المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس الثاني الأربعون - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ٢

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس الثاني الأربعون

‌المجلس الثاني الأربعون

في آداب داخل الخلاء ومستحباته

قَالَ البُخَارِي:

بَابَ مَا يَقُول عِنْدَ الخَلاء

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَساً يَقُولُ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» . تَابَعَهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ عَنْ شُعْبَةَ. وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ إِذَا أَتَى الْخَلَاءَ. وَقَالَ مُوسَى عَنْ حَمَّادٍ إِذَا دَخَلَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ (1) .

قوله: «كان النبي صلى الله عليه وسلم» قال العلماء: «كان» في هذا التركيب تفيد تكرار ذلك الفعل، وبيان كونه عادة له أي: كان كلما دخل يقول الدعاء المذكور.

وقوله: «إذا دخل» أي: إذا أراد أن يدخل لأن اسم الله مستحب الترك بعد

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:

قوله: «الخبث» جمع خبيث. والخبائث جمع خبيثة، يريد ذكران الشياطين وإناثهم قاله الخطابي وابن حبان وغيرهما. وقد يكون معناه: المكروه، فإن كان من الكلام فهو الشتم، وإن كان من الملل فهو الكفر، وإن كان من الطعام فهو الحرام، وإن كان من الشراب فهو الضار، وعلى هذا فالمراد بالخبائث المعاصي أو مطلق الأفعال المذمومة ليحصل التناسب، ولهذا وقع في رواية الترمذي وغيره «أعوذ بالله من الخبث والخبيث» أو «الخبث والخبائث» هكذا على الشك، الأول بالإسكان مع الإفراد، والثاني بالتحريك مع الجمع، أي: من الشيء المكروه ومن الشيء المذموم، أو من ذكران الشياطين وإناثهم.

وكان صلى الله عليه وسلم يستعيذ إظهاراً للعبودية، ويجهر بها للتعليم. وقد روى العمري هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب بلفظ الأمر قال:«إذا دخلتم الخلاء فقولوا: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث» وإسناده على شرط مسلم، وفيه زيادة التسمية ولم أرها في غير هذه الرواية.

والكلام هنا في مقامين: أحدهما هل يختص هذا الذكر بالأمكنة المعدة لذلك لكونها تحضرها الشياطين كما ورد في حديث زيد بن أرقم في السنن، أو يشمل حتى لو بال في إناء مثلا في جانب البيت؟ الأصح الثاني ما لم يشرع في قضاء الحاجة.

الثاني متي يقول ذلك؟ فمن يكره ذكر الله في تلك الحالة يفصل: أما في الأمكنة المعدة لذلك فيقوله قبيل دخولها، وأما في غيرها فيقوله في أول الشروع كتشمير ثيابه مثلاً وهذا مذهب الجمهور.

وقالوا فيمن نسى: يستعيذ بقلبه لا بلسانه. ومن يجيز مطلقاً كما نقل عن مالك لا يحتاج إلى تفصيل. انظر فتح الباري (1/243 - 244) .

ص: 309

الدخول.

وجاءت رواية أخرى مصرحة بفعل الإرادة، وهذا مثل قوله تعالى: ?فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ? [النحل: 98] أي: إذا أردت القراءة.

وقوله: «الخلاء» قال العلماء: «الخلاء» بفتح الخاء المعجمة وبالمد موضع قضاء الحاجة، سمى بذلك لخلائة في غير أوقات قضاء الحاجة.

وقال الحكيم الترمذي سمى الخلاء خلاء باسم شيطان موكل بذلك الموضع اسمه خلاء، وأورد فيه حديثاً مرفوعاً من رواية بريدة.

ويقال للخلاء: «الكنيف، والحش، والمرفق، والمرحاض» .

وأما «الخلاء» بالقصر فيطلق على معنيين على الحشيش الرطب، وعلى الكلام الحسن.

وأما «الخلاء» بكسر الخاء مع المد فهو عيب في الإبل كالحران في الخيل.

وقوله: «اللهم» أصل «اللهم» يا الله على الأصح فحذف حرف النداء، وعوض عن الميم.

وقوله: «إني أعوذ بك» معناه: استجير واعتصم بك.

وقوله: «من الخبث والخبائث» جمع خبيثة.

قال العلماء: «الخبث» بضم الخاء والباء ويجوز إسكان الباء جمع خبيث، وهم ذكور الشياطين، والخبائث إناثهم، فكأن الداعي بهذا عند دخوله الخلاء استعاذ من ذكور الشياطين وإناثهم.

وخص صلى الله عليه وسلم الاستعاذة منهم بيوت الخلاء لأنها مأواهم ويحضرونها، وهي مواضع يهجر فيها ذكر الله فقدم لها الاستعاذة احترازاً منهم.

ومما يدل على أن الشيطان يحضر الأخلية قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الحشوش محتضرة -أي: تحضرها الشياطين- وإذا دخل أحدكم الخلاء فليتعوذ بالله» (1) .

قال ابن الملقن: الظاهر أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا الدعاء إظهاراً للعبودية وتعليماً للأمة، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام محفوظ من الجن والإنس، بدليل

(1) أخرجه أبو داود (1/2، رقم 6) ، والنسائي في الكبرى (6/23، رقم 9903) ، وابن ماجه (1/108، رقم 296) ، والطيالسي (1/93، رقم 679) ، وأحمد (4/369، رقم 19305) ، وأبو يعلى (13/180، رقم 7218) ، وابن خزيمة (1/38، رقم 69) ، وابن حبان (4/252، رقم 1406) ، والطبراني في الكبير (5/205، رقم 5100) ، والحاكم في المستدرك (1/298، رقم 669) وقال: على شرط الصحيح. والبيهقي (1/96، رقم 459) عن زيد بن أرقم.

ص: 310

أنه ربط عفريتاً على سارية من سواري المسجد (1) .

وفي الحديث دليل على مراقبته صلى الله عليه وسلم لربه ومحافظته على ضبط أوقاته وحالاته، واستعاذاته عندما ينبغي أن يستعاذ منه، ونطقه عندما ينبغي أن ينطق به، وسكوته عندما ينبغي أن يسكت عنده.

