المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس الرابع والأربعون - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ٢

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس الرابع والأربعون

‌المجلس الرابع والأربعون

في بيان فوائد متعلق بالاستنجاء بالحجر وغيره

قَالَ البُخَارِي:

بَابُ الاسْتِنذْجَاءُ بِالحِجَارَةِ

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّىُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْمَكِّىُّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ اتَّبَعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَكَانَ لَا يَلْتَفِتُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ:«ابْغِنِى أَحْجَاراً أَسْتَنْفِضْ بِهَا -أَوْ نَحْوَهُ- وَلَا تَأْتِنِى بِعَظْمٍ وَلَا رَوْثٍ» . فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِى فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ (1) .

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:

قوله: «اتبعت» : أي سرت وراءه.

والواو في قوله «وخرج» حالية.

وفي قوله «وكان» استئنافية.

قوله: «فدنوت منه» : زاد الإسماعيلي «أستأنس وأتنحنح، فقال: من هذا؟ فقلت: أبو هريرة» .

قوله: «أبغني» : بالوصل من الثلاثي أي أطلب لي، يقال بغيتك الشيء أي: طلبته لك. وفي رواية بالقطع أي: أعني على الطلب، يقال: أبغيتك الشيء أي: أعنتك على طلبه، والوصل أليق بالسياق، ويؤيده رواية الإسماعيلي ائتني.

قوله: «أستنفض» : قال القزاز: قوله أستنفض أستفعل من النفض وهو أن تهز الشيء ليطير غباره، قال: وهذا موضع استنظف، أي: بتقديم الظاء المشالة على الفاء، ولكن كذا روي. انتهى.

والذي وقع في الرواية صواب ففي القاموس استنفضه استخرجه، وبالحجر استنجي، وهو مأخوذ من كلام المطرزي قال: الاستنفاض الاستخراج، ويكنى به عن الاستنجاء، ومن رواه بالقاف والصاد المهملة فقد صحف. انتهى.

ووقع في رواية الإسماعيلى «أستنجي» : بدل «أستنفض» وكأنها المراد بقوله في روايتنا أو نحوه، ويكون التردد من بعض رواته.

قوله: «ولا تأتني» : كأنه صلى الله عليه وسلم خشى أن يفهم أبو هريرة من قوله أستنجي أن كل ما يزيل الأثر وينقي كاف ولا اختصاص لذلك بالأحجار، فنبهه باقتصاره في النهي على العظم والروث على أن ما سواهما يجزئ، ولو كان ذلك مختصاً بالأحجار -كما يقوله بعض الحنابلة والظاهرية- لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معني، وإنما خص الأحجار بالذكر لكثرة وجودها.

وزاد المصنف في المبعث في هذا الحديث أن أبا هريرة قال له صلى الله عليه وسلم لما فرغ: ما بال العظم والروث؟ قال: هما من طعام الجن. والظاهر من هذا التعليل اختصاص المنع بهما.

نعم يلتحق بهما جميع المطعومات التي للآدميين قياساً من باب الأولى، وكذا المحترمات كأوراق كتب العلم.

ومن قال علة النهي عن الروث كونه نجساً ألحق به كل نجس متنجس، وعن العظم كونه لزجاً فلا يزيل إزالة تامة ألحق به ما في معناه كالزجاج الأملس.

ويؤيده ما رواه الدارقطني وصححه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجي بروث أو بعظم، وقال:«إنهما لا يطهران» . وفي هذا رد على من زعم أن الاستنجاء بهما يجزئ وإن كان منهياً عنه.

قوله: «وأعرضت» : كذا في أكثر الروايات، وللكشميهني «واعترضت» بزيادة مثناة بعد العين والمعنى متقارب.

قوله: «فلما قضى» : أي حاجته.

قوله: «أتبعه» بهمزة قطع أي ألحقه، وكنى بذلك عن الاستنجاء.

وفي الحديث: جواز اتباع السادات وإن لم يأمروا بذلك.

واستخدام الإمام بعض رعيته، والإعراض عن قاضي الحاجة، والإعانة على إحضار ما يستنجى به وإعداده عنده لئلا يحتاج إلى طلبها بعد الفراغ فلا يأمن التلوث. والله تعالى أعلم. انظر فتح الباري (1/255) .

ص: 341

أي: مشيت خلفه، ويجوز «اتبعته» أي: لحقته.

قال في المحكم: «تبع واتبع وأتبع» بمعنى واحد.

قال في التنزيل: ?أَتْبَعَ سَبَباً? [الكهف: 89] أي: تبع.

قوله: «فدنوت منه فقال: ابغني أحجاراً» أي: قال أبو هريرة فدنوت من النبي صلى الله عليه وسلم أي: لأستأنس به وانظر حاجته.

