المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس الثالث والثلاثون - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ٢

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس الثالث والثلاثون

‌المجلس الثالث والثلاثون

في الكلام على باب فضل من علم وعلم، وبيان ما في حديثه من الفوائد،

وفيه ذكر علماء السوء وغير ذلك

قَالَ البُخَارِي:

باب فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاء ِقَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أخرى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» (1) .

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:

قوله: «مثل» : المراد به الصفة العجيبة لا القول السائر.

قوله: «الهدى» : أي الدلالة الموصلة إلى المطلوب، والعلم المراد به معرفة الأدلة الشرعية.

قوله: «نقية» كذا عند البخاري في جميع الروايات التي رأيناها بالنون من النقاء وهي صفة لمحذوف، لكن وقع عند الخطابي والحميدي وفي حاشية أصل أبي ذر «ثغبة» بمثلثة مفتوحة وغين معجمة مكسورة بعدها موحدة خفيفة مفتوحة، قال الخطأبي: هي مستنقع الماء في الجبال والصخور. قال القاضي عياض: هذا غلط في الرواية، وإحالة للمعنى. لأن هذا وصف الطائفة الأولى التي تنبت، وما ذكره يصلح وصفا للثانية التي تمسك الماء. قال: وما ضبطناه في البخاري من جميع الطرق «نقية» بفتح النون وكسر القاف وتشديد الياء التحتانية، وهو مثل قوله في مسلم:«طائفة طيبة» . قلت: وهو في جميع ما وقفت عليه من المسانيد والمستخرجات كما عند مسلم وفي كتاب الزركشي. وروى: «بقعة» قلت: هو بمعنى طائفة، لكن ليس ذلك في شيء من روايات الصحيحين. ثم قرأت في شرح ابن رجب أن في رواية بالموحدة بدل النون قال: والمراد بها القطعة الطيبة كما يقال فلان بقية الناس، ومنه:«فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية» .

قوله: «قبلت» : من القبول، كذا في معظم الروايات. ووقع عند الأصيلي:«قيلت» بالتحتانية المشددة، وهو تصحيف.

قوله: «الكلأ والعشب» : هو من ذكر الخاص بعد العام، لأن الكلأ يطلق على النبت الرطب واليابس معاً، والعشب للرطب فقط.

قوله: «إخاذات» : جمع إخاذة وهي الأرض التي تمسك الماء. وفي رواية غير أبي ذر وكذا في مسلم وغيره: «أجادب» جمع جدب وهي الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء. وضبطه المازري بالذال المعجمة. ووهمه القاضي. ورواها الإسماعيلي عن أبي يعلى عن أبي كريب: «أحارب» قال الإسماعيلي: لم يضبطه أبو يعلى وقال الخطابي: ليست هذه الرواية بشيء. قال: وقال بعضهم: «أجارد» جمع جرداء وهي البارزة التي لا تنبت، قال الخطأبي: هو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية. وأغرب صاحب المطالع فجعل الجميع روايات، وليس في الصحيحين سوى روايتين فقط، وكذا جزم القاضي.

قوله: «فنفع الله بها» أي بالإخاذات. وللأصيلي «فنفع الله به» أي بالماء.

قوله: «وزرعوا» كذا له بزيادة زاي من الزرع، ولمسلم والنسائي وغيرهما «ورعوا» بغير زاي من الرعى، قال النووي. كلاهما صحيح. ورجح القاضي رواية مسلم بلا مرجح، لأن رواية «زرعوا» تدل على مباشرة الزرع لتطابق في التمثيل مباشرة طلب العلم، وإن كانت رواية «رعوا» مطابقة لقوله أنبتت، لكن المراد أنها قابلة للإنبات. وقيل إنه روى «ووعوا» بواوين، ولا أصل لذلك. وقال القاضي قوله:«ورعوا» راجع للأولى لأن الثانية لم يحصل منها نبات (انتهى) . ويمكن أن يرجع إلى الثانية أيضا بمعنى أن الماء الذي استقر بها سقيت منه أرض أخرى فأنبتت.

