المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس السادس والثلاثون - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ٢

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس السادس والثلاثون

‌المجلس السادس والثلاثون

في الكلام على قوله تعالى:

? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ? [الإسراء: 85]

وفيه فوائد كثيرة متعلقة بالروح

قَالَ البُخَارِي:

باب قول الله تعالى: ? وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً ? [الإسراء: 85]

حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِى مَعَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى خَرِبِ الْمَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَسْأَلُوهُ لَا يَجِىءُ فِيهِ بِشَىْءٍ تَكْرَهُونَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لَنَسْأَلَنَّهُ. فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، مَا الرُّوحُ فَسَكَتَ. فَقُلْتُ إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ. فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ، قَالَ ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَاّ قَلِيلاً? [الإسراء: 85] . قَالَ الأَعْمَشُ هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا (1) .

يتعلق بهذا الحديث وهذه الآية فوائد كثيرة في الروح وغيره:

الفائدة الأولى: «الروح» تذكر وتؤنث فيقال: روح طيب، وروح طيبة.

الفائدة الثانية: تطلق «الروح» في القرآن وغيره على معان، تطلق ويراد بها: ملك له أحد عشر ألف جناح وألف وجه يسبح الله تعالى إلى يوم القيامة.

وتطلق ويراد بها: ملك له سبعون ألف لسان يسبح الله بها ويقدسه.

وتطلق ويراد بها: ملك رجلاه في الأرض السفلى، ورأسه عند قائمة العرش.

(1) قال الحافظ بن حجر في الفتح (1/224) : قوله: «خرب» : جمع خربة ويقال بالعكس والخرب ضد العامر.

قوله: «عسيب» : أي عصا من جريد النخل.

قوله: «لا تسألوه لا يجيء» : لا تسألوه خشية أن يجيء فيه بشيء.

قوله: «لنسألنه» جواب القسم المحذوف.

قوله: «الروح» : الأكثر على أنهم سألوه عن حقيقة الروح الذي في الحيوان، وقيل: عن جبريل. وقيل: عن عيسى. وقيل: عن القرآن. وقيل: عن خلق عظيم روحاني.

قوله: «هكذا في قراءتنا» أي قراءة الأعمش وليست هذه القراءة في السبعة بل ولا في المشهور من غيرها وقد أغفلها أبو عبيد في كتاب القراءات له من قراءة الأعمش والله أعلم.

ص: 213

وتطلق ويراد بها: خلق كخلق بني آدم له أيد وأرجل.

وتطلق ويراد بها: عيسى عليه السلام.

ونطلق ويراد بها: القرآن.

وتطلق ويراد بها: الوحي.

وتطلق ويراد بها: خلق من خلق الله، لا ينزل ملك إلى الأرض إلا نزل معه.

وتطلق ويراد بها: مَلَك عظيم يقوم وحده فيكون صفاً، وتقوم الملائكة صفاً، قال تعالى: ?يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفاًّ? [النبأ: 38] .

وتطلق ويراد بها الروح التي في الجسد.

فهذه أحد عشر معنى للروح.

والفائدة الثالثة: اختلف العلماء في المراد بالروح المسئول عنها في الآية من هذه المعاني، فقيل: عيسى بن مريم، كأنهم سألوه عنه فقال لهم: هو من أمر الله لا كما تقوله النصارى فيه.

وأكثر المفسرين والعلماء على أن الروح المسئول عنها هي: الروح التي في الجسد سألوه عن حقيقتها وكيفية امتزاجها في الجسم فقال لهم في الجواب: «هي من أمر ربي» أي: ما استأثر الله بعلمه، أي: اختص بعلمه ولم يطلع عليها أحد من خلقه.

قال بعضهم: قال أكثر أهل العلم: وليس في الآية دليل على أن الروح أي: روح الجسد لا تعلم، ولا أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلمها، ولكن إنما أمره الله تعالى أن يقول لهم:«هي من أمر ربي» ولم يعينها لهم لأمرين:

أحدهما: أنه كان عندهم في التوراة أن الروح من أمر الله تعالى، لا يطلع عليها أحداً، فقالت اليهود: نسأله عنها فإن أجاب فليس بنبي، وإن لم يجب فهو صادق، فلما سألوه لم يجبهم بل انتظر حتى نزلت عليه الآية، فأخبرهم أنها من أمر الله، فقالوا: هكذا نجده عندنا.

الأمر الثاني: إنما قال لهم: «هي من أمر الله» لأنهم قصدوا تعجيزه وتغليطة، فإن الروح لما كانت مشتركة بين المعاني التي قدمنا ذكرها، قصدوه أن يسألوه فبأي معنى من المعاني أجاب قالوا: ليس هذا، فأمره الله تعالى أن يجيبهم جواباً مجملاً، فإن أمر ربي يصدق على كل واحدة من مسميات الروح.

واعلم أنه قد افترق الناس فيها فرقتين، فرقة أمسكت عن الكلام فيها، لأنها سر من أسرار الله تعالى لم يؤت علمه لبشر، وهذه الطريقة هي المختارة.

ص: 214

قال الجنيد: الروح شيء استاثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحداً من خلقه، فلا يجوز لعباده البحث عنه بأكثر من أنه موجود.