وجاء في رواية: فدنوت منه استأنس وأتتنحنح فقال: «من هذا؟» فقلت: أبو هريرة، فقال:«ابغني أحجار استنفض بها» .

أفاد الكرمانى: أنه يجوز أن تكون همزة «أبغني» همزة وصل، والفعل ثلاثي مجرد، والمعنى: اطلب لي أحجار أستنفض بها أي: أستنظف بها أي: انظف نفسي بها من الحدث.

وأن تكون همزة قطع والفعل مزيد ومعناه: أعني على الطلب.

واعلم أن ها هنا فوائد نافعة متعلقة بالاستنجاء مستفاداً بعضها من هذا الحديث:

الأولى: اختلف العلماء رضى الله عنهم في الاستنجاء هل هو واجب أو مستحب؟

ص: 342

فذهب الإمام مالك والكوفيون إلى أنه سنة.

وذهب إمامنا الشافعي وأحمد بن حنبل وجمهور العلماء إلى أنه واجب وشرط لصحة الصلاة.

وذهب أبو حنيفة إلى أن النجاسة إن كانت أقل من الدرهم فالاستنجاء يكون سنة، وإن كانت مقدار الدرهم فالاستنجاء يكون واجباً، وإن كانت أكثر من قدر الدرهم فالاستنجاء يكون فريضة.

الثانية: الاستطابة والاستنجاء والاستجمار بمعنى إزالة الأذى أي: الخارج.

لكن الاستجمار لا يكون إلا بالأحجار مأخوذ من الجمار، وهي: الأحجار الصغار.

والاستنجاء والاستطابة يكونان بالماء والحجر، وسمى الاستنجاء بالاستطابة لطيب نفس المستنجي بخروج الخارج عنه.

و «الاستنجاء» مأخوذ من نجوت الشجرة إذا قطعتها، فقيل لهذا الفعل استنجاء لحصول قطع الذي عنه به، وقيل لغير ذلك.

الثالثة: يحوز الاستنجاء قبل الوضوء وبعده، وإذا استنجأ بعده لف على يده خرقة لئلا ينتقض وضوءه ونظف المحل وصلى، بخلاف التيمم، فإنه لابد من تقديم الاستنجاء عليه، ولا يصح قبله لأنه طهارة ضرورة، بل لا يصح التيمم وعلى البدن نجاسة في أي موضع كانت حتى يزيلها.

نعم لنا وضوء لا يصح تقديمه على الاستنجاء، وبعبارة أخرى وهي المناسبة لنا استنجاء لابد من تقديمه على الوضوء وصورته في وضوء دائم الحدث.

الرابعة: الاستنجاء واجب عند إرادة القيام إلى الصلاة لا على الفور، كما أفاد القاضي زكريا في شرح الروض تبعاً للأسنوى وغيره، وإنما يجب بخروج الخارج الملوث سواء كان معتاداً كالبول والغائط، أو نادراً كالدم والمذي والودي.

فلا يجب بخروج دود ونحوه، ولا بخروج بعر لا يلوث لعدم النجاسة، نعم يستحب الاستنجاء من ذلك خروجاً من خلاف من أوجبه.

ولا يجب من خروج ريح بالإجماع ولو كان المحل رطباً، بل لا يستحب بل هو مكروه بل بدعة يأثم فاعله كما قال النووي.

فائدة: يستثنى من الملوث المني فإنه لا يوجب الاستنجاء لعدم نجاسته، ولا يجب أيضاً من الاستيقاظ من النوم، فإذا نام الإنسان مستنجياً ثم استيقظ لا يجب عليه إعادة

ص: 343

الاستنجاء، وبعض العوام يعتقد وجوبه وهو خطأ.

الخامسة: يجزئ الاستنجاء بالماء وحده وبثلاثة أحجار وحدها.

أما إجزاءه بالماء فلأنه الأصل في إزالة النجاسة.

وأما إجزاءه بثلاثة أحجار وحدها فلأنه صلى الله عليه وسلم فعله كما رواه البخاري في هذا الحديث، وأمر بفعله بقوله فيما رواه الشافعي وغيره:«ويستنج بثلاثة أحجار» (1) وعدها.

وفيما رواه أبو داود وغيره: «إذا ذهب أحدكم إلى لغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب بهن فإن يجزئ عنه» (2) .

فائدة: أفاد بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستنج بالماء إلا مرتين أو ثلاثة مرات، بل كان يستنجي غالباً بالأحجار.

فائدة أخرى: يجزئ الاستنجاء بماء زمزم ولكن مع الكراهة.

وكذا يجزئ الاستنجاء بحجارة الذهب والفضة والجوهر على الأصح.

