المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس السادس والعشرون - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ٢

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس السادس والعشرون

‌المجلس السادس والعشرون

في الكلام على شيء من ترجمة أبي ذر وفي الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم له:

«إنك أمر فيك جاهلية»

قَالَ البُخَارِي:

باب الْمَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ

وَلَا يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلَاّ بِالشِّرْكِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنك امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» . وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ?إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ? [النساء: 48]

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ، عَنِ الْمَعْرُورِ، قَالَ لَقِيتُ أبا ذَرٍّ بِالرَّبَذَة ِ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ، وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلاً، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «يَا أبا ذَرٍّ أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ إنك امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، إخوانكم خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كان أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ» (1) .

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها:

قوله: «وعليه حلة وعلى غلامه حلة» هكذا رواه أكثر أصحاب شعبة عنه، لكن في رواية الإسماعيلي من طريق معاذ عن شعبة «أتيت أبا ذر، فإذا حلة عليه منها ثوب وعلى عبده منها ثوب» وهذا يوافق ما في اللغة أن الحلة ثوبان من جنس واحد، ويؤيده ما في رواية الأعمش عن المعرور عند المؤلف في الأدب بلفظ:«رأيت عليه بردا وعلى غلامه بردا فقلت: لو أخذت هذا فلبسته كانت حلة» وفى رواية مسلم «فقلنا: يا أبا ذر، لو جمعت بينهما كانت حلة» ولأبي داود «فقال القوم: يا أبا ذر، لو أخذت الذي على غلامك فجعلته مع الذي عليك لكانت حلة» فهذا موافق لقول أهل اللغة، لأنه ذكر أن الثوبين يصيران بالجمع بينهما حلة، ولو كان كما في الأصل على كل واحد منهما حلة لكان إذا جمعهما يصير عليه حلتان، ويمكن الجمع بين الروايتين بأنه كان عليه برد جيد تحته ثوب خلق من جنسه وعلى غلامه كذلك، وكأنه قيل له: لو أخذت البرد الجيد فأضفته إلى البرد الجيد الذي عليك وأعطيت الغلام البرد الخلق بدله لكانت حلة جيدة، فتلتئم بذلك الروايتان، ويحمل قوله في حديث الأعمش «لكانت حلة» أي: كاملة الجودة، فالتنكير فيه للتعظيم. والله أعلم.

وقد نقل بعض أهل اللغة أن الحلة لا تكون إلا ثوبين جديدين يحلهما من طيهما، فأفاد أصل تسمية لحلة. وغلام أبي ذر المذكور لم يسم، ويحتمل أن يكون أبا مراوح مولى أبي ذر، وحديثه عنه في الصحيحين. وذكر مسلم في الكنى أن اسمه سعد.

قوله: «فسألته» أي: عن السبب في إلباسه غلامه نظير لبسه، لأنه على خلاف المألوف، فأجابه بحكاية القصة التي كانت سبباً لذلك.

قوله: «ساببت» في رواية الإسماعيلي «شاتمت» وفي الأدب للمؤلف «كان بيني وبين رجل كلام» وزاد مسلم «من إخواني» وقيل: إن الرجل المذكور هو بلال المؤذن مولى أبي بكر، وروى ذلك الوليد بن مسلم منقطعاً.

ومعنى «ساببت» : وقع بينى وبينه سباب بالتخفيف، وهو من السب بالتشديد وأصله القطع. وقيل: مأخوذ من السبة وهي حلقة الدبر، سمي الفاحش من القول بالفاحش من الجسد، فعلى الأول المراد قطع المسبوب، وعلى الثاني المراد كشف عورته لأن من شأن الساب إبداء عورة المسبوب.

