المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المجلس الأربعون في ذكر ما في حديث ابن عباس من الفوائد، - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ٢

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌ ‌المجلس الأربعون في ذكر ما في حديث ابن عباس من الفوائد،

‌المجلس الأربعون

في ذكر ما في حديث ابن عباس من الفوائد، وذكر بعض فضل قيام الليل،

وذكر بعض فضل ميمونة أم المؤمنين

الحمد لله الذي غمر العباد بلطائفه وعمر قلوبهم بنور الدين وفضائله، وتفضل على الغارقين في معصيته برأفته ورحمته وعواطفه، وأشغل العارفين بخدمته وأمنهم من مخاوفه، وأشهد أن لا إله وحده لا شريك له شهادة عابد لربه وعارفه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله نبي قام الليالي حتى تورمت قدماه، ودعاه ربه الى حضرته وأدناه، صلى الله عليه وسلم أبداً، وعلى إله وأصحابه بحار الندى، ومفاتيح الهدى.

قَالَ البُخَارِي:

بَابُ التَخفِيفِ فِي الوضُوءِ

حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ أَخْبَرَنِى كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم نَامَ حَتَّى نَفَخَ –أي حتى غط- ثُمَّ صَلَّى -وَرُبَّمَا قَالَ اضْطَجَعَ حَتَّى نَفَخَ- ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى.

ثُمَّ حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِى مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَقَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ فِى بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءاً خَفِيفاً - يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ - وَقَامَ يُصَلِّى فَتَوَضَّأْتُ نَحْواً مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ - وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ عَنْ شِمَالِهِ - فَحَوَّلَنِى فَجَعَلَنِى عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ، فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِى فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قُلْنَا لِعَمْرٍو إِنَّ نَاساً يَقُولُونَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ. قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْىٌ، ثُمَّ قَرَأَ ?إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ? [الصافات: 102] (1) .

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:

قوله: «وربما قال اضطجع» : أي كان سفيان يقول تارة نام، وتارة اضطجع، وليسا مترادفين بل بينهما عموم وخصوص من وجه، لكنه لم يرد إقامة أحدهما مقام الآخر، بل كان إذا روى الحديث مطولا قال اضطجع فنام كما سيأتي، وإذا اختصره قال نام أي مضطجعا أو اضطجع أي نائما.

قوله: «ثم حدثنا» : يعني أن سفيان كان يحدثهم به مختصرا ثم صار يحدثهم به مطولا.

قوله: «ليلة فقام» : كذا للأكثر، ولابن السكن:«فنام» بالنون بدل القاف وصوبها القاضي عياض لأجل قوله بعد ذلك «فلما كان في بعض الليل قام» انتهى.

ولا ينبغي الجزم بخطئها لأن توجيهها ظاهر وهو أن الفاء في قوله «فلما» تفصيلية، فالجملة الثانية وإن كان مضمونها مضمون الأولى لكن المغايرة بينهما بالإجمال والتفصيل.

قوله: «فلما كان» : أي رسول الله صلى الله عليه وسلم. «في بعض الليل» وللكشميهني «من» بدل «في» ، فيحتمل أن تكون بمعناها ويحتمل أن تكون زائدة وكان تامة، أي فلما حصل بعض الليل.

قوله: «شن» : أي القربة العتيقة.

قوله: «معلق» : ذكر على إرادة الجلد أو الوعاء، وقد أخرجه بعد أبواب بلفظ معلقة.

قوله: «يخففه عمرو ويقلله» : أي يصفه بالتخفيف والتقليل. وقال ابن المنير: يخففه أي لا يكثر الدلك، ويقلله أي لا يزيد على مرة مرة. قال: وفيه دليل على إيجاب الدلك، لأنه لو كان يمكن اختصاره لاختصره، لكنه لم يختصره. انتهى. وهي دعوى مردودة، فإنه ليس في الخبر ما يقتضي الدلك، بل الاقتصار على سيلان الماء على العضو أخف من قليل الدلك.

قوله: «نحوا مما توضأ» : قال الكرماني. لم يقل مثلاً لأن حقيقة مماثلته صلى الله عليه وسلم لا يقدر عليها غيره انتهى.