وأما حجارة الحرم فإنه لا يجوز الاستنجاء بها لحرمتها، فإن استنجأ بها أساء وأجزأ.

وكذا المطبوع من الذهب والفضة قاله الماوردي والروياني.

قال العلماء: وإذا أراد استعمال الأحجار وحدها، فالواجب عليه أن يمسح ثلاث مسحات إما بثلاثة أحجار أو بحجر له ثلاثة أطراف، ولا يكفي أقل من ثلاث مسحات، ولو حصل الإنقاء بمسحة واحدة لخبر مسلم عن سلمان رضي الله عنه «نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي بأقل من ثلاث أحجار» (3) وفي معناها ثلاثة أطراف لحجر.

قالوا: ولو مسح ذكره مرتين ثم خرجت منه قطرة وجب أن يأتي بثلاث، لبطلان

(1) أخرجه الشافعي (1/13) ، وابن حبان (4/288، رقم 1440) ، والبيهقي (1/91، رقم 435) عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه أبو داود (1/10، رقم 40) ، والنسائي (1/41، رقم 44)، والدارقطني (1/54) وقال: إسناده صحيح. والدارمي (1/180، رقم 670) ، وأبو يعلى (7/340، رقم 4376) ، وأحمد (6/133، رقم 25056) ، والبيهقي (1/103، رقم 503) عن عائشة.

(3)

أخرجه مسلم (1/223، رقم 262) . وأخرجه أيضاً أبو داود (1/3، رقم 7) ، والترمذي (1/24، رقم 16) وقال: حسن صحيح.

ص: 344

المسح الأول بخروج القطرة، فإن لم يحصل الإنقاء بثلاث وجب الزيادة عليها إلى أن يحصل الإنقاء، فإن نقي برابعة يسن له أن يزيد أخرى لتصير خمسة، فإن الإيتار (1) سنة وإن انقى بسادسة يستحب سابعة.

قال النبي: «من استجمر فليوتر» متفق عليه (2) .

فائدة: إذا استعمل حجراً ثم غسله وجف جاز له استعماله ثانياً، ولو استعمل حجراً في المرة الثانية ولم يتلوث جاز استعماله أيضاً بلا كراهة، بخلاف ما إذا رمى حجراً في الجمار ثم أخذه ورمى به ثانياً وهكذا إلى السابع، فإنه وإن جاز لكن مع الكراهة، فإنه ورد:«أن ما تقبل من الحصيات رفع وما لا ترك» .

السادسة: قال العلماء: لا يتعين الحجر للاستنجاء بغير الماء، بل يقوم مقامه كل جامد طاهر قالع غير محترم كالخشب والخزف والحشيش لحصول الغرض به كالحجر.

سؤال: فإن قيل: الوارد في الحديث إنما هو ذكر الحجارة لا غيرها، فكيف يقوم غيرها مقامها؟

جوابة: أنه إنما جرى ذكر الحجارة في الأحاديث ونسب الحكم إليها كقوله: «فليستنج بثلاثة أحجار» كما تقدم لأنها كانت أكثر الأشياء التي يستنجأ بها وجوداً وأقربها تناولاً، لأنها كانت تتناول بلا مشقة فيها ولا كلفة في تحصلها.

فقولهم في ضابط ما يقوم مقام الحجر: «كل جامد» احترزوا به عن المائع غير الماء الطهور كماء الورد ونحوه، فلو استنجأ بماء الورد مثلاً لم يكف وتعين استعمال الماء بعده ولا يكفي الحجر.

واحترزوا «بالجامد» أيضاً: عن الحجر المبلول، فإنه لا يصح الاستنجاء به، لأن البلل الذي عليه يتنجس بملاقاة النجاسة إياه، ويعود بعضه إلى المحل فيحصل عليه نجاسة أجنبية.

(1) أي يكون عدد المسحات وتراً فتكون ثلاث مسحات أو خمس أو سبع وهاكذا.

(2)

أخرجه البخاري (1/71، رقم 159) ، ومسلم (1/212، رقم 237) . وأخرجه أيضاً النسائي (1/66، رقم 88) ، وابن ماجه (1/143، رقم 409) ، ومالك (1/19، رقم 34) ، وأحمد (2/518، رقم 10729) ، وابن حبان (4/286، رقم 1438) ، وإسحاق بن راهويه (1/454، رقم 527) ، وأبو عوانة (1/208، رقم 673) ، والطيراني في الأوسط (2/363، رقم 2238) ، والبيهقي (1/51، رقم 238) عن أبي هريرة.

ص: 345

واحترزوا «بطاهر» عن النجس والمتنجس كالروث الجامد والحجر المتنجس ونحوهما فلا يكفي الاستنجاء بذلك.