قوله: «فعيرته بأمه» أي: نسبته إلى العار، زاد في الأدب «وكانت أمه أعجمية فنلت منها» وفي رواية «قلت له: يا ابن السوداء» والأعجمي: من لا يفصح باللسان العربي سواء كان عربياً أو عجمياً، والفاء في «فعيرته» قيل: هي تفسيرية كأنه بين أن التعيير هو السب، والظاهر أنه وقع بينهما سباب وزاد عليه التعيير فتكون عاطفة، ويدل عليه رواية مسلم قال:«أعيرته بأمه؟ فقلت: من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال: إنك امرؤ فيك جاهلية» أي: خصلة من خصال الجاهلية. ويظهر لي أن ذلك كان من أبي ذر قبل أن يعرف تحريمه، فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده، فلهذا قال كما عند المؤلف في الأدب «قلت: على ساعتي هذه من كبر السن؟ قال: نعم» كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنه، فبين له كون هذه الخصلة مذمومة شرعا، وكان بعد ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره أخذاً بالأحوط، وإن كان لفظ الحديث يقتضي اشتراط المواساة لا المساواة.

وفي السياق دلالة على جواز تعدية «عيرته» بالباء، وقد أنكره ابن قتيبة وتبعه بعضهم، وأثبت آخرون أنها لغة. وقد جاء في سبب إلباس أبى ذر غلامه مثل لبسه أثر مرفوع أصرح من هذا وأخص، أخرجه الطبراني من طريق أبي غالب عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى أبا ذر عبداً فقال:«أطعمه مما تأكل، وألبسه مما تلبس» وكان لأبي ذر ثوب فشقه نصفين، فأعطى الغلام نصفه، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال: قلت يا رسول الله: «أطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون» قال: نعم. انظر فتح الباري (1/86 – 87) .

ص: 42

«أبو ذر» هذا هو الصحابي الكبير أبو ذر ويقال فيه: أبو الذر أيضاً، واسمه جندب بضم الجيم وضم الدال، «ويجوز» فتح الدال، «ابن جنادة» بضم الجيم وبالنون «ابن سفيان الغفاري» .

«وغفار» بكسر الغين المعجمة قبيلة من كنانة، أسلم قديماً كان رابع أربعة في الإسلام، وخامس خمسة، أسلم بمكة ثم رجع إلى بلاده بأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بها

ص: 43

حتى مضت غزوة بدر والخندق، قدم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه إلى أن توفى صلى الله عليه وسلم وكان رضي الله عنه في أيام الجاهلية يعبد صنماً وكان لا يفارقه في حضر ولا سفر، فخرج به يوماً إلى السفر فوضعه في مكان ووضع عنده حوائجه وأمتعته، وقال: أيها الصنم احفظ حوائجي حتى أعود، ثم ذهب لحاجة، فلما ذهب جاء الثعلب وبال عليه، فلما رجع أبو ذر وجده مبلولاً فقال: السماء لم تمطر فمن أين هذا البلل؟ ثم نظر في الأرض فوجد أثر الثعلب، فعلم أنه بول الثعلب فمقته ورمق بطرفه نحو السماء وأنشد يقول رضي الله عنه:

أرب يبول الثعلبان برأسه

لقد ذل من بالت عليه الثعالب

برئت من الأصنام في الأرض كلها

وآمنت بالله الذي هو غالب

وترك عبادة الأصنام وكان ذلك قبل بعثه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الجماعة الذين آمنوا قبل البعثة وتركوا عبادة الأصنام.

قال البغوي (1) في تفسيره: الذين آمنوا قبل البعثة حبيب النجار، وقس بن ساعدة، وزيد بن عمرو بن نفيل، وأبو ذر، وسلمان الفارسي ووفد النجاشي (2) .

وزاد ابن الجوزي في كتابة التلقيح جماعة أخرين آمنوا قبل البعثة.

وفي ذكر «حبيب النجار» مع الجماعة الذين آمنوا قبل البعثة إشارة إلى أنه كان عبداً صالحاً، ولم يكن نبياً.

