الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلس الخامس والأربعون
في بيان شيء من سنن الوضوء
وذكر شيء من فضائل سيدنا عثمان ابن عفان رضي الله عنه
قَالَ البُخَارِي:
بَابُ الوُضُوءِ ثَلاثَاً
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِىُّ قَالَ حَدَّثَنِى إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِى الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثاً، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِى هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لَا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (1) .
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
قوله: «دعا بإناء» : وفي رواية شعيب الآتية قريباً «دعا بوضوء» ، وكذا لمسلم من طريق يونس.
وهو بفتح الواو اسم للماء المعد للوضوء، وبالضم الذي هو الفعل، وفيه الاستعانة على إحضار ما يتوضأ به.
قوله: «فأفرغ» : أي صب.
قوله: «على كفيه ثلاث مراراً» : كذا لأبي ذر، وللأصيلي وكريمة مرات بمثناة آخره، وفيه غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء ولو لم يكن عقب نوم احتياطاً.
قوله: «ثم أدخل يمينه» : فيه الاغتراف باليمين. واستدل به بعضهم على عدم اشتراط نية الاغتراف، ولا دلالة فيه نفياً ولا إثباتاً.
قوله: «فمضمض واستنثر» : وللكشميهني «واستنشق» بدل واستنثر، والأول أعم، وثبتت الثلاثة في رواية شعيب الآتية في باب المضمضة، ولم أر في شيء من طرق هذا الحديث تقييد ذلك بعدد. نعم ذكره ابن المنذر من طريق يونس عن الزهري، وكذا ذكره أبو داود من وجهين آخرين عن عثمان واتفقت الروايات على تقديم المضمضة.
قوله: «ثم غسل وجهه» : فيه تأخيره عن المضمضة والاستنشاق، وقد ذكروا أن حكمة ذلك اعتبار أوصاف الماء، لأن اللون يدرك بالبصر والطعم يدرك بالفم والريح يدرك بالأنف فقدمت المضمضة والاستنشاق وهما مسنونان قبل الوجه وهو مفروض، احتياطاً للعبادة. قوله:«ويديه إلى المرفقين» : أي كل واحدة كما بينه المصنف في رواية معمر عن الزهري في الصوم، وكذا لمسلم من طريق يونس وفيها: تقديم اليمنى على اليسرى، والتعبير في كل منهما بثم وكذا القول في الرجلين أيضاً.
قوله: «ثم مسح برأسه» : ليس في شيء من طرقه في الصحيحين ذكر عدد المسح، وبه قال أكثر العلماء. وقال الشافعي: يستحب التثليث في المسح كما في الغسل، واستدل له بظاهر رواية لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وأجيب بأنه مجمل تبين في الروايات الصحيحة أن المسح لم يتكرر فيحمل على الغالب أو يختص بالمغسول.
قال أبو داود في السنن: أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس مرة واحدة. وكذا قال ابن المنذر: إن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح مرة واحدة، وبأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل المراد منه المبالغة في الإسباغ، وبأن العدد لو اعتبر في المسح لصار في صورة الغسل، إذ حقيقة الغسل جريان الماء. والدلك ليس بمشترط على الصحيح عند أكثر العلماء.
وبالغ أبو عبيدة فقال: لا نعلم أحداً من السلف استحب تثليث مسح الرأس إلا إبراهيم التيمي، وفيما قال نظر، فقد نقله ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس وعطاء وغيرهما.
وقد روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرأس، والزيادة من الثقة مقبولة.
قوله: «نحو وضوئي هذا» : قال النووي: إنما لم يقل «مثل» لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره.
قلت: لكن ثبت التعبير بها في رواية المصنف في الرقاق من طريق معاذ بن عبد الرحمن عن حمران عن عثمان ولفظه «من توضأ مثل هذا الوضوء» وله في الصيام من رواية معمر «من توضأ وضوئي هذا» ولمسلم من طريق زيد بن أسلم عن حمران: «توضأ مثل وضوئي هذا» وعلى هذا فالتعبير بنحو من تصرف الرواة لأنها تطلق على المثلية مجازاً، لأن «مثل» وإن كانت تقتضي المساواة ظاهراً لكنها تطلق على الغالب، فبهذا تلتئم الروايتان ويكون المتروك بحيث لا يخل بالمقصود. والله تعالى أعلم.
قوله: «ثم صلى ركعتين» : فيه استحباب صلاة ركعتين عقب الوضوء.
قوله: «لا يحدث فيهما نفسه» : المراد به ما تسترسل النفس معه ويمكن المرء قطعه يقتضي تكسباً منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذر دفعه فذلك معفو عنه.
ونقل القاضي عياض عن بعضهم أن المراد من لم يحصل له حديث النفس أصلاً ورأساً، ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في الزهد بلفظ:«لم يسر فيهما» .
ورده النووي فقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة. نعم من اتفق أن يحصل له عدم حديث النفس أصلاً أعلى درجة بلا ريب. ثم إن تلك الخواطر منها ما يتعلق بالدنيا والمراد دفعه مطلقاً.
ووقع في رواية للحكيم الترمذي في هذا الحديث «لا يحدث نفسه بشيء من الدنيا» . وهي في الزهد لابن المبارك أيضاً والمصنف لابن أبي شيبة، ومنها ما يتعلق بالآخرة فإن كان أجنبياً أشبه أحوال الدنيا، وإن كان من متعلقات تلك الصلاة فلا.
قوله: «من ذنبه» : ظاهره يعم الكبائر والصغائر لكن العلماء خصوه بالصغائر لوروده مقيداً باستثناء الكبائر في غير هذه الرواية، وهو في حق من له كبائر وصغائر، فمن ليس له إلا صغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلا كبائر خفف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزداد في حسناته بنظير ذلك.
وفي الحديث:
التعليم بالفعل لكونه أبلغ وأضبط للمتعلم.
الترتيب في أعضاء الوضوء للإتيان في جميعها بثم.
الترغيب في الإخلاص.
تحذير من لها في صلاته بالتفكير في أمور الدنيا من عدم القبول، ولا سيما أن كان في العزم على عمل معصية فإنه يحضر المرء في حال صلاته ما هو مشغوف به أكثر من خارجها.
ووقع في رواية المصنف في الرقاق في آخر هذا الحديث: قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تغتروا» أي: فتستكثروا من الأعمال السيئة بناء على أن الصلاة تكفرها، فإن الصلاة التي تكفر بها الخطايا هي التي يقبلها الله، وأنى للعبد بالاطلاع على ذلك. انظر فتح الباري (1/259 – 261) .
قال العلماء: «حمران» اسم أبيه «أبان» وهو مدني قرشي، سباه خالد بن الوليد من عين التمر، فوجده غلاماًَ كيساً، فوجهه إلى عثمان فأعتقه، وكان كاتب سيدنا عثمان وحاجبه، ولِي نيسابور من الحجاج، وغرمه الحجاج بسبب هذه الولاية مائة ألف، ثم ردها عليه بشفاعة عبد الملك، وهو تابعي وكذا الاثنان قبله.
