المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس الحادي والأربعون - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ٢

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس الحادي والأربعون

‌المجلس الحادي والأربعون

في الكلام على باب التسمية على كل حال، وفي ذكر فوائد كثيرة متعلقة بالتسمية والجماع وغير ذلك

الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان ومنَّ عليه بنطق اللسان، وحفظه بأسمائه الحسان ليطرد عنه كيد الشيطان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد ولد عدنان، وربيعة وقحطان، وعلى آله وأصحابه الشجعان الفرسان.

قَالَ البُخَارِي:

بَابُ التَّسْمِيةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ الوِقَاعِ

أي باب في بيان استحباب التسمية على كل حال أي: في الوضوء والغسل والتيمم والذبح وغير ذلك، حتى عند الوقاع، واستدل البخاري على عموم استحباب التسمية حتى عند الوقاع بالحديث الآتي.

سؤال: أفاده الكرماني وغيره وهو: فإن قيل: لأي شيء لم يذكر البخاري هذا الباب قبل ابتداء الوضوء الذي هو محله فإن التسمية أي: قول بسم الله إنما تستحب في الوضوء قبل غسل الوجه لا بعده، فكيف ذكرها بعد باب غسل الوجه؟

جوابه: أن البخاري لا يقصد حسن الترتيب بين الأبواب، ولهذا ذكر باب ما يقوله عند الخلاء بين أبواب الوضوء، ولو كان قصده المناسبة وحسن الترتيب لذكره قبل كتاب الوضوء، بل قصده إنما هو في نقل الحديث وما يتعلق بتصحيحه لا غير، ونعم المقصد.

قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِى الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا. فَقُضِىَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ» (1) .

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:

قوله: «لم يضره» : في رواية شعبة عند مسلم وأحمد «لم يسلط عليه الشيطان أو لم يضره الشيطان» ، وفي مرسل الحسن عن عبد الرزاق «إذا أتى الرجل أهله فليقل بسم الله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا ولا تجعل للشيطان نصيبا فيما رزقتنا، فكان يرجى إن حملت أن يكون ولدا صالحا» واختلف في الضرر المنفي بعد الاتفاق على ما نقل عياض على عدم الحمل على العموم في أنواع الضرر، وإن كان ظاهرا في الحمل على عموم الأحوال من صيغة النفي مع التأبيد، وكان سبب ذلك ما جاء في بدء الخلق «إن كل بني آدم يطعن الشيطان في بطنه حين يولد إلا من استثنى» فإن في هذا الطعن نوع ضرر في الجملة، مع أن ذلك سبب صراخه. ثم اختلفوا فقيل المعنى: لم يسلط عليه من أجل بركة التسمية، بل يكون من جملة العباد الذين قيل فيهم ?إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ? [الحجر: 42] ويؤيده مرسل الحسن المذكور، وقيل: المراد لم يطعن في بطنه، وهو بعيد لمنابذته ظاهر الحديث المتقدم، وليس تخصيصه بأولى من تخصيص هذا، وقيل: المراد لم يصرعه، وقيل: لم يضره في بدنه.

وقال ابن دقيق العيد: يحتمل أن لا يضره في دينه أيضاً، ولكن يبعده انتفاء العصمة. وتعقب بأن اختصاص من خص بالعصمة بطريق الوجوب لا بطريق الجواز، فلا مانع أن يوجد من لا يصدر منه معصية عمداً وإن لم يكن ذلك واجبا له.

وقال الداودي معنى: «لم يضره» أي لم يفتنه عن دينه إلى الكفر، وليس المراد عصمته منه عن المعصية.

وقيل لم يضره بمشاركة أبيه في جماع أمه كما جاء عن مجاهد: «أن الذي يجامع ولا يسمي يلتف الشيطان على إحليله فيجامع معه» ولعل هذا أقرب الأجوبة، ويتأيد الحمل على الأول بأن الكثير ممن يعرف هذا الفضل العظيم يذهل عنه عند إرادة المواقعة والقليل الذي قد يستحضره ويفعله لا يقع معه الحمل، فإذا كان ذلك نادراً لم يبعد.

وفي الحديث من الفوائد أيضاً:

1-

استحباب التسمية والدعاء والمحافظة على ذلك حتي في حالة الملاذ كالوقاع.

2-

فيه الاعتصام بذكر الله ودعائه من الشيطان والتبرك باسمه والاستعاذة به من جميع الأسواء.

3-

وفيه الاستشعار بأنه الميسر لذلك العمل والمعين عليه.

4-

فيه إشارة إلى أن الشيطان ملازم لابن آدم لا ينطرد عنه إلا إذا ذكر الله.