وعلى هذه الطريقة ابن عباس وأكثر السلف (1) .

وها هنا سؤال على هذه الطريقة وهو: فإن قيل: ما الحكمة في عدم اطلاع عباده على حقيقة الروح؟

جوابه: الحكمة في ذلك إظهار عجز المرء، لأنه إذا لم يعلم بحقيقة نفسه مع القطع بوجوده كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق سبحانه وتعالى من باب أولى قاله القرطبي.

وقال ابن بطال: الحكمة في ذلك تعريف الخلق عجبهم من علم ما لا يدركونه، حتى يضطرهم ذلك إلى رد العلم إليه.

والفرقة الثانية: تكلمت فيها وبحثت عن حقيقتها.

قال النووي: وأصح ما قيل في ذلك قول إمام الحرمين: إنها جسم لطيف مشتبك بالأجسام الكثيفة اشتباك الماء بالعود الأخضر.

وقال جمهور الأطباء: هو البخار اللطيف الساري في الأبدن.

وقيل: هي بعض الجسم.

وقال أبو الحسن الأشعري (2) : الروح النفس الداخل والخارج. قال ابن الملقن وهذا أشهر الأقوال.

وقيل: الروح الدم.

وقيل: جسم لطيف متصور على صورة الإنسان داخل الإنسان.

قال ابن الملقن: وذكر بعضهم فيها سبعين قولاً.

الفائدة الرابعة: اختلف العلماء هل علم النبي صلى الله عليه وسلم الروح وأمره الله أن لا يطلع عليها أحداً، أو ما علمها؟

فقيل: إنه قبض ولم يعلمها.

وقيل: أطلعه الله عليها ولم يأمره أن يطلع عليها أمته، وهذا نظير الخلاف في علم الساعة.

الفائدة الخامسة: وقع الاختلاف في الروح هل هي جسم أو عرض.

(1) وهذه الطريقة في الوقوف عند تعريف الروح أن حقيقتها مما استأثر الله بعلمه، قال ابن حجر في الفتح (1/224) أنه هو الصحيح.

(2)

أبو الحسن الاشعري هو: علي بن إسماعيل بن إسحاق، أبو الحسن، من نسل الصحابي أبي موسى الاشعري، مؤسس مذهب الأشاعرة، كان من الأئمة المتكلمين المجتهدين، ولد في البصرة سنة: 260 هـ، وتلقى مذهب المعتزلة وتقدم فيهم ثم رجع وجاهر بخلافهم، وتوفي ببغداد سنة: 324 هـ، قيل: بلغت مصنفاته ثلاثمائة كتاب، منها: إمامة الصديق، والرد على المجسمة، ومقالات الإسلاميين، والإبانة عن أصول الديانة، ورسالة في الايمان، ومقالات الملحدين، والرد على ابن الراوندي، وخلق الأعمال، والأسماء والأحكام، واستحسان الخوض في الكلام، واللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع، يعرف باللمع الصغير.

ص: 215

فذهب كثير من الصوفية كما قاله الرزكشي إلى أنها ليست بجسم ولا عرض، بل جوهر مجرد قائم بنفسه غير متحيز، وله تعلق خاص بالبدن للتدبير والتحريك، غير داخل في البدن ولا خارج عنه. وهذا هو رأي الفلاسفة.

وذهب كثير من المتكلمين وأهل المعتزلة إلى أنها عرض وأنه الحياة التي صار البدن بوجودها حياً.

وأكثر المسلمين على أنها جسم كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، لوصفها في الأحاديث والآيات بالترقي والقبض والإمساك والإرسال والإخراج والخروج والتنعم والتعذيب والتردد في البرزخ، وأنها تأكل وتشرب وتسرح وتنطلق وتعرف، وهذه صفات الأجسام، والعرض لا يتصف بها.

الفائدة السادسة: اختلف العلماء في النفس والروح هل هما شيء واحد أو مختلفان؟

والذي عليه أكثر العلماء: أن الروح والنفس بمعنى واحد، وذهب بعض العلماء إلى أنها غير النفس، وبه قال السهيلي، وفرقوا بينهما بأن النفس طينية نارية، والروح نورية روحانية، وبأن النفس لا تريد إلا الدنيا، والروح تدعو إلى الآخرة.

الفائدة السابعة: اختار ابن عبد السلام أن الروح في القلب، وبه جزم الغزالي في كتابه الانتصار، وقال بعض المتكلمين: الذي يظهر أن الروح بقرب القلب، والذي قاله إمام الحرمين وقال النووي إنه أصح ما قيل: إن الروح في سائر البدن لا في القلب فقط كما قدمنا ذلك.

الفائدة الثامنة: أجمع أهل السنة والجماعة على أن الروح محدثة مخلوقة، ولم يخالف في ذلك إلا الزنادقة، ويدل على حدوثها حديث:«الأرواح جنود مجندة» (1) والمجندة

(1) بقية الحديث: «

فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»

أخرجه البخاري (3/1213، رقم 3158) ، وأبو يعلى (7/344، رقم 4381) ، والقضاعي (1/185، رقم 274) عن عائشة.

وأخرجه مسلم (4/2031، رقم 2638) ، وأبو داود (4/260، رقم 4834) ، وأحمد (2/295، رقم 7922) ، وابن حبان (14/42، رقم 6168) عن أبي هريرة.