ومن لطائف هذا الإسناد أنه اشتمل على ثلاثة تابعين يروي بعضهم عن بعض، وكانت وفاة حمران خمس وسبعين.
«أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رضي الله عنه» هذا هو ثالث الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين أبو عبد الله بن عفان بن العاص بن أمية بن عبد شمس ين عبد مناف الأموي القرشي، أسلم في أول الإسلام على يد الصديق، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وستة وأربعون حديثاً، أخرج البخاري منها إحدى عشر.
استخلف أول يوم من المحرم سنة أربع وعشرين، وفي خلافته صارت الأموال والأرزاق في أيدي الناس كثيرة، وربحت الناس ربحاً كثيراً، حتى بيعت جارية بوزنها وفرس بمائة ألف، ونخلة بألف درهم، وكل ذلك بحسن قصده لرعيته ولنفسه، ولم يزل
اسمه في الجاهلية والإسلام عثمان، ويكنى أبا عمرو وأبا عبد الله.
ومن فضائله: أنه يجتمع نسبه بنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف.
ومن فضائله: أنه كان يسمى بذي النورين دون غيره من الصحابة، بل لم يعرف واحد من خلق الله يسمى بهذا الاسم غيره.
واختلفت في سبب تسميته بذلك على خمسة أقوال:
أحدها: تسمى بذلك لأنه تزوج بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية فماتت عنده ثم أم كلثوم، ولا يعلم أحد تزوج بنتى نبي غيره، ولاشك أنه صلى الله عليه وسلم نوراً وبناته وجميع أولاه كانوا كذلك.
الثاني: سمي بذلك لأنه إذا دخل الجنة برقت له برقتين.
الثالث: سمي بذلك لأنه كان يختم القرآن في الوتر، فالقرآن نور، وقيام الليل نور.
الرابع: سمي بذلك لأنه كان سخياً قبل الإسلام وبعد الإسلام.
الخامس: سمي بذلك لأنه ذو كنيتين يكنى أبا عمرو وأبا عبد الله.
ومن فضائله: أنه كان من السابقين الأولين صلى إلى القبلتين، وهاجر الهجرتين، وهو أول من هاجر إلى الحبشة فاراً بدينه ومعه زوجته رقية بنت سيد الأولين والآخرين.
ومن فضائله: أنه عد من البدريين ومن أهل بيعة الرضوان ولم يحضرهما، وسبب غيبته عن غزوة بدر أن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تحته، وهي مريضة فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجلوس عندها، وقال له:«لك أجر رجل شهد بدراً وسهمه» (1) .
وأما سبب غيبته عن بيعة الرضوان فهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد بعثه إلى مكة، ولو كان عنده أحد أعز من عثمان لبعثه، فوقعت البيعة في غيبته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رفع يده اليمني:«هذه يد عثمان» (2) فكانت أحسن من أيدي الصحابة عن أنفسهم.
ومن فضائله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له بخصوصه غير مرة فأثرى وكثر ماله، ومن
(1) أخرجه البخاري (3/1139، رقم 2962) ، والترمذي (5/629، رقم 3706) وقال: حسن صحيح. كلاهما عن ابن عمر.
(2)
أخرجه البخاري (3/1352، رقم 3495) .
دعائه له: «اللهم إني قد رضيت عن عثمان فارض عنه ثلاث مرات» (1) .
ودعا له مرة أخرى فقال: «غفر الله لك يا عثمان ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أخفيت وما هو كائن إلى يوم القيامة» (2) .
ومن فضائله: أنه كان متواضعاً ذا شفقة، وازداد تواضعه وخوفه ورفقه برعيته حين تولى الخلافة.
قيل: كان له عبد وكان عثمان قد مسك أذنه يوماً وعركها فقال له: إني كنت قد عركت أذنك فاقتص مني، فأخذ بأذنه فقال له: اشدد يا حبذا قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة.
وقال علي رضي الله عنه: كان عثمان أوصلنا للرحم، وكان من الذين آمنوا واتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين.
حكاية وقعت بين عمر وعثمان رضى الله عنهما: قال في الروض الفائق: قيل إن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما كانا في بعض أشغال النبي صلى الله عليه وسلم فأدركتهما العصر، فقال عمر بن الخطاب لعثمان: تقدم فصل بنا. فقال عثمان رضي الله عنه: أنت أولى بالتقدم مني يا عمر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمك، وأثنى عليك. فقال عمر: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «نعم الرجل عثمان صهري، وزوج ابنتي، ومن جمع الله به نوري» . فقال عثمان رضي الله عنه: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عمر أكمل الله به دين الإسلام» . فقال عمر رضي الله عنه: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عثمان تستحي منه الملائكة» . فقال عثمان رضي الله عنه: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عمر أكمل الله به الدين، وسماكم المسلمين» . فقال عمر رضي الله عنه: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عثمان يجمع القرآن وهو حبيب الرحمن» . فقال عثمان رضي الله عنه: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عمر نعم الرجل عمر يتفقد الأرامل والأيتام ويحمل لهم الطعام وهم نيام» . فقال عمر رضي الله عنه: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حقك: «غفر الله لعثمان مجهز جيش العسرة» . فقال عثمان رضي الله عنه: أنا لا أتقدم عليك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أعز الإسلام بعمر»
(1) أخرجه ابن عساكر (39/52) عن عائشة. وأخرجه ابن عساكر (39/54) عن أبي سعيد.
(2)
أخرجه الديلمي (3/99، رقم 4275) عن أبي موسي الأشعري.
وسماك رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاروق، وفرق الله تعالى بك بين الحق والباطل. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا لهما وشكرهما على حسن أدبهما مع بعضهما بعضاً.
وقد وقع نظير هذا بين أبي بكر وعلي رضى الله عنهما، وسنذكره في محله.
ومن فضائله: أنه اشترى بئر رومة، وكانت ركية ليهودي يبيع المسلمين ماءها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من يشتري بئر رومة فيجعلها للمسلمين يضرب دلوه في دلائهم وله بها مشرب في الجنة» فأتى عثمان اليهودى فساومه بها فأبى أن يبيعها كلها، فاشترى نصفها باثنتي عشرة ألف درهم، فجعله للمسلمين ثم اتفق عثمان واليهودي على أن يكون له يوم وللمسلمين يوم، فكان إذا كان يوم للمسلمين استقوا ما يكفيهم يومين، فلما رأى اليهودي ذلك قال لعثمان: أفسدت على ركيتي فاشترى النصف الآخر فاشتراه منه بثمانية آلاف درهم (1) .
ومن فضائله: أنه اشترى أرضاً وزادها في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن فضائله: أنه جهز جيش العسرة بتسعمائة وخمسين بعيراً، وأتم الألف بخمسين فرساً، وجيش العسرة كان في غزوة تبوك.
وقيل: حمل في جيش العسرة على ألف بعير وسبعين فرساً.
ومن فضائله وخصائصه: أنه تزوج ببنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يأمر الله نبيه بذلك فقد أخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إلي أن أزوج كريمتي عثمان يعني رقية وأم كلثوم» (2) .
