المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس الثاني والثلاثون - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ٢

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس الثاني والثلاثون

‌المجلس الثاني والثلاثون

في ذكر اخنلاف العلماء في حياة الخضر، وفي ذكر فضائله

وفي ذكر سبب حياته، وفي ذكر حياة بعض الأنبياء غيره

باب ما ذكره في ذهاب موسى في البحر إلى الخضر وقوله تعالى ?هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً? [الكهف: 66]

قال العلماء: الخضر بفتح الخاء وكسر الضاد ويجوز إسكان الضاد مع كسر الخاء وفتحها.

وسبب تلقيبه بالخضر: أن جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهز من خلفه خضراء (1) والفروة: وجه الأرض. وقيل: إنبات المجتمع اليابس.

وقيل: سبب تلقيبه بذلك أنه كان إذا صلى اخضر ما حوله.

وكنيته: أبو العباس واسمه بنيا بن ملكان، وهذا هو المشهور.

وقيل: كان اسمه إلياس، وقيل: اليسع، وسمي بذلك لأن علمه وسع ست سماوات وست أرضين، ووهاه ابن الجوزي، وقيل: عامر، وقيل: أحمد، ووهاه ابن دحية بأنه لم يسم قبل نبينا صلى الله عليه وسلم أحد أحمد، وقيل غير ذلك.

واختلفوا فيه هل كان نبيناً أو ولياً أم من الملائكة؟

(1) ورد في هذا المعنى حديث أخرجه البخاري في صحيحه (3/1248، رقم 3221) ، واللفظ له، والترمذي في سننه (5/313، رقم 3151) وقال: حسن صحيح. وأحمد (2/312، رقم 8098) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما سمي الخضر أنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء» .

وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (12/209، رقم 12914) عن ابن عباس.

ص: 126

فقيل: كان ولياً وعليه القشيري وكثير من العلماء.

وقيل: كان من الملائكة، قال المارودي: وهذا القول باطل.

وقيل: كان نبياً، قال البرماوي: وجزم به جمع واستدلوا على نبوته بقوله تعالى: ?وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي? [الكهف: 82] أي بل بوحي من الله، والوحي لا يكون إلا للأنبياء، وبأنه أعلم من موسى صلى الله عليه وسلم ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي، فلذا ينبغي أن يعتقد كونه نبياً، لئلا يتذرع بذلك أهل الباطن في دعواهم أن الولي أفضل من النبي مع أنه لا يصل إلى درجة النبي فضلاً عن أن يكون أفضل منه حاشا وكلا.

والقائلون بنبوته اختلفوا هل هو نبي مرسل أم لا على قولين، واختلفوا أيضاً في ابن من هو؟

فقيل: هو ابن آدم لصلبه رواه الضحاك عن ابن عباس.

وقيل: إنه الرابع من أولاد آدم.

وقيل: إنه من ولد عيص.

وقيل: إنه ابن فرعون موسى، وهذا القول بعيد. وقيل غير ذلك.

قال الكرماني: وذكر الثعلبي ثلاثة أقوال في أن الخضر كان في زمن إبراهيم الخليل أم بعده بقليل أم بكثير.

وقال في الكشاف: إنه كان في أيام افريدون قبل موسى، وبقي إلى أيام موسى (1) .

واختلف العلماء فيه أيضاً هل هو حي أم ميت؟

والذي ذهب إليه الشيخ ابن الصلاح وجمهور العلماء والصالحين إلى أنه حي.

وقال الثعلبي: الخضر نبي معمر على جميع الأقوال، محجوب عن الأبصار يعني عن أبصار أكثر الناس.

وقيل: إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن.

وقال النووي والأكثرون من العلماء: إنه موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح، وحكايتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه ووجوده في المواضع الشريفة أكثر من أن تحصر، وأشهر من أن تشهر (2) .

فائدة: ذكر البغوي في تفسيره أن أربعة من الأنبياء أحياء، اثنان في الأرض وهما

(1) انظر: الكشاف لزمخشري (3/596) .

(2)

انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (15/135) .

ص: 127

الخضر وإلياس، واثنان في السماء وهما إدريس وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (1) .