4-

فيه رد على منع المحدث أن يذكر الله، ويخدش فيه الرواية المتقدمة:«إذا أراد أن يأتي» وهو نظير ما وقع من القول عند الخلاء، وقد ذكر المصنف ذلك وأشار إلى الرواية التي فيها:«إذا أراد أن يدخل» . انظر فتح الباري (9/228 - 229) .

ص: 294

في إسناد هذا الحديث ثلاثة من التابعين، وقال ابن الملقن: رواته ما بين مكي ومدني وكوفي ورازي وبصري.

قوله: «يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم» كلام كريب أي: تقبل ابن عباس بالحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ومقصود كريب وغرضه: أن هذا الحديث ليس موقوفاً على ابن عباس، بل مسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم إما بواسطة بأن سمعه من صحابي من الرسول، وإما بدونها ولما لم يكن قاطعاً بأحدهما ولم يرد بيانه ذكره بهذه العبارة.

ص: 295

وقوله: «إلى أهله» كناية عن الجماع أي: جماع حلاله، زوجته أو أمته.

وقوله: «ما رزقتنا» مفعول ثاني «لجنب» والعائد على الموصول محذوف، وهو ضمير مفعول الثاني للرزق، والمراد به الولد، وإن كان اللفظ أعم من ذلك أي: احفظ الولد الذي رزقناه من الشيطان.

وقوله: «فقضي بينهما» ضمير راجع إلى الأحد والأهل والقضاء يأتي لمعانٍ ذكر العسكرى أنه أتى منها في القرآن اثنى عشر معنى، والمناسب من معاينة هنا التقدير أو الحكم، فمعنى:«فقضي بينهما ولد» أي: فحكم أو فقدر.

وقوله: «لم يضره» جواب «لو» وهو بضم الراء على الأفصح والضمير المستتر راجع إلى الشيطان، والبارز إلى الولد أي: لو ثبت قول أحدكم «بسم الله» عند إتيان الأهل لم يضر الشيطان ذلك الولد أي: لا يكون له عليه سلطان ببركة اسمه عز وجل، ويكون من جملة العباد المحفوظين المذكورين في قوله تعالى: ?إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ? [الحجر: 42] .

وقيل: معنى «لم يضره» لم يصرعه وهو بعيد.

وقيل: معناه لم يطعن فيه الشيطان عند ولادته، وهو بعيد أيضاً، لأنه لم يسلم من طعنة الشيطان عند الولادة أحد سوى مريم بنت عمران وولدها عيسى عليهما السلام، كما يفيد ذلك ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم:«ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان إلا مريم وابنها» (1) .

قال النووي: ظاهر هذا الحديث اختصاص هذه الفضيلة بعيسى وأمه، لكن أشار القاضي عياض إلى أن جميع الأنبياء يشاركونهما فيها.

وقيل: معناه لم يضره في بدنه ويحتمل وفي دينه، ورد بأنه غير معصوم.

وقيل: معنى «لم يضره» لم يفتنه بالكفر.

ويستفاد من هذا الحديث فوائد كثيرة بعضها متعلق بالتسمية، وبعضها متعلق بالجماع، وبعضها متعلق بالولد، وبعضها متعلق بالشيطان لا بأس من ذكرها وذكر فوائد أخرى معها مناسبة:

الأولى: في الحديث دلالة على استحباب التسمية والوضوء والدعاء في ابتداء

(1) أخرجه مسلم (4/1838 رقم 2366) ، وأحمد (2/233، رقم 7182) ، وابن أبي شيبة (6/288، رقم 31496) عن أبي هريرة.

ص: 296

الجماع بأن يقول لمن يريد الجماع قبله: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا.

قال الغزالي: وينبغي أن يقرأ بعد بسم الله سورة الإخلاص ويكبر ويهلل ويقول: بسم الله العلي العظيم اللهم اجعلها ذرية طيبة إن كنت قدرت ولداً يخرج من صلبي، ثم بعد ذلك يجامع (1) .

قال: فإذا قرب الإنزال فقل في نفسك ولا تحرك به شفتيك: الحمد لله الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً (2) .

الثانية: قال النووي: لا يكره للإنسان أن يجامع مستقبل القبلة، ولا يستدبرها، لا في البنيان ولا في الصحراء.

لكن قال الغزالي: ينبغي أن لا يستقبل القبلة به إكراماً لها وإن يتغطيا بثوب، وأن يأتيها في كل أربع ليال مرة، وأن يزيد وينقص على حسب حاجتهما في التحصين فإن تحصينها واجب، وإن لم تثبت المطالبة بالوطء (3) .

قال: ويكره الوطء في الليلة الأولى من الشهر والأخيرة منه وليلة نصفه فيقال: إن الشيطان يحضر الجماع في هذه الليالي، ويقال: إنه يجامع (4) .

قال: وإذا قضى وطره فيمهل عليها حتى تقضى وطرها، ويكره الجماع أول الليل لئلا ينام على غير طهارة (5) .