وفيه دليل على استحباب الدعاء المذكور لكل متخل سواء تخلى في البنيان أم في الصحراء، لأن مكان قضاء الحاجة في الصحراء يصير مأوى لهم.

وقد ذكر علماؤنا أنه يستحب أن يقول قبله: «بسم الله» ثم يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث.

سؤال: فإن قيل: لأي شيء قدمت التسمية هنا على التعوذ، وفي قراءة القرآن يستحب تقديم التعوذ على التسمية؟

جوابه: أن التعوذ عند قراءة القرآن لأجل القراءة، والبسملة من القرآن، فقدم التعوذ عليها، بخلافة هنا فقدمت البسملة عليه.

فإن دخل قبل أن يتعوذ ناسياً، تعوذ بقلبه كما يحمد العاطس، ويستحب عقب الخروج أن يقول: غفرانك الحمد لله الذي أذهب عنى الأذى وعافاني، وأن يكرر غفرانك ثلاث مرات، وهو منصوب بفعل مقدر تقديره: أسالك غفرانك.

سؤال: فإن قيل: أي ذنب وقع من داخل الخلاء حال قضاء الحاجة حتى يطلب من ربه غفرانه عند خروجه منه؟

وجوابه من وجوه:

الأول: لم يقع منه ذنب، ولكن لما ترك ذكر الله تعالى فسأل الله تعالى أن يسامحه عليه (2) .

الثاني: إنما دخل الغفران لأنه لما رأى نعم الله تعالى عليه التي أنعمها عليه حيث أطعمه ثم هضمه ثم يسهل خروجه، رأى شكره قاصراً عن بلوغ حقه هذه النعم عد ذلك ذنباً فتداركه بالاستغفار.

الثالث: ليس طلب المغفرة لذنب وقع في حال قضاء الحاجة، بل طلبها لذنوبه الصادرة منه قبل ذلك، فكأنه لما تخلص مما يثقل البدن، سأل التخلص مما يثقل القلب وهو الذنب لتكمل الراحة.

(1) أخرجه البخاري (1/176 رقم 449) ، ومسلم (1/384 رقم 541) عن أبي هريرة.

(2)

فإن الإنسان عندما يدخل الخلاء كما سبق الإشارة إليه يهجر ذكر الله فهو يطلب المغفرة لذلك وهذا هو مراد المصنف.

ص: 311

فائدة: في مسند عبد الرزاق وابن أبي شيبة أن نوحاً عليه الصلاة والسلام كان يقول أي: إذا فرغ من قضاء الحاجة وخرج من الخلاء: «الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في منفعته، وأذهب عنى أذاه» (1) .

وعند الحنفية يستحب أن يقول إذا دخل الخلاء: «اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث من الشيطان الرجيم» ، وإذا خرج يقول:«الحمد لله الذي أذهب عنى ما يؤذينى، وأمسك عني ما ينفعنى» .

وقد ذكر العلماء رضى الله عنهم أداباً كثيرة لقضاء الحاجة:

منها: أنه يبعد عن الناس في الصحراء أو نحوها إن كان هناك غيره إلى مكان لا يسمع للخارج منه شيء، ولا يشم له ريح، فإن تعذر عليه الإبعاد عنهم لمرض ونحوه استحب لهم الإبعاد عنه إلى مكان لا يسمعون.

ومنها: أن يستتر عن أعينهم بشيء مرتفع قدر ثلثي ذراع فأكثر، ويكون بينه وبينه ثلاثة أذرع بذراع الآدمي المعتدل فأقل، هذا إن كان بصحراء أو بناء لا يمكن تسقيفه، كأن جلس في وسط مكان واسع كبستان، فإن كان ببناء مسقف أو يمكن تسقيفه حصل الستر به، ولو تستر في الصحراء ونحوها براحلته وأرخى ذيله أو نحو ذلك كفى.

قال القاضي زكريا: ولو تعارض التستر والإبعاد فالظاهر رعاية التستر، يعني لو أبعد عن العيون لم يستتر، ولو لم يبعد لاستتر فالستر أولى وإن لم يبعد.

لطيفه: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته فنظر فلم يجد شيئاً يستتر به، فإذا بشجرتين في شاطئ الوادي فانطلق إلى إحداهما فأخذ بغصن من أغصانها فقال:«انقادى معي بإذن الله تعالى» فانقادت معه حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها فقال:«انقادي معي بإذن الله تعالى» فانقادت معه حتى إذا كانت بالنصف مما بينهما لأم بينهما فقال: «إلتئما علي بإذن الله تعالى» فلتأمتا ثم بعد قضاء حاجته افترقتا، فقامت كل واحدة منهما على ساق (2) .

وقال فيه أيضاً: وروي عن أسامة بن زيد قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه: «هل ترى لي مكاناً لحاجة رسول الله صلى الله عليه وسلم» فقلت: إن الوادي ما فيه موضع بالناس، فقال:«هل ترى من نخل أو حجارة؟» فقلت: أرى نخلات متقاربات قال: «انطلق فقل لهن إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركن أن تأتين لمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل

(1) أخرجه ابن أبي شيبة (1/12، رقم 9) .

(2)

أخرجه مسلم (4/2301، رقم 3006) وابن حبان (14/455، رقم 6524) عن جابر.

ص: 312

للحجارة مثل ذلك» فقلت ذلك لهن فوالذي بعثه بالحق لقد رأيت النخلات يتقاربن حتى اجتمعن، والحجارة يتعاقدن حتى صرن ركاماً خلفهن، فلما قضى حاجته قال:«قل لهن يفترقن» فوالذي نفسي بيده لقد رأيتهن والحجارة يفترقن حتى عدن إلى مواضعهن (1) .

ومنها: أن يصحب معه ثلاثة أحجار إن أراد الاستنجاء بها، ويصحب معه الماء إن أراد الاستنجاء به.