قوله: «فأصاب» أي الماء. وللأصيلي وكريمة: «أصابت» أي: طائفة أخرى. ووقع كذلك صريحا عند النسائي. والمراد بالطائفة القطعة.

قوله: «قيعان» جمع قاع وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت.

قال القرطبي وغيره: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدين مثلاً بالغيث العام الذي يأتي في حال حاجتهم إليه، وكذا كان الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيي البلد الميت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت. ثم شبه السامعين له بالأرض المختلفة التي ينزل بها الغيث، فمنهم العالم العامل المعلم. فهو بمنزلة الأرض الطيبة شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها. ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله أو لم يتفقه فيما جمع لكنه أداه لغيره، فهو بمنزلة الأرض التي يستقر فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله:«نضر الله امرءا سمع مقالتي فأداها كما سمعها» . ومنهم من يسمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها. وإنما جمع المثل بين الطائفتين الأوليين المحمودتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النفع بها. والله أعلم. ثم ظهر لي أن في كل مثل طائفتين، فالأول قد أوضحناه، والثاني الأولى منه من دخل في الدين ولم يسمع العلم أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه، ومثالها من الأرض السباخ وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم:«من لم يرفع بذلك رأساً» أي أعرض عنه فلم ينتفع له ولا نفع. والثانية منه من لم يدخل في الدين أصلاً، بل بلغه فكفر به، ومثالها من الأرض الملساء المستوية التي يمر عليها الماء فلا ينتفع به، وأشير إليها بقوله صلى الله عليه وسلم «ولم يقبل هدى الله الذي جئت به» .

وقال الطيبي: بقى من أقسام الناس قسمان:

أحدهما: الذي انتفع بالعلم في نفسه ولم يعلمه غيره.

والثاني: من لم ينتفع به في نفسه وعلمه غيره.

قلت: والأول داخل في الأول لأن النفع حصل في الجملة وإن تفاوتت مراتبه، وكذلك ما تنبته الأرض، فمنه ما ينتفع الناس به ومنه ما يصير هشيما. وأما الثاني فإن كان عمل الفرائض وأهمل النوافل فقد دخل في الثاني كما قررناه، وإن ترك الفرائض أيضا فهو فاسق لا يجوز الأخذ عنه، ولعله يدخل في عموم:«من لم يرفع بذلك رأسا» والله أعلم. انظر فتح الباري (1/176 - 177) .

ص: 136

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: قَالَ إِسْحَاقُ: وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتِ الْمَاءَ، قَاعٌ يَعْلُوهُ الْمَاءُ، وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِي مِنَ الأَرْضِ (1) .

اشتمل إسناد هذا الحديث على لطفيتين:

الأولى: أن رجاله كلهم كوفيون.

الثانية: رواية بريدة عن جدة وعن أبيه.

قال ابن الملقن: هذا الحديث من بديع كلامه ووجيزه وبليغه صلى الله عليه وسلم في السبر والتقسيم، ورد الكلام بعضه على بعض، فإنه ذكر ثلاثة أمثلة ضربها في الأرض، اثنان منها محمودان قال النووي: معنى الحديث أن الأرض على ثلاثة أنواع شبه النبي صلى الله عليه وسلم كل نوع بنوع من أنواع الأرض:

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذه الفقرة فوائد منها:

قوله: «قال إسحاق: وكان منها طائفة قيلت» أي أن إسحاق بن راهويه حيث روى هذا الحديث عن أبي أسامة خالف في هذا الحرف.

قال الأصيلي: هو تصحيف من إسحاق. وقال غيره: بل هو صواب ومعناه شربت، والقيل شرب نصف النهار، يقال قيلت الإبل أي شربت في القائلة. وتعقبه القرطبي بأن المقصود لا يختص بشرب القائلة. وأجيب بأن كون هذا أصله لا يمنع استعماله على الإطلاق تجوزاً.

