الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلس السادس والأربعون
في ذكر بعض مسائل تتعلق بغسل الميت، وذكر سنن الوضوء،
وذكر آدابه الباطنة
قَالَ البُخَارِي:
بَابُ التَيَمُّنِ فِي الوُضُوءِ والغَسْل
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم لَهُنَّ فِى غُسْلِ ابْنَتِهِ «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا» .
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِى أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبِى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِى تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِى شَأْنِهِ كُلِّهِ» (1) .
(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:
أورد البخاري من الحديث طرفاً ليبين به المراد بقول عائشة: «يعجبه التيمن» إذ هو لفظ مشترك بين الابتداء باليمين وتعاطي الشيء باليمين والتبرك وقصد اليمين، فبان بحديث أم عطية أن المراد بالطهور الأول.
قوله: «كان يعجبه التيمن» : قيل لأنه كان يحب الفأل الحسن إذ أصحاب اليمين أهل الجنة. وزاد البخاري في الصلاة عن سليمان بن حرب عن شعبة: «ما استطاع» فنبه على المحافظة على ذلك ما لم يمنع مانع.
وقوله: «في تنعله» : أي لبس نعله.
وقوله: «وترجله» : أي ترجيل شعره وهو تسريحه ودهنه.
قال في المشارق: رجل شعره إذا مشطه بماء أو دهن ليلين ويرسل الثائر ويمد المنقبض، زاد أبو داود عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة:«وسواكه» .
قوله: «في شأنه كله» : كذا للأكثر من الرواة بغير واو. وفي رواية أبي الوقت بإثبات الواو وهي التي اعتمدها صاحب العمدة.
قال الشيخ تقي الدين: هو عام مخصوص، لأن دخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوهما يبدأ فيهما باليسار على التعميم، لأن التأكيد يرفع المجاز فيمكن أن يقال حقيقة الشأن ما كان فعلا مقصوداً، وما يستحب فيه التياسر ليس من الأفعال المقصودة بل هي إما تروك وإما غير مقصودة، وهذا كله على تقدير إثبات الواو، وأما على إسقاطها فقوله:«في شأنه كله» متعلق بيعجبه لا بالتيمن أي يعجبه في شأنه كله التيمن في تنعله الخ، أي لا يترك ذلك سفرا ولا حضرا ولا في فراغه ولا شغله ونحو ذلك.
وقال الطيبي قوله: «في شأنه» بدل من قوله «في تنعله» بإعادة العامل. قال: وكأنه ذكر التنعل لتعلقه بالرجل، والترجل لتعلقه بالرأس، والطهور لكونه مفتاح أبواب العبادة، فكأنه نبه على جميع الأعضاء فيكون كبدل الكل من الكل.
قلت: ووقع في رواية مسلم بتقديم قوله: «في شأنه كله» على قوله: «في تنعله الخ» وعليها شرح الطيبي، وجميع ما قدمناه مبني على ظاهر السياق الوارد هنا.
لكن بين البخاري في الأطعمة من طريق عبد الله بن المبارك عن شعبة أن أشعث شيخه كان يحدث به تارة مقتصراً على قوله: «في شأنه كله» وتارة على قوله: «في تنعله الخ» .
وزاد الإسماعيلي من طريق غندر عن شعبة أن عائشة أيضاً كانت تجمله تارة وتبينه أخرى، فعلى هذا يكون أصل الحديث ما ذكر من التنعل وغيره، ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأحوص وابن ماجه من طريق عمرو بن عبيد كلاهما عن أشعث بدون قوله:«في شأنه كله» وكأن الرواية المقتصرة على: «في شأنه كله» من الرواية بالمعنى، ووقع في رواية لمسلم «في طهوره ونعله» بفتح النون وإسكان العين أي هيئة تنعله. وفي رواية ابن ماهان في مسلم «ونعله» بفتح العين.
وفي الحديث:
استحباب البداءة بشق الرأس الأيمن في الترجل والغسل والحلق، ولا يقال هو من باب الإزالة فيبدأ فيه بالأيسر، بل هو من باب العبادة والتزيين، وقد ثبت الابتداء بالشق الأيمن في الحلق.
وفيه البداءة بالرجل اليمنى في التنعل وفي إزالتها باليسرى.
وفيه البداءة باليد اليمنى في الوضوء وكذا الرجل، وبالشق الأيمن في الغسل.
واستدل به على استحباب الصلاة عن يمين الإمام وفي ميمنة المسجد، وفي الأكل والشرب باليمين.
قال النووي: قاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمين في كل ما كان من باب التكريم والتزيين، وما كان بضدهما استحب فيه التياسر. قال: وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين في الوضوء سنة من خالفها فاته الفضل وتم وضوءه، انتهى. انظر فتح الباري (1/269 - 270) .
قال العلماء: أم عطية راوية الحديث الأول اسمها «نسيبة» بضم النون وفتح المهملة وسكون التحتانية وبالموحدة.
وقيل: «نسيبة» بفتح النون وكسر السين.