أما سبب حياة الخضر عليه السلام فهو أنه شرب من عين الحياة، وسبب شربه منها أن ذا القرنين كان عبداً صالحاً ملك ما بين المشرق والمغرب، وكان له خليل من الملائكة اسمه «رِيَافِيل» يأتي ذا القرنين ويزوره، فبينما هما يوماً يتحدثان قال ذو القرنين: يا ريافيل أخبرني كيف عبادتكم في السماء؟ فبكى وقال: يا ذا القرنين وما عبادتكم في الأرض عند عبادتنا في السماوات، من الملائكة من هو قائم أبداً، ومنهم الساجد لا يرفع رأسه أبداً، ومنهم الراكع لا يستوي قائما أبداً، ومنهم الواضع وجهه لا يجلس أبداً، ومنهم من يقولون: سبحان الملك القدوس رب الملائكة والروح، ربنا ما عبدناك حق عبادتك، فقال ريافيل: أو تحب ذلك؟ قال: نعم، قال: فإن لله عينا في الأرض تسمى عين الحياة، فمن شرب منها شربة لن يموت حتى يكون هو الذي يسأل الموت، فقال: يا ريافيل هل تعلمون بمحل تلك العين؟ فقال: لا غير أننا نتحدث في السماء أن لله ظلمة لم يطأها أنس ولا جن، فنحن نظن أن تلك العين في الظلمة، فجمع ذو القرنين الحكماء والعلماء وسألهم عنها، وفي أي جهة هي، فقال له عالم كبير: إنها عند قرن الشمس فسار ذو القرنين يطلب مطلع الشمس إلى أن بلغ طرف الظلمة ثنتي عشر سنة، فإذا هي ظلمة ليست بليل، تثور مثل الدخان، فسلك ذو القرنين الظلمة ومعه الخضر وكان وزيره وابن خالته، وأخفى ذو القرنين عليه أمره، فوقع الخضر بالعين في واد فإذا ماء أشد بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل الشهد، فشرب وتوضأ اغتسل ولبس ثيابه، وصلى شكر الله تعالى عز وجل، وأخفى ذلك على ذى القرنين، وجاوزها ذو القرنين واستمر ذو القرنين أربعين يوماً وليلة، حتى جاوزها إلى ضوء ليس بضوء شمس ولا قمر، وأرض حمراء ورمل، ثم رجع ولم يقع بها.

وأما سبب حياة إلياس عليه السلام فما روي أنه كان قد بعث إلى بني إسرائيل فرأى منهم أذىً شديد، وإنهم لا يزدادون إلا طغياناً، فسأل ربه أن يريحه منهم، فقيل له فيما يزعمون: انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى موضع كذا وكذا، فما جاءك من شيء فأركبه ولا تهابه، فخرج إلياس ومعه اليسع حتى إذا كان بالموضع الذي أمر أقبل فرس من نار، وقيل: لونه كلون النار حتى وقف بين يديه فركب عليه، فانطلق به الفرس، فناداه اليسع: يا إلياس فما تأمرني، فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى وكان ذلك

(1) انظر: تفسير البغوي (3/200) .

ص: 128

علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، فكان ذلك آخر العهد به ورفع الله إلياس من بين أظهرهم، وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان ملكاً ارضياً سماوياً.

وأما سبب حياة عيسى ورفعه إلى السماء فهو ما نقل عن كعب الأحبار: أن رجلاً يهودياً منافقاً يحب عيسى في الظاهر ولا يؤمن به، وكان اليهود قد وكلوه في قتله غيلة، وكان إذا رأى منه المعجزات يقول في الباطن كل هذا سحر، وكان عيسى بن مريم يعلم منه النفاق، فلما أتى عيسى بيت المقدس واليهودي معه طلع اليهودي إلى اليهود، وقال: أدركوا عيسى بن مريم فهو في المكان الفلاني فاقتلوه، فحول الله تعالى صورة اليهودي على صورة عيسى، فلزمه اليهود وقالوا له: أنت عيسى وأخذوه وصلبوه، وهو يستغيث ويقول: أنا فلان ابن فلان أنا عدو عيسى الذي دللتكم عليه، فقالوا: تكذب، ورفع الله عيسى إلى السماء كما أشار الله إلى ذلك بقوله: ?وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً? [النساء: 157، 158] فهو حي في السماء.