وقال ابن دريد: قيل الماء في المكان المنخفض إذا اجتمع فيه، وتعقبه القرطبي أيضا بأنه يفسد التمثيل، لأن اجتماع الماء إنما هو مثال الطائفة الثانية، والكلام هنا إنما هو في الأولى التي شربت وأنبتت. قال: والأظهر أنه تصحيف.

قوله: «قاع يعلوه الماء. والصفصف المستوى من الأرض» هذا ثابت عند المستملي، وأراد به أن قيعان المذكورة في الحديث جمع قاع وأنها الأرض التي يعلوها الماء ولا يستقر فيها، وإنما ذكر الصفصف معه جرياً على عادته في الاعتناء بتفسير ما يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن، وقد يستطرد. انظر فتح الباري (1/177) .

ص: 138

فالنوع الأول من الأرض: ينتفع بالمطر فيحيا بعد أن كان ميت، ينبت الكلأ فينتفع به الناس، والدوآب بالشرب والرعي والزرع وغيرها، ومثل هذا النوع الأول من الناس وهو الذي يبلغه الهدي والعلم، فيحفظ ويحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره، فينتفع وينفع الناس.

والنوع الثاني من الأرض: ما لا تقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة هي إمساك الماء لغيرها، فينتفع به الناس والدوآب وهي لا تنتفع، ومثل هذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أذهان ثاقبة ولا رسوخ لهم في العلم، يستنبطون به المعاني والأحكام فهم يحفظون حتى يجيء أهل النفع والانتفاع فيأخذه منهم، فهؤلاء نفعوا الناس بعلمهم وما انتفعوا.

النوع الثالث من الأرض: هو السباخ التي لا تنبت، فهي لا تنتفع بالماء، ولا تمسكه لينتفع به غيرها، ومثل هذا النوع النوع الثالث من الناس وهم الذين ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون ولا يحفظون لينفعوا غيرهم (1) .

فالحاصل: أن النوع الأول للمنتفع النافع، والنوع الثاني للنافع غير المنتفع، والثالث لغير النافع والمنتفع، وأعلى هذه الأنواع النوع الأول وهو المنتفع النافع.

قال الله تعالى ?وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً? [فصلت: 33] .

وقال: ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ? [النحل: 125] .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الناس المؤمن العالم الذي إذا احتيج إليه نفع، وإن استغني عنه أغنى نفسه» (2) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذ إلى اليمن: «لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من الدنيا ومن فيها» (3) .

وقال: «من تعلم باباً من العلم ليعلم الناس أُعطي ثواب ستين صديقاً» (4) .

(1) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم (15/47، 48) .

(2)

أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (45/303) بنحوه عن علي.

(3)

أخرجه بنحوه أحمد في مسنده (5/238، رقم 22127) .

قال الهيثمي (5/334) : رجاله ثقات إلا أن ذويد بن نافع لم يدرك معاذا.

(4)

أورده المنذري في الترغيب والترهيب (1/54) وعزاه للديلمي في مسند الفردوس عن عبد الله بن مسعود، ثم قال: وفيه نكارة.

ص: 139

وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: «من علم وعمل وعلم فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماوات والأرض» (1) .

وقال صلى الله عليه وسلم: «كلمة من الخير يسمعها المؤمن فيعمل بها ويعلمها خير له من عبادة سنة» (2) .

وقال: «ما أفاد المسلم أخاه فائدة أفضل من حديث حسن بلغه فبلغه» (3) .

وقال: «الدال على الخير كفاعله» (4) .

وقال عمر: «من حدث بحديث فعمل به فله مثل أجر ذلك العمل» (5) .

وروي أن سفيان الثوري قدم عسقلان فمكث أياماً ولا يسأله إنسان فقال: اكتروا لي لأخرج من هذا البلد، هذا بلد يموت فيه العلم (6) .

وقال عطاء: دخلت على سعيد بن المسيب وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: ليس يسئلني أحد عن شيء (7) .

وقال يحيى بن معاذ: العلماء أرحم بأمه محمد من آبائهم وأمهاتهم، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن آبائهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، وهم يحفظونهم من نار الآخرة (8) .