وهذه المسألة وقع فيها خلاف فالذي ذهب إليه أكثر أهل التفسير كما قاله ابن الأثير في الكامل: أنه كان رجلاً صالحاً ولم يكن نبياً.

والذي ذهب إليه أكثر أهل السير: أنه كان نبياً. وقيل: كان نبياً مرسلاً إلى أصحاب الرس.

وأبو ذر زاهد هذه الأمة، شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بعيسى بن مريم، وأفاد بعضهم بأنه إنما كني بأبي ذر لأنه رضي الله عنه كان عنده خبز، فطلع عليه الذر فوزنه والذي عليه فلم يزد شيئاً فقال: انظروا إلى هذا الذر لم يظهر له أثر في ميزان الدنيا، ولم يرجح بسبه الميزان، وميزان الآخرة مع عظمه يطيش ويرجح بذرة واحدة فكني بأبي ذر.

و «الذر» هو النمل الأحمر الصغير واحده «ذرة» .

قال النووي: ويحل قتله دون النمل الأسود.

(1) هو: الحسين بن مسعود البغوي، أحد أئمة الحديث والتفسير، ومن كبار علماء الشافعية، ولد سنة: 436هـ من مؤلفاته: شرح السنة، ومعالم التنزيل في تفسير القرآن، وكانت وفاته سنة: 516هـ.

انظر: طبقات الشافعية (4/48) ، وتذكرة الحفاظ (4/52) ، وطبقات المفسرين للداودي (ص 58) ، والنجوم الزاهرة لابن تغري (5/124) .

(2)

انظر تفسير البغوي (1/79) .

ص: 44

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتا حديث وإحدى وثمانون حديثاً، ذكر البخاري منها أربعة عشر.

وكان مذهب أبي ذر: أنه يحرم على الإنسان ما زاد عن حاجته.

وصفته: أنه كان طوالاً أبيض الرأس واللحية، سيره عثمان إلى الربذة، وتوفي بها في سنة ثنتين وثلاثين وصلى عليه ابن مسعود، وعاد إلى المدينة فأقام عشرة أيام ثم توفى.

و «الربذة» موضع قريب من المدينة منزل من منازل العراق.

عن المعرور قال: «لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة وعلى غلامه حلة» .

و «الحلة» إزار ورداء ولا يسمى حلة حتى يكون ثوبين أي: على غلامه مثل ما عليه، واسم غلام أبي ذر:«أبو مرواح» كما قاله ابن حجر.

قال المعرور: «فسألته عن ذلك» عن سبب مساواته غلامه في اللبس، وقلت له: ما السبب في أن على غلامك حلة كما عليك حلة؟ وإنما سأله عن ذلك لأن عادة العرب وغيرهم أن يكون ثياب المملوك دون ثياب سيده، وقال أبو ذر للمعرور في جواب السؤال:«إني ساببت رجلاً» أي سببت عبداً «فعيرته بأمه فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر أعيرته بأمه» الاستفهام فيه للإنكار التوبيخي «إنك امرؤ فيك جاهلية» .

وأصل هذه القصة أن أبا ذر كان بينه وبين بلال بن حمامة (1) كلام وخصومة، وكانت أم بلال سوداء نوبية، فعير أبو ذر بلال بسواد أمه، وقال: يا ابن السوداء. فانطلق بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له ما وقع من أبي ذر فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: «شتمت بلال وعيرته بسواد أمه؟» قال: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك امرؤ فيك جاهلية» أي: إنك في تعيير أمه على خلق من أخلاق الجاهلية، ولست جاهلياً محضاً.

وروي أنه قال: «ما كنت أحسب أنه بقي في صدرك من كبر الجاهلية شيء» .

وروي أيضاً أنه قال له: «ارفع رأسك ما أنت أفضل ممن ترى من الأحمر والأسود إلا أن تفضل في دين» فألقى أبو ذر نفسه على الأرض، ثم وضع خده على التراب وقال:«والله لا أرفع خدي منها حتى يطأ بلال خدي بقدمه» فوطئ خده بقدمه منه.