ومنها: أن يقدم رجله اليسرى في دخوله واليمنى في خروجه، كما يفعل ذلك في الحمام، عكس المسجد لأن كل ما كان للتكريم يبدأ فيه باليمين وخلافه باليسار، روى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:«من بدأ برجله اليمنى قبل يساره إذا دخل الخلاء أُبتلي بالفقر» .

ومنها: أن لا يدخل حافياً ولا مكشوف الرأس فقد صرح جماعة بكراهتهما قاله في الوسيط.

وروى البيهقي في ذلك حديثاً مرسلاً (2) .

واتفق العلماء على أن الحديث الضعيف والمرسل والموقوف يتسامح به في فضائل الأعمال ويعمل بمقتضاه.

قال النووي في المجموع: نعم يكفي ستر رأسه بكمه.

ومنها: أن لا يحمل شيئاً مكتوباً عليه قرآن أو اسم الله أو اسم نبي أو اسم معظم، سواء كان مكتوباً على ورقه أو درهم أو فلس أو غير ذلك، أي: يستحب له أن لا يحمل شيئاً من ذلك عند قضاء حاجته، فإن حمله كره له ذلك.

فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء وضع خاتمه كما رواه الترمذي وغيره وصححوه (3) .

وكان نقش خاتمة كما تقدم: «محمد رسول الله» .

فائدة: لو كان اسم الإنسان كاسم نبي من الأنبياء كمحمد أو موسى ونقشه على خاتمه وأراد به نفسه لا ذلك النبي لم يكره استصحابه.

(1) أورده السيوطي في الخصائص الكبرى (2/60) وقال: أخرج أبو يعلى، والبيهقي بسند حسنه ابن حجر في المطالب العالية عن أسامة ابن زيد.

(2)

أخرجه البيهقي (1/96، رقم 461) عن حبيب بن صالح مرسلاً.

(3)

أخرجه أبو داود (1/5، رقم 19) وقال: منكر. والترمذي (4/229، رقم 1746) وقال: حسن غريب. والنسائي (8/178، رقم 5213) وابن ماجه (1/110، رقم 303) عن أنس.

ص: 313

فائدة أخرى: لو كان معه شيء مكتوب عليه اسم الله تعالى كخاتم فدخل به الخلاء ناسياً أو عامداً حتى قعد لقضاء حاجته ضم كفه عليه أو وضعه في عمامته أو غيرها.

فائده أخرى: قال الأذرعي: والمتجه تحريم إدخال المصحف ونحوه الخلاء من غير ضرورة إجلالاً له وتكريماً.

فائدة أخرى: ولو تختم في يسراه بما عليه ذكر الله تعالى أو اسم الرسول حوَّله في الاستنجاء تنزيهاً له عن تنجيسه قاله القفال.

فإن تركه حتى تنجس إثم بذلك قاله الأسنوي.

ومنها: أن لا يتكلم بذكر ولا غيره، أي: يكره له ذلك.

قال أبو الليث: يكره الكلام في خمسة مواضع: خلف الجنازة، وعند قراءة القرآن، وعند الخطبة، وفي الخلاء، وعند الجماع.

وجاء في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك» (1) رواه الحاكم وصححه.

ومعنى: «يضربان الغائط» يأتيان.

«وكاشفين» منصوب على الحال، وروى:«كاشفان» بالألف مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هما كاشفان.

«والمقت» البغض، وقيل: هو أشد البغض.

والمقت وإن كان على المجموع من كشف العورة والتحدث، فبعض موجباته مكروه، نعم لا يكره الكلام لضرورة كأن رأى أعمى قد دنا من قرب بئر فأنذره حتى لا يقع فيه، أو رأى حية أو غيرها تقصد إنساناً أو غيره من الحيوانات المحترمة فأنذره من ذلك، بل يجب الإنذار في هذه.

سؤال: فإن قيل: قراءة القرآن في الخلاء مكروهة أو حرام؟

جوابة: أن ظاهر قول الفقهاء: «يكره التكلم في الخلاء» أنها مكروهة.

(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (1/260، رقم 560) وقال: صحيح. وأخرجه أيضاً أبو داود (1/4، رقم 15) ، والنسائي في الكبرى (1/70، رقم 33) ، وابن ماجه (1/123، رقم 342) ، وأحمد (3/36، رقم 11328) ، وابن خزيمة (1/39، رقم 71) ، وابن حبان (4/270، رقم 1422) ، والبيهقي في السنن الكبرى (1/99، رقم 487) عن أبي سعيد.

وأخرجه النسائي في الكبرى (1/70، رقم 31) ، والطبراني في الأوسط (2/65، رقم 1264) عن أبي هريرة.

ص: 314

لكن صرح ابن كج (1) بأنها حرام.

قال الأذرعي: والتحريم حال قضاء الحاجة ظاهر، أما بعده وقبله فمحتمل، واللائق بالتعظيم المنع.

فائدة أخرى: إذا عطس عند قضاء الحاجة والجماع حمد الله بقلبه، ولا يحرك لسانه.

فائدة أخرى: إذا سلم عليه أحد وهو في الخلاء يكره رد السلام عليه، وقد ذكر العلماء مواضع لا يستحق فيها المسلم الرد، وسيأتي في الكلام على الحمام.

فائدة: قال أبو الليث: روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان إذا أراد الدخول في الكنيف بسط رداءه ويقول: «أيها الملكان الحافظان علي اجلسا هاهنا فإني قد عاهدت الله تعالى أن لا اتكلم على الخلاء» .

ومنها: أن يعتمد على رجله اليسرى وينصب اليمن بأن يضع أصابعها على الأرض ويرفع باقيها فإن، ذلك أسهل لخروج الخارج سواء قضى حاجته قائماً أو قاعداً.

ومنها: أن لا ينظر إلى فرجه بلا حاجة ولا إلى الخارج منه، نعم قال بعض المالكية: يندب أن ينظر إلى ما يخرج منه اعتبار بمآل الدنيا.