(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية (6/93) .

(2)

أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/487، رقم 1386) عن زيد بن أسلم مرسلاً.

(3)

أورده الذهبي في إحياء علوم الدين (1/10) قال العراقي: أخرجه ابن عبد البر من رواية محمد بن المنكدر مرسلا نحوه.

(4)

أخرجه الطبراني في الكبير (6/186، رقم 5945) وفي الأوسط (3/34، رقم 2384) عن سهل بن سعد.

وأخرجه الطبراني (17/227، رقم 628) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/116، رقم 7656) وأبو عوانة في مسنده (4/478، رقم 7400) ، والقضاعي في مسند الشهاب (1/85، رقم 86) ، والخطيب في التاريخ (7/383) عن ابن مسعود.

(5)

أخرجه الحاكم في المدخل إلى الصحيح (1/87) .

(6)

أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (2/279، رقم 1849) .

(7)

انظر: إحياء علوم الدين (1/11) .

(8)

انظر: إحياء علوم الدين (1/11) .

ص: 140

قال حجة الإسلام الغزالي (1) : وقال معاذ بن جبل ورأيته أيضاً مرفوعاً: «تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقه، وبذله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والأنس في الوحشة، وهو الأنس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والوزير عند الأخلاء، والقريب عند الغرباء، ومنار سبيل الجنة، يرفع الله تعالى به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة، وهداة يقتدى بهم، وأدلة في الخيرات تقتفى آثارهم، وترفق أفعالهم، ترغب الملائكة خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلى في الدنيا والآخرة، التفكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به توصل الأرحام، وبه يعرف الحلال من الحرام، وهو إمام، والعمل تابعه يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء» (2) .

والنوع الثاني: وهو الذي ينفع الناس ولا ينتفع، نوع كالأرض التي تمسك الماء فقط للناس، ينتفعوا به وهي لا تنتفع نفسها، فلا تنبت الكلأ، مذموم قبيح، فإنه يقبح بالعالم أن ينفع الناس بعلمه فيعملوا به وهو لا ينتفع به ولا يعمل به، بل ينبغي أن يكون فعله موافقاً لقوله، فإذا مر بشيء عمل به، وإذا نهى عن شيء انتهى عنه قبل غيره.

وقد دلت الأخبار من الكتاب والسنة على ذم من علم الناس ولم يعمل بعلمه.

قال الله تعالى: ?أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ? [البقرة: 44] .

وقال تعالى: ?كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ? [الصف: 3] .

وقال تعالى في قصة شعيب: ?وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ? [هود: 88] .

وقال تعالى لعيسي بن مريم عليه الصلاة والسلام: «يا ابن مريم عظ نفسك، فإن

(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/11) .

(2)

أخرجه الديلمي في الفردوس (2/41، رقم 2237) عن معاذ.

ص: 141

اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحي مني» (1) .

وقال عليه الصلاة والسلام: «مررت ليلة أسري بي بقوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من أنتم؟ فقالوا: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله، وننهى عن الشر ونفعله» (2) .

وقال الفضيل: بلغني أن الفسقة من العلماء يبدأ بهم يوم القيامة قبل عبدة الأوثان، وإليه أشار من قال:

وعالم بعلمه لم يعملن

معذب من قبل عباد الأوثان

وقال أبو الدرداء: ويل لمن لا يعلم مرة وويل لمن يعلم ولم يعمل سبع مرات (3) .

وقال الشعبي: يطلع قوم من أهل الجنة على قوم من أهل النار فيقولون لهم: ما أدخلكم النار وإنما أدخلنا الله الجنة بفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فقالوا: إنا كنا نأمر بالخير ولا نفعله (4) .

وقال مالك بن دينار: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل الفطر عن الصفاء (5) .