قال ابن حجر: ويظهر لي أن ذلك وقع من أبي ذر قبل أن يعرف تحريم السب

(1) وهو بلال بن رباح سماه المصنف باسم أمه فإن أمه كان اسمها «حمامة» وهو مولى أبو بكر الصديق. انظر: صفة الصفوة (1/434) ، ومسائل الإمام أحمد (ص 91) .

ص: 45

فكانت تلك الخصلة من خصال الجاهلية باقية عنده فلهذا لما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنك امرؤ فيك جاهلية» على ساعتي هذه من كبر السن قال: «نعم» كأنه تعجب من خفاء ذلك عليه مع كبر سنه، فكان بعد ذلك يساوي غلامه في الملبوس وغيره أخذاً بالأحوط، وإن كان لفظ الحديث يقتضي المواساة لا المساواة.

ثم قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «إخوانكم خولكم» (1) قيل: هو من باب القلب المورث لملاحه الكلام الشاعر:

نُمَّ وإِنْ لَمْ أَنَمْ كَرَاي كَرَاكا

شاهدي الدمع إِنَّ ذاك كَذَاكا (2)

والأصل في حديث: «إخوانكم خولكم» أي: عبيدوكم وإماؤكم إخوانكم أي: في الإسلام، وإنما قيل لهم:«خول» لأنهم يتخولون الأمر أي: يصلحونها.

«جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتوهم فأعينوهم»

في الحديث دلالة على تحريم سب العبيد وتعييرهم بأبائهم، وفيه حث على الإحسان إليهم وإلى كل من يوافقهم في المعنى، ممن جعله الله تعالى تحت يد ابن آدم كالأجير والخادم، فلا يجوز لأحد أن يعير خادمه سواء أكان رقيقاً أو غيره ولا أجير بشيء من المكروه، يعرفه في أصوله وخاصة نفسه، إذ لا فضل لأحد على غيره إلا بالإسلام والتقى.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقى» (3)

وقال الله تعالى: ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? [الحجرات: 13] .

وهذه الآية نزلت في حق بلال فإنه يوم فتح مكة رقى على ظهر الكعبة وأذن فقال بعض أهل مكة هذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة، فأنزل الله الآية (4) .

(1) أخرجه البخاري (5/2248، رقم 5703) .

(2)

البيت للشيخ أبي علي، وهو من بحر الخفيف، قاله شيخ البلاغين عبد القاهر الجرجاني في دلائل الإعجاز (ص 281) وقال: ينبغي أن يكون «كراي» خبراً مقدماً، ويكون الأصل «كراك كراي» أي: نم وإن لم أنم فنومك نومي، كما تقول: قم وإن جلست فقيامك قيامي.

(3)

أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (4/289، رقم 5137) عن جابر.

(4)

أورده السيوطي في الدر المنثور (7/578) وقال: أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن ابن أبي مليكة.

ص: 46

وقد قدمنا في أول الكلام على صحيح البخاري أن السودان من أولاد حام بن نوح، وذكرنا أن سبب مجيئهم سودان مع أن أباهم حاماً كان أبيض هو: أن نوحاً أمر أن لا يقرب ذكر أنثى ما دام في السفينة، فواقع حام امرأته في السفينة، وخالف أباه فدعى الله نوح أن تُغير نطفته وغيرها الله تعالى، ورزقه ولداً أسود وجاءت جميع أولاده سودان.

في الحديث دلالة كما قاله النووي على أن الدوآب ينبغي أن يحسن إليها.

وفيه دلالة على تحريم ترفع الإنسان على المسلم، وإن كان عبداً.

وفيه دلالة على إطلاق الأخ على الرقيق.