وفي حديث: «أتاني جبريل فأمرني أن أزوج عثمان ابنتي» .
وجاء في حديث: أن رقية لما ماتت لقى النبي صلى الله عليه وسلم عثمان عند باب المسجد فقال: «يا عثمان هذا جبريل أخبرني أن الله قد أمرني أن أزوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية وعلى مثل صحبتها» أخرجه ابن ماجة وغيره (3) .
(1) ذكره البخاري (2/829) مختصراً. وأورده ابن عبد البر في الإستيعاب (3/1040) ، والمزي في تهذيب الكمال (19/450) .
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط (4/18 رقم 3501) وفي الصغير (1/253 رقم 414) قال الهيثمي (9/83) : فيه عمير بن عمران الحنفي، وهو ضعيف بهذا الحديث وغيره. وابن عدي (5/70، ترجمة 1249 عمير بن عمران الحنفي) .
(3)
أخرجه ابن ماجه (1/40، رقم 110)، قال البوصيري (1/18) : هذا إسناد ضعيف. والطبراني في الكبير (22/436، رقم 1063) عن أبي هريرة.
وعن أبي هريرة أنه قال: قال عثمان: لما ماتت امرأتي بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بكيت بكاء شديداً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك؟» فقلت: أبكي على انقطاع صهري منك، فقال:«فهذا جبريل يأمرني بأمر الله عز وجل أن أزوجك أختها» .
وفي حديث: «والذي نفسي بيده لو أن عندي مائة بنت تموت واحدة بعد واحدة زوجتك أخرى حتى لا يبقى من المائة شيء، هذا جبريل أخبرني أن الله عز وجل يأمرني أن أزوجك أختها، وأن أجعل صداقها مثل صداق أختها» أخرجه الفضائلي.
ومن فضائله وخصائصه: أنه نور أهل السماء، ومصباح أهل الأرض والجنة، فقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا بنا نعود عثمان بن عفان» قلنا: عليل يا رسول الله؟ قال: «نعم» فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعناه حتى أتى منزل عثمان فاستأذن فأذن له، فدخل ودخلنا فوجدنا عثمان مكبوباً على وجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«مالك يا عثمان لا ترفع رأسك؟» فقال: يا رسول الله إني استحي، يعني من الله تعالى، قال:«ولم ذلك؟» قال: أخاف أن يكون علي غضباناً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ألست حافر بئر رومة، ومجهز جيش العسرة، والزائد في مسجدي، وباذل المال في رضا الله ورضائي، ومن تستحي منه ملائكة السماء، هذا جبريل يخبرني عن الله عز وجل أنك نور أهل السماء، ومصباح أهل الأرض وأهل الجنة» أخرجه الملا.
وله من الفضائل والخيرات ما يطول ذكره رضي الله عنه.
وحصر رضي الله عنه في داره وقتل مظلوماً، والذي تولى ذلك جماعة الخوارج من أهل مصر وغيرهم، واختلف في قدر مدة حصره وقتله ظلماً رضي الله عنه، ويستفاد من الأخبار أنه لما ولي الخلافة كره ولايته نفر من الصحابة بسبب أنه كان يحسب قومه بنى أمية، وكان كثيراً ما يوليهم الإمارة على البلاد ويخصهم بذلك دون غيرهم من الصحابة، بل عزل غيرهم وولاهم، عزل أبا موسى الأشعري عن البصرة وولاها عبد الله بن عامر، وعزل عمرو بن العاص عن مصر وولاها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان ارتد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ولحق بالمشركين، فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه بعد الفتح، إلى أن أخذ له عثمان الأمان ثم أسلم، وعزل عمار بن ياسر عن الكوفة، وغيرهم وله عذر واضح في عزلهم رضى الله عنهم وتولية المذكورين كما هو مذكور في محله.
وكان يولي منهم من لم تكن له مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبة، وكان يقع من أمراءه ما يكرهه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان الناس من الصحابة وغيرهم يأتون إليه ويستغيثون منهم ويخبرونه بأفعالهم فلا يغيث أحداً، ولا يسمع فيهم كلام أحد، لعلمه بأنهم
يكرهونهم لحبه لهم وتوليتهم دون غيرهم، وإنما كان عثمان يولي أقاربه ويحبهم ويوصلهم بالعطاء كثيراً لأن الإنسان جبل على حبه لأقاربه وعلى حب الخير لهم، فمحبة الإنسان لأقاربه صفة جبلية لم يودعها الله تعالى إلا في خيار خلقه، فلما ولى على مصر عبد الله بن سعد بن أبي سرح جاء أهل مصر يشتكوه إلى عثمان، فخرج جيش من أهل مصر وقدره سبعمائة رجل إلى المدينة، فنزلوا المسجد وشكوا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعله ابن أبي سرح معهم، وأنه قتل منهم واحداً، وجاءوا يطلبون أن يقتص عثمان من عامله، فدخل علي بن أبي طالب على عثمان فكلمه بسبب مجيئهم، وأنهم جاءوا يطلبون منك أن تقتله عوضاً عن الرجل المقتول، ثم قال له علي: اعزله عنهم وإن وجب عليه حق فانصفهم من عاملك، فقال لهم: اختاروا رجلاً حتى أوليه مكانه فأشاروا إلى محمد بن أبي بكر، فكتب له عهده وولاه وخرج معه جماعة من المهاجرين والأنصار، لينظروا فيما وقع بين أهل مصر وبين أبي السرح، فلما بعدوا عن المدينة ثلاثة أيام وإذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير خبطاً، حتى كأنه يطلب أو يطلب، فقال له أصحاب محمد: ما قصتك وما شأنك؟ كأنك هارب أو طالب، فقال لهم: أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر، فقال له: رجل من الجماعة هذا عامل مصر معنا، قال: ليس هذا الذي أريد ثم ذهبوا وأخبروا محمد بن أبي بكر بأمره، فبعث في طلبه رجالاً فأخذوه فجاءوا به إليه، فقال له: يا غلام من أنت؟ فصار تارة يقول: أنا غلام أمير المؤمنين، وتارة يقول: أنا غلام مروان، فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال: إلى عامل مصر، قال:
بماذا قال: برسالة، قال: معك كتاب؟ قال: لا، قال: ففتشوه فإذا معه كتاب من عثمان إلى ابن أبي السرح، فجمع محمد بن أبي بكر من كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فك الكتاب بمحضر منهم، فإذا فيه إذا أتاك فلان وفلان، ومعهم محمد بن أبي بكر ومعه كتاب عهد فاحتل لقتلهم وأبطل كتابه، وقف على عملك حتى يأتيك أمري أن شاء الله تعالى.