قال الأذرعي: ولا يعبث بيده ولا يلتفت يمنياً وشمالاً.

ومنها: أن لا يطيل المكث في المحل بل تكره الإطالة لما روي عن لقمان أنه قال: إن ذلك يتولد منه الباسور أو يورث وجعاً في الكبد.

ومنها: أن لا يتخلى في طريق الناس لما ورد في صحيح مسلم: «اتقو اللعانين» قالوا: وما اللعنان؟ قال: «الذي يتخلى في طريق أو في ظلهم» (2) .

(1) ابن كج هو: يوسف بن أحمد بن كج أبو القاسم القاضي أحد أئمة الشافعية، صاحب أبي الحسين ابن القطان وحضر مجلس الداركي أيضا قتله العيارون بالدينور ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان سنة خمس وأربعمائة، وكان من أئمة المذهب، قال ابن كثير: له في المذهب وجوه غريبه، وقد وجمع بين رياسة الفقه والدنيا، وله مصنفات كثيرة منها:«التجريد قال في المهمات» وضبط اسمه ابن خلكان فقال: «وكج» بكاف مفتوحة وجيم مشدودة وهو في اللغه: الجص الذي تبيض به الحيطان.

انظر ترجمته في: البداية والنهاية (11/355) ، وطبقات الفقهاء (1/127) ، وطبقات الشافعية (2/198) .

(2)

أخرجه مسلم (1/226، رقم 269) وأخرجه أيضاً أبو داود (1/7، رقم 25) ، وأحمد (2/372، رقم 8840) ، وأبو يعلى (11/369، رقم 6483) ، والبيهقي (1/97، رقم 473) عن أبي هريرة.

ص: 315

وفي رواية لابن مندة: «في طريق المسلمين ومجالسهم» (1) .

«واللعنان» بالتشديد أصله اللاعنان فحول للمبالغة، وإنما إطلق على الذي يتخلى في الطريق والذي يتخلى في الظل لعنانان لأنهما تسببا بذلك في لعن الناس لهما كثيراً عادة، فأضيف الفعل اليهما بصيغة المبالغة، والمعنى: احذروا سبب اللعن المذكور.

قال الخطابى: وقد يكون اللاعن بمعنى المعلون أي: اتقوا الملعونين فاعلمهما.

فائدة: التخلي في طريق الناس ببول أو غائط مكروه كراهة تنزيه كما قال أصحاب الشافعي.

لكن قال النووي: ينبغي تحريمه للأخبار الصحيحة ولإيذاء المسلمين.

وقال الأذرعي في «التوسط» : يجب الجزم بأن التخلي فيها حرام، وهو الصواب مذهباً ودليلاً، قال: ويتعين من إطلاق الكراهة أي: في كلام الأصحاب على التحريم.

وقال صاحب العدة: إن التغوط في الطريق حرام نقله الشيخان عنه في كتاب الشهادة وأقراه فأُفهم كلامهم أن البول فيها ليس بحرام، لأن الغائط أغلظ منه.

وجاء في حديث رواه البيهقي: «من سل سخيمته على طريق عامر من طريق المسلمين فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين» (2)

«والسخيمة» بفتح السين المهملة وكسر الخاء المعجمة هي الغائط.

ومنها: أن لا يتخلى في متحدث الناس، «والمتحدث» بفتح الدال مكان الاجتماع للحديث، ويسمى النادى، أي: يكره التخلي فيه، وفي معناه كل موضع يقصد كظل شمس أو لمعيشة أو لمقيل مسافر ونحوها، وينبغي على قول النووي أن يحرَّم التخلى فيه لإيذاء الناس.

ومنها: أن لا يتخلى عند قبر محترم احتراماً له، أي: يكره له ذلك، وتشتد الكراهة عند قبور الأولياء والشهداء، وأما قبور الأنبياء فالتخلي عندها حرام كما قال الأذرعي.

وكذلك يحرم التخلي بين القبور المتكرر نبشها لاختلاط ترتبها بأجزاء الميت،

(1) عزاه أيضاً ابن الملقن في تحفة المحتاج (1/163) لابن منده.

(2)

أخرجه البيهقي (1/98، رقم 475) وأخرجه أيضاً الحاكم (1/296، رقم 665) ، والطبراني في الأوسط (5/320، رقم 5426) قال الهيثمي (1/204) : فيه محمد بن عمرو الأنصاري ضعفه يحيى بن معين ووثقه ابن حبان وبقية رجاله ثقات. جميعاً عن أبي هريرة.

ص: 316

وكذا يحرم التخلي عند القبر المحترم.

قال الأذرعي في «التوسط» : والظاهر أن البول إلى جداره كالبول عليه إذا مسته النجاسة.

ومنها: أن لا يبول بقرب جدار المسجد احتراماً له، فإن بال بقربه كره له ذلك.

فائدة: البول في المسجد في إناء من غير ضرورة حرام، وأما البول في رحبة المسجد وهو كل ما كان مضافاً إلى المسجد محجراً عليه، فإن جعلناها من المسجد حرم وإلا فلا.

قال الأذرعي في «التوسط» : ويحتمل أن يقال بالتحريم مطلقاً، وإن لم يجعلها من المسجد. قال: ويجب الجزم به إذا كانت متروكة.

فائدة أخرى: قال صاحب الذخائر: يستحب للمرء أن يتخذ إناء يبول فيه بالليل لحديث ورد فيه (1) .

ولأن دخول الحشوش بالليل يخشى منه.

ومنها: أن لا يبول في ماء راكد ولو كان كثيراً أي: يكره له ذلك لخبر مسلم: «أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الراكد» (2) .

والكراهة في القليل الراكد أشد لتنجيسه.

وكذا يكره في جارٍ قليل، وأما الجاري الكثير فلا يكره فيه ذلك، لكن الأولى اجتنابه.

وكذا يكره البول بقربه، والبول فيه بالليل أشد كراهة، لما قيل: إن الماء بالليل للجن، فلا ينبغي أن يبال فيه ولا يغتسل خوفاً من آفة تصيب من جهتهم، والتغوط أشد كراهة من البول.