وقد ذكر العلماء مسائل متعلقة بالرقيق، ومسائل متعلقة بالدآبة:

أما المتعلق بالرقيق، فمما قالوا: لا يجوز للسيد أن يكلف رقيقه من العمل إلا ما يطيق الدوام عليه، فلا يجوز أن يكلفه عملاً يقدر عليه يومين أو يوماً ثم يعجز عنه فإذا استعمله نهاراً أراحه ليلاً، وكذا بالعكس، ويريحه في الصيف في وقت القيلولة، ويستعمله في الشتاء بالنهار مع طرف الليل، ويتبع في جميع ذلك العادة الغالبة، ويجب على العبد بذل المجهود، وترك الكسل.

ومنها: أنه يجب على السيد نفقته وكسوته ولو كان صغيراً أو أعمى أو مرهوناً أو مستأجراً.

وفي الحديث: «كفى بالمرء إثماً أن يحبس عن من يملك قوته» (1) .

فإن كان العبد كسوباً فكسبه لسيده، فإن شاء أخذه وأنفق عليه من ماله، وإن شاء أنفق عليه من كسبه فإن لم يكف كسبه بالنفقة فالباقي على السيد، وإن زاد فالزيادة للسيد، ولا يجوز الاقتصار بالكسوة على ستر العورة، وإن كان لا يتأذى بحر ولا برد، ولو تنعم السيد في الطعام والكسوة استحب له أن يدفع للعبد مثله، كما كان أبو ذر بعد قصته مع بلال يساوي عبده في ذلك، ولا يجب عليه ذلك، وإذا كان للإنسان عبيد يستحب له أن يسوي بينهم في الطعام والكسوة، ويكره له أن يفضل النفيس على الخسيس، بخلاف ما إذا كان له جوار فيستحب له أن يفضل ذات الجمال والرفاهية على غيرها.

ومنها: إذا تولى رقيقه معالجة طعامه وحمله وجاء به إليه، فيبنغي له أن يجلسه على

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (2/692، رقم 996) عن عبد الله بن عمرو.

ص: 47

الطعام، فإن ذلك أقرب إلى التواضع ومكارم الأخلاق، وكان سيد الأولين والآخرين يأكل مع الخادم صلى الله عليه وسلم فإن لم يفعل السيد أو قال له السيد: اجلس معنا فامتنع فينبغي أن يدفع له لقمة أو لقمتين.

ومنها: أنه يجوز للسيد المخارجه على العبد وهو أن يضرب عليه خراجاً معلوماً يؤديه إليه كل يوم أو أسبوع من كسبه إذا رضي السيد والعبد بذلك.

ومنها: إذا امتنع السيد من الإنفاق على مملوكه باع الحاكم شيئاً من ماله وأنفق منه على العبد فإن لم يجد الحاكم له مالاً أمره بأن يبيعه أو يؤجره أو يعتقه، فإن لم يفعل ذلك باعه الحاكم أو أجره فإن لم يقبله أحد أنفق عليه من بيت المال، فإن لم يكن فيه مال فهو ومن محاويج المسلمين فعليهم القيام بكفايته.

وأما المتعلقة بالدآبة فمنها: أنهم قالوا إذا ملك دآبة فعليه علفها وسقيها، ويقوم مقام العلف والسقي تخليتها لترعى وترد الماء، إن كان ما ترعى وتكتفي به بخصب الأرض ونحوه، ولم يكن مانع ثلج وغيره.

ومنها: يحرم تكليف الدآبة من ثقيل الحمل وإدامة السير أو نحو ذلك فإذا كانت الدآبة لها طاقة وقدرة على أن تحمل خمسين رطل فحملها ستين مثلاً، أو على أن تمشي سبع فراسخ متوالية فإن ذلك حرام، لأنه تكليف نفس بما لا تطيقه.

لطيفة: قال أبو سليمان الخواص رضي الله عنه ركبت حماراً في بعض الأيام فجعل يطاطئ رأسه من الذباب فضربته على رأسه، فرفع رأسه وقال: هكذا تضرب على رأسك.