وأخرجه الطبراني في الكبير (10/230، رقم 10557) عن ابن مسعود. قال الهيثمي (8/87) : رجاله رجال الصحيح.

وأخرجه أبو نعيم في الحلية (1/198) ، والحاكم (4/466، رقم 8296)، وقال: صحيح الإسناد. والطبراني في الكبير (6/263، رقم 6169) ، وفي الأوسط (2/160، رقم 1577) عن سلمان.

ص: 216

لا تكون إلا مخلوقة.

الفائدة التاسعة: اختلف العلماء في الروح هل خلقت قبل الأجساد أو بعدها؟

فقيل: بعدها واستدل بحديث: «لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط منه كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة امثال الذر» (1) أخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة.

و «النسمة» : الروح.

وبحديث: «إن الله خلق أرواح العباد قبل العباد بألفي عام، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف» (2) .

لكن قال شيخنا الجلال السيوطي سنده ضعيف جداً.

الفائدة العاشرة: ذهب أهل الملل من المسلمين وغيرهم إلى أن الروح تبقى بعد موت البدن، فهي أبدية، وخالف في ذلك الفلاسفة.

وإذا قلنا ببقائها فهل تفنى عند القيامة ثم تعاد توفيه بظاهر قوله تعالى: ?كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ? [الرحمن: 26] أو لا تفنى؟ حكاهما السبكي في تفسيره المسمي «بالدر النظيم» .

وقال: والأقرب منهما أنها لا تفنى، وإنما تكون حينئذ ممن استثنى الله في قوله: ?إِلَاّ مَن شَاءَ? [النمل: 87](3) كما قيل في الحور العين.

وأما قوله تعالى: ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ? [آل عمران 185] فالمراد بموت النفوس: مفارقتها الأجساد وخروجها منها، لا أنها تعدم وتضمحل وتصير عدماً محضاً، بل هي باقية بعد مفارقة الأجساد في نعيم أو في عذاب، وحينئذ فلا إشكال على من يقول ببقائها وعدم فنائها.

الفائدة الحادية عشر: فإن قيل: بأي شيء تتمايز الأرواح بعد مفارقة الأشباح

(1) أخرجه الحاكم (2/355، رقم 3257) وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أيضا: الترمذي (5/267، رقم 3076) وقال: حسن صحيح. وأبو يعلى (11/263، رقم 6377) .

(2)

أورده ابن القيم في كتاب الروح من طريق ابن مندة (1/160) عن عمرو بن عبسة.

(3)

والآية بتمامها تدل على هذا المعنى قال الله تعالى: ?وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلَاّ مَن شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ? [النمل: 87] .

ص: 217

حتى تتعارف، وهل تتشكل بشكل؟

فالجواب: أنها تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها، فإنها ذات قائمة بنفسها تصعد وتنزل، وتتصل وتنفصل، وتذهب وتجيء، وتتحرك وتسكن، وقد شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أرواح الأنبياء ليلة الأسراء في مثال الأجساد.

وقال جماعة: الأرواح على صورة الخلق لها أيدي وأرجل وأعين وسمع وبصر ولسان.

قال العلامة ابن القيم: بل تمييزها بعد المفارقة يكون أظهر من تميز الأبدان، فإن الأبدان تشتبه كثيراً، وأما الأرواح فقل ما تشبته.

قال: وقل أن ترى بدناً قبيحاً وشكلاً شنيعاً إلا وكانت روحة المتعلقة به تشاكله وتناسبه، وقل أن ترى شكلاً حسناً وصورة جميلة وتركيب لطيف إلا وكانت روحه المتعلقة به مناسبة له (1) .

قال: وإذا كانت الملائكة تتميز من غير أبدان تحملهم، وكذلك الجن فالأرواح البشرية أولى (2) .

الفائدة الثانية عشر: وقع في كلام الغزالي في «الدرة الفاخرة» أن روح المؤمن على صورة النحلة، وروح الكافر على صورة الجرادة.

قال شيخنا العلامة جلال الدين السيوطي في كتابه «شرح الصدور» : وهذا شيء لا يعرف له أصل، ولا يُستدل على ما قاله الغزالي بما وقع في حديث الصور من أن إسرافيل يدعو الأرواح فتأتيه جميعاً، أرواح المؤمنين تتوهج نوراً، والأخرى مظلمة فيجمعها جميعاً فيلقيها في الصور ثم ينفخ فيه، فيقول الرب جل جلاله:«وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها» فتخرج الأرواح من الصور مثل النحل قد ملأت ما بين السماء والأرض، فتأتي كل روح إلى جسدها فتدخل تمشي في الأجساد مثل السم في اللديغ (3) .

وإنما لم يستدل به: لأن قوله: «مثل النحل» ليس المراد به أن الأرواح تخرج من الصور في صورة النحل وهيئتها، بل المراد: أن هيئة خروجها من الصور كهيئة خروج

(1) انظر: الروح لابن القيم (1/40) .

(2)

انظر: الروح لابن القيم (1/40) .

(3)

أخرجه إسحاق بن راهويه (1/84، رقم 10) ، والبيهقي في شعب الإيمان (1/312) عن أبي هريرة.