وقال بعض العلماء: إن عيسى لما كان في المكتب كان يقرأ لهم التوراة، ويخبر الصبيان بما في بيوتهم، وما خبأت لهم أمهاتهم، فيجيء الصبي إلى أمه فيخبرها بما أكلت، فتقول: من أعلمك بذلك؟ فيقول: عيسى، فقال الناس: هذا سحر نمنع أولادنا من المكتب وألا نسلك هذا المذهب، وكان عيسى يجيء إلى البيوت ويدعو الصبيان إلى المكتب والصبيان يختفون منه، فتقول الأمهات: ليس فلان في الدار، فيقول عيسى: بلى قد اختفى في التنور أو في المخدع أو في المسطح فيكون كما قال، وإذا قال للمرأة: ابنك في التنور فتقول: ما في التنور إلا خنزيراً فيقول عيسى: اللهم اجعله كذلك فتلحق ولدها فتجده كذلك خنزيراً، فصار في بيوتهم خمسمائه خنزير بدعائه عليهم، فعظم ذلك على بني إسرائيل وطلبوه ليقتلوه، فلما بلغ ثلاثاً وثلاثين سنة كثرت أعداؤه، واشتد طلب اليهود له، ونادوه يا ساحر يا ابن الساحرة، قال:«إلهي إنك خلقتني، وإلى هؤلاء بعثتني، وبدعائهم إليك أمرتني، وأمي تلك الصالحة وقد قالوا في حقنا ما قالوا، فامسخهم خنازير» فمسخهم الله خنازير فعاشوا ثلاثة أيام وماتوا، فقصدت طائفة اليهود إلى ملك بني إسرائيل وقالوا: إن لم تقتل هذا وإلا فعل بنا كما فعل بغيرنا، فأرسل إليه رجلاً من المتمردين يقال له «مطيانوس» فقال أنا أقتله، فرفع الله عيسى.

ص: 129

قيل: إن جبريل شق له السقف فرفعه إلى السماء، وألقى شبهه على مطيانوس فقتلوه وصلبوه، فما وصل مطيانوس إلى الخشبة إلا وعيسى قد وصل إلى السماء الرابعة، وكان شبه عيسى على وجهه فقالت اليهود: هذا وجه عيسى والبدن بدن مطيانوس فأين رأسه، وهذا رأس عيسى فأين بدنه.

وقيل: إن قوماً من اليهود قالوا: إنا رأينا عيسى مرتفعاً إلى السماء، وما صلبنا إلا صاحبنا، فقتلهم اليهود لما قالوا هذا القول.

فائدة أخرى: قال العلامي في تفسيره في سورة مريم قال قتادة: لما رفع عيسى عليه الصلاة والسلام إلى السماء اجتمع أربعة من فقهاء قومه فقالوا للأول ما تقول في عيسى؟ قال: هو الله أهبط إلى الأرض فخلق ما خلق ثم ارتفع إلى السماء، فتبعه قوم وكذبه الثلاثة، ثم قالوا للثاني: ما تقول في عيسى؟ قال: هو ابن الله فتبعه قوم وكذبه الآخران، ثم قالوا للثالث: ما تقول في عيسى؟ قال هو إله وأمه إله والله إله فتبعه قوم وكذبه الرابع وقال: بل هو عبد الله ورسوله، فاختصم القوم فقال: أتعلمون أن عيسى يأكل ويشرب؟ قالوا: نعم، قال: أتعلمون أن الله لا يأكل ولا يشرب؟ قالوا: نعم، قال: أتعلمون أن عيسى ينام؟ فقالوا: نعم، أتعلمون أن الله لا ينام؟ قالوا: نعم فغلبهم الرابع رضي الله عنه.

وها هنا سؤال وهو: أن يقال إن قوله تعالى: ?إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ? [آل عمران: 55] يدل على أنه رفع إلى السماء بعد موته، أجاب العلماء عنه بأجوبة:

الأول: أن الواو لا تفيد الترتيب، فكأنه سبحانه وتعالى قال: إني رافعك إلي ومتوفيك عند انقضاء أجلك، فإن اليهود لما هددوه بالقتل بشره الله بأني عاصمك من أن يقتلك الكفار، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك، وقابضك بالوفاة لا بالقتل بأيدي اليهود.

الثاني: إن معنى «متوفيك» أني متوفي نفسك بالنوم كقوله تعالى: ?اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا? [الزمر: 42] ورافعك إلى السماء وأنت نائم، حتى لا يلحقك خوف بل تستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب.

سؤال: فإن قيل: كم كان عمر عيسى لما رفع إلى السماء؟

جوابه: أنه رفع وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة.

سؤال آخر: فإن قيل متى أعطاه الله النبوة؟

ص: 130

فالجواب: قال ابن عباس: أرسله الله ابن ثلاثين أي: وستة أشهر فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ثم رفعه الله.