واحترزوا «بقالع» عما لا يقلع النجاسة لملاسته كالقصب والزجاج، أو للزوجته أو لتناثر أجزائه كالفحم الرخو أو التراب المتناثر فلا يكفي الاستنجاء به، أما إذا كان الفحم والتراب صلبين فإنه يكفي الاستنجاء بها.

واحترزوا «بغير محترم» عن الجامد المحترم كأوراق كتب العلم، سواء كان شرعياً كالفقة والحديث أم لم يكن، كالنجوم والعروض فالاستنجاء بها حرام ولا يجزئه، بخلاف أوراق علم المنطق والفلسفة والإنجيل المبدل فإنها إذا لم يكن اسم الله تعالى فيها فهي غير محترمة فيجوز الاستنجاء بها ويجزئه.

ومن المحترم الذي لا يجوز الاستنجاء به ولا يجزئه مطعوم الآدمي كالخبز، ومطعوم الجن كالعظم.

وقد دل قوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه في هذا الحديث الذي ساقه البخاري هنا: «أبغني أحجاراً ولا تأتني بعظم ولا روث» على أن الاستنجاء بالروث وبالعظم لا يجوز.

أما العظم فالحكمة في النهي عن الاستنجاء به أنه زاد إخواننا من الجن.

وأما الروث فقيل: نهى عنه إما لأنه نجس لا يزيل النجاسة بل يزيدها، وفي المثل:«ليت الفحل يهضم نفسه» ، وإما لأنه طعام دوآب الجن.

قال الحافظ أبو نعيم في دلائل النبوة: «إن الجن سألوه هدية منه صلى الله عليه وسلم فأعطاهم العظم والروث، فالعظم لهم والروث لدوآبهم» .

فإذًا لا يستنجى بهما، وإما لأنه طعام الجن أنفسهم فإن الجن يأكلون ويشربون ويتناكحون كما يفعل الإنسان.

وقال بعضهم: إن صنفاً منهم يأكلون ويشربون، وصنفاً لا يأكلون ولا يشربون، وهذا قول ساقط.

وقال بعضهم: أكلهم وشربهم عبارة عن شم واستنشاق رائحة لا مضغ ولا بلع، وإلى هذا القول ذهب الغزالي، وهذا قول لا دليل عليه.

وأكثر العلماء على أن أكلهم وشربهم كالإنسان مضغ وبلع، وقد دلت الأخبار على ذلك منها قوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لأبى هريرة:«ولا تأتني بعظم ولا روث» .

وجاء في رواية في هذا الصحيح أن أبا هريرة قال للنبى صلى الله عليه وسلم: ما بال الروث والعظم؟ قال: «هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين ونعم الجن،

ص: 346

فسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً» (1) .

وروى أبو عبد الله الحاكم في الدلائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود ليلة ذهابه لجن نصيبين: «الجن أولئك جن نصيبين جاؤني فسألوني الزاد فمتعتهم بالعظم والروث» فقال: وما يغني منهم ذلك يا رسول الله؟ قال: «إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه الذي كان فيه يوم أكله» (2) .

ونبه صلى الله عليه وسلم بذكر العظم على أنه لا يجوز الاستنجاء بجميع المطعومات، ولا بجميع المحترمات قاله ابن الملقن.

نعم لنا شيء محترم ويجوز الاستنجاء به وهو ماء زمزم، فإنه محترم ولو استنجأ به أجزأ.

فائدة: لو أحرق العظم الطاهر بالنار وخرج عن حال العظم ففي جواز الاستنجاء به وجهان:

أحدهما: يجوز لأن النار أحالته.

والثاني: لا يجوز.

وأصحهما: أنه لا يجوز لعموم النهي عن أرمة وهي العظم البالي، فإنه لا فرق في البلى بين أن يكون بالنار أو بمرور الزمان قاله ابن الملقن في شرح هذا الحديث، والقاضى زكريا في شرح الروض.

ثم قال القاضي: وإنما لم يجز إذا أحرق كالجلد إذا دبغ لأنه بالإحراق لم يخرج عن كونه مطعوماً بخلاف الجلد إذا دبغ.

فائدة أخرى: قال الأذرعي في «الوسيط» : يحرم أن يبول على ما يحرم الاستنجاء به كعظم المذكى ونحوه، وتبعه القاضي في شرح الروض.

السابعة: يشترط لإجزاء الاستنجاء بالحجر ونحوه شروط:

الأول: أن لا يجف النجس الخارج، فإن جف تعين الماء، لأنه إذا جف لا يزيله

(1) أخرجه البخاري (3/1401، رقم 3647) . وأخرجه أيضاً البيهقي (1/107، رقم 524) عن أبي هريرة.