ومنها: أنه لا يبول تحت شجرة مثمرة أي: يكره له قضاء الحاجة تحتها.

قال الأذرعي: قال الأصحاب: يكره التغوط والبول في مساقط الثمار مملوكة كانت الشجرة أو مباحة.

قال: وأما غير المثمرة فإن كانت ظلاً ونحوه فعلى ما سبق، وإلا فلا تحريم ولا كراهة.

ولا يكره قضاء الحاجة تحت الشجرة المثمرة ولو في غير وقت الثمرة.

(1) أخرجه أبو داود (1/7، رقم 24) والحاكم (1/272، رقم 593) وقال: صحيح الإسناد وسنة غريبة. وابن حبان (4/274، رقم 1426) عن أميمة بنت رقيقة.

(2)

أخرجه مسلم (1/235، رقم 281) عن جابر.

ص: 317

ومنها: أن لا يتخلى في مستحم وهو المغتسل، مأخوذ من الحميم، وهو: الماء الحار، أي: يكره له ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أن يمتشط أحدنا كل يوم أو يبول في مغتسلة وقال:«لا يبولن أحدكم في مستحمه، ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه» رواهما أبو داود وغيره (1) .

ومحل الكراهة إذا لم يكن له منفذ ينفذ منه البول أو الماء، وإلا فلا يكره.

ومنها: أنه يستحب له أن يرفع ثوبه عن عورته بلا قعود لقضاء الحاجة شيئاً فشيئاً، نعم إن خاف تنجس ثوبه رفع قدر حاجته، وبسبله أيضاً شيئاً فشيئاً إذا قام قبل انتصابه.

ومنها: أن لا يبول في مكان صلب لئلا يترشرش بالبول فقد رود: «استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه» رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين (2) .

فإن لم يجده مكاناً غيره دقة بحجر أو نحوه حتى يلين.

فائدة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى الخلاء يحمل أنس بن مالك معه «العنزة» والعنزة عليها عصا زج.

وقال الكرمانى: «العنزة» بفتح النون أطول من العصا وأقصر من الرمح، وفي طرفها «زج» كزج الرمح، «والزج» الحديدة التي في أسفل الرمح يعنى السنان.

وقال ابن رجب: كانت هذه «العنزة» تحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم في الأسفار، وفي يوم العيدين يصلي إليها حيث لم يكن هناك جدار ليستتر به.

وجاء في الصحيحين عن ابن عمر: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس وراءه وكان يفعل ذلك في السفر» (3) .

قال ابن رجب: والذي كان يحمل العنزة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غالباً عبد الله بن

(1) أخرجه أبو داود (1/7، رقم 27) ، والترمذي (1/33، رقم 21) وقال: غريب. والنسائي (1/34، رقم 36) . وابن ماجه (1/111، رقم 304) ، والحاكم (1/273، رقم 595) وقال: صحيح على شرط الشيخين. وعبد الرزاق (1/255، رقم 978) ، وأحمد (5/56، رقم 20582) ، وعبد بن حميد (ص 181، رقم 505) ، وابن الجارود (1/21، رقم 35) عن عبد الله بن مغفل.

(2)

أخرجه الحاكم (1/293، رقم 653) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولا أعرف له علة. وأخرجه أيضاً الدارقطني (1/128) عن أبي هريرة.

(3)

أخرجه البخاري (1/187، رقم 472) ، ومسلم (1/359، رقم 501) .

ص: 318

مسعود، فإنه كان خادم نعليه فيلبسه النعلين ثم يمشى بالعصا أمامه، حتى يدخل الحجرة قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والحكمة في حملها معه ليحفر بها الأرض، ويلين التراب ليبول في موضع لين لئلا يصيبه الرشاش، وهذه العنزة أهداها النجاشى للنبى صلى الله عليه وسلم.

قال الحليمى: وقال ابن سيد الناس: كانت للزبير بن العوام قدم بها من أرض الحبشة فأخذها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بقي من هذه «العنزة» قطعة موجودة بمصر في الآثار الشريفة.

ومنها: أن لا يبول في ثقب وهو النجش المستدير في الأرض، ولا في سرب وهو الشق في الأرض والبول فيهما مكروه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، لأنها مساكن الجن.

فائدة: وقع لسعد بن عبادة رضي الله عنه أنه سافر من المدينة بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما لم يبايعه الناس وبايعوا أبا بكر إلى أن وصل إلى مدينة حوران، فنزل بها وأقام فجلس يوماً ليبول في ثقب في الأرض فضربه الجن فوقع ميتاً، وذلك سنة خمس عشرة فغسل ودفن بحوران، ولم يعلم أهل المدينة بموته حتى سمعوا قائلاً من الجن في بئر يقول: نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة، رميناه بسهمين فلم يخطئ فؤاده، فحفظوا ذلك اليوم فوجدوه اليوم الذي مات فيه (1) .

ومنها: أن لا يبول في مهب ريح أي: موضع هبوبها. أي: يكره له استقباله بالبول كما قاله النووي في المجموع لئلا يعود عليه رشاش البول، بل يستدبرها كما في المجموع.

قال الأذرعي في «التوسط» : وجاء في الحديث: «أنه كان صلى الله عليه وسلم يتمخر الريح» (2) .

أي: ينظر أين مجراها فلا يستقبلها لئلا ترد عليه البول ولكن يستدبرها، ولا فرق في كراهة استقبال مهبة الريح بين حال هبوبها، وحال سكونها إذ هي تهب بعد شروعه في البول فترد الرشاش عليه، أفاد ذلك ابن شهبة.

ومنها: أن لا يبول قائماً بل يكره البول قائماً لما رواه الترمذي وغيره عن عائشة أنها قالت: «من حدثكم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوه ما كان يبول إلا

(1) انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (20/266: 269) .

(2)

أورده ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (1/45) وقال: غريب.

ص: 319

قاعداً» (1) .

نعم يجوز البول قائماً لعذر بلا كراهة ولا خلاف الأولى، فقد ورد في الصحيحين:«أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال قائماً» (2) .