وفي رواية: معه كتاباً على لسان عثمان مختوماً بخاتمه إلى عامله بمصر أن يصلبهم أو يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم، فلما قرأوا الكتاب فزعوا ورجعوا إلى المدينة، وختم محمد بن أبي بكر الكتاب ودفعه إلى واحد من الصحابة، فلما قدموا المدينة جمعوا الصحابة كعلي والزبير وطلحة وغيرهم، وفكوا الكتاب وقرأوه عليهم وأخبروهم بقصة العبد، فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان، وقام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منازلهم ما منهم من أحد إلا مغتم بسبب ذلك، ثم تقدموا لحصاره، فلما
رأى علي ذلك جمع طلحة والزبير وسعيداً وعماراً ونفراً من الصحابة، ثم دخلوا على عثمان ومعهم الكتاب والغلام والبعير، فقال له علي رضي الله عنه هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم، والبعير بعيرك؟ قال: نعم، قال: فأنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: لا، وحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت هذا الكتاب، ولا أمرت به ولا علمت به، ولا وجهت به هذا الغلام إلى مصر، قال: وأنتم تعلمون أن الكتاب يكتب على لسان الرجل، وينقش الخاتم على نقش خاتمه، وكان رضي الله عنه صادقاً فيما قال، فإن مروان زور عليه هذا الكتاب، وكتبه على لسانه وختمه بختمه من غير علمه، وأمره وأرسله مع عبده وعرف علي وغيره ممن رأى الكتاب أن الخط خط مروان، ولكن ظنوا أنه كتبه بأمره وإرادته، فلما حلف تحققوا من صدقه وقالوا له: سلمنا مروان وكان معه في الدار فأبى وخشي عليه القتل، فخرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غاضبين من عنده فحاصره الأعداء ومنعوه من
الماء، ومن الصلاة في المسجد أنشدت زينب بنت العوام:
وعطشتم عثمان في جوف داره
…
شربتم مشرب الهيم شرب الحميم
فأشرف عليهم في تلك الحال وقال: السلام عليكم، فما رد عليه أحد، فقال: أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة من مالي وسبلتها على المسلمين قيل: نعم، قال: فعلام تمنعوني شرب مائها، وأفطر على الماء المالح، ثم قال: أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت كذا وكذا من أرض فزدته في المسجد، قيل: نعم، قال: فهل علمتم أن أحد منع أن يصلي فيه قبلي.
وفي رواية: أشرف عليهم فقال: أفيكم علي؟ قالوا: لا، فقال: أفيكم سعد؟ فقالوا: لا، فقال: ألا أحد يسقينا ماء؟ فبلغ ذلك علياً، فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة ماء، فما وصلت إلا بعد جهد، ثم بلغ علياً أنهم يريدون قتله، فقال: إنما أردنا منه مروان لا قتله، وقال للحسن والحسين: اذهبا بسيفكما حتى تقوما على باب عثمان، فلا تدعا أحد يصل إليه، وبعث الزبير ابنه وبعث طلحة ابنه، وبعث عدة من الصحابة أبناءهم لأجل أن يمنعوا الناس من الدخول عليه.
وذكر العلامة الحافظ ابن الجوزى: أن الذين خرجوا على عثمان هجموا على المدينة، وكان عثمان يخرج فيصلي بالناس وهم يصلون خلفه شهراً، ثم خرج من آخر جمعة خرج فيها فحصبوه بالحجارة وهو على المنبر حتى وقع عنه، ولم يقدر أن يصلي بهم فصلى بهم يومئذ أبو أمامة بن سهل، ثم حصروه ومنعوه الصلاة في المسجد.
وروي أن الجهجاه الغفاري بعد أن حصبوه ونزل من المنبر، أخذ العصا التي كانت
في يده، وهي عصا النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يمسكها بيده في حال خطبته، فكسرها بركبته فوقعت الأكلة في ركبتيه.
وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة أنه قال: كنا مع عثمان وهو محصور في الدار فقال: إنهم يتوعدونني بالقتل: قال: فقلنا يكفيهم الله يا أمير المؤمنين، قال: وبم يقتلوني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل كفر بعد إسلامه، أو زنا بعد إحصانه، أو قتل نفساً فيقتل بها» فوالله ما أحببت بديني بدلاً منذ هداني الله تعالى، ولا زنيت في الجاهلية ولا في الإسلام قط، ولا قتلت نفساً، فبم يقتلوني (1) .
وقال شداد بن أوس: لما اشتد الحصار بعثمان يوم الدار رأيت علياً رضي الله عنه خارجاً من منزله، متعمماً بعمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلداً بسيفه أمامه الحسن وعبد الله بن عمر في نفر من المهاجرين والأنصار، حتى حملوا على الناس وفرقوهم، ثم دخلوا على عثمان فقال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلحق هذا الأمر حتى ضرب بالمقبل والمدبر، وإني والله لا أرى القوم إلا قاتلينك، فمرنا لنقاتل، فقال عثمان: أنشد الله رجلاً رأى لله حقاً وأقر أن ما عليه حقاً أن يهريق مني ملء محجمة من دم أو يهراق دمه علي، فأعاد علي عليه القول فأجابه بمثل ما أجاب، ومنعه أن يقاتل معه، فرأيت علياً خارجاً من الباب، وهو يقول: اللهم إنك تعلم أنا قد بذلنا المجهود، ثم دخل المسجد وحضرت الصلاة فقالوا له: يا أبا الحسين تقدم فصلى بالناس، فقال: لا أصلي بكم والإمام محصور، ولكن أصلي وحدي، فصلى وحده وانصرف.
وروي أنه دخل الحسن بن علي على عثمان وهو محصور فقال: يا أمير المؤمنين مرني بما شئت، فقال: يا ابن أخي ارجع واجلس حتى يأتي الله بأمره، فخرج ثم دخل عليه عبد الله بن عمر فسلم عليه ثم قال: يا أمير المؤمنين صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعت وأطعت، ثم صحبت أبا بكر فسمعت وأطعت، ثم عمر فرأيت له حق الوالد وحق الخلافة، وها أنا طوع يدك يا أمير المؤمنين، فمرني بما شئت، فقال عثمان: جزاكم الله يا آل عمر خيراً مرتين، لا حاجة لى في إراقة الدم، ثم دخل أبو هريرة متقلداً بسيفه فقال: الآن طاب الضراب، فقال له عثمان: عزمت عليك يا أبا هريرة لما
(1) أخرجه أحمد (1/61، رقم 437) . وأخرجه أيضاً: أبو داود (4/170، رقم 4502)، والطيالسي (ص: 13، رقم 72) .
ألقيت سيفك، فقال: ألقيته فما أدري من أخذه.
وروي أيضاً أن أبا هريرة أنه قال: إني لمحصور في الدار مع عثمان قال: فرمى رجل منا أي: قتل، قلت: يا أمير المؤمنين الآن طاب الضراب، قتلوا منا رجلاً، قال: عزمت عليك يا أبا هريرة ألا رميت بسيفك فرميت بسيفي لا أدري أين هو حتى الساعة.
وقد أفاد المحب الطبري أن عثمان رضي الله عنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في الليلة التي قتل في يومها، وأنه سقاه الماء وأنه خيره في الانتصار عليهم وفي الفطر عنده فاختار الفطر عنده.