كما استدل البخاري بالحديث المذكور على استحباب التسمية في كل حال فلهذا قال في الترجمة: باب التسمية على كل حال وعند الوقاع.

سؤال: فإن قيل: الحديث يدل على استحبابها عند الجماع فقط، فمن أين يستفاد العموم من كلامه حتى يصح استدلاله للترجمة به؟

جوابه: أن العموم وإن لم يكن ظاهر من الحديث لكنه يستفاد من باب أولى، لأنها إذا شرعت في حالة الجماع وهي حالة يؤمر فيها الإنسان بالصمت، فشروعها في غيرها أولى، وظاهر الحديث يقتضي شروعها واستحبابها في كل حال أمر الشرع به

(1) انظر: إحياء علوم الدين (2/49) .

(2)

انظر: إحياء علوم الدين (2/50) .

(3)

انظر: إحياء علوم الدين (2/50) .

(4)

انظر: إحياء علوم الدين (2/50) .

(5)

انظر: إحياء علوم الدين (2/50) .

ص: 297

كوضوء وغسل وتيمم وذبح مناسك وأكل وشرب وجماع وصلاة وأذان.

أو نهى الشرع عنها كشرب خمر وأكل مغصوب وغيره، وليس كذلك بل هو محمول على استحبابها في حال لم ينه الشرع عنها، وفي حال أمر الشرع بها لا في جميع أفعال الطاعة.

قال ابن عبد السلام: أفعال العبد على ثلاثة أقسام: قسم يسن فيه التسمية، وقسم لا تسن فيه، وقسم تكره فيه.

فالقسم الذي تسن فيه التسمية: كالغسل والوضوء والتيمم وذبح المناسك وقراءة القرآن والأكل والشرب والجماع.

والذي لا تسن فيه كالصلاة والأذان والحج والعمرة والأذكار والدعوات.

والذي تكره فيه كالمحرمات لأن الغرض من التسمية التبرك في الفعل المسمي عليه، والحرام لا تراد بركته وكثرته، وكذلك المكروه أيضاً لا يسمى عليه.

وقد اختلف علماؤنا فيمن قرأ القرآن على ضرب الدف هل يكفر بذلك أم لا؟

فقال في الأنوار: يكفر.

وتبعه الحصني (1) في كتابه قمع النفوس.

لكن صوَّب النووي أنه لا يكفر، هذا في ضرب الدف.

أما من سمى أو قرأ القرآن على الطنبور أو شرب الخمر أو الزنا أو نحو ذلك، فقد قال الشيخ سعد الدين في شرح العقائد: لإنه يكفر، وهو مذهب أبي حنيفه.

وعند علمائنا الشافعية يكفر به إذا كان على وجه الاستخفاف، كما قال الرافعي والنووي.

وقال بعضهم: فائدة التسمية حالة الأكل والشرب والجماع واللبس وغيرها طرد الشيطان عن هذه الأشياء، فإنه يستحلها ويشارك الإنسان فيها إذا لم يسم الله تعالى.

ذكر الغزالي في الإحياء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: التقى شيطان المؤمن وشيطان الكافر، فإذا بشيطان الكافر سمين دهين كاس، وإذا شيطان المؤمن مهزول أشعث عار، فقال شيطان الكافر لشيطان المؤمن: ما لك؟ قال: أنا مع رجل إذا أكل سمى فأظل جائعاً، وإذا شرب سمى فأظل عطشاناً، وإذا أدهن سمى فأظل أشعث، وإذا لبس سمى فأظل عرياناً. قال شيطان الكافر: لكنى مع رجل لا يصنع شيئاً من ذلك فأنا أشاركه

(1) هو: تقي الدين الحصني، واسمه: أبو بكر بن محمد بن عبد المؤمن بن حريز بن معلى الحسيني الحصني، فقيه ورع من أهل دمشق ولد بها 752هـ، ووفاته أيضاً بها سنة: 829هـ. نسبته إلى الحصن من قرى حوران، وإليه تنسب زاوية الحصني، بناها رباطاً في محلة الشاغور بدمشق، له تصانيف كثيرة، منها: كفاية الأخيار، شرح به الغاية في فقه الشافعية، ودفع شبه من شبه وتمرد ونسب التشبيه إلى الإمام أحمد، وتخريج أحاديث الإحياء، وتنبيه السالك على مظان المهالك، وقمع النفوس الذي أشار إليه المصنف.

ص: 298

في طعامه وشرابه ولباسه (1) .

وروى عن جعفر بن محمد في قوله تعالى: ?وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ? [الإسراء: 64] أن الشيطان يقعد على ذكر الرجل، فإذا لم يقل:«بسم الله» أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل.

الثالثة: وكيفية التسمية على الذبح أن يقول الذابح: «بسم الله» ولا يقل: «الرحمن الرحيم» لأن المقام لا يناسبه الرحمة.

