: هو المقبول، ومن علامة قبول حج الإنسان أنه إذا رجع يكون حاله خيراً من الحال الذي كان قبله، وقيل: هو الذي لا رياء فيه، وقيل: هو الذي لا يعقبه معصية، وقيل: هو الذي لا يرتكب فيه المعاصي، قال بعضهم:

فمن كان بالمال الحرام حجيجه

فعن حجة والله ما كان غناه

إذا هو لبى الله كان جوابه

من الله لا لبيك حجك رددناه

* * *

(1) أورده ابن عساكر في التاريح (32/449) .

ص: 28