وقيل: «حقة» وهي: بنت كعب ويقال: بنت الحارث، وهي: بصرية صحابية، أنصارية جليلة، كانت تغسل الموتى، وتغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزت معه سبع غزوات، وشهدت خيبر، وكان علي يقيل عندها، وكانت تمرض المرضى، وتداوي الجرحى.
روى لها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعون حديثاً، للبخاري منها سبعة.
وبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم المبهمة في هذا الحديث:
قيل: هي زينب، وبه صرح النووي في تهذيب الأسماء واللغات، وصرح به في صحيح مسلم، وقال القاضي عياض: إنه الصواب.
وقيل: هي أم كلثوم زوج عثمان بن عفان، قاله ابن الملقن، ولما دفنت أم كلثوم قال عليه الصلاة والسلام:«دفن البنات من المكرمات» .
وقيل: إنه قال هذا حين ماتت رقية فقد روى الطبراني في الكبير والأوسط من رواية ابن عباس قال: لما عزى النبي صلى الله عليه وسلم بابنته رقية قال: «الحمد لله دفن البنات من المكرمات» (1) .
لكن ذكر ابن الجوزي في موضوعاته أن حديث: «دفن البنات من المكرمات» لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليس المراد بالبنات في هذا الحديث فاطمة لأنها ماتت بعده، والمذكور هنا ماتت في حياته، فأمر أم عطية الغاسلة، وأسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب أن يغسلنها، وأن يبدأن في غسلها بميامنها أي: بالجانب الأيمن منها، لشرفه.
فائدة: كان له من البنات أربعة:
الأولى: فاطمة البتول، وكانت وفاتها بعد النبي صلى الله عليه وسلم بستة أشهر.
الثانية: زينب، وكانت وفاتها في السنة الثامنة من الهجرة، وكانت زوجة لأبي العاصي بن الربيع، واسمه لقيط.
وقيل: هشيم.
وقيل: مهشم.
الثالثة والرابعة: رقية، وأم كلثوم زوجاً عثمان بن عفان رضي الله عنهم.
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (11/366، رقم 12035) 7) ، وفي الأوسط (2/372، رقم 2263)، قال الهيثمي (3/12) : رواه الطبراني في الأوسط والكبير والبزار، وفيه عثمان بن عطاء الخراساني، وهو ضعيف. والقضاعي (1/172، رقم 250) ، والخطيب (5/67) ، والديلمي (2/219، رقم 56) . وأورده الذهبي في الميزان (6/231 ترجمة 7849) ، ووافقه الحافظ في اللسان (5/247 ترجمة 854 محمد بن عبد الرحمن بن طلحة)، وقالا: قال ابن عدي: يسرق الحديث. جميعا عن ابن عباس. وأخرجه الخطيب (7/291) ، وابن عدي (2/278، ترجمة 442 حميد بن حماد بن أبي الخوار) كلاهما عن ابن عمر.
وأم كلثوم كانت وفاتها في السنة التاسعة من الهجرة.
ورقية كانت وفاتها في السنة الثانية من الهجرة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ ببدر، وليس في بنات النبي صلى الله عليه وسلم من له نسل وعقب سوى فاطمة.
قاله العراقي في ألفيته:
وليس في بناته من أعقبا
…
إلا البتول طاب أماً وأباً
فائدة أخرى: أفضل بناته صلى الله عليه وسلم فاطمة رضي الله عنها بل هي أفضل نساء العالمين كما قدمنا ذلك.
ومن فضائلها وخصائصها: أنها لم ترد قط دم حيض ولا دم نفاس حتى لا يفوتها صلاة، ولذلك سميت بالزهراء.
قال محب الدين الطبري في ذخائر العقبى: إن فاطمة طاهرة مطهرة لا تحيض، ولا يرى لها دم في طمث، ولا ولادة وأورد في ذلك حديثين.
قال في نزهة المجالس: قالت أسماء: لما ولدت فاطمة ولدها الحسن لم أر لها دماً، فقلت: يا نبي الله لم أر لفاطمة دماً من حيض أو نفاس، فقال:«أما علمتي أن ابنتي فاطمة طاهرة مطهرة» .
وفي هذا الحديث فوائد منها:
أن فيه دلالة على أنه يستحب لغاسل الميت أن يوضئه كما يتوضأ الحي ثلاثاً ثلاثاً، مع المضمضة والاستنشاق قبل الغسل هذا مذهب الشافعي.
وعند أبي حنيفة: يوضئه من غير مضمضة ولا استنشاق، قال: لأن إخراج الماء من فمه متعذر.
وعند إمامنا الشافعي يميل رأسه في المضمضة والاستنشاق لئلا يصل الماء إلى باطنه، فإذا فرغ من وضوءه غسل رأسه ثم لحيته، ثم ينتقل إلى الشق الأيمن قبل الأيسر، ففي الحديث دلالة على استحباب غسل الميامن قبل المياسر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغاسلات ابنته:«إبدأن بميامنها» .