واختلف العلماء في سببه:

فقيل: كان به وجع في صلبة والعرب كانت تستشفى بالبول قائماً لوجع الصلب.

وقيل: لأنه لم يجد مكاناً يصلح للقعود.

وقيل: كان بباطن ركبتيه علة فما قدر يجلس فبال قائماً.

قال النووي: ويجوز أن يكون فعل ذلك بياناً للجواز.

سؤال: فإن قيل: كيف بال رسول الله صلى الله عليه وسلم في سباطة القوم بغير إذنهم مع أنه لا يجوز لأحد أن يستجمر في حائط غيره بغير أذنه؟

جوابه: إما أنه صلى الله عليه وسلم علم رضاهم بذلك وأذنوا له، أو أنها لم تكن مختصة بهم، بل عامة أضيفت إلى القوم لقربها منهم.

ومنها: أن يستبرئ من البول عند انقطاعه وقبل قيامه إن كان قاعداً، لئلا يقطر عليه، ويحصل بتنحنح ونثر ذكر ثلاث مرات.

وكيفية النثر: أن يمسح بيسراه العروق من دبره إلى رأس الذكر وينثره بلطف، ليخرج ما بقي إن كان، ويكون ذلك بالابهام والمسبحة، ويحصل أيضاً بالمشي خطوات أكثرها سبعون خطوة.

قال النووي: ويختلف ذلك باختلاف الناس، فمنهم من يحصل له الاستبراء بأدنى عصر، ومنهم من يحتاج إلى تكرره، ومنهم من يحتاج إلى صبر لحظة، ومنهم من لا يحتاج إلى شيء من هذا، المقصود أن يظن الإنسان أنه لم يبق بمجرى البول شيء يخاف خروجه.

والاستبراء مستحب فلو تركه الإنسان فاستنجاؤه صحيح ووضوءه كامل، وإنما لم يجب لأن الظاهر من انقطاع البول عدم عودة.

قال الأذرعي: نعم إذا تحقق أن في المجرى شيئاً يخرج منه، أو غلب على ظنه

(1) أخرجه الترمذي (1/17، رقم 12) وابن ماجه (1/112، رقم 307) ، وابن حبان (4/278، رقم 1430) .

(2)

أخرجه البخاري (1/90، رقم 222) ، ومسلم (1/228، رقم 273) ، وأبو داود (1/6، رقم 23) ، والترمذي (1/19، رقم 13) ، والنسائي (1/25، رقم 26) ، وابن ماجه (1/111، رقم 305) عن حذيفة.

ص: 320

بمقتضى عادته أنه يخرج منه شيء، وجب أن يستبرئ بعده، ووافقه ابن البرزي على ذلك.

ويكره لغير حاجة أن يحشو ذكره بقطن أو نحوه، أما لحاجة فإنه لا يكره، بل يجب كمن به سلس البول.

وينبغي لكل أحد في الاستبراء أن لا ينتهي إلى حد الوسوسة فإنها مذمومة، والناس مختلفون في الوسواس.

فمنهم من يوسوس في الاستنجاء والوضوء والغسل، فيؤديه ذلك إلى الإسراف في الماء.

ومنهم من يوسوس في الصلاة فيؤدية ذلك إلى عدم جزم النية، وتكرير لفظ نويت نويت أصلي أصلي ونحو ذلك، وهذا نقص في العقل وحيل من الشيطان.

فقد روى ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال له: «لا تسرف» فقال له: يا رسول الله أفي الماء إسراف؟ قال: «نعم وإن كنت على نهر جار» (1) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء» (2) رواه الترمذي.

قال ابن العماد: معناه أنه يشككه في خلاء الوضوء، أو بعد الفراغ منه في أنه نوى أو ما نوى، أو في أنه لم يستوعب غسل الوجه في المرات الثلاث ونحو ذلك.

وأخرج ابن أبي الدنيا عن الحسن قال: «شيطان الوضوء يدعى الولهان ويضحك بالناس في الوضوء» .

وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم التيمي قال: «أول ما يبدأ الوسواس من الوضوء» (3) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء» (4) .

(1) أخرجه ابن ماجه (1/147، رقم 425) عن عبد الله بن عمرو.

(2)

أخرجه الترمذي (1/85، رقم 57)، وقال: غريب وليس إسناده بالقوي. وأخرجه أيضاً ابن ماجه (1/146، رقم 421) ، وأحمد (5/136، رقم 21276) ، وابن خزيمة (1/63، رقم 122) ، والحاكم في المستدرك (1/267، رقم 578)، والطيالسي (ص: 74، رقم 547) عن أبي بن كعب.

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة (1/67، رقم 725) .

(4)

أخرجه أبو داود (1/24، رقم 96) ، وابن ماجه (2/1271، رقم 3864) ، وأحمد (4/86، رقم 16842) ، وابن حبان (15/166، رقم 6763) ، والحاكم في المستدرك (1/267، رقم 579) ، وابن أبي شيبة (6/53، رقم 29411) ، والبيهقي (1/196، رقم 900) عن عبد الله بن مغفل.

ص: 321

قال الشيخ موفق الدين ابن قدامه رحمة الله: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما كان فيهم موسوس، ولو كانت الوسوسة فضيلة لادخرها الله لرسوله وأصحابه، وهم خير الخلق وأفضلهم، ولو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسوسين لمقتهم، ولو أدركهم عمر لضربهم وأدبهم، ولو أدركهم أحد من الصحابة لبدعهم.

قيل: إن بعض الصوفية جلس ليلة يتوضأ لصلاة العتمة، فصار يصب الماء عليه حتى مضى شطر الليل فلم تطب نفسه، ولم يذهب الوسواس من قلبه، فبكى وقال: يارب العفو، فسمع هاتفاً يقول له: اترك ما أنت فيه، واستعلم العلم.

ومن آدابه أن لا يأكل ولا يشرب في الخلاء، كما قاله القاضي زكريا عن المحب الطبري.