ومنها: لا يجوز حلب لبن الدآبة بحيث يضر ولدها وإنما يحلب ما فضل عن ري ولدها، والمراد بالري ما يقيمه حتى لا يموت، ويكره ترك الحلب إذا لم يكن فيه إضرار بها تضييع للمال، ويستحب أن يقص الحالب أظفاره لئلا يؤذيها.

ومنها: ينبغي أن يبقي للنحل شيئاً من العسل، فإن كان أخذه للعسل في الشتاء وزمن تعذر خروج النحل ترك لها أكثر، وإن قام شيء مقام العسل لغذائها لم يتعين إبقاء العسل.

ومنها: دود القز عيشه بورق التوت فعلى مالكه تحصيله له لئلا يهلك من غير فائدة، وهذا كله من باب الشفقة والرحمة على خلق الله، وقد جاءت أخبار كثيرة في هذا المعنى.

وروينا في سنن النسائي عن أم سلمة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في مرضه

ص: 48

الذي مات فيه: «الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم» (1) .

وروينا في الغريب للترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه نشر الله عليه كنفه وأدخله الجنة: رفق بالضعيف، وشفقة على الوالدين، والإحسان للمملوك» (2) .

وروينا في سنن النسائي عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهب علياً غلاماً فقال: «لا تضربه فإني نهيت عن ضرب المصلين، وقد رأيته يصلي» (3) .

وروينا في سنن أبي داود عن ابن عمر رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كم تعفو عن الخادم؟ فصمت ثم أعاد عليه الثانية والثالثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اعف عنه في كل يوم سبعين مرة» (4) .

وروينا في سنن أبي داود أيضاً عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لائمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون، واكسوه مما تلبسون، ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله» (5) .

وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قذف مملوكه وهو برئ جلد يوم القيامة، إلا أن يكون كما قاله» (6) .

(1) أخرجه النسائي في الكبرى (4/259، رقم 7100) . وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (6/290، رقم 26526) ، وابن ماجه في سننه (1/519، رقم 1625)، قال البوصيرى (2/56) : صحيح على شرط الشيخين. والطبراني في الكبير (23/306، رقم 90) ، وأبو يعلى في مسنده (12/365، رقم 6936) .

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (4/656، رقم 2494) وقال: حسن غريب.

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (5/258، رقم 22281) ، والطبراني في الكبير (8/275، رقم 8057)، قال الهيثمي (4/238) : مدار الحديث على أبي غالب وهو ثقة وقد ضعف.

(4)

أخرجه أبو داود (4/341، رقم 5164) . وأخرجه أيضاً: الترمذي في مسنده (4/336، رقم 1949) وقال: حسن غريب. والبيهقي في السنن الكبرى (8/10، رقم 15577) .

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (4/340، رقم 5157) . وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (5/168، رقم 21521) ، والبزار في سننه (9/357، رقم 3923) ، والبيهقي في سننه الكبرى (8/7، رقم 15556) .

(6)

أخرجه البخاري في صحيحه (6/2515، رقم 6466) ، ومسلم في صحيحه (3/1282، رقم 1660) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (4/341، رقم 5165) ، والترمذي في سننه (4/335، رقم 1947) وقال: حسن صحيح. جميعاً عن أبي هريرة.

ص: 49

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم» (1) .

وقال صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم الناس لا يرحمه الله» (2) .

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تنزع الرحمة إلا من قلب شقي» (3) .

قال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» (4) .

فندب صلى الله عليه وسلم إلى الرحمة والعطف على جميع الخلق من جميع الحيوانات، على اختلاف أنواعها في غير حديث، وأشرفها الآدمي، وإذا كان كافر فكن رحيماً لنفسك ولغيرك، ولا تستبد بخيرك، فارحم الجاهل بعلمك، والذليل بجاهك، والفقير بمالك، والكبير والصغير بشفقتك ورأفتك، والعصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك، فأقرب الناس من رحمة الله أرحمهم بخلقه، فمن كثرت منه الشفقة على خلقه والرحمة على عباده رحمه الله برحمته، وأدخله دار كرامته، ووقاه عذاب قبره، وهول موقفه،

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (5/2239، رقم 5667) ، ومسلم في صحيحه (4/1809، رقم 2319) ، وأحمد في صحيحه (4/366، رقم 19282) ، والطبراني في صحيحه (2/333، رقم 2388) عن جرير.