وأما سبب حياة إدريس ورفعه إلى السماء فهو ما نقل عن وهب بن منبه أنه قال: كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه، فتعجب منه الملائكة، فاشتاق إليه ملك الموت فاستأذن ربه في زيارته فأذن له، فأتاه في صورة بني آدم فقال له: من أنت؟ فقال: أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك، قال: فلي إليك حاجة، قال: ما هي؟ قال: تقبض روحي، فأوحى الله إليه أن اقبض روحه، فقبض روحه ورددها الله إليه بعد ساعة، ثم قال له: لي إليك حاجة أخرى قال: وما هي؟ قال: ترفعني إلى السماء لأنظر إليها، وإلى الجنة والنار، فأذن له في رفعه، فلما قرب من النار قال: حاجة أخرى تسأل مالك حتى يفتح لي أبوابها فأوردها ففعل، ثم قال: وكما أريتني النار فأريني الجنة، فذهب به إلى الجنة واستفتح ففتحت أبوابها فدخلها، ثم قال له ملك الموت: أخرج لتعود فتعلق بشجرة وقال: لا أخرج منها فبعث الله إليه ملكاً حكماً بينهما، فقال له الملك: مالك لا تخرج؟ قال: لأن الله تعالى يقول: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ? [آل عمران: 185] وقد ذقته، وقال: ?وَإِن مِّنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا? [مريم: 71] وقد وردتها، وقال: ?وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ? [الحجر: 48] فلست أخرج، فأوحى الله إلى ملك الموت: بأذني دخل وبأمري يخرج، فهو حي هناك (1) .

لطيفة أخرى: قيل يلتقي الخضر وإلياس كل سنة ببيت المقدس، ويصومان شهر رمضان، وقيل: يجتمعان على جبل عرفات.

قال العلامي في تفسيره: إن الخضر وإلياس باقيان إلى يوم القيامة، فالخضر يدور في البحار يهدي من ضل فيها، وإلياس يدور الجبال يهدي من ضل فيها، وهذا دأبهما في النهار، وفي الليل يجتمعان عند سد يأجوج ومأجوج يحفظانه (2) .

(1) انظر: تفسير البغوي (3/200) .

(2)

ورد بهذا المعنى حديث عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الخضر في البحر واليسع في البر يجتمعان كل ليلة عند الردم الذي بناه ذو القرنين بين الناس وبين يأجوج ومأجوج ويحجان ويعتمران كل عام ويشربان من زمزم شربة تكفيهما إلى قابل» أخرجه الحارث كما في بغية الباحث (2/866، رقم 926) ، والديلمي في الفردوس (2/202، رقم 3000)، وذكره الحافظ في الإصابة (2/293) وقال: فيه عبد الرحيم، وأبان متروكان.

ص: 131

وعن ابن عباس قال الراوي: لا أعلمه إلا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلتقي الخضر وإلياس كل عام في الموسم، فيحلق كل منهما رأس صاحبه، ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات: بسم الله ما شاء الله، ما كان من نعمة فمن الله، ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله» قال ابن عباس في الكلمات التي يقولهن الخضر وإلياس عليهما السلام: «من قالهن حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات أمنه الله من الغرق والحرق والسرق» قال الراوي: وأحسبه قال: «ومن الشيطان والسلطان والحية والعقرب» (1) .

لطيفة أخرى: ذكر شيخ الإسلام ابن حجر في كتاب الإصابه في معرفة الصحابة قال: بينما الحسن جالس والناس حوله إذ أقبل رجل مخضرة عيناه فقال له الحسن: هكذا ولدتك أمك أم هي عرض؟ قال: أو ما تعرفني يا أبا سعيد؟ قال: من أنت؟ فانتسب له فلم يبق في المجلس أحد إلا عرفه، فقال له: ما قصتك؟ قال: عمدت إلى جميع مالي فألقيته في مركب، فخرجت أريد اليمن، فعصفت علينا ريح فغرقت السفينة، فخرجت إلى بعض السواحل على لوح، فعمدت أتردد نحو من أربعة أشهر آكل ما أصيب من الشجر والشعب، وأشرب من ماء العيون، ثم قلت: لأمضين على وجهي فإما أن أهلك وإما أن أنجو، فسرت فرفع لي قصر كأن بناؤه فضة فدفعت مصراعه فإذا داخله أروقة، وفي كل طاق منها صندوق من لؤلؤ، وعليها أقفال مفاتحيها رأي العين، ففتحت بعضها فخرج من جوفه رائحة طيبة، فإذا فيه رجال مدرجون في أثواب الحرير، فحركت بعضهم فإذا هو ميت في صفة حي فأطبقت الصندوق، وخرجت وغلقت باب القصر، ومضيت فإذا أنا بفارسين لم أر مثلهما جمالاً على فرسين أغرين محجلين، فسألاني عن قصتي فأخبرتهما فقالا: تقدم أمامك فإنك تصير إلى شجرة تحتها روضة، هناك شيخ حسن الهيئة يصلي فأخبره خبرك، فإنه سيرشدك إلى الطريق، فمضيت فإذا أنا بشيخ فسلمت عليه فرد علي السلام، وسألني عن قصتي فأخبرته بخبري كله، ففزع لما أخبرته بخبر القصر قلت: أطبقت الصناديق وأغلقت الأبواب، فسكت وقال لي: اجلس فمرت به سحابة فقالت: السلام عليك يا ولي الله فقال: أين تريدين؟ قالت: كذا وكذا فلم يزل تمر به سحابة بعد سحابة حتى