وقد ثبت في هذا الحديث كما سيأتي «فقمت فصنعت مثل ما صنع» ولا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل جهة.

قوله: «فآذنه» : بالمد أي أعلمه، وللمستملي «فناداه» .

قوله: «فصلى ولم يتوضأ» : فيه دليل على أن النوم ليس حدثا بل مظنة الحدث لأنه صلى الله عليه وسلم كانت تنام عينه ولا ينام قلبه فلو أحدث لعلم بذلك، ولهذا كان ربما توضأ إذا قام من النوم وربما لم يتوضأ.

قال الخطابي: وإنما منع قلبه النوم ليعى الوحي الذي يأتيه في منامه.

قوله: «رؤيا الأنبياء وحى» : رواه مسلم مرفوعاً، وسيأتي في التوحيد عن أنس. ووجه الاستدلال بما تلاه من جهة أن الرؤيا لو لم تكن وحيا لما جاز لإبراهيم عليه السلام الإقدام على ذبح ولده. وأغرب الداودي الشارح فقال: قول عبيد بن عمير لا تعلق له بهذا الباب. وهذا إلزام منه للبخاري بأن لا يذكر من الحديث إلا ما يتعلق بالترجمة فقط، ولم يشترط ذلك أحد. وإن أراد أنه لا يتعلق بحديث الباب أصلا فممنوع والله أعلم. انظر فتح الباري (1/239) .

ص: 283

«ميمونة» هي أم المؤمنين ببت الحارث رضي الله عنها، كان اسمها «برة» فسماها النبي صلى الله عليه وسلم «ميمونة» تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم بعد خيبر، لما توجه الى مكة معتمراً سنة سبع.

قال المحب الطبري لما خطبها النبي صلى الله عليه وسلم جعلت أمرها الى العباس رضي الله عنه زوج أختها لبابة الكبرى أم الفضل، فزوجها إياه وهو محرم، فلما رجع عليها قبل وصوله صلى الله عليه وسلم -

ص: 284

تزوجها وهو حلال.

وحمل الطبرى رواية: «وهو محرم» على أنه تزوجها وهو داخل الحرم أي: لا في الإحرام، لأن العقد في الإحرام لا يصح فلابد من تأويله بذلك.

واعترض عليه بأنه كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن نكاحه ينعقد في الإحرام كما قال في الروضة، بخلاف غيره من أمته.

وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم متزوجة بإبراهيم بن عبد العزى.

ماتت بمكان بين مكة والمدينة يقال له «سرف» وهو الموضع الذي دخل عليها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ست وستين، وصلى عليها ابن عباس ودخل قبرها هو وعبد الله بن شداد وكل منهما ابن أختها، وهي آخر أمراة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال القرطبي: والحاصل أن ابن عباس قال: «بت عند خالتى ميمونه ليلة فنام النبي صلى الله عليه وسلم من الليل، فلما كان من بعض الليل» .

وجاء في رواية: «في بعض الليل» .

وحينئذ يحتمل أن تكون «كان» هنا ناقصة واسمها مستتر فيها، راجع الى النبي صلى الله عليه وسلم وخبرها قوله:«في بعض الليل» ، ويحتمل أن تكون تامة وفاعلها المستتر فيها العائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أما على رواية:«من بعض الليل» فتكون «من» زائدة «وبعض الليل» هو الفاعل «بكان» .

«قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ من شن معلق» أي: قربة عتيقة معلقة، وقال:«معلق» بالتذكير دون التأنيث بتأويل الجلد أو السقاء أو الوعاء.

وجاء في رواية: «معلقة» بالتأنيث باعتبار القربة.

فائده: هذه القربة التي توضأ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عباس أصلها من جلدة شاة ميمونة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم فإن شاتها لما ماتت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هلا انتفعهم بأهابها» (1) .

ثم دبغ أهابها بعد ذلك وجعل منه شناً، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ منه. (ذكر

(1) أخرجه البخاري (2/543، رقم 1421) ، ومسلم (1/276، رقم 363) ، والنسائي (7/172، رقم 4235) ، ومالك (2/498، رقم 1062) ، والشافعي (1/10) ، وأحمد (1/329، رقم 3052) ، وابن حبان (4/100، رقم 1284) ، وأبو عوانة (1/179، رقم 552) ، والبيهقي (1/23، رقم 81) عن ابن عباس.