(2)

أورده ابن كثير في تفسيره (4/169) وقال: رواه الحافظ أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة وهذا إسناد غريب جداً ولكن فيه رجل مبهم لم يسم.

ص: 347

الحجر.

الثاني: أنه لا ينتقل النجس عن الموضع الذي أصابه عند الخروج واستقر فيه، فإن انتقل تعين الماء، وإن لم يجاوز صفحته وحشفته، كان المحل قد طرأ عليه نجاسة لا بسبب الخروج.

الثالث: أن لا يطرأ على المحل المتنجس بالخارج نجس أجنبي، فإن طرأ عليه نجس أجنبي، كما لو استنجى بنجس أو عاد على المحل شيء من رشاش بوله الخارج منه تعين الماء.

الرابع: أن لا ينقطع النجس الخارج، فإن انقطع بعد خروجه متصلاً تعين الماء في المتقطع، وإن كان في باطن الإليتين، والمتصل بالمخرج يكفي فيه الحجر.

الخامس: أن لا يجاوز الخارج النجس حشفته وصفحته، فإن جاوزهما متصلاً تعين الماء في المتقطع الداخل والخارج، فإن تقطع أي: صار بعضه باطن الإلية وبعضه خارجها تعين الماء في المتقطع، وكفى الحجر في غيره.

فائدة: لنا صورة جف فيها الخارج النجس ويكفي فيها الحجر، وهي ما إذا جف بوله الخارج ثم بال ثانياً، فوصل بوله إلى ما وصل إليه بوله الأول، فيكفي فيه الحجر، قاله القاضي والقفال، وكذا في الغائط إن كان مائعاً.

الثامنة: في مسائل شتى تستحب في الاستنجاء بين الماء والحجر:

المسألة الأولى: قال النووي وغيره: يستحب أن يجمع في الاستنجاء بين الماء والحجر بأن يقدم الحجر أولاً ثم الماء بعده، لأن الحجر يزيل العين والماء يزيل الأثر، فإن قدم الماء لم يستحب الحجر بعده، فإذا أراد الاقتصار على أحدهما فالماء أفضل لأنه يزيل العين والأثر.

المسألة الثانية: قال النووي والحليمى: يستحب في الاستنجاء بالماء أن يبدأ بقبله قبل دبره، وفي الاستنجاء بالحجر أن يبدأ بدبره قبل قبله، والحكمة في تقديم الدبر بالحجر أن النجس الأغلظ أهم والبدأة بالأهم أولى، أو أنه قد ينزل منه بول فلا يحتاج إلى إعادة الاستنجاء منه إذا بدأ بالدبر.

لكن أطلق ابن الملقن في الروض القول باستحباب تقديم القبل.

قال المحب الطبرى: ويسن النظر إلى الحجر المستنجى به قبل رميه ليعلم هل قلع أم لا.

المسألة الثالثة: في كيفية الاستنجاء بالحجر في الدبر.

ص: 348

قال العلماء: المستحب والأفضل أن يضع الحجر أولاً على مقدم الصفحة اليمنى، على محل طاهر قرب النجاسة، ثم يمرره على المحل ويديره قليلاً حتى يرفع كل جزء منه جزءاً منها، إلى أن يصل إلى المبدأ، وأن يضع الثاني على مقدم الصفحة اليسرى مثل ما تقدم، وأن يمر الثالث على الصفحتين والمسربة.

وقيل: الأفضل أن يجعل واحد للصفحة اليمنى وآخر لليسرى والثالث للوسط.

وقيل: الأفضل واحد للوسط مقبلاً وآخر له مدبراً ويحلق بالثالث.

ولابد في كل قول أن يعم بكل مسحة جميع المحل ليصدق أنه مسح جميع المحل ثلاث مسحات.

المسألة الرابعة: يستحب أن يستنجي بيساره، سواء استنجى بالماء أو بالحجر أو بهما، لأنها الأليق بذلك، ولأنه ورد في خبر لأبي داود عن عائشة رضى الله عنها:«كانت اليد اليمنى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لطهوره وطعامه وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى» (1) .

وقد ورد النهي عن الاستنجاء باليمين.

وقال جمع: لا يجوز باليمين لصريح النهي وأولَّه النووي على أنه ليس مباحاً مستوى الطرفين بل مكروه.

ويستحب أن يحمل أحجار الاستنجاء بيساره، وإذا استنجى بالماء يغسل باليسرى ويصب باليمنى.

ويستحب إذا أراد مسح الذكر من البول على جدار أو حجر عظيم أو نحوهما أن يمسك ذكره بيساره، وأن يمسحه على ثلاثة مواضع قاله في الروضة.