قال بعض العلماء: وكذا إذا سمى عند الأكل يقول: «بسم الله» ولا يقل: «الرحمن الرحيم» قال: لأن الطعام يستهلك، والرحمة لا تذكر على مستهلك.

قال ابن العماد في الذريعة: وما قاله لا دليل عليه بل في الحديث ما يخالفه.

روي عن ابن عباس رضى الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلوا بسم الله الرحمن الرحيم» .

وروي أن عيسى عليه السلام لما نزلت المائدة قال لأصحابة: كلو بسم الله خير الرازقين.

واختلف العلماء في التسمية في الوضوء هل هي سنة أو واجبة؟

فذهب إمامنا الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد في أظهر الروايتين عنه إلى أنها سنة.

وذهب أهل الظاهر إلى أنها واجبه، واستدلوا عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:«لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه» (2) .

وأجاب إمامنا الشافعي والجمهور عنه بأجوبة أحسنها: أنه ضعيف. الثاني: أنه مقدر بنفي الكمال أي: لا وضوء كاملاً كقوله في الحديث الآخر: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» (3) .

(1) انظر: إحياء علوم الدين (3/37) .

(2)

أخرجه الترمذي (1/38، رقم 25) عن سعيد بن زيد.

وأخرجه ابن ماجه (1/139، رقم 397) ، وأحمد (3/41، رقم 11388) ، وابن أبي شيبة (1/12، رقم 14) ، وعبد بن حميد (1/285، رقم 910) ، والدارمي (1/187، رقم 691) ، وأبو يعلي (2/324، رقم 1060) ، والدارقطني (1/71) ، والحاكم (1/245، رقم 518) عن أبي سعيد.

(3)

أخرجه الدارقطني (1/419) عن جابر.

وأخرجه الدارقطني (1/420) ، والبيهقي (3/57، رقم 4724) ، والحاكم (1/373، رقم 898) عن أبي هريرة.

ص: 299

الثالث: أن المراد بالذكر فيه: النية أي: لا وضوء صحيح لمن لم ينو فيه.

قال علماؤنا: والتسمية في الوضوء سنة مؤكدة، فلو نسيها في ابتدائه أتى بها متى ذكرها في الوضوء، ولو عند غسل الرجلين ويقول:«بسم الله على أوله وآخره» ، كما إذا ترك الإنسان التسمية في أول الأكل يأتي بها في آخره، ولو تركها في ابتدائه عمداً فهل يشرع له تداركها في أثنائه فيه خلاف، والراحج: نعم.

جاء في حديث لكنه ضعيف: «من توضأ وذكر اسم الله كان طهوراً لجميع بدنه، وإن لم يذكر اسم الله كان طهوراً لأعضاء وضوءه» رواه الدارقطنى والبيهقى وضعفه من جميع طرقه (1) .

فائدة: قال ابن العماد في الذريعة: عدد زبانية جهنم تسعة عشر قال الله تعالى: ?عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ? [المدثر: 30] وهؤلاء خزنة النار مالك ومعه ثمانية عشر ذكره البغوي في تفسيره (2) .

قال: وجاء في الأثر أن أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي، يخرج لهب النار من أفواههم ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نزعت منهم الرحمة، يدفع أحدهم سبعين ألفاً فيدميهم حيث شاء من جهنم، وهؤلاء رؤسائهم الزبانية، وإلا فلهم أتباع غير محصورين، بدليل قوله تعالى: ?وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ? [المدثر: 31]، وقوله: ?وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَاّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا? [المدثر: 31] .

لطيفه: قال في نزهة المجالس: قال النسفي: تأخذ الزبانية يوم القيامة عبد فيقال لهم: ردوه فينظر إلى أعضاءه فلا يوجد فيها خير، فيقال له: أخرج لسانك فإذا عليه بخط أبيض «بسم الله الرحمن الرحيم» فيقال له: اذهب فقد غفرت لك.

فائدة أخرى: قال ابن مسعود: «من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» لأن حروفها تسعة عشر حرفاً» (3) .

(1) أخرجه الدارقطني (1/73) وقال: يحيي بن هشام ضعيف. والبيهقي (1/44، رقم 199) وقال: هذا ضعيف. كلاهما عن ابن مسعود.

وأخرجه الدارقطني (1/74، رقم 13) . والبيهقي (1/44، رقم 200) وقال: هذا ضعيف. كلاهما عن ابن عمر.

(2)

انظر: تفسير البغوي (4/417) .

(3)

أورده السيوطي في الدر المنثور (1/26) وعزاه لوكيع والثعلبي عن ابن مسعود.

ص: 300

وقال غيره: كلماتها أربعة والذنوب أربعة: ذنوب الليل والنهار والسر والعلانية، فمن قالها كفر الله عنه الذنوب الأربع.