وأخرجه البخاري في صحيحه (5/2235، رقم 5651) ، ومسلم في صحيحه (4/1808 رقم 2318) ، وأبو داود في سننه (4/355، رقم 5218) ، وأحمد في مسنده (2/228، رقم 7121) ، وابن حبان في صحيحه (15/431، رقم 6975) عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6/2686، رقم 6941) ، ومسلم في صحيحه (4/1809، رقم 2319) ، والترمذي في سننه (4/323، رقم 1922) وقال: حسن صحيح. جميعاً عن جرير.

وأخرجه الترمذي في سننه (4/591، رقم 2381) وقال: حسن صحيح. وأحمد في مسنده (3/40، رقم 11380) عن أبي سعيد.

(3)

أخرجه أبو داود في سننه (4/286، رقم 4942) ، والترمذي في سننه (4/323، رقم 1923) وقال: حسن. وابن حبان في صحيحه (2/213، رقم 466) ، والحاكم في المستدرك (4/277، رقم 7632) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي في السنن الكبرى (8/161، رقم 16420) عن أبي هريرة.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه (4/285، رقم 4941) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/41، رقم 17683) ، والترمذي في سننه (4/323، رقم 1924) قال: حسن صحيح. والحاكم (4/175، رقم 7274) ، وأحمد في مسنده (2/160، رقم 6494) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/476، رقم 11048) عن ابن عمرو.

ص: 50

وأظله بظله إذ كل ذلك من رحمته، وقد أنشد كثير من العلماء في حديث:«الراحمون يرحمهم الله عز وجل إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» أبياتاً فمن أنشد فيه أبو القاسم بن عساكر فقال:

بادر إلى الخير يا ذا اللب مغتنماً

ولا تكن من قليل العرف محتشما

واشكر لمولاك ما أولاك من نعم

فالشكر يستوحب الإفضال والكرما

وارحم بقلبك خلق الله وأرعهم

فإنما يرحم الرحمن من رحما

ومما أنشد في ذلك الشهاب الحجازي حيث قال:

إن كنت لا ترحم المسكين إن عدما

ولا الفقير إذا يشكو لك العدما

فكيف ترجو من الرحمن رحمته

وإنما يرحم الرحمن من رحما

وأنشد فيه بعضهم فقال:

الراحمون لمن في الأرض يرحمهم

من في السماء فباعد عنك وسواسا

وقل أعوذ برب الناس منك إذ

لا يرحم الله من لا يرحم الناسا

فائدة: قال العلماء إذ ملك الإنسان جارية وولدها، فإن كان الولد غير مميز فإنه يحرم عليه أنه يفرق بينهما ببيع أو هبة أو قسمه، فإذا باع الأم وحدها ترك عنده الولد، أو باع الولد وحده وترك عنده الأم إثم بذلك وبطل البيع بالإجماع.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» (1) حسنة الترمذي، وصححه الحاكم.

أما إذا كان الولد مميزاً فيجوز التفرقة بينه وبين أمه بالبيع وغيره، لاستغناء المميز عن الحضانة والتعهد أشبه البالغ.