وقد ذكر العلماء لغسل الميامن والمياسر كيفيات:
أولاها كما قال الجمهور: أن يغسل شقه الأيمن من عنقه وصدره وفخذه وساقه وقدمه، ثم يغسل الأيسر كذلك، ثم يحول إلى جنبه الأيسر فيغسل الأيمن مما يلي القفا والظهر من كتفه إلى قدمه ثم يحوله إلى جنبه الأيمن فيغسل شقه الأيسر ثم يعيد غسل
رأسه ولحيته ووجهه لحصول الغرض بغسلها أولاً، بل يبدأ بصفحة عنقه فما تحتها هذا كله غسلة واحدة.
فائدة: يحرم كب الإنسان في حال الغسل على وجهه احتراماً له، بخلاف ما إذا نام الإنسان على وجهه فإنه ليس بحرام بل مكروه.
ويستحب للمغسل أن يغسله ثلاثاً، فإن لم تحصل النظافة زاد حتى تحصل، وهذا بخلاف الحي فإنه لا يزاد فيها على الثلاث لأن طهارته محض تعبد، والغسل لميت نظافة فلا بأس بالزيادة.
وفي الحديث دلالة أيضاً على أن النساء أحرى بغسيل المرأة من الزوج، ومن رجال المحارم كما أن الرجال أحرى بغسل الرجل من زوجته ومن نساء المحارم.
نعم يجوز للزوج عند إمامنا الشافعي إن يغسل زوجته المسلمة أو الذمية لأن حقوق النكاح لا تسقط بالموت، بدليل أنه يرثها، ولأنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة:«لو مت قبلي فقمت عليك فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك» أخرجه النسائي وابن ماجه (1) .
وقد غسل علي فاطمة الزهراء، لكن في مسند أحمد وغيره: أنها لما احتضرت غسلت نفسها وأوصت أن لا يكشفها أحد فدفنها علي بغسلها ذلك.
وللزوجة أيضاً أن تغسل زوجها بالإجماع ولقول عائشة: «أيم الله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نساؤه» رواه أبو داود والحاكم وصححه على شرط مسلم (2) .
ولو طلق زوجته ومات أحدهما ليس للآخر أن يغسله حتى لو كان الطلاق رجعياً وإن حصل الموت في العدة، لتحريم النظر.
ولو غسل أحد الزوجين الآخر لف على يده خرقة ولا يمس، فإن غسل من غير
(1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى (4/252، رقم 7079) ، وابن ماجه (1/470، رقم 1465)، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/25) : هذا إسناد رجاله ثقات. وأخرجه أيضاً: البيهقي (3/396، رقم 6451) ، وابن حبان (14/551، رقم 6586) .
(2)
أخرجه أبو داود (3/196، رقم 3141) ، والحاكم (3/61، رقم 4398)، وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أيضاً: ابن ماجه (1/470، رقم 1464)، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (2/25) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
حائل انتقض وضوء الغاسل، وأما وضوء المغسول فلا ينتقض.
سؤال: فإن قيل: لأي شيء ينتقض وضوء الملموس الحي كما ينتقض وضوء اللامس بخلاف الملموس الميت؟
جوابه: أن الميت غير مكلف فلا ينتقض وضوءه بخلاف الحي فافترقا.
فائدة أخرى: يجوز للسيد أن يغسل أمته، ولو كانت مدبرة وأم ولد ومكاتبة، لأنهن مملوكات له، إلا إن كانت أمته مزوجة أو معتدة أو مستبرأة أو مشركة أو مبعضة بتحريم بعضها عليه.
وأما الأمة فليس لها إذا مات سيدها أن تغسله لانتقال ملكه عنها.
فائدة أخرى: يجوز لرجال المحارم أن يغسلوا المرأة مع وجود النساء، كأن يغسل الرجل ابنته أو أخته أو نحوها، ويجوز لنساء المحارم أن يغسلوا الرجل مع وجود الرجال، كأن تغسل الأم ولدها وإن وجد رجل.
وقول عائشة رضي الله عنها في الحديث الثاني: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن» أي: كان صلى الله عليه وسلم يستحسن البدآة باليمنى في تنعله أي: في لبسه النعل، وترجله أي: في تمشيطه الشعر.
«وطهوره» : بضم الطاء أي: في تطهيره، فيه دليل على استحباب تقديم اليمنى على اليسرى في اليدين والرجلين، فلو غسل يده اليسرى قبل اليمين أو رجله اليسرى قبل اليمين صح وضوءه بالإجماع كما قاله المنذري، ولكن ارتكب المكروه فقد روي ابن حبان في صحيحه عن ابن عمر:«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتعاطى أحدنا شيئاً بشماله» (1) .
ولم يقل أحد بوجوب تقديم اليمنى على اليسرى إلا الشيعة، وما نقله الرضى الشيعي عن الشافعي في القديم من وجوب تقديم اليمنى على اليسرى فهو كما قال ابن الملقن: غريب.