ونقب في ذلك أخبار منها: عن عبد الله بن سلام أنه قال: «أتيت عثمان وهو محصور أسلم عليه فقال: مرحباً بأخي مرحباً يا أخي، أفلا أحدثك ما رأيت الليلة في المنام؟ فقلت: بلى، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الخوخة فإذا خوخة في البيت، فقال: حصروك؟ فقلت: نعم، فقال: عطشوك؟ فقلت: نعم، فأدلى دلوا من ماء فشربت حتى رويت، وإني لأجد برداً بين كتفي وبين ثدي، قال: إن شئت نصرت عليهم، وإن شئت أفطرت عندنا، قال: فاخترت أن أفطر عنده» (1) خرجه القروينى.
وأعتق صبيحة تلك الليلة عشرين مملوكاً وصار يحدث الناس برؤيته صلى الله عليه وسلم ويقول: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم البارحة وأبا بكر وعمر، فقالوا: اصبر فإنك تفطر عندنا، فقتل ذلك اليوم.
واختلفت الروايات هل دخلوا عليه من الباب أم لا؟
فقيل: دخلوا عليه من دار رجل من الأنصار، وكان معه في الدار ستمائة رجل وكلهم كانوا فوق البيت، ولم يكن عنده في البيت إلا امرأته، فدخلوا عليه فقتلوه وخرجوا هاربين من حيث دخلوا، ولم يعلم بذلك أحد ممن معه في الدار لاشتغالهم بالحصار، حتى صرخت امرأته وصعدت إلى الناس، وأعلمتهم بأنه قتل، فدخل عليه الحسن والحسين ومن كانوا معهما فوجدوه مذبوحاً، فانكبوا عليه يبكون، وأنشد أبو القاسم بن أمية بن أبي الصلت فأحسن:
لعمرى لبئس الذبح ضحيتم به
…
وخنتم رسول الله في قتل صاحبه
فبلغ علياً قتله ومن كان في المدينة فخرجوا، وقد ذهبت عقولهم حتى دخلوا على عثمان، فوجدوه مقتولاً فاسترجعوا.
وقال علي لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتم على الباب، ورفع يده فلطم
(1) أخرجه أيضاً سعيد بن منصور في كتاب السنن (2/389، رقم 2946) .
الحسن، وضرب صدر الحسين، وشتم محمد بن طلحة، ولعن عبد الله بن الزبير، وخرج علي وهو غضبان.
وقيل: إنهم دخلوا عليه من الباب فإنه رضي الله عنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أفطر عندنا الليلة، أصبح ذلك اليوم صائماً، فطلب المصحف ووضعه بين يديه، وقال لامرأته: افتحى الباب ففتحت الباب فدخل عليه رجل، فقال له عثمان: بيني وبينك كتاب الله تعالى، والمصحف بين يديه قال: فأهوى إليه بالسيف فاتقاه بيده فقطعها، فقال الراوي: -فلا أدري أبانها أم لم يبنها- فقال عثمان: أما والله إنها لأول كف خطت المصحف.
وروي عنه أنه جعل يقول حين ضرب والدماء تسيل من على لحيته: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، اللهم إني أستهديك وأستعينك على جميع أموري، وأسألك الصبر على بليتي.
ونقل عن عدي بن حاتم الطائي أنه قال: سمعت صوتاً يوم قتل عثمان يقول: أبشر يا ابن عفان بروح وريحان، أبشر يا ابن عفان بغفران ورضوان، أبشر يا ابن عفان برب غير غضبان، قال فالتفت فلم أر أحداً (قاله ابن عبد البر) .
وأكثرهم يروي: أن قطرة أو قطرات من دمه سقطت على المصحف على قوله تعالى: ?فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ? [البقرة: 137] .
وورد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة يؤتى بعثمان وأوداجه تشخب دماً اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك، يكسى حلتين من نور، وينصب له منبر على الصراط، فيجوز المؤمنون بنور وجهه، ليس لمبغضة من نصيب» خرجه الملا في سيرته.
واختلف العلماء فيمن باشر قتله بنفسه:
فقيل: محمد بن أبي بكر ضربه بمشقص.
وقيل: رومان بن سرحان دخل عليه وكان رجلاً قصيراً أزرق معه خنجر، فاستقبله به وقال: على أي دين أنت يا نعثل، فقال عثمان: لست بنعثل ولكني عثمان بن عفان، وأنا على ملة إبراهيم حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين، فقال: كذبت وضربه على صدغه الأيسر فقتله فخر، وأدخلته امرأته نائلة بينها وبين ثيابها، وكانت امرأة جسيمة فدخل رجل من أهل مصر معه السيف مسلطاً فقال والله لأقطعن أنفه فعالج المرأة فكشف عن ذراعيها، وقبضت على السيف فقطع إبهامها، فقالت لغلام
عثمان يقال له «رباح» ومعه سيف عثمان: أعني على هذا وأخرجه عني فضربه الغلام بالسيف فقتله.
وقيل: الذي باشر قتله: جبلة بن الأيهم من أهل مصر، وطاف بالمدينة ثلاثة أيام يقول: أنا قاتل نعثل.
وقيل: رومان اليماني، وقيل: بل رومان رجل من جبل أسد.
وقيل: يسار بن عياض.
وقيل: قتله الأسود النجيبي، وبه جزم الكرمانى.
قال ابن عبد البر في الإستيعاب: أول من دخل على عثمان محمد بن أبي بكر فأخذ بلحيته، فقال: دعها يا ابن أخي فوالله كان يكرمها أبوك فاستحيا وخرج (1) .
وقيل: لما أخذ لحيته هزها وقال له: ما أغني عنك معاوية وما أغنى عنك ابن أبي سرح وما أغنى عنك ابن عامر، فقال له: يا ابن أخي إنك لتجذب لحية كانت تعز على أبيك، وما كان أبوك يرضى مجلسك هذا مني، فيقال: إنه حينئذ تركه وخرج عنه.
ويقال: إنه حينئذ أشار إلى من معه فطعنه أحدهم وقتلوه والله أعلم.
واختلف في اليوم الذي قتل فيه:
فقال ابن اسحاق: قتل يوم الأربعاء بعد العصر ودفن يوم السبت قبل الظهر.
وقيل: قتل يوم الجمعة.
وقيل: قتله في وسط أيام التشريق في المدينة الشريفة.
وقيل: قتله يوم التروية، وقيل غير ذلك.
ولقد أحسن القائل:
ضحوا بعثمان في الشهر الحرام ضحى
…
فأي ذبح حرام ويلهم ذبحوا
وأي كفر سن أولهم
…
وباب شر على سلطانهم فتحوا
ماذا أرادوا أضل الله سعيهم
…
بسفك ذاك الدم الذكي الذي سفحوا
وأما السنة التي قتل فيها فهى سنة خمس وثلاثين.
واختلف أيضاً في مدة إقامته بعد موته مطروحاً قبل دفنه:
(1) انظر: الاستيعاب لابن عبد البر (3/1044) .
فقيل: أقام يومه ذلك مطروحاً إلى الليل، فحمله رجال على باب ليدفنوه فعرض لهم ناس ليمنعوهم من دفنه، فوجدوا قبراً كان قد حفر لغيره فدفنوه فيه، وصلى عليه جبير بن مطعم.