وحكم المجنون كحكم غير المميز عن الحضانة والتعهد، وكذا يحرم التفريق بين الولد وجدته عند فقد أمه، وبين الولد وأبيه عند عدم أمه، أما إذا كانت الأم موجودة فباعها سيدها مع ولدها وترك الأب عنده جاز، وباع الأب وترك الجارية مع ولدها

(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/134، رقم 1566) وقال: حسن غريب. والحاكم في المستدرك (2/63، رقم 2334) وقال: صحيح علي شرط مسلم. وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (5/412، رقم 23546) ، والدارمي في سننه (2/299، رقم 2479) ، والدارقطني في سننه (3/67) ، والطبراني في الكبير (4/182، رقم 4080) ، والبيهقي في السنن الكبرى (9/126، رقم 18089) عن أبي أيوب.

ص: 51

جاز، ولا يجوز أن يباع الولد مع أبيه وتترك الأم لأن الشفقة للأم أشد، فالحكم للأم دون غيرها، فلو تصرف في أحدهما ببيع وهبة وقسمه بأن أعتق الأم دون الولد والولد دون الأم جاز ذلك، لعدم التفرق المزيل للمالك.

قيل: إن يعقوب إنما فرق بينه وبين ولده يوسف مدة لأنه فرق بين جارية وولدها فقد ذكر الثعلبي رضي الله عنه أن يعقوب رأى ملك الموت قد زاره فقال له: السلام عليك أيها الكظيم، فاقشعر جسده وارتعدت فرائصه، فرد عليه السلام، ثم قال له: من أنت ومن أدخلك هذا البيت وقد أغلقت على نفسي بابه، كيلا يدخل عليَّ أحد لأشكو بثي وحزني إلى الله، فقال له: يا نبي الله أنا الذي أيتم الأولاد، وأرمل الأزواج، قال: فأنت ملك الموت إذن، قال: نعم، قال له: يا ملك الموت أنشدك الله هل تقبض روح من تأكله السباع؟ قال: نعم، قال: فأخبرني عن الأرواح تقبضها مجموعة أو متفرقة؟ قال: أقبضها متفرقة روحاً روحاً، قال: فهل مر بك روح يوسف في الأرواح؟ قال: لا، قال: فجئتني زائراً أو داعياً؟ قال: يا نبي الله ما جئتك إلا مسلماً والله تعالى لا يميتك حتى يجمع بينك وبين يوسف، ولو كان في الصخرة التي عليها قرار الأرض، وما أذن الله في زياريك إلا لأبشرك وأجيبك عما تسألني، وإن شئت أعلمتك لما ابتليت بفقد ولدك، قال: فأعلمني، قال: يا إسرائيل هل تذكر الجارية الذي اشتريتها عام كذا في شهر كذا وفرقت بينها وبين أبويها؟ قال: نعم يا ملك الموت كان بالأمس، فقال له ملك الموت: فلذلك ابتليت بفقد الولد، وهل تعلم لما ابتليت بذهاب البصر؟ قال: لا، قال: أمرت يوماً بجذعة فذبحتها وشويتها في يوم كذا في شهر كذا، فمر تميم العابد العبد الصالح بك وهو صائم، ما أفطر منذ أسبوع فاشتم قثار الشواء فلم تطعمه، قال: فدعا عند ذلك يعقوب من كان بحضرته من العبيد والإماء فاعتقهم جميعاً، وأمر أن يذبح من أغنامه كل يوم كبشان ويفرق لحمها على الفقراء والمساكين فقبل الله ذلك منه وشكره وآتاه بالفرج (1) .

فائدة أخرى: يجوز التفريق بين البهيمة وولدها إذا استغنى الولد عن لبن الأم، أما إذا لم يستغن فإن فرق بالذبح بأن ذبح الولد وترك الأم جاز، وإن ذبح الأم وترك الولد لا يجوز كما قاله السبكي، وإن فرق ببيع ونحوه فإنه لا يجوز لعدم استغناء الولد عن لبن الأم.

* * *

(1) ذكره الثعلبي في كتابه قصص الأنبياء المسمى بالعرائس (ص: 80) من قول وهب بن منبه، وأمثال هذه الأخبار فيها من الغرابة ما لا نسلم به فالمقام مقام أنبياء والله أعلم.

ص: 52