سؤال: ما السر والحكمة في جعل الفضل لليمنى ولم يكن لليسار، فكل يمن وبركة مختص باليمين كتناول المأكل والكتاب ودخول الجنة وغير ذلك، وكل ما كان من شقاوة فهو للشمال؟
أجاب عنه في العقائق: بأن نور المصطفى صلى الله عليه وسلم عبر على يد آدم اليمنى فنالت اليمنى
(1) أخرجه ابن حبان بنحوه (12/30، رقم 5226) .
المنى، ووجدت اليمن والبركة إلى الأبد، وبقى هذا الاسم عليها بإرادة الصمد.
قال النووي في الأذكار: يستحب أن يبتدئ في لبس النعل والثوب والسراويل وشبهها باليمين، من كميه ورجلي السراويل، وإذا خلعتها يستحب أن يخلع الأيسر قبل الأيمن.
وكذلك يستحب الابتداء باليمين في الاكتحال، والسواك، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسلام من الصلاة، ودخول المسجد، والخروج من الخلاء، والوضوء، والغسل، والأكل، والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر الأسود، وأخذ الحاجة من إنسان دفعها إليه وما أشبه ذلك، فكله يفعله باليمنى، وضده باليسار.
وقوله: «وفي شأنه كله» معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في جميع أموره.
سؤال: فإن قيل: يشكل على قوله وفي شأنه كله دخول الخلاء، والخروج من المسجد، فإن المستحب فيهما ونحوهما البدآة باليسار كما قدمنا أنه فعله صلى الله عليه وسلم.
جوابه: أنه عام خص منه دخول الخلاء، والخروج من المسجد ونحوهما بالأدلة الخارجية.
قال الكرماني: وما من عام إلا وقد خص، والله بكل شيء عليم.
سؤال آخر: يشكل أيضاً على قوله: «وفي شأنه كله» الخدان والكفان والأذنان، فإنه لا يستحب فيها التيامن ولا التياسر، بل من السنة فيها غسل الكفين معاً، وغسل الخدين معاً ومسح الأذنين معاً إلا إذا كان أقطع اليد أو به علة تمنعه من ذلك، فإنه يستحب له التيامن حينئذ.
جوابه: أن هذه خارجة بالدليل فهو مخصوصة من عموم الحديث.
فائدة: دلت محبته صلى الله عليه وسلم التيامن في شأنه كله أن اليمين أشرف من اليسار، ويدل عليه أيضاً أن السعيد في الدار الآخرة هو الذي يتناول كتابه بيمينه.
قال القرطبي: أول من يتناول كتابه بيمينه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد ذكر أبو بكر أحمد بن علي الخطيب عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول من يعطى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمر بن الخطاب، وله شعاع كشعاع الشمس» فقيل له: فأين أبو بكر يا رسول الله؟ قال: «هيهات زفته الملائكة إلى الجنات» (1) .
(1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد (11/202) . وأخرجه أيضاً: أبو جعفر الطبري في الرياض النضرة (1/332) ، والديلمي (1/17، رقم 16) . وانظر تفسير القرطبي (18/269) .
وروي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ?يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ? [الإسراء: 71] قال: «يدعي أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمد في جسمه ستون ذراعاً ويبيض وجهه ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون: اللهم آتنا بهذا وبارك لنا في هذا حتى يأتيهم، ويقول لهم: أبشروا فإن لكل مسلم مثل هذا. قال: وأما الكافر فيسوء وجهه ويمد له في جسمه ستون ذراعاً على صورة آدم، فيلبس تاجاً من نار، فيراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من شر هذا، اللهم لا تأتنا به قال: فيأتيهم، فيقولون: اللهم أخزه، فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا» قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (1) .
قال العلماء: إذا تناول العبد كتابه بيمينه يوم القيامة يعلم أنه من أهل الجنة، فيقول للناس اقرؤوا كتابيه.
قال تعالى: ?فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ? [الحاقة: 19] وذلك حين يؤذن الله تعالى بقراءة كتابه، فإذا كان الرجل رأساً في الخير يدعو إليه ويأمر به، فيكثر تبعه عليه، ودعي باسمه واسم أبيه، فيتقدم حتى إذا دنا أخرج له كتاب أبيض بخط أبيض، في باطنه السيئات وفي ظاهره الحسنات، فيبدأ بالسيئات فيقرؤها فيصفر لونه ويخف من ذلك، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه: هذه سيئاتك وقد غفرت لك فيفرح عند ذلك فرحاً شديداً، ثم يقلب كتابه فيقرأ حسناته فلا يزداد إلا فرحاً حتى إذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه: هذه حسنات قد ضوعفت لك، فيفرح فيبيض وجهه، ويؤتى بتاج فيوضع على رأسه ويكسى حلتين، ويحلي كل مفصل منه ويطول ستون ذراعاً وهي قامة آدم عليه السلام ويقال له: انطلق إلى أصحابك وبشرهم وأخبرهم: أن لكل إنسان منهم مثل هذا، فإذا أدبر قال: ?هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ? [الحاقة: 19، 20] .