ولله در القائل:

يا واعظ الناس قد أصبحت متهما

إذا عبت منهم أموراً أنت تأتيها

وكان يحيى بن معاذ ينشد في مجلس:

مواعظ الواعظ لن تقبلا

حتى نفيها نفسه أولاً

يا قوم من أظلم من واعظ

خالف ما قد قاله في الملا

أظهر بين الناس إحسان

وبارز الرحمن لما خلا

(1) أخرجه أحمد في الزهد (1/54) وأبو نعيم في الحلية (2/382) .

(2)

أخرجه بنحوه أحمد في مسنده (3/120، رقم 12232) ، والحارث كما في بغية الباحث (1/170، رقم 26) ، وأبو يعلى في مسنده (7/69، رقم 3992) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/283، رقم 1773) عن أنس.

(3)

أخرجه أحمد في الزهد (1/142) وأبو نعيم في الحلية (1/211) .

(4)

أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/21، رقم 64) .

(5)

أخرجه أحمد في الزهد (1/323) وأبو نعيم في الحلية (6/288) والبيهقي في شعب الإيمان (2/297، رقم 1841) .

ص: 142

وذكر ابن رجب في اللطائف أن عبد الواحد بن زيد لما جلس للوعظ أتته امرأة من الصالحات فأنشدته:

يا واعظاً قام لاحتساب

يزجر قوماً عن الذنوب

تنهى وأنت المريب حقاً

هذا من المنكر العجيب

لو كنت أصلحت قبل هذا

عيبك أو تبت عن قريب

كان لما قلت يا حبيبي

موقع صدق من القلوب

تنهى عن الغي والتمادي

وأنت في النهي كالمريب

وقال بعضهم: العالم الذي لا يعمل كالمريض الذي يصف الدواء، والجائع الذي يصف لذائذ الأطعمة، ولم يجدها عنده.

وهذا مثل قوله تعالى: ?وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ? [الأنبياء: 18] .

ولقد أحسن من قال:

وغير تقي يأمر الناس بالتقى

طبيب يداوي الناس وهو سقيم

يا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

ما زلت تلقح بالرشاد عقولنا

صفة وأنت من الرشاد عديم

تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا

كيما تصح به وأنت سقيم

فابدأ بنفسك فانهها عن غيها

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يقبل إن وعظت ويقتدي

بالقول منك وينفع التعليم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وقال ابن السماك: كم من مذكر بالله ناس لله، وكم من مخوف بالله جريء على الله، وكم من مقرب إلى الله بعيد من الله، وكم من داع إلى الله فار من الله، وكم من تال لكتاب الله منسلخ من آيات الله (1) .

وقال عيسى عليه السلام: مثل الذي يتعلم العلم ولا يعمل به كمثل امرأة زنت في السر فحملت فظهر حملها فانفضحت، وكذلك من لم يعمل بعلمه يفضحه الله تبارك وتعالى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد (2) .

(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/313، رقم 1916) .

(2)

أورده المناوي في فيض القدير (2/433) .

ص: 143

وقال معاذ: احذروا ذلة العالم لأن قدره عند الخلق عظيم، فيتبعوه على زلته.

وقال عمر- رضي الله عنه: إذ ذل العالم زل بزلته عالم من الخلق. وقال: ثلاث يهدم به الإسلام ذلة العالم إحداهن.

أنشد بعضهم:

وقال

فساد كبير عالم متهتك

وأكبر منه جاهل متنسك

هما فتنة للعالمين عظيمة

لمن بهما في دينه ينتسك

الإمام فخر الدين الرازي: إذا اشتغل العالم بجمع الحلال، صار العوام آكلين الشبهات، وإذا صار العالم آكلاً للحرام، صار العامي كافراً، فالواجب على العالم كف نفسه عن صغائر المعاصي وكبائرها حتى لا يقتدي بها، والمعصية مع العلم فوق المعصية مع الجهل من وجوه، وإذا ابتلي بمعصية فليستتر صيانة لمنصب العلم.

وأنشد بعضهم في هذا المعنى:

أيها العالم إياك الزلل

واحذر الهفوة والخطب الجلل

هفوة العالم مستعظمة

إذ بها أصبح في الخلق مثل

وعلى زلته عمدتهم فبها

يحتج من أخطأ وزل

لا تقل يستر علمي زلتي

بل بها يحصل في العلم الخلل

أن تكن عندك مستحقرة

فهي عند الله والناس جبل

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ازداد علماً ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعداً» (1) .