ص: 218

النحل فالتشبيه راجع إلى هيئة الخروج لا إلى الصورة وهيئتها، وهذا نظير قوله تعالى: ?كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ? [القمر: 7] .

الفائدة الثالثة عشر: لا تزال الخصومة بين الناس حتى يختصم الروح والجسد يوم القيامة، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت، وأنت كنت، لولاك لم أستطع أعمل شيئاً، ويقول الجسد للروح: أنت أردت، وأنت سولت، ولولاك كنت بمنزلة الجذع الملقى لا أحرك يداً ولا رجلاً، فيبعث الله ملكاً يقضي بينهما فيقول لهما: إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير وآخر ضرير دخلا بستاناً فقال المقعد للضرير: إني أرى هاهنا ثماراً لكن لا أصل إليها، فقال له الضرير: أركبني فتناولهما، فإيهما المعتدي؟ فيقولان: كلاهما فيقول لهما الملك فإنكما قد حكمتها على أنفسكما، يعني: أن الروح للجسد كالمطية وهو راكبه.

مسألة مهمة: وهي هل الروح أفضل من الجسد أو الجسد أفضل منها؟

فالجواب: أن الإمام الرازي صرح في كتابه «لوامع البينات» : أن الروح أفضل منه في الكلام على مسألة الفكر والذكر أيهما أفضل؟

الفائدة الرابعة عشر: في مستقر الأرواح بعد مفارقة أجسادهما.

اعلم أن ابن عبد البر نقل عن جمهور العلماء أن الأرواح تكون عند مفارقة الأجساد على أفنية القبر (1) .

(1) أورد ابن القيم كلام ابن عبد البر في كتابه الروح (ص 100) وناقش كلام ابن عبد البر مناقشة بديعة نذكرها إتماماً للفائدة.

قال ابن القيم: وأما قول من قال: الأرواح على أفنية قبورها، فإن أراد أن هذا أمر لازم لها لا تفارق أفنية القبور أبداً فهذا خطأ، ترده نصوص الكتاب والسنة من وجوه كثيرة، وإن أراد أنها تكون على أفنية القبور وقتاً، أو لها إشراف على قبورها وهي في مقرها، فهذا حق ولكن لا يقال: مستقرها أفنية القبور وقد ذهب إلى هذا المذهب جماعة منهم أبو عمر ابن عبد البر قال في كتابه في شرح حديث ابن عمر: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي» وقد استدل به من ذهب إلى ان الأرواح على أفنية القبور وهو أصح ما ذهب إليه في ذلك من طريق الأثر، ألا ترى أن الأحاديث الدالة على ذلك ثابتة متواترة وكذلك أحاديث السلام على القبور.

قلت: يريد الأحاديث المتواترة مثل حديث ابن عمر هذا، ومثل حديث البراء ابن عازب، وفيه:«هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة» ، ومثل حديث أنس:«إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إانه ليسمع قرع نعالهم» وفيه: «أنه يرى مقعده من الجنة والنار، وأنه يفسح للمؤمن في قبره سبعين ذراعاً، ويضيق على الكافر» ، ومثل حديث جابر: «إن هذه الأمة تبلى في قبورها، فإذا دخل المؤمن قبره وتولى عنه أصحابه، أتاه ملك

الحديث، وأنه يرى مقعده من الجنة فيقول: دعوني أبشر أهلي فيقال له: أسكن فهذا مقعدك أبداً» ، ومثل سائر أحاديث عذاب القبر ونعيمه ومثل أحاديث السلام على أهل القبور وخطابهم ومعرفتهم بزيارة الأحياء لهم.

وهذا القول ترده السنة الصحيحة والآثار التي لا مدافع لها، وكل ما ذكره من الأدلة فهو يتناول الأرواح التي هي في الجنة بالنص وفي الرفيق الأعلى، وعرض مقعد الميت عليه من الجنة والنار لا يدل على أن الروح في القبر ولا على فنائه دائماً من جميع الوجوه، بل لها إشراف واتصال بالقبر وفنائه، وذلك القدر منها يعرض عليه مقعده، فإن الروح شأناً آخر تكون في الرفيق الأعلى في أعلى عليين، ولها اتصال بالبدن بحيث إذا سلم المسلم على الميت رد الله عليه روحه فيرد عليه السلام، وهي في الملأ الأعلى، وإنما يغلط أكثر الناس في هذا الموضع حيث يعتقد أن الروح من جنس ما يعهد من الأجسام التي إذا شغلت مكاناً لم يمكن أن تكون في غيره، وهذا غلط محض، بل الروح تكون فوق السموات في أعلى عليين، وترد إلى القبر فترد السلام وتعلم بالمسلم وهي في مكانها هناك، وروح رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرفيق الأعلى دائماً ويردها الله سبحانه إلى القبر فترد السلام على من سلم عليه، وتسمع كلامه، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام قائماً يصلى في قبره، ورآه في السماء السادسة والسابعة.

ص: 219

قال شيخ الإسلام ابن حجر وغيره: إن أرواح المؤمنين في عليين، وهو مكان في السماء السابعة تحت العرش وأرواح الكفار في سجين وهو مكان تحت الأرض السابعة، وهو محل إبليس وجنوده.