ص: 285

هذه الفائدة أبو بكر بن العربي) .

«وضوءاً خفيفاً -يخففه عمر ويقلله- وقام يصلي فتوضأت نحو ما توضأ» وإنما قال: «نحو ما توضأ» ولم يقل: «مثل مما توضأ» لأن حقيقة مماثلثه صلى الله عليه وسلم لا يقدر عليه غيره.

«ثم جئت فقمت عن يساره، وربما قال سفيان: عن شماله. فحولني فجعلني عن يمينه، ثم صلى ما شاء الله، ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم أتاه المنادي فآذنه بالصلاة، فقام معه إلى الصلاة ولم يتوضأ، قلنا لعمرو: إن ناساً يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه؟ قال عمرو: سمعت عبيد بن عمير يقول: رؤيا الأنبياء وحي، ثم قرأ ?إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ? [الصافات: 102] » .

قوله: «وضوءاً خفيفاً -يخففه عمرو ويقلله-» هذا إدراج بين ألفاظ ابن عباس من سفيان بن عيينة، والمعنى: أن عمرو بن دينار وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي توضأ هذه الليلة حين نام بالتخفيف والتقليل.

سؤال: فإن قيل: ما الفرق بين التخفيف والتقليل؟

جوابه: أن التخفيف من باب الكيف ويقابله الثقيل من باب الكم، ويقابله التكثير وإيضاًحه: أراد بالتخفيف أن كيفية وضوءه صلى الله عليه وسلم أنه كان مخففاً أي: اقتصر فيه على تمام غسل الأعضاء دون إمرار اليد عليها، ولو أمر يده عليها لم يكن مخففاً بل مكثراً.

وأراد بالتقليل أن كمية غسل كل عضو مرة مع أنه كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثلاثاً ثلاثاً للفضل، والمرة الواحدة بالنسبة الى الثلاث تقليل.

واعلم أن هذا حديث جليل مشتمل على فوائد كثيرة:

منها: أن فيه دلالة على أن نومه صلى الله عليه وسلم مضطجعاً لا ينقض وضوءه، وكذلك سائر الأنبياء، لأن يقظة قلوبهم تمنعهم من الحدث، لأنهم كانوا تنام أعينهم، وقلوبهم لا تنام، وإنما كانت قلوبهم لا تنام لأن الوحي قد ينزل عليهم في المنام فأيقظ الله قلوبهم لذلك ليفهموا الوحي.

واستشكل العلماء ذلك بنومه صلى الله عليه وسلم في الوادي عن صلاة الصبح إلى أن طلعت الشمس، فلو كان قلبه مستيقظاً لما نام حتى خرج الوقت.

وأجاب عنه العلماء: بأن الفجر والشمس إنما يدركان بالعين لا بالقلب، فلهذا لم يحس بطلوعهما لأن عينه التي يدرك بها كانت نائمة.

ص: 286

وأما الجواب عنه: بأن قلبه كان ينام في بعض الأوقات فنام في ذلك الوقت، قال ابن الملقن: لكن قال القاضي زكريا في شرح الروض حكاه الشيخ أبو حامد عن بعض أصحابنا قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم نومان أحدهما: ينام قلبه وعينه، والثاني: عينه دون قبله، فكان نوم الوادي من النوع الأول ولم يستبعده.

ومنها: أن فيه دلالة على أنه يجوز نوم الرجل مع امرأته بغير جماع بحضرة بعض محارمها، وإن كان مميزاً كما نام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ميمونه بحضرة ابن أختها عبد الله بن عباس.

وجاء في بعض الروايات أنها كانت حائضاً، ولم يكن ابن عباس يطلب المبيت في ليلة فيها حاجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجماع.

ومنها: أن فيه دلالة على صلة الرحم، وعلى فضل ابن عباس وحذقه على صغر سنة، حيث قام بالليل واقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل كفعله، وكان عمره آنذاك عشر سنوات.

ومنها: أن فيه دلالة على صحة الاقتداء في النافلة وصحة الجماعة فيها، فإن ابن عباس اقتدى به في صلاة الليل.