وروى عن مالك أنه قال: لما قتل عثمان ألقي على المزبلة ثلاثة أيام، فلما كان في الليل أتاه اثنى عشر رجلاً منهم حويطب بن عبد العزى وحكيم بن حزام وعبد الله بن الزبير واحتملوه فلما صاروا به إلى المقبرة ليدفنوه، ناداه قوم من بني مازن: والله لئن دفنتموه ها هنا لنخبرن الناس غداً، فاحتملوه حتى ساروا إلى «حش كوكب» فاحتفروا له «وكوكب» اسم رجل من الأنصار «والحش» البستان، وكان عثمان قد اشتراه منه وزاده في البقيع (1) ، فكان أول من قبر فيه هو، وكان رضى الله عنه إذا مر «بحش كوكب» يقول: يدفن ها هنا رجل صالح، حتى دفن هو فيه.
ونقل عن الحسن أنه قال: شهدت عثمان بن عفان وقد دفن في ثيابه بدمائه، واختلف هل صلى عليه أم لا؟
فروي أنه أقام في «حش كوكب» ثلاثاً مطروحاً لا يصلى عليه، حتى هتف بهم هاتف: ادفنوه ولا تصلوا عليه فإن الله عز وجل صلى عليه.
وقيل: صلى عليه وغشيهم في الصلاة عليه وفي دفنه سواد، فلما فرغوا منه نودوا: أن لا روع عليكم اثبتوا، وكانوا يرون أنهم الملائكة حضروا جنازته.
ونقل المحب الطبرى عن الحسن عن الحسن بن على قال: ما كنت لأقاتل بعد رؤيا رأيتها، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعاً يده على العرش، ورأيت أبا بكر واضعاً يده على منكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأيت عمر واضعاً يده على منكب أبي بكر، ورأيت عثمان واضعاً يده على منكب عمر ورأيت دماً دونه، فقلت: ما هذا؟ قال: دم عثمان يطلب الله به. (أخرجه الديلمى في كتابه الشفا) .
وأنشد حسان فيه:
قلتم ولي الله في جوف داره
…
وجئتم بأمر جائر غير مهتدى
فلا ظفرت أيمان قوم تعاونوا
…
على قتل عثمان الرشيد المسدد
وأنشد كعب بن مالك فيه وقال:
يا للرجال لأمر هاج لي حزنا
…
لقد عجبت لمن يبكي على الزمن
(1) أي وسع به أرض البقيع قاله الحافظ ابن حجر في الإصابة (4/458) .
إني رأيت قتيل الله مضطهداً
…
عثمان يهدي إلى الأجداث في كفن
قاتل الله قوماً كان أمرهم
…
قتل الإمام الزكي الطيب الردن
ما قتلوه على ذنب ألم به
…
إلا الذي نطقوا زوراً ولم يكن
وأنشد حسان أيضاً، وقيل: كعب بن مالك حين منع عثمان الناس من القتال معه:
فكف يده ثم أغلق بابه
…
وأيقن أن الله ليس بغافل
وقال لأهل الدار لا تقتلوهم
…
عفا الله عن ذنب امرئ لم يقاتل
فكيف رأيت الله ألقى عليهم
…
العداوة والبغضاء بعد التواصل
وكيف رأيت الخير أدبر بعده
…
عن الناس أدبار الرياح الحوافل
وقالت ليلى الأخيلية:
قتل ابن عفان الإمام
…
وضاع أمر المسلمينا
وتشتت سبل الرشاد
…
بصادرين أو واردينا
قال العلماء: عرف عثمان أنه يقتل عرَّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك.
روي عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا لى بعض أصحابي» فقلت: أبو بكر؟ فقال: «لا» فقلت: عمر؟ فقال: «لا» فقلت: ابن عمك؟ فقال: «لا» فقلت له: عثمان؟ قال: «نعم» فلما جاء قال بيده فتنحيت، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يساره ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر، قيل له: ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى عهداً وأنا صابر نفسي عليه (1) .
وكانت ولايته كما قاله ابن اسحاق اثنتى عشرة سنة وإحدى عشر شهراً وأربعة عشر يوماً، وقيل: ثمانية عشر يوماً.
ومن كراماته ما رواه الطبري عن أبي قلابة قال: كنت في رفقة بالشام فسمعت رجلاً يقول: يا ويلاه النار، قال: فقمت إليه، وإذا رجل مقطوع اليدين والرجلين من الحقوين أعمى العينين منكباً لوجهه، فسألته عن حاله فقال إني كنت ممن دخل على
(1) أخرجه ابن ماجه (1/42، رقم 113)، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/19) : هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات. والحاكم (3/106، رقم 4543)، وقال: صحيح الإسناد. وابن حبان (15/356، رقم 6918) .
عثمان الدار، فلما دنوت منه خرجت زوجته فلطمتها، فقال: مالك قطع الله يديك ورجليك وأعمى عينيك وأدخلك النار، فأخذتنى رعدة عظيمة وخرجت هارباً فأصابني ما ترى، ولم يبق من دعائه إلا النار، قال: فقلت له: بعداً لك وسحقاً. خرجه الملا في سيرته.
دل هذا الحديث على أحكام كثيرة أوصلها ابن الملقن إلى نيف وعشرين حكماً فمن أحكامه:
أن فيه دلالة على استحباب غسل اليدين في الوضوء إلى الكوعين، وعلى استحباب غسلهما قبل إدخالهما في الإناء.
قال علماؤنا: من سنن الوضوء غسل الكفين إلى الكوعين قبل المضمضة والاستنشاق تأسيا بالنبى صلى الله عليه وسلم فإن لم يتيقن الإنسان من طهارة يده بسبب نوم أو غيره كره له إدخالها في ماء دون قلتين أو مائع قبل غسلهما.
والعلة في هذه الكراهة توهم النجاسة، فإنه قد يكون في جسده قروح أو دماميل فيضع يده عليها فتنجس وقد يضع يده على دبره أو غير ذلك، فإن صادفت ماء قليلاً أو مائعاً نجسته.
وقد ورد النهي عن غمس اليد في الإناء عند الاستيقاظ من النوم قبيل غسلهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين باتت يده» (1) .
(1) أخرجه البخاري (1/72، رقم 160) ، ومسلم (1/233، رقم 278) ، وأبو داود (1/25، رقم 105) ، والترمذي (1/36، رقم 24) وقال: حسن صحيح. والنسائي (1/99، رقم 161) ، وابن ماجه (1/138، رقم 393) ، ومالك (1/21، رقم 37) ، والشافعي (1/10) ، وابن حبان (3/345، رقم 1062) ، وابن أبي شيبة (1/94، رقم 1047) ، وأحمد (2/253، رقم 7432) ، وابن خزيمة (1/74، رقم 145) ، والدارقطني (1/50) ، والبيهقي (1/46 رقم 209) عن أبي هريرة.
قال النووي في كتابه «البستان» : حكي أن بعض المبتدعين سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنه لا يدري أين باتت يده» ، فقال المبتدع: أنا أدري أين باتت يدي، باتت في الفراش، فأصبح وقد أدخل يده في دبره حتى ذراعه.