قال: ولكل روح بجسدها اتصال معنوي لا يشبه الاتصال في الحياة الدنيا، بل أشبه شيء به حال النائم، وإن كان هو أشد من حال النائم اتصالاً، قال: وبهذا يجمع ما ورد أن مقرها في علين أو سجين وبين ما نقله ابن عبد البر عن الجمهور أنها عند أفنية قبورها.

وقال: بعضهم أرواح المؤمنين كلهم في الجنة، الشهداء وغيرهم إذا لم تحبسهم كبيرة.

وعلى هذا القول يسأل ويقال: ما الفرق بين أرواح الشهداء وغيرهم من المؤمنين في الجنة؟

ويجاب: بأن بينهم فرقاً من وجهين:

الأول: أن أرواح الشهداء بذلوا أجسادهم للقتل في سبيل الله، فعوضوا عنها بهذه الأجساد في البرزخ.

والثاني: أنهم يرزقوا من الجنة وغيره لم يثبت في حقه مثل ذلك.

ص: 220

قال ابن القيم: والصحيح أن الأرواح متفاوتة في مستقرها في البرزخ أعظم تفاوت بحسب درجاتهم في السعادة والشقاوة.

فمنها أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى وهم الأنبياء، وهم متفاوتون في منازلهم كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج.

ومنها أرواح في حواصل طير تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا جميعهم فإن منهم من يحبس عن دخول الجنة لدين أو غيره، ومنهم من يكون على باب الجنة، ومنهم من يكون محبوساً في قبره، ومنهم من يكون محبوساً في الأرض لم تصل روحه إلى الملأ الأعلى (1) .

ومنها أرواح تكون في تنور الزناة، وأرواح في نهر الدم.

قال: فليس للأرواح سعيدها وشقيها مستقر واحد.

قال: وكلها على اختلاف حالها لها اتصال بأجسادها في قبورها ليحصل له من النعيم أو العذاب ماكتب له، فإن الروح إذا كانت في الرفيق الأعلى فهي متصلة بالبدن أي: نورها مشرق على البدن كاتصال شعاع الشمس بالأرض، بحيث إذا سلم المسلم على الميت رد عليه السلام وعرفه بذلك الاتصال، وهي في مكانها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائياً بُلِّغْتُه» (2) .

وأفاد ابن حجر أن الأرواح وإن كانت في عليين فهي مأذون لها في التصرف، ثم تأوي إلى محلها من عليين أو سجين.

قال: وإذا نقل الميت من قبر إلى قبر فالاتصال المذكور مستمر، وكذلك إذا تفرقت أجزاؤه.

وسنذكر في كتاب الجنائز ما يحبس الروح عن مقامها الكريم، وما يمنع الميت من الكلام مع الموتى.

الفائدة الرابعة عشر: أفاد النسقي في كتابه «بحر الكلام في أصول الدين» : أن الأرواح على أربعة أوجه أرواح الأنبياء وتخرج من جسدها وتصير صورتها مثل المسك الكافور، وتكون في الجنة تأكل وتشرب وتتنعم وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش، وأرواح الشهداء تخرج من جسدها وتكون في أجواف طير خضر في الجنة،

(1) انظر: الروح لابن القيم (1/115) .

(2)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/218، رقم 1583) ، والخطيب (3/292) عن أبي هريرة.

ص: 221

تأكل وتتنعم يدل عليه قوله تعالى: ?بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ? [آل عمران: 169، 170] وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش.

وهنا سؤال: وهو أن يقال كيف يجعل أرواح الشهداء في حواصل طير خضر إكراماً لها مع أن ذلك حصر لها وتضيق عليها لا إكرام؟

وأجيب عنه بجوابين:

الأول: أن في قوله: «في حواصل طير خضر» بمعنى: على والمعنى: أن أرواحهم في جوف طير خضر كقوله تعالى: ?وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ? [طه: 71] وجائز أن يسمى الطير جوفاً إذ هو محيط به ومشتمل عليه.

الثاني: أنه لا مانع من أن يكون في الأجواف حقيقة، ويوسعها الله لها حتى تكون أوسع من الفضاء.

وأرواح المطيعين من المؤمنين برياض الجنة لا تأكل ولا تتمتع، ولكن تنظر في الجنة، وأرواح العصاة من المؤمنين تكون بين السماء والأرض في الهواء، وأما أرواح الكفار فهي في أجواف طير سود في سجين، وسجين تحت الأرض السابعة، وهي متصلة بأجسادها فتعذب أرواحها ويتألم ذلك الجسد، كالشمس في السماء ونورها في الأرض.

الفائدة الخامسة عشر: قال بعضهم: إن ملك الموت إذا نزل على العبد المؤمن لقبض روحه فلو جذبها بألف سلسلة ما خرجت، فيقول الله تعالى: دعها فإنها لا تخرج إلا بسماع يطيب لها، فيناديها: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك، فتخرج بحلاوة الخطاب إلى يوم القيامة، يقول لها: ارجعي أي: إلى جسدك فتفرح بالجسد ويفرح بها فتقول: أنا ما قرَّ لي قرار، ويقول الجسد: أنا اكلني الدود والتراب، فيناديهما مناد: وليس بعد هذا الاجتماع فراق.

قيل: إنه يأتي إلى جسد الميت قبل إعادة الروح إليه ملك فيقول: أبشر كلما أندرست عظامك محيت آثامك، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:«الموت كفارة لكل مسلم» (1) .