ومنها: أن فيه دلالة على أن الجماعة تصلى بإمام ومأموم.

ومنها: أن فيه دلالة على صحة صلاة الصبي المميز.

ومنها: أن فيه دلالة على موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام، وهذه المسألة مختلف فيها.

فمذهب إمامنا الشافعي أن السنة أن يقف الذكر بالغاً كان أو صبياً عن يمين الإمام، ولو وقف عن يساره وخلفه لم تبطل صلاته، لكن يستحب للإمام إذا اقتدى به واحد ووقف عن يساره يحوله إلى يمينه، كما حول النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس إلى يمينه.

فائدة: ذكر الشيخ برهان الدين المحدث أن المحولين من اليسار إلى اليمين في الصلاة ثلاثة عبد الله، وهو في الصحيحين (1) .

وجابر بن عبد الله كما في صحيح مسلم (2) .

(1) أخرجه البخاري (1/64، رقم 138) ، ومسلم (1/528، رقم 763) . وأخرجه أيضاً: أبو داود (1/166، رقم 610) ، وابن ماجه (1/312، رقم 973) .

(2)

أخرجه مسلم (4/2301، رقم 3006) .

وأخرجه أيضاً أبو داود (1/171، رقم 634) ، وابن حبان (5/572، رقم 2197) .

ص: 287

وجبار بن صخر كما في مسند أحمد (1) .

وزاد الشيخ أبو ذر رابعاً وهو حذيفه بن اليمان، وقال: إنه في معجم الطبرانى الأوسط (2) .

وذهب أبو حنيفة إلى أن موقف المأموم الواحد خلف الإمام لا عن يمينه وهذا الحديث يرد عليه.

وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى أن المأموم الواحد إذا وقف عن يسار الإمام تبطل صلاته وهذا الحديث يرد عليه.

لكن عند الشافعي إذا أردت المرأة أن تقتدي بالرجل فالسنة أن تقف خلفه لا عن يمينه، ولو وقفت عن يمينه جاز لكنه خلاف السنة.

قال العلماء: وإذا اقتدى بالإمام ووقف عن يمينه ثم جاء آخر وقف عن يساره، وحينئذ يستحب أن يتقدم الإمام أو يتأخر ليصيروا وراءه صفاً، وتأخرهما أفضل، هذا إذا لحق الثاني الإمام في القيام أما إذا لحقه في التشهد أو السجود فلا تقدم ولا تأخر حتى يقوموا.

نعم لنا شخص لا يستحب له الوقوف عن يمين الإمام ولا عن يساره ولا خلفه، بل يؤمر بالوقوف في جهة أخرى، والحال أن كلاً من الإمام والمأموم يصلي في أرض مستوية خارجة عن مكة شرفها الله تعالى، وصورته: فيما إذا اقتدى الإنسان بإمام عجز عن الصلاة قائماً وقاعداً فصلى مضطجعاً على جنبه، فلا يأتي للمأموم أن يقف عن يمينه أو يساره لأن يمين الإمام إلى جهة الأرض، ويساره إلى السماء، أو بالعكس ولا خلف الإمام لأن الانفراد مكروه، فتعين أن يقف إما عند رجلي إمامه، وإما عند رأسه وهو الأولى.

ومنها: أن فيه دلالة على أن يستحب للإمام أن يعلم المأموم إذا قصر في شيء من السنن وإن كان في الصلاة، كما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عباس في الصلاة لما وقف عن يساره وحوله إلى يمينه.

ومنها: أن فيه دلالة على أنه يستحب للمؤذن أن يعلم الإمام بقرب إقامة

(1) أخرجه أحمد (3/421)، قال الهيثمي (2/95) : فيه شرحبيل بن سعد، وهو ضعيف.

(2)

أخرجه الطبراني في الأوسط (6/26، رقم 5689)، قال الهيثمي (2/107) : رجاله موثقون.

ص: 288

الصلاة، وأن الإمام إذا أعلمه المؤذن بذلك يستحب له أن يقوم معه، هذا إذا لم يكن الإمام حاضراً في المسجد، أما إذا كان في المسجد فالسنة أن لا يقيم المؤذن الصلاة إلا بإذنه.