(1) أخرجه العقيلي في الضعفاء (1/224، ترجمة 273 الحسن بن رزين) وقال: مجهول. وابن عدي في الكامل (2/328، ترجمة 462 الحسن بن رزين) وقال: وهذا الحديث بهذا الإسناد منكر. وابن عساكر في تاريخ دمشق (9/211) ، والديلمي في الفردوس (5/504، رقم 8895) .

ص: 132

أقبلت سحابة فقال: أين تريدين فقالت: البصرة، قال: إنزلي فنزلت فصارت بين يديه، فقال: إحملي هذا حتى تؤديه إلى منزله سالماً، فلما صرت على متن السحابة قلت: اسألك بالذي أكرمك هذه الكرامة ألا ما أخبرتني عن القصر وعن الفارسين وعنك، قال: أما القصر فقد كرم الله به شهداء البحر، ووكل بهم ملائكة يلقطونهم من البحر فيصيرونهم في تلك

الصناديق مدرجين في أكفان الحرير، والفارسان ملكان يغدوان ويروحان عليهم بالسلام من الله، وأما أنا فالخضر، وقد سئلت ربي أن يحشرني مع أمة نبيكم، قال الرجل: فلما صرت من السحابة أصابني من الفزع هول عظيم حتى صرت إلى ما ترى (1) .

ومن فضائل الخضر: ما رواه أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أحدثكم عن الخضر؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «بينما الخضر يمشي في سوق من أسواق بني إسرائيل إذ لقيه رجل فقير، فقال له الرجل: تتصدق علي بارك الله فيك، فإني أرى الخير في وجهك، ورجوت الخير من قبلك، فقال له الخضر: آمنت بالله، ما يقضي الله من أمر سيكون، ما معي شيء أعطيكه، قال له السائل: أسألك بوجه الله لما تصدقت علي، قال الخضر: آمنت بالله، ما يقضي الله من أمر سيكون، ما معي شيء أعطيكه إلا أن تأخذ بيدي وتدخلني السوق فتبيعني، فقال له الرجل: وهل يكون مثل هذا؟ قال: الحق أقول إنك سألتني بعظيم، سألتني بوجه ربي، وقد أجبتك فخذ بيدي فأدخلني السوق فبعني، فأدخله السوق فباعه بأربعمائه درهم، فلبث الخضر عند المبتاع أياماً لا يستعمله في شيء، فقال له الخضر: استعملني، فقال له: إنك شيخ كبير وأكره أن أشق عليك، قال: لا يشق علي ذلك، قال: نعم فانقل هذه الحجارة من ها هنا إلى هنا، وكانت لا ينقلها إلا ستة نفر في يوم تام، فقام ونقلها في ساعة واحدة، وأيده الله تعالى بملك من الملائكة على نقلها، فتعجب الرجل منه وقال: أحسنت، ثم عرض للرجل سفر فقال للخضر: إني أراك أميناً ناصحاً فاخلفني في أهلي، قال: نعم إن شاء الله تعالى، فاستعملني في شيء قال: أكره أن أشق عليك قال: لا يشق علي ذلك، قال: اضرب لبنا أريده لقصر لي ووصفه له، ثم خرج لسفره فلما قضى حاجته ورجع من سفره إذا هو بالخضر قد شيد بنيانه على ما أراد، فازداد منه تعجباً وقال له: من أنت؟ قال: أنا المملوك

(1) انظر: الإصابة (2/323: 325) .