قال الإمام النووي: ومن هذا المعنى ما وجد في زماننا وتواترته الأخبار وثبت عند القضاة: أن رجلاً في قرية من بلاد البصرة في أوائل سنة خمس وستين وستمائة، كان سيئ الاعتقاد فيهم، فجاءه ابنه من عند شيخ صالح معه سواك، فقال: ما أعطاك شيخك مستهزئاً؟ فقال: هذا السواك فأخذه وأدخله في دبره احتقاراً له، فبقى مدة ثم ولد ذلك الرجل أي: الذي أدخل السواك في دبره جرواً قريب الشبه بالسمكة فقتله ومات الرجل في الحال، أو بعد يومين عافانا الله من بلائه.
ولا تزول هذه الكراهة إلا بغسل اليدين ثلاثاً ولا يكره غسلهما في البرك والحياض، وكذا لا يكره في الإناء إذا تيقن طهارتهما.
ولابد في حصول سنة غسل اليدين إلى الكوعين أن يغسلهما قبل المضمضة والاستنشاق، فلو غسلهما بعدهما لا يكون محصلاً للسنة لقوله في الحديث:«فغسلهما حتى أدخل يمينه في الإناء فمضمض» فأتى بالفاء المقتضية للترتيب وزيادة وهو التعقيب.
وفي الحديث دلالة على جواز الاستعانة في إحضار الماء.
قال العلماء: ترك الاستعانة في الوضوء سنة، لأنها نوع من التنعم والتكبر، وذلك لا يليق بحال المتعبد، والأجر على قدر النصب.
والاستعانة على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يستعين بغيره ليصب عليه الماء لغير عذر، فهذه الاستعانة خلاف الأولى، أما إذا كانت لعذر كمرض ولو كان خفيفاً، فلا يكون خلاف الأولى، بل مباحاً دفاعاً للمشقة، ولو كان بالإنسان مرض شديد أو أقطع لزمه أن يستأجر إنساناً ليعينه على الطهارة إن لم يحصل له متبرع، وإن حصل له متبرع وجب عليه القبول.
القسم الثاني: أن يستعين بمن يغسل له الأعضاء بلا عذر ترفعاً فهذه مكروهة قطعاً.
القسم الثالث: الاستعانة بإحضار الماء والإناء والدلو فمباحة بالإجماع من غير كراهة فلا خلاف الأولى، فلهذا طلب عثمان الإناء فتوضأ منه.
وفي الحديث دلالة على استحباب غسل الأعضاء المغسولة.
قال العلماء: من سنن الوضوء أن يغسل المتوضئ كل عضو ثلاثاً ثلاثاً، وهذه سنة بالإجماع، فقد صح أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا، كما دل عليه الحديث المذكور وغيره.
وتكره الزيادة على الثلاث ويكره النقص عنها لأنه صلى الله عليه وسلم لما توضأ ثلاثاً ثلاثاً قال: «هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء أو ظلم» رواه أبو داود وغيره (1) .
قال النووي: أنه حديث صحيح ومعناه: فمن زاد على الثلاث أو نقص منها فقد أساء وظلم في كل من الزيادة والنقص.
وقيل: أساء في النقص وظلم في الزيادة.
وقيل: عكسه.
سؤال: فإن قيل: كيف يكون النقص من الثلاث إساءة وظلماً ومكروهاً وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه توضأ مرة وتوضأ مرتين؟
جوابه: أنه فعل ذلك بياناً للجواز، وكان فعله لذلك في ذلك الحال أفضل، لأن البيان جائز، وليس معنى «أساء وظلم» ارتكب محرماً، بل معنى «أساء» ترك الأولى وتعدى حد السنة، ومعنى «ظلم» وضع الشيء في غير موضعه.
وأما مسح الرأس فهل يستحب تثليثه أم لا؟
ظاهر الحديث أنه لا يستحب فإنه قال فيه: «ثم مسح برأسه» ولم يقل ثلاثاً، والذي ذهب إليه إمامنا الشافعي أنه يستحب مسحه ثلاثاً كما يستحب ذلك في المغسول، فقد ورد:«أنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ثلاثاً» رواه البيهقي والحاكم وقال: إنه حسن (2) .
وذهبت الأئمة الثلاثة إلى عدم استحبابه.
فائدة: إنما تحصل فضيلة تثليث مسح الرأس إذا أورد المسح ثانياً وثالثاً على ما
(1) أخرجه أبو داود (1/33، رقم 135) ، والنسائي (1/88، رقم 140) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(2)
أخرجه البيهقي (1/63، رقم 299) .
أورده أولاً، فلو مسح ثانياً وثالثاً غير ما مسحه أولاً لم يكن ذلك تكراراً، بل هو محاولة على استيعاب الرأس، أفاد ذلك العلامة الجوجري.
قال العلماء: ولو شك في العدد في أثناء الوضوء أخذ بالأقل وكمل كالركعات، أما لو شك بعد الفراغ منه فإنه لا عبرة به.
قالوا: وإنما تكره الزيادة على الثلاثة إذا أتى بها بقصد نية الوضوء، فلو زاد بقصد نية التبرد مثلاً لم يكره.
قال الزركشي: ومحل كراهة الزيادة أيضاً إذا توضأ بماء مباح أو مملوك له، فإن توضأ من ماء موقوف على من يتطهر أو يتوضأ منه كالمدارس والربط، حرمت الزيادة بلا خلاف، لأن الزيادة غير مأذون فيها.
فائدة: لو توضأ وضوء كاملاً مرة مرة، ثم توضأ أخرى كذلك، ثم ثالثاً لتأكيد ذلك حصلت له فضلية التثليث كما قاله الروياني والإمام.
قال الجوجري: وهو ظاهر المعنى، لكن قال الشيخ إسماعيل صاحب الروض: إنها لا تحصل بل لابد من تثليث كل عضو قبل الانتقال إلى غيره.
فائدة أخرى: ذكر العلماء مسائل لا يستحب فيها التثليث:
الأولى: لوضاق الوقت عنه، ولو ثلث لخرجت الصلاة أو بعضها عن الوقت، فإنه يقتصر على الفرض وهو مرة.
الثانية: لو كان عطشاناً ولو اقتصر على الفرض فضل له فضلة يشربها فيقتصر عليه.
الثالثة: لوكان الماء يكفي لفرض فقط، ولو ثلث لا يكفيه، فلا يستحب له التثليث لئلا يحتاج إلى التيمم، فلو ثلث وتيمم للباقي في قضاء عليه.
الرابعة: لو خاف فوت الجماعة لو ثلث، فإنه يقتصر على الغرض ليدرك الجماعة فإنها أهم من التثليث.