لطيفة: كان بمكة رجل صائم لم يره أحد يأكل ولا يشرب، غير أنه يخرج من جيبه ورقة فينظر فيها عند إفطاره، فلما مات أخرجها الغاسل من جيبه فوجد فيها:«بسم الله الرحمن الرحيم» فتعجب من ذلك، فهتف به هاتف لا تعجب فإنا بالتسمية ربيناه، وبالرحمانية وفقناه، وبالرحيمية غفرنا له.

الرابعة: وهي مشتملة على فوائد متعلقة بالجماع.

قال العلماء: الجماع في الأصل وضع لثلاثة أمور وهي مقاصده الأصلية:

أحدها: حفظ النسل ودوام النوع الإنساني إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم.

الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتفاظه بجملة البدن.

الثالث: قضاء الوطر ونيل اللذة والتمتع بالنعمة، وهذه وحدها هي الفائدة التي في الجنة بخلاف الفائدتين الأوليتين.

فإنه لا تناسل في الجنة على خلاف في ذلك يأتي، ولا احتباس للمني فيها ولا احتقان حتى يحتاج إلى استخراجه بالإنزال.

وفضلاء الأطباء يرون أن الجماع من أحد أسباب حفظ الصحة، وإذا ثبت فضل المني فلا ينبغي إخراجه إلا في طلب النسل أو إخراج المحتقن منه فإنه إذا دام احتقانه أحدث أمراضاً ردية منها: الوسواس والجنون والصرع وغير ذلك.

وإخراج المني يبرئ من هذه الأمراض.

ومن منافع الجماع: غض البصر، وكف النفس، والقدرة على العفة عن الحرام، وتحصيل ذلك للمرأة، فهو ينفع نفسه في ديناه وأخراه، وينفع المرأة.

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعاهده ويحبه ويقول: «حبب إلي من ديناكم النساء والطيب» (1) .

وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد في الحديث زيادة لطيفة وهي: «أصبر عن

(1) أخرجه النسائي (7/61، رقم 3939) ، وأحمد (3/128، رقم 12315) ، وأبو يعلى (6/237، رقم 3530) ، والحاكم في المستدرك (2/174، رقم 2676) وقال: صحيح علي شرط مسلم. والبيهقي (7/78، رقم 13232) ، والضياء في المختارة (4/427، رقم 1608) عن أنس.

ص: 301

الطعام والشراب ولا أصبر عنهن» (1) .

قال العلماء: ويسن أن يقدم الإنسان قبل الجماع مداعبة المرأة وتقبيلها، ومص لسانها فقد كان صلى الله عليه وسلم يداعب أهله ويقبلها.

وروى أبو داود في سننه أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل عائشة ويمص لسانها (2) .

ويذكر عن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن المواقعة قبل الملاعبة (3) .

وأنفع الجماع ما حصل بعد الهضم، وعند اعتدال البدن في حره وبرده، ويبوسته ورطوبته، وخلائه وامتلائه، وضرره عند امتلاء البدن أسهل وأقل من ضرره عند خلوه.

وإنما ينبغي أن يجامع إذا اشتدت الشهوة وحصل الانتشار التام الذي ليس عن تكلف ولا فكرة في صورة ولا نظر متتابع.

ولا ينبغي أن يستدعي شهوة الجماع ويتكلفها، ويحمل نفسه عليها، وليبادر به إذا هاج به كثرة المني.

والإكثار منه يسقط القوة، ويضر بالعصب، ويضعف البصر، وسائر القوى، ويطفئ الحرارة الغريزية، ويوسع المجاري.

وأنفع أوقاته ما كان بعد إنهضام الغذاء من المعدة، وفي زمان معتدل على جوع فإنه يضعف، ولا على شبع فإنه يوجب أمراضاً، ولا على تعب، ولا أثر حمام، ولا بعد استفراغ كفصد حجامة، ولا بعد غم وحزن، وشده فرح.

قالوا: وجماع المرأة المحبوبه في النفس يقل إضعاف البدن مع كثرة استفراغ المني، وجماع البغيضة ينحل البدن، ويوهن القوى مع قلة استفراغه.

وأحسن أشكال الجماع أن يعلو الرجل المرأة مستفرشاً لها بعد الملاعبة والقبلة،

(1) قال المناوي في فيض القدير (3/371) : زعم الزركشي أن للحديث تتمة في كتاب الزهد لأحمد هي: أصبر عن الطعام والشراب ولا أصبر عنهن. وتعقبه المؤلف أي: السيوطي بأنه مر عليه مراراً فلم يجده فيه، لكن في زوائد الزهد لابنه عبد الله بن أحمد عن أنس مرفوعاً:«قرة عيني في الصلاة وحبب إلي النساء والطيب والجائع يشبع والظمآن يروي وأنا لا أشبع من النساء» . فلعله أراد هذا الطريق.