ومنها: أنه لا يستاك، فقد نقل عن ابن عباس: أنه يورث النسيان، ونقل عنه أيضاً أنه قال:«من فعل ذلك فذهب بصره فلا يلومن إلا نفسه» .

ومنها: أن لا يمسك البول بعد ما أخذه فإن ذلك يضر بالمثانة قاله الغزالي.

ويقال: إن حبس البول يفسد من الجسد كما يفسد النهر ما حوله إذا سد مجراه.

ومنها كما قال الغزالي في الإحياء: أن يقول عند الفراغ من الاستنجاء: اللهم طهر قلبي من النفاق، وحصن فرجي من الفواحش (1) .

خاتمة: قال الترمذي الحكيم: إذا أتيت الخلاء فاعلم أنك تقصد الشيطان فاحذر من كيده، وأقل من إتيانه بقلة الطعام، وكن رجلاً مستحيياً من خالقك، مستحقراً لنفسك.

فقد قال الفضيل بن عياض: إني لأمقت نفسي من كثرة ترددي إلى الخلاء.

وغط نفسك حياءً من ربك، وامش متواضعاً متفكراً في نعم الله عليك، حين أطعمك وأسقاك، وأخرجه عنك حين أذاك، وقف على باب الخلاء وقل: اللهم اجعل دخولي عبرة، وأمط الأذى عني رحمة ترحمني بها، فعن أنس:«إن الشيطان يتباعد إذ ذاك» .

قال: ولا تبصق في بولك ولا على ما يخرج منك من العذرة، فقد روي أنه من فعل ذلك يبتلى بالوسوسة وصفرة الأسنان.

(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/132) .

ص: 322

وعن عطاء أنه قال: «من بصق على ما يخرج منه بلي بالدم هو وأولاده أو أحد عقبه.

ولا يتمخط فعن أنس: «أنه يورث الصمم» .

ولا تقلب خاتمك مرة بعد أخرى فقد روي: أنه من فعل ذلك يأوي إليه الشيطان.

قال: وينبغي أن تقوم مولِّيا عما يخرج منك فقد روي: «أنه فيه شفاء من تسعة وتسعين داء، أدناها البرص والجذام» .

قال: واجتهد أن تجعل بينك وبين السماء سترة.

فعن الضحاك: «أن من فعل ذلك أمطرت عليه الرحمة من عنان السماء» .

قال: ولا تقتل قملة بل ادفنها.

فقد روى محمد بن أبي طالب أنه قال: «من قتل القمل وهو على رأس خلائه بات معه في شعاره شيطان، ينسيه ذكر الله تعالى أربعين صباحاً» .

قال: ولا تلقي ما تستنجي به على رأس ما يخرج منك من بول وعذر؟

فعن مكحول: «أنه من فعل ذلك تدودت أسنانه، وغلبت عليه الرياح» .

ولا تقم حتى تشد سراويلك فعن قتادة: «أن من داوم على ذلك» أي: من قام قبل أن يشد سراويله «غلب الدم عليه حتى يكون موته منه» .

قال: ولا تغمض عينيك، فإن ذلك يورث النفاق في القلب، كما قاله الحسن.

قال: ولا تحمل الماء معك إلى الخلاء بيسارك.

فعن كعب: «أن ذلك فعل الشيطان ويفقد ثواب وضوءه» .

قال: ولا تضع يديك على صدغك، وتجعل رأسك بينهما.

فعن أويس القرني: «أن ذلك يورث قساوة القلب والبرص، ويذهب الرحمة والحياء» .

قال: ولا تسنده إلى حائط وغيره كفعل الجبابرة والشيطان، فإنه يذهب ماء الوجه وينفح البطن.

ص: 323

قَالَ البُخَارِي:

بَابٌ: لا تُسْتَقْبَلُ القِبْلَةُ بِغَائِطٍ وَلا بَوْلٍ إِلا عِنْدَ البِنَاءِ: جِدَارٍ أَوْ نَحْوِهِ

حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا الزُّهْرِىُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِىِّ عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ

»

في هذا الإسناد من اللطائف أن رجاله كلهم مدنيون، وأبو أيوب الأنصاري صحابي جليل، واسمه: خالد بن زيد، ولكن غلبت عليه كنيته، وهو خزرجي أنصاري مدني، ثم شامي، شهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن فضائله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة نزل عليه شهراً، حتى بنت مساكنه ومسجده صلى الله عليه وسلم.

وقدم مرة إلى البصرة وكان فيها ابن عباس ففرح به وقال له: إني أخرج من مسكني لك، كما خرجت لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسكنك، ولما رحل منها أعطاه عشرين ألفاً وأربعين عبد.

هو من نجباء الصحابة ومناقبه جمة، وكان مع علي في حروبه.

ومن فضائله: أنه خرج مرة للغزاة بالقسطنطينية فمرض فلما ثقل قال لأصحابه: احملوني فإذا صففتم العدو فارموني تحت أرجلكم.

قال ابن الملقن: قال الكرماني قال لأصحابه: إذا مت فاحملوني فإن صاففتم العدو فادفنوني تحت أقدامكم، ففعلوا فقبره قريب من سور بالقسطنطينية، معروف إلى اليوم وهم هناك يستقون به فيسقون، مات سنة خمسين، وقيل: إحدى وخمسين، روي له من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وخمسون حديثاً، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث.

«

عَنْ أَبِى أَيُّوبَ الأَنْصَارِىِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلَا يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلَا يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا» (1) .

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:

قوله: «فلا يستقبل» بكسر اللام لأن «لا» ناهية واللام في القبلة للعهد أي للكعبة.

قوله: «ولا يولها ظهره» : ولمسلم «ولا يستدبرها» وزاد «ببول أو بغائط» والغائط الثاني غير الأول، أطلق على الخارج من الدبر مجازاً من إطلاق اسم المحل على الحال كراهية لذكره بصريح اسمه، وحصل من ذلك جناس تام.