قال الله تعالى: ?فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ? [الحاقة: 21، 22]
(1) أخرجه الترمذي (5/302 رقم 3136) وقال: حسن غريب. وأخرجه أيضا: أبو نعيم في الحلية (9/15) ، وأبو يعلى (11/3، رقم 6144) ، وابن حبان (16/346، رقم 7349) عن أبي هريرة.
قطوفها وثمارها وعناقيدها دانية أدنيت، فيقول لأصحابه: هل تعرفوني؟ فيقولون: لقد غمرتك كرامة الله تعالى من أنت؟ فيقول: أنا فلان ابن فلان ليبشر كل رجل منكم بمثل هذا.
?كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ? [الحاقة: 24] أي: ما قدمتم في أيام الدنيا.
وإذا كان الرجل رأساً في الشر يدعو إلية ويأمر به فيكثر تبعه عليه، ونودي باسمه واسم أبيه فيتقدم إلى حسابه، فيخرج له كتاب أسود بخط أسود، في باطنه الحسنات وفي ظاهره السيئات، فيبدأ بالحسنات فيقرؤها ويظن أنه سينجو، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه هذه الحسنات ردت إليك فيسود وجهه ويعلوه الحزن ويقنط من الخير، ثم ينقلب كتابه فيقرأ سيئاته، فلا يزداد إلا حزناً ولا يزداد وجهه إلا سواداً، فإذا بلغ آخر الكتاب وجد فيه هذه السيئات قد ضوعفت عليك أي: يضاعف عليه العذاب وتزرق عيناه، ويسود وجهه، ويكسى سرابيل القطران، ويقال له: انطلق إلى أصحابك وأخبرهم أن لكل إنسان منهم مثل هذا، فينطلق وهو يقول: ?يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ? [الحاقة: 25، 26، 27] يعني: الموت ?مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ? [الحاقة: 28، 29] أي: هلكت عن حجتي.
قال الله تعالى: ?خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ? [الحاقة: 30، 31، 32] .
قال الحسن: الله اعلم بأي ذراع هذه السبعون.
واختلف في معنى «فاسلكوه» :
فقيل: تدخل من فمه حتى تخرج من دبره.
وقيل: بالعكس.
وقيل: يدخل عنقه فيها، ثم يجر بها جراً، ولو أن حلقه وضعت على جبل لذاب، فينادي أصحابه فيقول: هل تعرفوني؟ فيقولون: لا، ولكن قد نرى ما بك من الخزي العظيم، فمن أنت؟ فيقول: أنا فلان ابن فلان لكل إنسان منكم مثل هذه.
واختلف في معنى: ?وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ? [الإنشقاق: 10] .
فقيل: معناه أنه يخلع كتفه الأيسر فتجعل يده خلفة فيأخذ كتابه.
وقيل: يحول وجهه في موضع قفاه فيقرأ كتابه كذلك.
فائدة أخرى: هل يتناول كل أحد من المؤمنين كتابه بيمينه يوم القيامة؟ وهل ذلك مخصوص بالناجين من النار؟
حكى النووي والقاضي عياض في المسألة قولان:
أحدهما: أن جميع المؤمنين من الأمم يأخذون كتبهم بإيمانهم، ثم يعذب الله من يشاء من عصاتهم.
والثاني: إنما يأخذ بيمينه الناجون من النار خاصة وقد ورد في فضائل النبي صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله قسم الخلائق قسمين وجعلني من خير القسمين، فذلك قوله: ?وَأَصْحَابُ اليَمِينِ? [الواقعة: 27] ثم جعل القسمين ثلاثاً، فجعلني من خيرها ثلاثاً وذلك قوله: ?أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ? [البلد: 18] ، ?وَأَصْحَابُ المَشْأَمَةِ? [الواقعة: 9] ، ?وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ? [الواقعة: 10] ، فأنا من السابقين، ثم جعل الأثلاث قبائل فجعلني من خير قبيلة فذلك قوله تعالى: ?وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ? [الحجرات: 13] ، أنا أتقي ولد آدم، وأكرمهم ولا فخر، ثم جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتا فذلك قوله تعالى: ?إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً? [الأحزاب: 33] » (1) .
إخواني كأنكم بهاذم الذات قد هجم، ونقلك إلى بيت الديوان والظلم، وفرق من شمل من الأحباب ما انتظم، وقد ندم المفرط حيث لا ينفع الندم، على الأعمال في الأيام الخالية، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية، أما تحذر من بوعيده حذرك، أما تستحي ممن وجدك وصورك، كأني بك والله وقد نسيك الحبيب وأفردك، وإلى ضيق قبرك أوردك، وعادت قلوب حزنت عليك سالية، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.
ولقد أحسن من قال: واحسرتي واشقوتي في يوم نشر كتابيه، وأطول حزني إذا أوتيته بشماليه، وإذا سئلت عن الخطأ ماذا يكون جوابيه، وأحر قلبي أن يكون مع القلوب القاسية، كلا ولا قدمت له ولا ليوم حسابيه، بل إنني لشقاوتي وقساوتي
(1) أخرجه الطبراني في الكبير (3/56، رقم 2674) قال الهيثمي (8/215) : فيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، وعباية بن ربعي، وكلاهما ضعيف. وأورده ابن أبي حاتم في العلل (2/394، رقم 2693) وقال قال أبي: هذا حديث باطل. وذكره الحكيم (1/330) عن ابن عباس.