(2)

أخرجه أبو داود (2/311، رقم 2386) . وأخرجه أيضاً: البيهقي (4/234، رقم 7891) ، وأحمد (6/123، رقم 24960) عن عائشة.

(3)

أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (13/220) .

ص: 302

وبهذا سميت المرأة فراشاً، كما قال صلى الله عليه وسلم:«الولد للفراش» (1) .

وهذا مأخوذ من قوله تعالى ?هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ? [البقرة: 187] .

وأشار إلى ذلك بعض الشعراء فقال:

إذا رممتها كانت فراشا يقلني

وعند فراغي خادم تملق

وأردأ أشكاله: أن تعلوه المرأة ويجامعها على ظهره، وهو خلاف الشكل الطبيعي الذي طبع الله عليه الرجل والمرأة، وفيه من المفاسد أن المني يتعسر خروجه كله، فربما بقي في العضو منه بقية فيتعفن ويفسد ويضر.

وسنذكر في كتاب الغسل فوائد أخرى متعلقة بالجماع.

الخامسة: وهي مشتملة على فوائد متعلقة بالولد:

الفائدة الأولى: دل قوله صلى الله عليه وسلم: «وجنب الشيطان ما رزقتنا» على أن الولد معدود من رزق الإنسان، وأن الرزق ليس مخصوصاً بالغد (2) .

الفائدة الثانية: قال النسفي: جاء في الخبر إذا أرادت المرأة الولادة أرسل الله إليها ملكين عن يمنيها وشمالها، فإذا أراد صاحب اليمين إخراجه زاغ إلى جهة الشمال، وإذا أراد صاحب الشمال إخراجه زاغ إلى جهة اليمين، فتتوجع المرأة فيخاف الملكان ويقولان: ربنا عجزنا عن إخراجه فيتجلى الله تعالى فيقول: يا عبدي من أنا؟ فيقول الولد: أنت الله الذي لا إله إلا أنت ويسجد، فيخرج في سجوده على رأسه.

وقيل: ينزل عليه ملك مكتوب في يده الله الله، فإذا رأى الولد ذلك خرج سريعاً.

(1) أخرجه البخاري (2/724، رقم 1948) ، ومسلم (2/1080، رقم 1457) ، وأبو داود (2/282، رقم 2273) ، والنسائي (6/180، رقم 3484) ، وابن ماجه (1/646، رقم 2004) عن عائشة.

وأخرجه البخاري (6/2499، رقم 6432) ، ومسلم (2/1081، رقم 1458) ، والترمذي (3/463، رقم 1157) وقال: حسن صحيح. والنسائي (6/180، رقم 3482) ، وابن ماجه (1/647، رقم 2006) عن أبي هريرة.

(2)

أي رزق الإنسان في يوم غده الآتي عليه فهو في علم الله تعالي قال تعالي: ?وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً? مراد المصنف أن الررزق ليس فقط الرزق الذي لا يعلمه إلا الله في الغد بل من الرزق الولد، والصديق، والزوجة، وكل ما وجدت فيه نعمة من الله عليك فهو من رزق الله أتاك الله إياه فوجب حمده وشكره.

ص: 303

ونظير هذا ما أفاده النسفى أيضاً قال: إذا احتضر العارف نزل عليه ملك الموت قبل وجهه فيدفعه الذكر، فيأتي من قبل يديه فتدفعه الصدقة، فيأتي من قبل رجليه فتدفعه الصلاة، فيقول: يارب قد حيل بيني وبينه، فيقول: أكتب إسمي على كفك وأره إياه، فيكتب:«بسم الله الرحمن الرحيم» فإذا رأته روح المؤمن طارت شوقاً إلى ربها.

وفي رواية: تقول الروح لملك الموت: أأنت أسكنتني في هذا الجسد؟ فيقول: لا. فتقول: لا يخرجني إلا الذي أسكتني. فيقول: أنا رسول. فيقول: آتني بعلامة؟ فيقول الله: خذ تفاحة من الجنة فيأخذ تفاحة عليها: «بسم الله الرحمن الرحيم» فإذا رأتها روحه طارت شوقاً إلى الجنة.

الفائدة الثالثة: قال العلامة ابن القيم: لبكاء الصبي حال خروجه إلى هذه الدار سببان أحدهما: باطن أخبر به الصادق المصدوق لا يعرفه الأطباء، والثانى: ظاهر.

فأما السبب الباطن فهو: أن الله سبحانه وتعالى اقتضت حكمته أن وكل بكل واحد من أولاد آدم شيطاناً، فشيطان المولود قبل انفصاله محبوس عنه، ينتظر خروجه ليقارنه ويتوكل به، فإذا انفصل استقبله الشيطان وطعن في خاصرته تغيظاً عليه، واستقبالاً له بالعداوة التي كانت بينه وبين الأبوين قديماً فيبكي المولود من تلك الطعنة.

وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان» (1) .

والسبب الظاهر: مفارقته للمألوف والعادة التي كان فيها إلى أمر غريب، فإنه ينتقل من جسم حار إلى هواء بارد، ومكان لم يألفه فيستوحش من مفارقه وطنه ومألفه.

وقيل: سبب بكائه انتقاله إلى دار يلقى فيها الشدائد والآلام، والمخاوف والأسقام كما أشار إلى ذلك بعضهم بقوله:

ويبكي بها المولود حتى كأنه

بكل الذي يلقاه فيها يهدد

وإلا فما يبكيه فيها وإنها

لأوسع مما كان فيه وأرغد

الفائدة الرابعة: الحكمة في قبض المولود كفه عند خروجه إلى الدنيا، الإشارة إلى

(1) أخرجه مسلم (4/1838، رقم 2367) . وأخرجه أيضاً: ابن حبان (14/62، رقم 6183) ، والطبراني في الأوسط (2/244، رقم 1872) ، وفي الصغير (1/39، رقم 29) .

ص: 304

أنه خرج إليها مركباً على الحرص والجمع، والحكمة في فتح كفه عند خروجه منها الإشارة إلى أنه فارق الدنيا صفر اليدين منها، ونظم بعضهم هذا فقال:

وفي قبض كف المرء عند ولادة

دليل على الحرص الذي هو مالكه

وفي فتحها عند الممات إشارة

إلى فرقة المال الذي هو تاركه

الفائدة الخامسة: سأل بعضهم فقال: كيف يكون للوالدين على الولد إنعام وإحسان ويستحقان ميراثه، وقد طلبا اللذة بالجماع لأنفسهما، فلزم منه دخول الولد في دار الهموم والأحزان والآفات والتبعات.

قيل للإسكندر: أستاذك أعظم منه عليك أم والدك فقال: الأستاذ أعظم منةً لأنه تحمل عني أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي، فأوقعني في نور العلم، وأما الوالد فإنه طلب اللذة فأخرجني إلى آفات عالم الكون والفساد.

وأجيب عن السؤال: بأن العاقل لا يقدم على الوقاع لأجل اللذة في أول الأمر، إلا أنه إذا حصل الولد اهتم به بإيصال الخيرات، ودفع الآفات من أول دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه فقد استحق الميراث، وانقطعت هذه الشبهات، وثبت له عليه الفضل والإحسان.

الفائدة السادسة: أكثر العلماء على أن الجنة فيها جماع ولا يولد فيها لأحد ولد، واستدل على ذلك بدلائل منها:

قوله تعالى: ? وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ ? [البقرة: 25] قال عطاء: المعنى مطهرة من الولد والحيض والغائط والبول.

ومنها: أن الله سبحانه وتعالى جعل الحمل والولاة مع الحيض والمني، فلو كان النساء يحملن لم ينقطع عنهن الحيض والإتزال.

ومنها: أن الله تعالى قدر التناسل في الدنيا لأنه قدَّر الموت وإخراجهم إلى هذه الدار قرنا بعد قرن، وجعل لهم أمد ينتهون إليه، ولولا التناسل لبطل النوع الإنساني.

ولهذا الملائكة لا يتناسلون فإنهم لا يموتون كما يموت الإنس والجن، فإذا كان يوم القيامة أخرجهم الله سبحانه وتعالى كلهم من الأرض وأنشأهم للبقاء لا للموت فلا يحتاجون إلى تناسل لحفظ النوع الإنساني، إذ هو منشأ للبقاء الدوام، فلا أهل الجنة يتناسلون ولا أهل النار.

وذهب بعض العلماء إلى أن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة واستدل على ذلك بحديث خرَّجه الترمذي وابن ماجه وقال

ص: 305

الترمذي: إنه حسن غريب (1) لكن رد أكثر العلماء هذا القول وقالوا: بأنهم لا يشتهون ذلك.

الفائدة السابعة: وهي مشتمله على فوائد متعلقة بالشيطان:

الأولى: قوله: «وجنب الشيطان» دل على أن الشيطان ملازم لابن آدم من حين خروجه من ظهر أبيه إلى رحم أمه إلى حين موته، أعاذنا الله تعالى منه فهو يجري من ابن آدم مجرى الدم أعاذنا الله.

الثانية: دل الحديث أيضاً على أن التسمية والدعاء المذكور سبب للاعتصام من الشيطان، وسبب لدفع ضرره عن المولود، بل دل على أن ذكر الله مطلقاً سبب عظيم لطرد الشيطان وكف شره.

قال قتادة في تفسيره قوله تعالى: ? الخَنَّاسِ ? [الناس: 4] ما نصه: «الخناس» : الشيطان له خرطوم كخرطوم الكاتب في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس.