وقال المتولى في كيفية المسح على الجدار أو نحوه: طريقته أن يقرب ذكره منه ويضعه عليها وضعاً من غير مسح، حتى تنتقل الرطوبة إليه، قال: لأن المسح ينشر البول على المحل، ثم يضع ذلك ثانياً ثم يمسح الذكر في الثالثة، قلت: فلا يخشى انتشارها.

قال الأذرعي: وهو حسن وإن لم يتعرض له الجمهور، لأنه لا كلفة فيه بخلاف الأول.

وإذا أراد أن يستنجي بحجر صغير فالسنة أن يجعله بين عقبيه أو بين إبهامي رجليه

(1) أخرجه أبو داود (1/9، رقم 33) . وأخرجه أيضاً البيهقي (1/113، رقم 547) .

ص: 349

أو يتحامل عليه إن أمكنه، ويكون الذكر في يساره ويمسح بها، فإن لم يتمكن من شيء من ذلك واضطر إلى إمساك الحجر بيده أمسكه باليمنى، وأخذ الذكر باليسرى وحرك اليسار وحدها فإن حرك اليمين أو حركهما جميعاً كره، لأنه يكون مستنجياً باليمنى.

وإنما لم يضع الحجر في يساره والذكر في يمينه لأن مس الذكر بها مكروه، ولخبر الصحيحين:«إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه» (1) .

ويستحب للمستنجي بماء أن يدلك يده بالأرض أو نحوها بعد الاستنجاء ثم يغسلها.

وأن ينضح بعده أيضاً فرجه وإزاره من داخله دفعاً للوسواس.

وأن يعتمد على غسل الدبر على أصبعه الوسطى من يسراه إن أمكن، ولا يتعرض للباطن لأنه منبع الوسواس، فإن استعمل الماء فغلب على ظنه زوال النجاسة كفى ذلك في إزالتها، ولا يضر شم ريحها من يده بعد ذلك، فإن ذلك لا يدل على بقائها على المحل وإن حكمنا على يده بالنجاسة وعلته: أن المحل قد خفف فيه في الاستنجاء بالحجر، فخفف فيه هنا.

وقول أبي هريرة: «اتبعت النبي صلى الله عليه وسلم وخرج لحاجته فكان لا يلتفت» أي: من عادته صلى الله عليه وسلم إذا مشى لا يلتفت، وهذا يدل على أمنه صلى الله عليه وسلم وعدم خوفه من أحد من خلق الله، لأن الله تعالى عصمه وكفاه شر من أراده بسوء، وقد نطق بذلك القرآن الكريم والحديث.

قال الله تعالى: ?وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا? [الطور: 48] .

وقال: ?أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ? [الزمو: 36] أي: بكاف محمداً أعداءه المشركين.

وقال: ?إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ? [الحجر: 95] .

وقال: ?وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ? [المائدة: 67] .

واختلفوا في سبب نزول هذه الآية:

(1) أخرجه البخاري (1/69، رقم 153) ، ومسلم (1/225، رقم 267) . وأخرجه أيضاً أبو داود (1/8، رقم 31) ، والترمذي (1/23، رقم 15) ، والنسائي (1/25، رقم 24) ، وابن ماجه (1/113، رقم 310) ، وابن خزيمة (1/38، رقم 68) ، وابن حبان (4/283، رقم 1434) ، وأحمد (4/383، رقم 19438) ، والدارمي (2/161، رقم 2122) عن أبي قتادة.

ص: 350

فقيل: إنه صلى الله عليه وسلم كان لا ينام إلا بحرس، حتى نزلت هذه الآية، فأخرج صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم:«أيها الناس انصرفوا عني فقد عصمنى ربي عز وجل» (1) .

وقيل: سبب نزولها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة يقيل تحتها، فأتاه أعرابى أي: بعد ما نام تحت الشجرة فاخترط سيفه قال: من يمنعك مني؟ فقال: «الله» فارتعدت يد الأعرابى، وسقط سيفه وضرب برأسه الشجرة حتى سأل دماغه فنزلت هذه الآية (2) .

وهذا الأعرابي اسمه: «غورث بن الحارث» كما ورد في ذلك الصحيح، وعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس.

وقيل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاف قريشاً فلما نزلت هذه الآية استلقى ثم قال: «من شاء فليخذلني» (3) .

وروي أنه صلى الله عليه وسلم في غزوة غطفان نزل تحت شجرة فأتاه رجل اسمه: «دعثور بن الحارث» فاخترط سيفه فقال: من يمنعك مني؟ فقال: «الله» ، فسقط السيف من يده، فأسلم فلما رجع إلى قومه وكان سيدهم وأشجعهم فقالوا: أين ما كنت تقول إن أمكنني وقد أمكنك، فقال: إني نظرت إلى رجلٍ أبيضٍ دفع في صدري، فوقعت لظهري وسقط السيف، فعرفت أنه ملك فأسلمت، ونزل في ذلك كما قيل: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ? [المائدة: 11](4) .