وعذابيه، بارزت في الزلات في أيام دهر خالية، من ليس يخفى عنه من قبح المعاصي خافية، استغفر الله العظيم وتبت من أفعاليه، فعسى الله يجود لي بالعفو ثم العافية.
فائدة: من سنن الوضوء المضمضة والاستنشاق، واختلف العلماء فيهما هل هما واجبان في الوضوء والغسل أو سنتان؟
فقال الشافعي ومالك: هما سنتان في الوضوء والغسل.
وقال أبو حنيفة: هما فرضان في الطهارة الكبرى، سنتان في الصغرى.
وقال أحمد: هما واجبان فيهما.
وأقل المضمضة والاستنشاق جعل الماء في فمه وأنفه، ولا يشترط مجة ولا إدارته في الفم، وتسن فيهما المبالغة في غير حق الصائم، وأما الصائم فتكره المبالغة، والمبالغة في المضمضة أن يوصل الماء إلى أقصى الحنك، مع إمرار الأصابع على ذلك، والمبالغة في الاستنشاق أن يصعد الماء بالنفس إلى الخيشوم مع إدخال إصبع يده اليسرى وإزاله ما فيه من الأذى.
والحكمة في تقديم المضمضة والاستنشاق على فروض الوضوء: ليعلم المتوضئ أوصاف الماء هل تغيرت أم لا، فيعلم الطعم بالمضمضة والرائحة بالاستنشاق.
ولا بد في تحصيل سنه الاستنشاق من تقديم المضمضة عليه، فلو استنشق قبل أن يمضمض لا يثاب على سنته الاستنشاق.
والحكمة في تقديم المضمضة على الاستنشاق كما قاله عز الدين بن عبد السلام: أن منافع الفم أنفع من منافع الأنف، فإنه مدخل الطعام والشراب اللذين هما قوام الحياة، وهو محل الأذكار الواجبة والمندوبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك.
وللمضمضة والاستنشاق أربع كيفيات:
أفضلها كما قاله النووي: أن يجمع بين المضمضة والاستنشاق بثلاث غرف، يتمضمض بكل غرفة ثم يستنشق.
ومنها: تخليل اللحية الكثة من الرجل، وهي التي ترى بشرتها في مجلس التخاطب، فيجب غسل ظاهرها وباطنها.
ومنها: استيعاب الرأس بالمسح خروجاً من خلاف من أوجه، فلو مسح بعض الرأس وكمل الباقي على العمامة، وحصل له سنة مسح جميع الرأس، أما لو اقتصر على مسح العمامة من غير أن يمسح على الرأس شيئاً، فلا يكفي.
ومنها: مسح الأذنين ظاهرها وباطنها بماء جديد، ويستحب أن يأخذ لصماخيه ماء جديد.
وأيضاً منها: تخليل أصابع اليدين بالتشبيك، وتخليل أصابع الرجلين، وتحصل سنه تخليلها بأي وجه كان، ولكن الأفضل أن يخللها بخنصر يده اليسرى.
فائدة: ينبغي أن يتوضأ المتوضئ للوسخ الذي بين أصابع رجليه، فإن كان حاصلاً من تراب ونحوه فلا بد من إزالته، لأنه يشترط لصحة الوضوء أن لا يقترن بمانع، والتراب ونحوه مانع، أما إذا كان الوسخ من عرق فليس بمانع.
ومنها: الموالاة وهي: التتابع بحيث لا يحصل بين العضوين تفرق، والضابط في ذلك: تطهير العضو بحيث لا يحصل قبله قبل شروعه فيه مع اعتدال الهواء، ومزاج الشخص.
وعند الإمام مالك: الموالاة واجبه، وعند الإمام أحمد في الروايتين.
ومنها: ترك النفض لأنه كالمتبرئ من العباءة.
ومنها: أن يقول بعد التسمية: الحمد لله الذي جعل الماء طهوراً.
ومنها: أن يستصحب النية في جميع أفعال الوضوء، وأن يجمع فيها بين القلب واللسان.
ومنها: أن يتعهد الموقين بالسبابتين، وأن يحرك الخاتم، وأن يبدأ في الوجه بأعلاه، وفي الرأس بمقدمته، وفي الرجل بأطراف الأصابع إن صب على نفسه، وإن صب عليه أحد غيرة بدأ بالمرفق والكعب.
ومنها: أن لا ينقص ماء الوضوء عن مد، وأن لا يسرف ولا يتكلم في أثناءه لغير حاجة، أما الحاجة فقد يجب الكلام، وأن لا يلطم وجهه بالماء، ولا يتوضأ في موضع يرجع رشاش الماء.
ومنها: أن يمر يده على الأعضاء.
ومنها: أن يقول بعد الفراغ وهو مستقبل القبلة رافعا طرفه إلى السماء: أشهد أن لا إله إلا الله وحدة لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
فقد ورد أنه: «من قال هذا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها
شاء» (1) .