وقال: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينفعه الله بعلمه» (2) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل السراج الذي يضئ ويحرق نفسه» (3) .

(1) أخرجه الديلمي في الفردوس (3/602، رقم 5887) عن علي بن أبي طالب بنحوه.

(2)

أخرجه الطبراني في الكبير (2/165، رقم 1681) قال الهيثمي (1/185) : رجاله موثقون. وأخرجه الديلمي في الفردوس (4/134، رقم 6419) عن جندب بن عبد الله.

(3)

أخرجه الطبراني في الكبير (2/165، رقم 1681) قال الهيثمي (1/185) : رجاله موثقون. وأخرجه الديلمي في الفردوس (4/134، رقم 6419) عن جندب بن عبد الله.

ص: 144

ولله در أبي العتاهية (1) حيث قال:

وبخت غيرك بالعمى فأفدته

بصراً وأنت مختم لعيناكا

وفتيلة المصباح تحرق نفسها

وتضيء للأعشى وأنت كذاكا

وقال علي رضي الله عنه: «يا حملة القرآن اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حلقاً، يباهي بعضهم بعضاً، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله» (2) .

وقال بعض العلماء: رأيت في منامي كأني جالس بالعلم على عادتي وحولي كتبي، وإذا بخطاب فوق رأسي وقائل يقول لي: اكتب فأخذت القلم وورقة وقلت: ما الذي أكتب؟ فقال: اكتب:

تعلم ما استطعت لقصد وجهي

فإن العلم من سفن النجاة

وليس العلم في الدنيا بفخر

إذا ما حل في غير الثقات

ومن طلب العلوم لغير وجهي

بعيد أن تراه من الهداة

قال الأئمة: من وجد لذة العلم والعمل به قل ما يرغب فيما عند الناس.

وأنشدوا فيه فقال:

من طلب العلم للمعاد

قد فاز بالفضل والمراد

وباء بالذل من نحاه

لنيل فضل من العباد

قال إمامنا الشافعي رضي الله عنه: وددت أن الخلق تعلموا هذا العلم -يعني علمه وكتبه- على أن لا ينسب إلي حرف منه (3) .

قال الرازي في تفسيره: لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء: لا يتم الدين إلا بالتقوى، ولا يتم القول إلا بالفعل، ولا تتم المروءة إلا بالتواضع، ولا يتم العلم إلا بالعمل، فالدين بلا تقوى على خطر، وقول بلا فعل كالهدر، والمروءة بلا تواضع كشجرة بلا ثمر، وعلم بلا عمل كسحب بلا مطر.

قال الأصم: ليس في القيامة أشد حسرة من رجل علم الناس علماً فعلموا به ولم

(1) هو: محمد بن اسماعيل أبي العتاهية بن القاسم، أبو عبد الله، شاعر عراقي مطبوع، حذا طريقة أبيه في شعر الزهد، وتقدم في الأدب والفقه، وولي القضاء برهة، وأخذ عنه بعض كبار العلماء في عصره كالنسابة ابن أبي خيثمة وابن أبي الدنيا والمبرد والحافظ إبراهيم ابن إسحاق الحربي، وكانت وفاته في سنة: 244 هـ.

(2)

أخرجه الدارمي في سننه (1/118، رقم 382) .

(3)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/118) .

ص: 145

يعمل هو به (1) .

فائدة مناسبة لهذا: حكى أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه روضة المشتاق إلى الملك الخلاق عن بعض السادة أنه قال: أشد الناس حسرة يوم القيامة رجل ملك عبداً فعلمه شرائع الإسلام فأطاع وأحسن وعصى السيد، فإذا كان يوم القيامة أمر بالعبد إلى الجنة وأمر بسيده إلى النار، فيقول عند ذلك: واحسرتاه واغبناه، أما هذا عبدي، أما كنت مالكاً لمهجته وماله، وقادراً على جميع ماله، فماله سعد، ومالي شقيت، فيناديه الملك الموكل: لأنه تأدب وما تأدبت، وأحسن وأسأت.