ص: 133

الذي اشتريتني، قال: سألتك بوجه الله أن تخبرني من أنت؟ قال الخضر: إن هذا القسم أوقعني في العبودية، أما أني سأخبرك أنا الخضر، سألني سائل بوجه الله أن أعطيه فلم يكن معي شيء أعطيه، وأمكنته من نفسي حتى باعني، وبلغني أن من سأل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر على حاجته، وقف يوم القيامة بين يدي ربه وليس على وجهه لحم ولا جلد ولا عظم يتقعقع، قال: فكب الرجل عليه يقبله ويقول له: بأبي أنت وامي شققت عليك ولم أعرفك، فاحكم علي في أهلي ومالي أو تحب أن أخلي سبيلك؟ قال: بل أحب أن تخلي سبيلي فأعبد ربي، وكان الرجل كافراً فأسلم على يده وأعطاه أربعمائه دينار وخلى سبيله، فأوحى الله إليه: قد نجيتك من الرق وأسلم الكافر وأعطاك مكان كل درهم ديناراً، فلا يخسر على الله أحد» (1) .

ومن فضائله: ما نقل عن عبد الله بن المبارك أنه قال: كنت في غزوة فوقع فرسي ميتاً، فرأيت رجلاً حسن الوجه، طيب الرائحة قال: أتحب أن تركب فرسك؟ قلت: نعم فوضع يده على جبهة الفرس حتى انتهى إلى مؤخرها وقال: أقسمت عليك أيتها العلة بعزة عزة الله، وبعظمة عظمة الله، وبجلال جلال الله، وبقدر قدرة الله، وبسلطان سلطان الله، وبلا إله إلا الله، وبما جري به القلم من عند الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله ألا انصرفت، فوثب الفرس قائماً بإذن الله، وأخذ الرجل بركابي وقال: اركب فركبت، ولحقت بأصحابي، فلما كان من غداة غدٍ وظهرنا على العدو، فإذا هو بين أيدينا فقلت: سألتك بالله من أنت؟ فوثب قائماً فاهتزت الأرض خضراء فقال: أنا الخضر.

قال عبد الله: ما قلت هذه الكلمات على مريض إلا شفاه الله تعالى.

ومن فضائله: أن سليمان بن عبد الملك طلب رجلاً ليقتله فهرب منه، فكلما دخل بلد قيل له: جاءك الطلب قال: فخرجت إلى البرية فرأيت رجلاً فقال: لعل هذا الطاغي أخافك؟ قلت: نعم، قال: فما يمنعك من السبع؟ قلت: وما السبع؟ قال: قل: «سبحان الواحد الذي ليس غيره، سبحان القديم الذي لا بادئ له، سبحان الدائم الذي لا نفاد له، سبحان الذي يحي ويميت، سبحان الذي خلق ما يرى وما لا يرى،

(1) أخرجه الطبراني في الكبير (8/113، رقم 7530) وفي مسند الشاميين (2/13، رقم 832) قال الهيثمي (3/103) : رجاله موثقون إلا إن فيه بقية بن الوليد وهو مدلس ولكنه ثقة.

ص: 134

سبحان الذي كل يوم هو في شأن، سبحان الذي علم كل شيء بغير تعليم» احفظها فحفظها فألقى الله في قلبي الأمن، فرجعت ودخلت على سليمان، فلما رأني قال: ادن ادن حتى أجلسني على فراشهم، قال: اسحرتني؟ فقلت: لا والله ما أنا بساحر، وأخبرته بخبر الرجل، فقال: والله الذي لا إله إلا الله أنه الخضر، قال: اكتبوا له الأمان وأعطاني مالاً كثيراً.

ومن فضائله الدالة على حياته: ما نقله الثعلبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات وأخذوا في جهازه، خرج الناس وخلا الموضع قال ابن عباس قال علي: لما وضعته صلى الله عليه وسلم على المغتسل إذا بهاتف يهتف بي من زاوية البيت بأعلى صوته: لا تغسلوا محمداً فإنه طاهر مطهر، قال: فوقع في قلبي شيء من ذلك، وقلت: يا ويلك من أنت؟ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا أمرنا وهذه سنته، وإذا بهاتف يهتف بي من زاوية البيت بأعلي صوته غسلوا محمداً، فإن الهاتف الأول كان إبليس الملعون، حسد محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدخل قبره مغسولاً، قال علي: جزاك الله خيراً قد أخبرتني بأن ذلك هو إبليس، من أنت؟ قال: أنا الخضر حضرت جنازة محمد صلى الله عليه وسلم.

* * *

ص: 135