ومنها: أن فيه دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يصلي بالوضوء الواحد فرضاً ونوافل، وهذا لا شك في جوازه، بل يجوز أن يصلي فروضاً عديدة ونوافل بوضوء واحد.

ومنها: أن فيه دلالة على أنه يجوز أن يصلي الفريضه بوضوء النافلة، كما إذا توضأ الإنسان لصلاة الضحى مثلاً فله أن يصلي به فرضاً، بل فروضاً ونوافل، بل يجوز لمن توضأ لمس المصحف أن يصلي به الفرض والنفل وغير ذلك.

نعم لنا شخص توضأ لنافلة أو صلاة جنازة أو مس مصحف ولا يجوز له أن يصلي به الفرض، وصورته: في دائم الحدث كمن به سلس البول إذا نوى بوضؤه استباحة الفرض استباحه، واستباح معه النفل استباحه دون الفرض، لأن الأقوى لا يتبع الأضعف، لكن يباح له أن يصلى به صلاة الجنازة، لأنها كالنفل في جواز الترك، وأن يمس به المصحف، أما إذا نوى استباحة مس المصحف فإنه لا يباح له به الفرض ولا النفل، ولا صلاة الجنازة، وإنما يباح له به مس المصحف، وإن دائم الحدث كالمتيمم في ذلك كله.

ومنها: أن فيه دلالة على أن النوم الخفيف لا ينقض الوضوء، وهو المسمى بالنعاس كما قدمنا ذلك، وقد قدمنا أن من طرأ عليه النوم إن سمع كلام الحاضرين إذ لو كانوا عنده فهو نعاس لا ينتقض به الوضوء، وإلا فهو نوم ينقض.

ومنها: أن فيه دلالة على أنه يستحب للمتهجد أن يضطجع على جنبه بعد التهجد.

ومنها: أن فيه دلالة على أن المأموم إذا تقدم على الإمام تبطل صلاته، قال العلماء: والعبرة في التقدم والتأخر في حق القائم بالعقب، فإذا تقدم بالعقب المأموم على عقب الإمام بطلت صلاته، ولو وقف المأموم بجانب الإمام وشك في التقدم عليه صحت صلاته، لأن الأصل عدم التقدم.

نعم لنا شخص تقدم على الإمام بعقبية، ومع ذلك تصح صلاته وصورته: أن يصلي الإمام قاعداً لمرض، وكذلك المأموم فإن الإعفاء بالتقدم والتأخر في المصلي قاعداً بمحل القعود، وهو الإلية فإذا ساوى محل قعود المأموم محل قعود الإمام صحت

ص: 289

الصلاة، وإن قدم المأموم رجليه على الإمام.

ومنها: أن فيه دلالة على أنه يستحب المبيت عند العالم ليراقب أفعاله فيقتدي به وينقلها.

ومنها: أن فيه دلالة على أن النافلة كالفريضة في تحريم الكلام فيها.

ومنها: أن فيه دلالة على أن من الأدب أن يمشي الصغير عن يمين الكبير، والمفضول عن يمين الفاضل.

ومنها: أن فيه دلالة على أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة بخلاف الكثير، فالفعل القليل كالضربتين والخطوتين، والكثير كثلاث ضربات وثلاث خطوات.

نعم لنا شخص خطى في صلاته خطوة واحدة بل بعض خطوة بطلت صلاته، ولنا آخر خطى عشرين خطوة بل ألف خطوة وأكثر لم تبطل.

وصورة الأولى: إذا نوى أن يخطو ثلاث خطوات متواليات فخطى منها خطوة بطلت صلاته، وكذا لو شرع فيها عملاً بنيته.

وصورة الثانية: إذا خطى في صلاته خطوتين مثلاً ووقف ثم خطوتين ووقف وهكذا إلى مائة خطوة وأكثر لا تبطل لأن الثلاثة تبطل إذا توالت، وإن تفرقت فلا.

من القليل الإشارة برد السلام، واللبس الخفيف كلبس خاتم أو نعل، وقتل قمله فلا تبطل الصلاة بشيء من ذلك، ودم القملة معفو عنه بخلاف جلدها فلا يعفى عنه.