لطيفة: قال في نزهة المجالس: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم على سرير من ذهب، قوائمة من فضة، مفصص بالياقوت، فاستقر على الأرض ببطحاء مكة، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم واقعده معه على السرير، ولجبريل أربعة أجنحة، جناح من لولؤ، وجناح من ياقوت، وجناح من زبرجد، وجناح من نور رب العالمين، بين الجناح والجناح ما بين المشرق والمغرب، ومعه سبعون ألف ملك، فضرب بجناحه الأرض فنبعت فتوضأ جبريل وغسل أعضاءه ثلاثاً وتمضمض ثلاثاُ واستنشق ثلاثاً، ثم قال: أشهد أن لا إله
إلا الله وحدة لا شريك له وأنك رسول الله بعثك بالحق، يا محمد قم وأفعل كما فعلت، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم مثله، فقال: يا محمد قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويغفر الله لمن يصنع مثل صنيعك ذنوبه حدثيها وقديمها وسرها وعلاينتها وعمدها وخطاها وحرم لحمه ودمه على النار.
فائدة: هل فرض الله الوضوء بمكة أو بالمدينة؟
قال ابن العماد في شرح سيرته: ونقل الباجي في شرح الموطأ عن بعض العلماء: أن فريضة الوضوء كانت بالمدينة، وأنه لم يكن واجباً مكة، بل كان سنة.
وكذا نقل القاضي عياض قال: والأكثرون على أنه كان واجباً بمكة لكنهما لم يعينوا وقته.
وفي دلائل النبوة للبيهقي: «أن جبريل صلوات الله وسلامة عليه علمه الوضوء في أول الإسلام» .
وذكر ابن الرفعة في الكفاية في باب الجهاد: أن جبريل عليه السلام نزل بأعلى مكة، فهمز في ناحية الوادي فانفجرت فيه عين فتوضأ جبريل عليه السلام ليريه كيف الطهور، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، ثم قام جبريل يصلي وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بصلاته، فكانت هذه أول عبادة فرضت عليه كما قاله الماوردي.
ثم جاء إلى خديجة فتوضأ لها حتى توضأت وصلى بها كما صلى به جبريل عليهم الصلاة والسلام، فكانت أول من توضأ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث دلالة على استحباب ركعتين فأكثر عقب كل وضوء، ينوي بها سنة الوضوء، وهي سنة مؤكدة، ويستحب فعلها في كل وقت توضأ فيه، حتى في أوقات الكراهة، لأن لها سبباً مقدماً عليها.
قال النووي: ولو صلى بعد الوضوء فريضة أو نافلة مقصودة حصلت له فضيلة سنة الوضوء، كما تحصل تحية المسجد بذلك، بل لو دخل المسجد على وضوء في وقت الظهر مثلاً، وصلى ركعتين ونوى بهما سنة الظهر وسنة الوضوء وتحية المسجد حصل له ثواب الجميع.
قال النووي: إنما قال صلى الله عليه وسلم: «نحو وضوئي» ولم يقل: مثل وضوئي لأن حقيقة مما ثلثه صلى الله عليه وسلم لا يقدر عليها غيره.
وفي الحديث دلالة وبشارة لمن صلى سنة الوضوء بمغفرة الذنوب المتقدمة، وهذا الغفران للصغائر دون الكبائر، أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة، وينبغي أن يعلم أن
غفران الذنوب الصغائر المتقدمة لمن صلى سنة الوضوء عقبه مشروطة بشرطين:
أحدهما: أن يتوضأ على النحو المذكور في الحديث وهو أن يغسل كل عضو ثلاث مرات.
الثاني: أن لا يحدث نفسه في الصلاة التي صلاها بعد الوضوء بشيء من أمور الدنيا، وما لا يتعلق بالصلاة.
فإن يتوضأ على النحو المذكور أولم تسلم صلاته من الخواطر الدنيوية التي لا تتعلق بالصلاة، لم يحصل له الغفران المذكور، نعم لو عرض له حديث دينوي فأعرض عنه بمجرد عروضه عفي عنه ولا يحرم فضيلة سنة الوضوء إن شاء الله تعالى، لأن هذا ليس من فعله، وقد يعفى لهذه الأمة عن الخواطر التي تعرض ولا تستقر (قاله النووي) .
فائدة: يستحب للإنسان إذا تيمم أو اغتسل أن يصلي ركعتين عقبه، كما يستحب أن يصليهما عقب الوضوء كما اختار ذلك البلقيني، وقاسهما على الوضوء، ولم ير من تعرض له.
ويمكن أن يستنبط من استحباب الصلاة عقب التيمم من قوله صلى الله عليه وسلم: «الصعيد الطيب وضوء المسلم» (1) .
فإنه إذا صدق على التيمم أنه وضوء فقد دخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «نحو وضوئي هذا» .
فائدة أخرى وبشارة: قال في نزهة المجالس: ينبغي لمن أحدث أن يتوضأ عقب حدثه، ولمن توضأ أن يصلي ركعتين عقب وضوئه، ولمن صلى أن يدعو الله عقب صلاته، فقد ورد في الخبر يقول الله:«من أحدث ولم يتوضأ فقد جفاني، ومن أحدث وتوضأ ولم يصلي فقد جفاني، ومن أحدث وتوضأ ولم يدعني فقد جفاني، ومن أحدث وتوضأ وصلى ودعاني فلم أستجب له فقد جفوته، ولست برب جافي» (2) .
وقد عقد البخاري رضي الله عنه في كتاب التهجد باباً في فضل الطهور بالليل والنهار،
(1) أخرجه الترمذى (1/211، رقم 124) وقال: حسن صحيح. والنسائى (1/171، رقم 322) ، وعبد الرزاق في المصنف (1/238، رقم 913) ، وأحمد (5/155، رقم 21408) ، وابن حبان (4/140، رقم 1313) ، والدارقطنى (1/187) ، والحاكم (1/284، رقم 627) وقال: صحيح. والبيهقى (1/212، رقم 961) عن أبي ذر.
(2)
قال العجلوني في كشف الخفاء (2/292) : قال الصغاني في موضوعاته: حديث موضوع.
وروى حديثاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال عن صلاة الفجر: «يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دق نعليك بين يدي في الجنة» قال: ما عملت عملاً أرجى عندي من أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي (1) .
وروى أبو داود عن زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ فأحسن وضؤه ثم صلى ركعتين لا يسهوا فيها غفر له ما تقدم من ذنبة» (2) .
وفي رواية عنده: «ما من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء ويصلي ركعتين يقبل بقلبه ووجه عليهما إلا وجبت له الجنة» (3) والله أعلم.
* * *
(1) أخرجه البخاري (1/386، رقم 1098) . وأخرجه أيضا: مسلم (4/1910، رقم 2458) ، وأحمد (2/439، رقم 9670) ، وابن خزيمة (2/213، رقم 1208) ، وابن حبان (15/560، رقم 7085) .
(2)
أخرجه أبو داود (1/238، رقم 905)، والطيالسي (ص: 189، رقم 1331) ، وأحمد (4/117، رقم 17095) ، وعبد بن حميد (1/118، رقم 280) ، والطبراني في الكبير (5/249، رقم 5242) ، والحاكم في المستدرك (1/222، رقم 451) .
(3)
أخرجه أبو داود (1/43، رقم 169) ، وأحمد (4/145، رقم 17352) ، وابن حبان (3/325، رقم 1050) .