والظاهر من قوله «ببول» اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة، ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة، ويؤيده قوله في حديث جابر:«إذا هرقنا الماء» . وقيل مثار النهي كشف العورة، وعلى هذا فيطرد في كل حالة تكشف فيها العورة كالوطء مثلا، وقد نقله ابن شاش المالكي قولا في مذهبهم وكأن قائله تمسك برواية في الموطأ:«لا تستقبلوا القبلة بفروجكم» ولكنها محمولة على المعنى الأول أي حال قضاء الحاجة جمعاً بين الروايتين والله أعلم. انظر فتح الباري (1/246) .

ص: 324

في هذا الحديث دلالة على أنه يحرم على الإنسان أن يستقبل لقبلة ببول أو غائط أو يستدبرها، فإن قوله:«فلا يستقبل القبلة» نهي، وكذا قوله:«ولا يولها ظهره» نهي أيضاً.

والأصل في النهي أن يكون للتحريم وهذا المسألة فيها أربعة مذاهب للعلماء:

الأول: التحريم مطلقاً في البنيان والصحراء وهو قول أبي أيوب الأنصارى، راوي الحديث، وحكي عن جماعة منهم أبو حنيفة، وهؤلاء حملوا النهي على العموم، وجعلوا العلة فيه التعظيم والاحترام للقبلة، فإن موضعها للصلاة وللدعاء والبر والخير.

الثاني: الجواز مطلقاً.

الثالث: تحريم الاستقبال دون تحريم الاستدبار.

الرابع: وهو قول إمامنا الشافعي وبه قال مالك وجمهور العلماء: أنه يحرم الاستقبال والاستدبار في الصحراء دون البنيان.

سؤال: فإن قيل: قوله في هذا الحديث: «فلا يستقبل القبلة ولا يولها ظهره» يقتضي التحريم في الصحراء والبنيان؟

جوابه: أن إمامنا الشافعي حمله على الصحراء، وحمل غيره من الأحاديث الدالة على الجواز مطلقاً على البنيان، جمعاً بين الأخبار.

فائدة: إنما يجوز الاستقبال والاستدبار في البنيان بشرطين:

أحدهما: أن يستتر بشيء بينه وبين القبلة مرتفع قدر ثلثي ذراع فأكثر، كجدار أو حجر أو تراب أو إرخاء ذيل أو نحوه.

الثاني: أن يقرب منه على ثلاثة أذرع فأقل بذراع الآدمي، فإن كان الساتر أقل من ثلثي ذراع أو كان أكثر، ولكن بعد عنه أكثر من ثلاثة أذرع فيحرمان حينئذ كالصحراء.

نعم إذا كان في الأخلية المعدة لقضاء الحاجة وإن بعد الساتر عنه، أو قصر من ثلثي ذراع فأكثر وقربه منه، لا حرمة فيه ولا كراهة ولا خلاف الأولى قاله النووي.

لأن الضرورة قد تدعو إلى توسيعه لوضع أواني الماء ونحوها، وإنما يحرمان بالصحراء إذا لم يكن بينها وبينه ساتر، فإذا استتر بمرتفع قدر ثلثى ذراع فأكثر، وقرب

ص: 325

منه على ثلاثة أذرع فأقل لم يحرم.

فائدة أخرى: إذا جاز للإنسان استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط بالشروط المذكورة في غير الأخلية المعدة لذلك فهل هو جائز مع الكراهة أو بلا كراهة؟

جزم الرافعي تبعاً للمتولي أن الكراهة موجودة.

واختار النووي أن الكراهة منتفية قال: لكن الأدب والأفضل الميل عن القبلة إذا أمكن بلا مشقة احتراماً لها.

فائدة أخرى: إذا قلنا بتحريم الاستقبال والاستدبار لفقد الشروط المذكورة، فيجب على قاضي الحاجة حينئذ إما أن يتوجه إلى ناحية الشرق، وإما إلى ناحية الغرب كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«شرقوا أو غربوا» .

فإن معنى شرقوا الالتفات إلى ناحية الشرق، وغربوا الالتفات إلى ناحية الغرب، ولقد أحسن من قال:

سارت مشرقة وسرت مغرباً

شتان بين مشرق ومغرب

وينبغي أن يعلم أن وجوب التشريق والتغريب في حق من ليست قبلته في ناحية المشرق أو المغرب كأهل المدينة الشريفة وأهل الشام وغيرهما.

ويعلم ذلك من قوله في الحديث: «شرقوا أو غربوا» فإنه خطاب لأهل المدينة، ولمن كانت قبلته على ذلك السمت، أما من كانت قبلته إلى جهة المغرب أو المشرق، فإنه ينحرف إلى الجنوب أو الشمال.

فائدة أخرى: لو كانت الريح تهب عن يمين القبلة ويسارها، ولو بال لغير القبلة لرد الريح عليه البول جاز له في هذه الحالة أن يستقبل القبلة بالبول أو يستدبرها للضرورة قاله القفال.

فائدة أخرى: إذا قلنا لا يكره استقبال القبلة ولا استدبارها حال الاستنجاء ولا حال الجماع ولا حال إخراج الريح، فإن النهي عنهما إنما ورد في البول والغائط، وهذا لم يفعله.

ص: 326

فائدة أخرى: يكره استقبال الشمس والقمر وبيت المقدس واستدبارها ببول أو غائط في الصحراء والبنيان إكراماً لها قاله صاحب الروض تبعاً للرافعى.

لكن نقل النووي في الروضة عن الجمهور: أن الكراهة في الشمس والقمر مخصوصة بالاستقبال فقط.

وقال في المجموع: هو الصحيح المشهور.

وأفاد بعض العلماء: أن استقبال القمر لا يكره إلا في وقت سلطنته وهو الليل، أما النهار فلا.

ثم سأل وقال: فإن قيل: ينبغي أن يكره استقباله مطلقاً لأن في حافتيه ملكاً؟

ثم أجاب: بأنا لو نظرنا إلى هذا لكره أن يستقبل زوجته، فإن معها الحفظة ولم يقل أحد به.

* * *

ص: 327