(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/121) ، والبيهقي في شعب الإيمان (7/171، رقم 9886) ، والخطيب (1/347) ، والقضاعي (1/133، رقم 171) ، والديلمي (4/239، رقم 6717) عن أنس.

ص: 222

لطيفة: قال في الروض الفائق: جاء في الأثر: «أن الروح إذا خرج من الجسد ومضى عليه سبعة أيام تقول: يارب ائذن لي حتى انظر إلى جسدي، فيقول: اذهبي فتأتي الروح إلى القبر فتنظر إليه من بعيد فتراه متغيراً، يسيل من منخره ماء، ومن فمه ماء، ومن عينيه ماء، ومن أذنية ماء، فكأنه في وسط الماء، فتقول له: صرت إلى هذا الحال بعد نضارة جسمك، ثم تمضي حتى إذا كان بعد سبعة أيام أخرى، فتقول: يارب ائذن لي أن انظر إلى جسدي ملحة له فيقول: اذهبي فتأتي القبر فتنظر إليه من بعيد فتراه قد تغير وقد صار الماء الذي في فيه صديداً، والذي في عينيه قيحاً، والذي في أنفه دماً، فتقول: هل صرت إلى هذا الحال، ثم يمضي حتى إذا كان بعد سبعة أيام أخرى فتقول يارب ائذن لي حتى انظر إلى جسدي ما حاله؟ فيقول: اذهبي فيأتيه فينظر إليه من بعيد وقد صار الصديد دوداً، وقد سقط حدقتاه على وجهه، والدود يدخل في فمه ويخرج من منخره، فتقول صرت إلى هذا الحال بعد النعيم والدلال.

فانظروا إلى أحوالكم كيف تصيرون بعد الموت، وكيف تطلبون العود، وقد حصل الفوت، وأنتم عما يراد بكم غافلون، وفي بحر الأمل غارقون، أصم في الآذان عن النصائح، عمي في القلوب عن جميع المصالح، تالله ما ينفع المرء في قبره إلا التقى والعمل الصالح، ولله در القائل:

الموت بحر موجه طافح

يجير فيه العائم السابح

يا نفس إني ناصح فاقبلي

مني فإني مشفق صالح

ما ينفع الإنسان في قبره

إلا التقى والعمل الصالح

الفائدة السادسة عشر: قال ابن القيم: للروح خمسة أنواع من التعلق متغايرة، الأول: تتعلق بالبدن وهو في بطن الأم.

الثاني: تتعلق به بعد الولادة.

الثالث: تتعلق به في حال النوم، فلها تعلق به من وجه ومفارقة من وجه.

الرابع: في البرزخ، فإنها وإن كانت فارقته بالموت، فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً بحيث لم يبق لها إليه التفات.

الخامس: تعلقها به يوم البعث، وهو أكمل أنواع التعلقات ولا نسبه لما قبله إليه، ولا يقبل البدن معه موتاً ولا فساداً (1) .

(1) انظر: الروح لابن القيم (1/43 - 44) .

ص: 223

الفائدة السابعة عشر: هل للشخص روح واحدة أم أكثر؟

قال ابن عبد السلام في كل جسد روحان:

أحدهما: روح اليقظة التي أجري الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان الإنسان مستيقظاً، فإذا خرجت من الجسد نام الإنسان ورأت تلك الروح المنامات.

والأخرى: روح الحياة التي أجري الله العادة أنها إذا كانت في الجسد كان حياً فإذا فارقته مات، فإذا رجعت إليه حي، قال: وهاتان الروحان في باطن الإنسان لا يعرف مقرهما، إلا من أطلعه الله على ذلك، فهما كجنينين في بطن امرأة واحدة.

وقال ابن القيم: وقالت طائفة: للمؤمن ثلاثة أرواح، وللمنافق والكفار روح واحدة.

وقال بعضهم: للأنبياء والصديقين خمسة أرواح.

ورد هذا ابن القيم وقال: الروح التي تتوفى وتقبض فهي روح واحدة وهي النفس، وأما ما يؤيد الله به أولياءه من الروح فهي روح أخرى غير هذه الروح كما قال تعالى: ?أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ? [المجادلة: 22] .

وكذلك الروح التي أيدها الله روح المسيح ابن مريم كما قال تعالى: ?إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القُدُسِ? [المائدة: 110] .

وكذا الروح التي يلقيها على من يشاء من عباده غير الروح التي في البدن.

قال: وأما القوى التي في البدن فإنها تسمى أيضاً أرواحاً فيقال: الروح الباصر، والروح السامع، والروح الشاهد، فهذه الأرواح قوى موزعة في البدن، وتطلق الروح على أخص من هذا كله، وهي قوة المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته، وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذه إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فإذا فقدتها الروح كانت بمنزلة البدن إذا فقد روحه، وهي الروح التي يؤيدها أهل ولايته وطاعته، ولهذا يقول الناس: فلان فيه روح، وفلان ما فيه روح قصبة فارغة فالعمل روح، وللأجساد روح، وللإخلاص روح، وللمحبة روح، وللتوكل روح، والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوت، فمنهم من تغلب هذه الأرواح عليه فيصير روحانياً، ومنهم من يفقدها، أو أكثرها فيصير أرضياً والله المستعان (1) .