ومما يدل على عصمته وحفظه من أعداءه ما ذكره عبد بن حميد قال: كانت حمالة الحطب وهي زوجة أبي لهب تضع «الغضاة» وهي جمر النار على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يطاؤها ولا يصيبه شيء.

وذكر ابن اسحاق عنها أنها لما بلغها ?تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ? [المسد: 1]

(1) أخرجه الترمذي (5/251، رقم 3046) وقال: غريب. والحاكم (2/342، رقم 3221) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي (9/8، رقم 17508) عن عائشة.

(2)

انظر: تفسير الطبري (6/308) . والقصة متفق عليها أخرجها البخاري) 3/1065، رقم 2753) ، ومسلم (1/576، رقم 843) عن جابر بن عبد الله.

(3)

انظر: تفسير الطبري (6/308) .

(4)

القصة بنحوها أخرجها البخاري) 3/1065، رقم 2753) ، ومسلم (1/576، رقم 843) عن جابر بن عبد الله.

ص: 351

وذكرها بما ذكره الله مع زوجها من الذم، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد ومعه أبو بكر وفي يدها فهر من الحجارة فلما وقفت عليهما لم تر إلا أبا بكر، وأخذ الله ببصرها عن نبيه صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربته بهذا الفهر فاه (1) .

فمن عصمه من الأعرابى والسيف في يده، ومن ضرر جمر النار، ومن الفهر الذي في يد حمالة الحطب إلا الله، فلهذا كان لا يلتفت في مشيه صلى الله عليه وسلم.

ومما ورد في عصمته ما ذكره ابن إسحاق وغيره: أن أبا جهل أتاه بصخرة وهو ساجد وقريش ينظرون لطرحها، فلزقت بيده ويبست يداه في عنقه، وأقبل يرجع بهذا الفهر إلى خلفه، ثم سأله أن يدعو له ففعل فانطلقت يداه.

وكان قد تواعد مع قريش بذلك وحلف لئن رآه ليدمغنه، فسألوه عن شأنه فقالوا له لأي شيء رجعت القهقرى بعد أن حلفت أنك إن رأيته لتدمعنه، فذكر أنه عرض له دونه فحل ما رأيت مثله قط همَّ بي أن يأكلني.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذلك جبريل لو دنا لأخذه» (2) .

وقريب من هذا ما ذكره أهل التفسير عن أبي هريرة: أن أبا جهل وعد قريشاً لئن رأى محمد يصلي ليطأن رقبته فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم أعلموه فأقبل، فلما قرب منه ولي هارباً ناكصاً على عقبيه متقياً بيده، فسئل فقال: لما دنوت منه أشرفت على خندق مملوءٍ من نار كدت أهوي فيه، وأبصرت هولاً عظيماً وخفق أجنحة قد ملأت الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم:«تلك الملائكة لو دنا لاختطفته عضواً عضواً» (3) .

ثم أنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك: ?كَلَاّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى? إلى آخر السورة [العلق 6 - 19] .

(1) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/393، رقم 3376) والحميدي (1/153، رقم 323) وأبو يعلى (1/53، رقم 53) عن أسماء بنت أبي بكر.

(2)

أخرجه ابن اسحاق في السيرة (4/180) ، وابن هشام (2/136) ، والبيهقي وأبو نعيم على ما عزاه السيوطي في الخصائص (1/211) ، والقصة أصلها في صحيح البخاري (4/1896، رقم 4675) ، وسنن الترمذي (5/443، رقم 3348) ، ومسند أحمد (1/368، رقم 3483) ومسند أبي يعلى (4/471، رقم 2604) عن ابن عباس.

(3)

أخرجه مسلم (4/2154، رقم 2797) ، وابن حبان (14/532، رقم 6571) ، والنسائي في الكبرى (6/518، رقم 11683) ، وأبو يعلى (11/70، رقم 6207) عن أبي هريرة.

ص: 352

ومن عصمته أيضاً ما ذكره السمرقندى: أن رجلاً من بني المغيرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله فطمس الله على بصره فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم وسمع قوله فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه.

وفي هذا أنزل الله تعالى: ?إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَداًّ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَداًّ فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ? [يس: 8، 9] .