وأما الدعوات على الأعضاء:
كقوله عند السواك: اللهم بيض به أسناني وشد به لثاتي وبارك فيه يا أرحم الراحمين.
وعند المضمضة: اللهم اسقني من حوض نبيك كأساً لا أظمأ بعده.
وعند الاستنشاق: اللهم لا تحرمني رائحة نعيمك وجناتك.
وعند الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
وعند اليمنى: اللهم اعطني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً.
وعند اليسرى: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري.
وعند الرأس: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وعند الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الأقدام.
فقد قال النووي: لا أصل لها يعني لم يرد فيها حديث صحيح فهو دعاء حسن، فلا ينبغي تركة لاشتماله على مهمات كتبييض الوجه، وتناول الكتاب باليمين، وتثبيت الأقدام على الصراط وغير ذلك.
قال: وإذا أتى به الإنسان فلا يعتقد أنه سنه، بل دعاء حسن يتبرك به.
وقال النووي: وإن لم يكن له أصل فلا بأس به، فإنه دعاء حسن.
وأما مسح الرقبة فقد قال الرافعي تبعاً للغزالي: إنه سنة.
واستدل الرافعي على ذلك في الشرح الكبير بقوله صلى الله عليه وسلم: «مسح الرقبة أمان من الغسل» (2) .
لكن قال النووي: والصواب أنه ليس بسنه، لأنه لم يثبت فيه شيء.
قال: ولهذا لم يذكره الشافعي ومتقدموا الأصحاب.
قال: وأما الحديث فهو موضوع والله تعالى أعلم.
(1) أخرجه مسلم (1/209، رقم 234) ، وأبو داود (1/43، رقم 169) والنسائي (1/92، رقم 148) ، وابن ماجه (1/145، رقم 419) ، وأحمد (4/145، رقم 17352) ، وابن خزيمة (1/110، رقم 222) ، وابن حبان (3/325، رقم 1050) ، والبيهقي في السنن الكبرى (2/280، رقم 3334) ، وفي شعب الإيمان (3/20، رقم 2753) عن عمر.
(2)
قال العجلوني في كشف الخفاء (2/272) : قال النووي: موضوع.
وأما تنشيف الوجه بمنديل ونحو فالسنة تركه، لأنه يزيل أثر العبادة، لأن هذا الماء الذي تطهر به نور يضيء يوم القيامة كما ورد، فلا ينبغي إزالته، لكن لا تكره إزالته، وإنما يستحب ترك التنشيف إذا لم يكن به غرض في إزالته، أما إذا كان لغرض وخشي من الهواء أن يلصق به النجاسة، أو كان يتيمم عقب الوضوء، فإنه يستحب التنشيف بل يتأكد استحبابه كما قال الأذرعي.
وإذا نشفها فالأولى أن لا يكون بذيله وطرف ثوبه، فقد ذكر الشيخ برهان الدين الناجي رحمه الله في كتابه عقائد العبان: إن مما يورث الفقر ويمنع الرزق تجفيف الوجه بالثوب.
ويدل على عدم كراهه التنشيف ما قيل: أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم منديل يمسح به وجهه من الوضوء (1) .
وقيل: كانت له خرقة يتنشف بها.
فائدة: قيل: كان عند أنس منديل إذا اتسخ ألقاه في النار فيتنظف، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح به وجهه، والنار لا تأكل شيئاً مر على وجوه الأنبياء.
وأما قراءة سورة إنا أنزلناه عقب الوضوء فقد صرح علماء الحنفية في كتبهم أنها مستحبة، وقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرؤها.
وأورد أبو الليث من الحنفية في فضل قراءتها حديثين:
أحدهما: روي عن رسول لله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ سورة إنا أنزلناه في ليلة القدر على أثر الوضوء مرة واحدة، أعطاه الله تعالى ثواب خمسين سنه صيام نهارها وقيام ليلها، ومن قرأها مرتين أعطاه الله تعالى ما أعطاه الخليل والكليم والحبيب والرفيع، ومن قرأها ثلاث مرات يفتح الله تعالى له ثمانية أبواب الجنة فيدخلها من أي باب شاء بلا حساب ولا عذاب» .
الحديث الثاني: روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ إنا أنزلناه في ليله القدر على أثر الوضوء مرة واحدة كتب من الصديقين، ومن قرأها مرتين كتب من الشهداء والصالحين، ومن قرأها ثلاث مرات يحشره الله يوم القيامة في محشر الأنبياء» (2) .
(1) قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (1/144) : أخرجه النسائي في الكنى بسند صحيح.
(2)
قال العجلوني في كشف الخفاء (2/355) : لا أصل له.
فائدة في آداب الوضوء الباطنة: في نزهه الناظرين: اعلم أنك إذا أردت أن تتوضأ فإنك تريد زيارة ربك عز وجل، فينبغي لك أن تتوب من ذنوبك، لأن الله تعالى جعل الغسل بالماء علامة للغسل من الذنوب، فأبدأ بتسمية الله تعالى.