(1) انظر: الروح لابن القيم (1/219 - 220) .

ص: 224

الفائدة الثامنة عشر: هل النفس واحدة أم أكثر؟

وقع كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس: نفس مطمئنة، ونفس لوامة، ونفس أمارة، وأن من الناس من يغلب عليه واحدة من الثلاث، واستدل القائل بالثلاث بذكر الله لها في كتابة العزيز بقوله تعالى: ?يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ? [الفجر: 28] .

وقوله: ?لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ? [القيامة 1، 2] .

وقوله: ?إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ? [يوسف: 53] .

قال ابن القيم: والتحقيق أنها نفس واحدة، ولكن لها صفات فتسمى باعتبار كل صفة باسم.

فتسمى مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها بعبوديته ومحبته، والإنابة إليه والتوكل عليه، والرضا به والسكون إليه (1) .

ولله در القائل فيها:

إلا يا نفس ويحك ساعديني

بسعي منك في ظلم الليالي

لعلك في القيامة أن تفوزي

بطيب العيش في تلك العوالي

وتسمى لوامة إما لأنها كثيرة التقلب والتلون، تتقلب وتتلون في الساعة الواحدة فضلاً عن اليوم والشهر والعام والعمر ألوانا متلونة أي: تحب وتكره، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتسخط وتطيع، وتعصي وتتقي، وغير ذلك في كل وقت، وإما لأنها توقع الإنسان في الذنب ثم تلومه عليه، وهذا اللوم لا يكون إلا من السعيد، بخلاف الشقي فإنه لا يلوم نفسه عن ذنب، بل يلومها وتلومه في فواته.

وقالت طائفة: إن هذا اللوم يقع من النوعين السعيد والشقي، فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية الله وترك طاعته، والشقي لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها، وإما لأن كان واحد يلوم نفسه يوم القيامة إن كان مسيئاً يلوم نفسه على إساءته، وإن كان محسناً يلوم على تقصيره.

قال ابن القيم: وهذه الأقوال والأوجه كلها حق، فإن النفس موصوفة بهذا كله، باعتباره سميت لوامة ملومة، ولوامة غير ملومة، أما اللوامة الملومة: فهي النفس الجاهلة الظالمة التي تلوم صاحبها في تقصيره في معصية الله، أما الغير ملومة: فهي التي تلومه في تقصيره في طاعة الله مع بذله جهده، فهذه غير ملومة.

(1) انظر: الروح لابن القيم (1/220) .

ص: 225

وأشرف الأنفس من لامت نفسها في طاعة الله، واحتملت لوم اللائمين في مرضاته، فلا تأخذها فيه لومة لائم، فهذه تخلصت من لوم الله لها (1) .

والنفس اللوامه بهذا الاعتبار محمودة ولهذا أقسم الله بها في قوله ?وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ? [القيامة: 2] .

وتسمى أمارة باعتبار أنها تأمر بكل شيء، فلا يلوح لها طمع إلا تعرضت له، ولا يبدو لها شهوة إلا اتبعتها، فهي مذمومة، فما تخلص أحد من شرها إلا من رحمه الله ووفقه وثبته.

قال تعالى في حقها حاكيا عن امرأة العزيز: ?وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَاّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [يوسف: 53] فما يسلم من شرها إلا من رحمه الله ووفقه وثبته وأعانه.

كما قال تعالى: ?وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً? [النور: 21] .

فنسأل الله العظيم أن يعيذنا من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه خطبة الحاجة وهي: «الحمد لله نستعين به، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له» (2) .

قال الإمام حجة الإسلام الغزالي: أما النفس فحسبك ما تشاهد من حالاتها، ورداءة إرادتها، وسوء اختيارها، ففي حال الشهوة بهيمة، وفي حال الغضب سبع، وفي حال المصيبة تراها طفلاً، وفي حال النعمة تراها فرعوناً، وفي حال الجوع تراها مجنوناً، وفي حال الشبع تراها مختلاً، إن أشبعتها بطرت ومرحت، وإن جوعتها صاحت

(1) انظر: الروح لابن القيم (1/226) .

(2)

أخرجه أبو داود (2/238، رقم 2118) ، والترمذي (3/413، رقم 1105) وقال: حسن. والنسائي (3/104، رقم 1404) ، وابن ماجه (1/609، رقم 1892) ، وأحمد (1/392، رقم 3720) ، والحاكم (2/199، رقم 2744) ، والبيهقي (3/214 رقم 5594) ، والطيالسي (1/45، رقم 338) ، وعبد الرزاق (6/187، رقم 10449) ، وابن أبي شيبة (4/34، رقم 17508) ، والدارمي (2/191، رقم 2202) ، وابن الجارود (1/170 رقم 679) ، وأبو يعلى (9/168، رقم 5257) ، والطبراني في الكبير (10/98، رقم 10080) ، وفي الأوسط (3/42، رقم 2414) عن ابن مسعود.

ص: 226

وجزعت.