ومن عصمته هداية الله تعالى من أراد قتله للإسلام ما روي: أن رجلاً يعرف بشبيبة بن عثمان أدرك النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وكان حمزة قد قتل أباه وعمه، فقصد النبي صلى الله عليه وسلم فلما اختلط الناس أتاه من خلفه ورفع سيفه ليصيبه علَيْه، قال: فلما دنوت منه ارتفع إلي شواظ من نار أسرع من البرق، فوليت هارباً، وأحس بي النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده على صدري وهو أبغض الخلق إلي، فما رفعها إلا وهو أحب الخلق إلي، وقال لي:«ادن فقاتل» فتقدمت أمامه أضرب بسيفي، وأقيه بنفسي ولو لاقيت أبي تلك الساعة لأوقعت به دونه (1) .

فانظر كيف عصمه الله من هذا وهداه بسببه للإسلام، وصار أحب الخلق إليه.

ونظير هذا ما ورد عن فضالة بن عمرو قال: أردت قتل النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وهو يطوف بالبيت فلما دنوت منه قال: يا فضالة قلت: نعم، قال: ما كنت تحدث به نفسك؟ قلت: لا شيء، فضحك واستغفر لي ووضع يده على صدري، فسكن قلبي، فوالله ما رفعها حتى ما خلق الله شيئاً أحب إلي منه (2) .

فائدة: دانيال عصمه الله أيضاً من أعداءه من الآدميين والسباع وغيرهم وكان دانيال في أيام بخت نضر، وكان الله أعطاه النبوة والحكمة واتفق له غرائب في حال صغره وحال كبره.

فمما اتفق له في حال الصغر ما روى ابن أبي الدنيا: أن الملك الذي كان دينال في سلطانه جاءه المنجمون وأصحاب العلم فقالوا له: إنه يولد في ليلة كذا وكذا غلام

(1) أخرجه الطبراني في الكبير (7/298، رقم 7192) قال الهيثمي (6/184) : فيه أبو بكر الهذلي وهو ضعيف.

(2)

انظر: البداية والنهاية لابن كثير (4/308) ، والسيرة الحلبية لعلي بن برهان الدين الحلبي (3/56) .

ص: 353

يفسد ملكك، فأمر بقتل كل من يولد في تلك الليلة، فلما ولد دانيال ألقته أمه في أجمة أسد فبات الأسد ولبوته يلحسانه فنجاه الله تعالى بذلك.

فانظر ما أعظم هذه العصمة.

ومما وقع له في الكبر ما رواه البيهقي في الشعب: أن دانيال طرح في جب وألقيت عليه السباع تلحسه ويتبصبصن إليه فأتاه رسول فناداه فقال: يا دانيال فقال: من أنت؟ قال: أنا رسول ربك إليك أرسلني بطعام فقال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره (1) .

والذي ألقاه في الجب وألقى عليه السباع بخت نصر.

فقد روى ابن أبي الدنيا أن بخت نصر أمسك أسدين وألقاهما في جب، وجاء بدانيال فألقاه عليهما فمكث ما شاء الله له، ثم إنه اشتهى الطعام والشراب فأوحى الله إلى أرميا وهو بالشام أن يذهب إلى دانيال بطعام وهو بأرض العراق، فذهب إليه حتى وقف على الجب، وقال: دانيال، دانيال. فقال: من هذا؟ قال: أرميا، قال: ما جاء بك؟ قال: أرسلني إليك ربك، فقال: الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله الذي لا يخيب من رجاه، والحمد لله من وثق به لم يكله إلى غيره، والحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحساناً، والحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاةً وغفراناً، والحمد لله الذي يكشف ضرنا بعد كربنا، والحمد لله الذي هو ثقتنا حين يسوء ظننا بأعمالنا، والحمد لله الذي هو رجاءنا حين تنقطع الحيل عنا.

ثم أخرجه بخت نصر من الجب بسبب رؤيا رآها عجز الناس عن تفسيرها، ففسرها دانيال فأعجبه وأكرمه ونقش دانيال صورته وصورة الأسدين يلحسانه في فص خاتمه لئلا ينسى نعمة الله عليه في ذلك.

وقبره بنهر السوس ووجده أبو موسى الأشعري فأخرجه وكفنه وصلى عليه ثم قَبَرَه في نهر السوس، وأجرى عليه الماء فأخذ خاتمه ولبسه في يده قاله الدميرى.

فائدة: روى عن ابن السني في عمل اليوم والليلة من حديث داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «إذا كنت بواد تخاف فيه السبع فقل: أعوذ بدانيال والجب من شر الأسد» .

قال الدميرى: لما ابتلى دانيال أولاً وآخراً بالسباع، جعل الله الاستعاذة به في ذلك تمنع الذي لا يستطاع.

* * *

(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/116، رقم 1338) عن سالم. وأخرجه أيضاً ابن أبي الدنيا في الشكر (1/60، رقم 176) عن علي بن أبي طالب.

ص: 354