فإذا تمضمضت وطهرت فمك بالماء فطهر لسانك من الكذب والغيبة والنميمة، فإن اللسان خلق لذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، ولترشيد خلق الله إلى طريقة، وتطهر به ما في ضميرك من حاجات دينك ودنياك، فإذا استعملته في غير ما خلق له فقد كفرت بنعمة الله فيه، فإن جوارحك نعمه من الله عليك، والاستعانة بنعم الله على معصيتة غاية الكفران.
وإذا استنشقت بالماء وأزلت ما في فتوحك من الأذى فطهرها من أن تشم محرماً كطيب مغصوب، وطبيب النساء الأجنبيات والحسان فإنه حرام كما قاله الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة أصابت بخوراً فلا تشهد معنا العشاء الآخرة» (1) .
وإذا طهرت وجهك بالماء فطهر نظرك من ثلاث: أن تنظر إلى محرم، وإلى معلم بعين الاحتقار، وإلى عيب مسلم، فإنما خلقت العينان لتهتدي بهما في الظلمات، وتستعين بهما في الحاجات، وتنظر بهما في عجائب ملكوت الأرض والسماوات، وتعتبر بما فيها من الآيات، ولم يخلق نظرك لتنظر به إلى محرم أو إلى مسلم بعين الاحتقار، ولا إلى عيب مسلم.
ولله در إمامنا الشافعي حيث يقول:
إذا شئت أن تحيى سليما من الأذى
…
وعرضك محفوظ ودينك صين
لسانك لا تذكر به سوءة امرئ
…
ففيك لسان وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً
…
فقل يا عيني للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
…
ولا تلق إلا بالتي هي أحسن
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «النظر سهم مسموم من سهام إبليس، فمن غض بصرة
(1) أخرجه مسلم (1/328، رقم 444) ، وأبو داود (4/79، رقم 4175) ، والنسائي (8/190، رقم 5263) ، وأحمد (2/304، رقم 8022) ، وأبو عوانة (1/360، رقم 1300) ، والبيهقي (3/133، رقم 5157) عن أبي هريرة.
عن محاسن امرأة أورث الله قلبه حلاوة إلى يوم يلقاه» (1) .
قال الإمام الغزالي: فعليك وفقك الله وإيانا بحفظ العين فإنها سبب كل فتنة وآفة، فقد ذكر عن عيسى صلوات الله عليه وسلم:«إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب الشهوة، وكفي لصاحبها فتنه»
ولقد أحسن من قال:
وأنت إذا أرسلت طرفك رائداً
…
لقلبك يوماً أتعبتك النواظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر
…
عليه ولا عن بعضة أنت صابر
فإن لم تغمض عينيك وأرخيت عنانه بنظرك إلى ما لا يعنيك، فلا يخلو إما أن تقع عينك على حرام، فإن تعمدت فذنب فكبيرة، وربما تعلق قلبك بذلك فتهلك إن لم يرحم الله عز وجل، وإن كان مباحاً فربما يشتغل قلبك به، فجاءك الوسواس والخواطر بسببة، ولعلك لا تصل إليه فتبقى مشغول القلب، منقطعاً عن الخير، وقد كنت مستريحاً من ذلك كله.
وإذا طهرت يديك بالماء فطهرها من أن تضرب بهما مسلماً، وأن تتناول بهما مالاً حراماً، وتكتب بهما مما لا يجوز النطق به، فإن القلم أحد اللسانين كما قدمنا ذلك، فاحفظه عما يجب حفظ اللسان منه.
وإذا رفعته رأسك بالماء فاعلم أنك إنما تفعل ذلك امتثالاً لأوامر الله تعالى، فإن العبادات كلها لها معان، فإن الشرع لا يأمر بعبث وقد يفهمه المكلف وقد لا يفهمه المكلف.
وإذا مسحت أذنيك بالماء فطهرها من الإصغاء إلى بدعه أو غيبة أو خوض في باطل، فإنهما لم يخلقا إلا لتسمع بهما كلام الله تعالى وسنه رسوله صلى الله عليه وسلم وحكمة أوليائه، فعليك بصيانة سمعك عن الخنا والفضول، فإن المستمع شريك المتكلم كما قال بعضهم:
تحرمن الطرق أواسطها
…
وعد عن الجانب المشبته
وسمعك صن عن سماع القبيح
…
كصون اللسان عن اللفظ به
فإنك عند سماع القبيح شريك لقائله فانتبه.
(1) ذكره الحكيم (3/181) عن علي.
وإذا طهرت رجليك بالماء فطهرها عن المشي إلى حرام، والسعي بهما إلى أبواب الظلمه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ما من عبد يخطو خطوة إلا يسال عنها، ماذا أراد بهما» (1) .
* * *
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/376) عن ابن مسعود.
(2)
أخرجه مسلم (4/2047، رقم 2657) ، والبيهقي في شعب الإيمان (4/365، رقم 5428) عن أبي هريرة.