ومنها: أن فيه دلالة على أنه ينبغي للمعلم أن يفتل أذن المتعلم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن عباس لما أداره وحوَّلة إلى جهة يمينه، كما جاء في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أخذ بأذنه اليمنى ففتلها (1) .

وإنما فتل النبي صلى الله عليه وسلم أذنه ليحرضه على الفهم، ولينفي عنه النوم، فإنه أعجبه قيامه معه مع صغر سنه.

ويقال: إن المعلم إذا تعهد فتل أذن المتعلم كان أذكى لفهمه.

قال الربيع تلميذ الشافعي: ركب الشافعي يوماً فمشيت بركابه، ولصقت بسرجه، فجعل يفتل شحمة أذني فاستعظمت ذلك منه حتى وقفت على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مع ابن عباس، فعلمت أنه فعله عن أصل.

(1) هذه الرواية أخرجها ابن خزيمة (3/88، رقم 1675) وأحمد (1/242، رقم 2164) .

ص: 290

ومنها: أن فيه دلالة على استحباب قيام الليل، وكان واجبا عليه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ?وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مُّحْمُوداً? [الإسراء: 79] ثم نسخ على الأصح.

وقد جاءت أخبار وآثار عن السلف الصالح في فضل قيام الليل:

قال بعض العارفين: ليس في الدنيا شيء يشبه نعيم أهل الجنة إلا ما يجده أهل التملق في قلوبهم بالليل من حلاوة المناجات، فحلاوة المناجات ثواب عاجل لأهل الليل (1) .

قال أبو سليمان رحمه الله: أهل الليل في ليلتهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا (2) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وتابع الصيام، وصلى بالليل والناس نيام» (3) .

وقال بعضهم: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام كذب من ادعى محبتي وإذا جن ليله نام عني.

وقال الفضيل رضي الله عنه: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم إنك محروم

(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/358) .

(2)

انظر: إحياء علوم الدين (1/358) .

(3)

أخرجه أحمد (5/343، رقم 22956)، قال الهيثمي (3/192) : رجاله ثقات. وابن خزيمة (3/306، 2136، 2137) وقال: إن صح الخبر. وابن حبان (2/262، رقم 509) ، والطبراني في الكبير (3/301، رقم 3466)، قال الهيثمي (2/254) : رجاله ثقات. والبيهقي في شعب الإيمان (3/404، رقم 3892) ، وفي السنن الكبرى (4/300، رقم 8262) عن أبي مالك الأشعري.

وأخرجه الترمذي (4/354، رقم 1984) وقال: غريب. والبيهقي في شعب الإيمان (3/215، رقم 3360) ، وأحمد (1/155، رقم 1337) ، وأبو يعلى (1/337، رقم 428) ، والبزار (2/281، رقم 702) عن علي.

وأخرجه أحمد (2/173، رقم 6615) ، والطبراني في الكبير (13/46، رقم 103)، قال الهيثمي (2/254) : إسناده حسن. والحاكم (1/153، رقم 270) وقال: صحيح على شرط الشيخين. والبيهقي في شعب الإيمان (3/128، رقم 3090) عن ابن عمرو.

ص: 291

قد كثرت خطيئتك (1) .

وقد أشار إلى هذا بعضهم بقوله:

أرانى بعيد الدار لا أقرب الحمى

وقد نصبت الساهرين خيام

علامة طردي طول ليلي نائم

وغيري يرى أن المنام حرام

وقيل: أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء أن لي عباداً يحبوني وأحبهم، ويشتاقون إلي وأشتاق لهم، ويذكروني وأذكرهم، وينظرون لي وأنظر إليهم، فإن حذوت طريقهم أحببتك، وإن عدلت عن ذلك مقتك، قال: يارب ما علامتهم؟ قال: يراعون الظلال بالنهار كما يراعي الراعي غنمه، ويحنون إلى غروب الشمس كما تحن الطير إلى وكارها، فإذا جنهم الليل أي: سترهم، واختلط الظلام، وفرشت الفرش، وخلا كل حبيب بحبيبه نصبوا إلي أقدامهم، وافترشوا إلي وجوههم، وناجوني بكلامي وتلهفوا لي بإنعامي، فمنهم صارخ وباكي، ومنهم متأوه وشاكي، ومنهم قائم وقاعد، ومنهم راكع وساجد، فأول ما أعطيهم ثلاث خصال، الأولى: أن أقذف في قلوبهم من نوري، الثانية: أقبل بوجهي الكريم عليهم، أفترى من أقبلت عليه بوجهي أيعلم أحد ما أريد أن أعطيه، الثالثة: لو كانت الأرض والسماوات في موازينهم لاستقللتها لهم (2) .