كما قال فيها بعضهم:

كحمار السوء إن أقضمته

رمح الناس وإن جاع نهق

ولقد صدق بعض الصالحين حيث قال: إن هذه النفس الخبيثة إذا همت بمعصيته أو انبعثت بشهوة، لو تشفعت إليها بالله سبحانه وتعالى، ثم برسوله صلى الله عليه وسلم وبجميع أنبيائه عليهم السلام، وبكتابة، وبجميع السلف الصالح من عباده، ويعرض عليها الموت والقبر والقيامة والجنة والنار، لا تعطي القياد ولا تترك الشهوة، نعم إذا استقبلتها بمنع رغيف تسكن وتترك شهوتها، وتعلم حسنتها وجهلها، فإياك أيها الرجل تغفل عنها، فإنها كما قال خالقها العالم بها جل جلاله الأمارة بالسوء، فكفى بقوله لمن غفل، ولقد صدق القائل:

توق نفسك لا تأمن غوائلها

فالنفس أخبث من سبعين شيطاناً

فتنبه رحمك الله لهذه الخداعة الأمارة بالسوء، ووطِّن على مخالفتها بكل حال تصب وتسلم إن شاء الله تعالى، فإنه لا يقدر أحد على قهرها إلا بمخالفتها.

لطيفة: عن إبراهيم الخواص (1) رضي الله عنه قال: لقيت غلاماً في التيه كأنه سبيكة فضة قلت: إلى أين يا غلام؟ قال: إلى مكة، قلت: بلا زاد ولا راحلة؟ فقال: يا ضعيف اليقين، الذي يقدر على حفظ السماوات والأرض يقدر أن يوصلني إلى مكة بلا زاد ولا راحلة، فلما دخلت مكة فإذا هو بالطواف يقول: يا نفس سبحي أبداً، ولا تحبي أحداً، إلا الخليل الصمدا، يا نفس موتى كمداً، فلما رآني قال: يا شيخ أنت بعد على ذلك الضعف من اليقين.

ولقد أحسن من قال:

يا نفس كم بخفي اللطف عاملني

وقد رآني على ما ليس يرضاه

يا نفس كم ذلة ذلت بها قدمي

وما أقال عثاري ثم إلا هو

يا نفس توبي إلى مولاك واجتهدي

عسى تنالي رضاه عند لقياه

إخواني: إذا كان صفاء المواعظ لا يؤثر في قلوبكم الكدرة، ومعاول التخويف لا تقطع في نفوسكم المتجبرة، فهذا كلام ربكم يتلى عليكم في آياية المطهرة ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ? [الزلزلة 7، 8] ويا غافلاً عما نهاه وأمره، يا مضيعاً في البطالة عمره، إلى متى تلهو وذنوبك مكتوبة

(1) إبراهيم الخواص هو: إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل، أبو إسحاق الخواص، صوفي، وكان أوحد المشايخ في وقته، وهو من أقران الجنيد، مات في جامع الري سنة: 291 هـ، قال الخطيب البغدادي: له كتب مصنفة والخواص: بائع الخوص.

ص: 227

متسطرة، كيف حياتك في سفرك وطريقك خطرة، وشاهدت ميزانك الذي يرجح بالذره الحقرة ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ? ويا غافلاً فالموت يقفو أثره، كيف بك إذا شاهدت السماء منفطرة، وحافظاك قد أحصيا عليك ما عملت من خير وشر وحصره، وقد تركت عليك الحجة وتعذرت المعذرة، فهنا يجد كل إنسان من الإحسان والعصيان ما أحضره ?فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ?.

ولقد أحسن في وعظ النفس من قال:

يا نفس توبي عن فعال منكرة

واسعي إلى دار البقاء مستبشرة

يا نفس فاز القوم من رب العلا

بالعفو عن زلاتهم والمغفرة

يا نفس قد قطعوا النهار لربهم

بصيامهم وقيامهم ما أكثره

يا نفس ويحك للمتاب فبادري

من قبل تأتيك الذنوب مسطرة

يا نفس إن القوم زادوا خيفة

من مكروه وقلوبهم متذكرة

يا نفس جدي في التقى وتزودي

عجلاً وكوني للقاء مستشعرة

يا نفس كم قوم على الدنيا احتووا

ظلماً ومالهم إذاً من آخرة

يا نفس كم أمم تفانوا في البلى

وعظامهم ضحت عظاماً ناخرة

يا نفس توبي اليوم من قبل الردى

فعسى تكوني في غد مستبشرة

يا نفس آه من ذنوب كلها

يوم القيامة في الكتاب محررة

يا نفس ما ينجيك في يوم اللقاء

من عظم أهوال الحساب المحضرة

إلا شفاعة أحمد الهادي الذي

يرجى لديه العفو عند المقدرة

فهو النبي الهاشمي المصطفى

والمحبتى من خلقه إذ طهره

يا نفس جدي في المسير لقبره

واسعي إلى أبوابه مستصغرة

وتمتعي بجماله ووصاله

كيلا تكوني في الوري منحسرة

وإذا وصلت إلى رباه فعظمي

تلك المواقف ادخلي متوقرة

ص: 228

فعسى تنالي الفوز من رب العلا

وتعود زلات الذنوب مكفرة

وتشاهدي ذاك الضريح وقد

أنواره للكائنات منورة

هو صفوة الرحمن من كل الورى

وبأحسن التكوين حقاً صوره

صلى عليه الله ربي دائماً

ما أشرقت شمس ولاحت مسفرة

* * *

ص: 229