ويقال: رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمنيه ويحدثه، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وإذا لم يذكر رجع ووضع رأسه فذلك معنى قوله تعالى: ?الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ? [الناس: 5، 6] .

أي: بالكلام الخفي الذي يصل مفهومه إلى القلب من غير سماع.

وروي عن عمر بن عبد العزيز: أن رجلا سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من قلب ابن آدم، فرأى في النوم جسد رجل شبه البلور يرى داخله من خارجه، ورأى الشيطان على صورة ضفدع قاعدة على منكبه الأيسر بين منكبه، وأذنه خرطوم طويل دقيق قد أدخله من منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس له إليه، فإذا ذكر الله تعالى خنس (2) .

وقال كعب الأحبار: ذكر الله تعالى في جنب الشيطان كالأكله في جنب ابن آدم.

وقال أيضاً: حصون المؤمن من الشيطان ثلاثة: ذكر الله تعالى، وقراءة القرآن، والمسجد.

وكان يحيى بن معاذ يقول: اللهم إن إبليس لك عدو ولنا عدو، وإنك لا تعظه

(1) أخرجه الترمذي (4/695، رقم 2563) وقال: حسن غريب. وابن ماجه (2/1452، رقم 4338) . وأخرجه أيضاً: أحمد (3/9، رقم 11078) ، والدارمي (2/434، رقم 2834) ، وأبو يعلى (2/317، رقم 1051) ، وابن حبان (16/417، رقم 7404) عن أبي سعيد.

(2)

انظر: إحياء علوم الدين (3/40) .

ص: 306

بشيء نكالا له، فاعف عنا يا أرحم الراحمين.

وكان محمد بن واسع يقول كل يوم بعد صلاة الصبح: اللهم إنك سلطت علينا عدواً بصيراً بعيوبنا، مطلعاً على عوراتنا، يرانا هو وقبيلة من حيث لا نراهم، اللهم فآيسه منا كما آيسته من رحمتك، وقنطة منا كما قنطة من عفوك، وأبعد بيننا وبينه كما أبعدت بينه وبين جنتك إنك على كل شيء قدير.

قال: فتمثل له اللعين يوماً في طريق المسجد فقال له: يا ابن واسع هل تعرفني؟ قال له: ومن أنت؟ قال: أنا اللعين. قال: وما تريد؟ قال: أريد أن لا تعلم أحداً هذه الاستعاذة ولا أتعرض لك أبداً. فقال له ابن واسع: والله لا أمنعها من أرادها فاصنع الآن ما شئت.

ومن دعاء بعضهم: اللهم إنك خلقتني وخلقته، وسلطته علي فلا يقدر علي إلا بتقديرك، ولا أقدر عليه إلا بإعانتك، فأعني عليه يا عزيز يا جبار بعزتك وجبروتك.

الثالثة: المراد بالشيطان في الحديث شيطان الجن فقط، فإنه هو الذي يتعرض للمولود عند ولادته، لا شيطان الإنس.

وقد دلت الأخبار من الكتاب والسنة على وجود شيطان الإنس والجن قال الله تعالى: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُواًّ شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُوراً? [الأنعام: 112] .

قال قتادة ومجاهد والحسن: دلت الآية على أن من الإنس شياطين كما أن من الجن شياطين.

«والشيطان» : العاتي المتمرد من كل شيء.

قالوا: إن الشيطان إذا أعياه المؤمن وعجز عن أغوائة ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس، فأغواه بالمؤمن ليفتنه، يدل على ذلك ما روي عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس» قلت: يا رسول الله

ص: 307

وهل للأنس من شياطين؟ قال: «نعم شر من شياطين الجن» (1) .

وقال مالك بن دينار: شياطين الإنس أشر عليَّ من شياطين الجن، وذلك أني إن تعوذت بالله ذهبت عني شياطين الجن، وشياطين الإنس تجيئني وتجرني إلى المعاصي (2) .

* * *

(1) أخرجه النسائي (8/275، رقم 5507) ، والحاكم (2/310، رقم 3115) وقال: صحيح الإسناد. والطيالسي (1/65، رقم 478) ، وأحمد (5/178، رقم 21586) قال الهيثمي (1/160) : فيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط. والبيهقي في شعب الإيمان (2/457، رقم 2390) ، وعبد الرزاق (2/84، رقم 2579) ، والحارث كما في بغية الباحث (1/195، رقم 53) عن أبي ذر.

وأخرجه أحمد (5/265، رقم 22342) ، والطبراني (8/217، رقم 7871) قال الهيثمي (1/159) : مداره على علي بن يزيد وهو ضعيف. كلاهما عن أبي أمامة.

(2)

انظر: تفسير القرطبي (7/68) .

ص: 308