ولله در القائل:

فإن لم يكن جفني ووجهي على الثرى

بأبوابكم لا كان وجهي ولا جفني

ونقل عن بعض الصالحين أنه كان يقوم الليل فنام ليلة فقيل: قم فصل أما علمت أن مفاتيح الجنة مع أصحاب الليل فهم خزانها.

ونقل عن أبي سليمان الداراني أنه قال: نمت ليلة وإذا بجارية أيقظتني وقالت لى: تنام وأنا أراك في الجنة منذ خمسين عاماً.

ومن كلامه رضي الله عنه كن نجماً فإن لم تستطع فشمساً.

قيل: معناه إن قدرت أن تقوم الليل كله فافعل كالنجم فإنه يطلع في الليل كله، فإن لم تستطع فصل بعض الليل كالقمر يطلع بعض الليل، فإن لم تستطع فكن كالشمس تطلع نهاراً أي: فلا تعص الله في النهار.

ونقل اليافعي عن بعض الصالحين أنه كان يحيي الليل فنام ليلة عن ورده، فرأى في

(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/355) .

(2)

انظر: إحياء علوم الدين (1/358) .

ص: 292

منامه حوراً قد دخلن عليه من محرابه وهن حسان وفيهن جارية سوداء قبيحة المنظر فسألهن من أنتن؟ فقلن: نحن لياليك الماضية في العبادة، وهذه السوداء هي الليلة التي نمت فيها.

ويروى عن أم سليمان نبي الله صلوات الله وسلامة عليه قالت: له يا بني لا تكثر من النوم بالليل، فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيراً يوم القيامة.

لطيفة: قال في الروض الفائق دخل أبو زيد البسطامي رحمه الكتاب وهو صغير فلما وصل إلى قوله تعالى ?يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَاّ قَلِيلاً? [المزمل: 1، 2] فقال لأبيه طيفور بن عيسى يا أبت من ذا الذي يقول له الحق سبحانه وتعالى هذا الخطاب فقال: يا بني ذلك محمد صلى الله عليه وسلم ثم خفف عنه في سورة طه، فلما قرأ ووصل إلى قوله تعالى: ?إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ? [المزمل: 20] قال: يأبت إني أسمع أن طائفة كانو يقومون من الليل، قال أبوه: نعم أولئك أصحابه عليه الصلاة والسلام، قال: يا أبت فأي خير في ترك شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكان أبوه بعد ذلك يقوم الليل كله، فانتبه أبو يزيد ليلة فقال: يا أبت علمني أصلي معك فقال: يا بني أرقد فإنك صغير بعد، فقال: يا أبت إذا كان يوم يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، وقال لي ربي عز وجل ما فعلت؟ أقول لربي: قلت لأبي: علمني أصلي معك قال: أرقد فإنك صغير بعد، فقال أبوه: لا والله ما أريد أن تقول ذلك، ثم علمه يصلي معه وكان بعد ذلك يقوم الليل ويصلي عامته.

ولله در القائل:

أيها القائمون في سندس الليل

وقد أسبلت ذيول الظلام

قد وصلتم إلى الوصال فطيبوا

وانزلوا وأبشروا بمرام

هذه دارنا ونحن كرام

ربحت عندنا ضيوف الكرام

إن طلبتم قرباً وجدتم لدينا

كل ما تشتهي نفوس الأنام

قد رفعنا حجابنا فاشهدونا

وادخلوا خلوة الرضا بسلام

ولقد أحسن إمامنا الأعظم الإمام الشافعي حيث قال:

إذا هجع النوم أسبلت عبرتي

وأنشدت بيتاً وهو من أعظم الشعر

أليس من الخسران أن ليالياً

تمر بلا نفع وتحسب من عمرى

ص: 293