ورجل كسب مالاً فعصى الله سبحانه وتعالى في جمعه ومنعه، ولم يقدمه بين يديه حتى صار المال إلى وراثه، فأحسن في أنفاقه وأطاع الله سبحانه في إخراجه، وقدمه بين يديه، فإذا كان يوم القيامة أمر بالوارث إلى الجنة وبصاحب المال إلى النار، فيقول: واحسرتاه واغبناه أما هذا مالي، فمالي ما أحسنت به أحوالي، فيناديه الملك الموكل به: لأنه أطاع الله تعالى وما أطعت، وأنفق لوجهه وما أنفقت، فسعد وشقيت.

ورجل علم قوماً فوعظهم فعملوا بقوله ولم يعمل، فإذا كان يوم القيامة أمر بهم إلى الجنة وأمر به إلى النار، فيقول: واحسرتاه واغبناه أما هذا علمي فمالهم فازوا به وما فزت، وسلموا به وما سلمت، فيناديه الملك الموكل: لأنهم عملوا بما قلت وما عملت، فسعدوا وشقيت.

فائدة أخرى: تقدم بعض الصالحين ليصلي بالناس إماماً فالتفت إلى المأمومين يعدل الصفوف، وقال لهم: استقيموا واستووا فغشي عليه، فسئل عن سبب ذلك فقال: لما قلت لهم استقيموا فكرت في نفسي فقلت لها: فأنت هل استقمت مع الله طرفة عين.

فائدة أخرى: ما ينبغي للإنسان ولو كان عاصياً أن يمتنع أن يعظ الناس بعد الرسول، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فإنه لو لم يعظ الناس ويعلمهم إلا معصوم من الزلل لم يعظ الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أحد، لأنه لا عصمة لأحد بعده.

وقيل للحسن: إن فلاناً لا يعظ ويقول: أخاف أن أقول مالا أفعل فقال الحسن: وأينا يفعل ما يقول، ود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحداً بمعروف ولم ينيه عن منكر، وقل من سلم من المعصية، من ذا الذي ما سآء قط، ومن له الحسنى قط فلا ينبغي لذلك سد باب الوعظ والتذكير. قال ذلك ابن رجب في أول اللطائف.

(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/63) .

ص: 146

وأما النوع الثالث: وهم الذين لا علم عندهم ولا عمل، لا ينفعون ولا ينتفعون، فهم أشقى الخلق، لأنهم لم يقبلوا هدى الله، ولم يرفعوا به رأساً، لا حفظ عندهم ولا فهم، ولا رواية ولا دراية، ولا رعاية إنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، فهذه الطائفة هم الذين يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ليس همُّ أحدهم إلا بطنه وفرجه، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همة مع ذلك لباسه وزينته، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همة في داره وبستانه ومركوبه، فإن ترقت همته فوق ذلك كان همه في رياسته والانتصار للنفس الغضبية.

فينبغي للعاقل أن يجمع بين العلم والعمل به فإن لم يقدر على ذلك فليكن عاملاً بما تعلمه منهم فإن لم يفعل ذلك كان من أشر الناس، ويكفي من لا علم ولا عمل ذماً أن يحرم درجة العلماء وعزهم وشرفهم، ودرجة العاملين بقول العلماء والمقتدين بهم، فإن الإنسان ولو بلغ في العز في الدنيا مهما بلغ إذا لم يكن عنده علم ولا عمل فهو حقير عند الله، وينتهى عزه إلى ذل.

قال أبو الأسود: ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك (1) .

وقال الأحنف: كاد العلماء يكونون أرباباً، وكل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل مصيره (2) .

وقال سالم بن أبي الجعد: اشتراني مولاي بثلاثمائه درهم واعتقني، فقلت: بأي حرفة أحترف، فاحترفت بالعلم فما تمت لي سنة حتى أتاني أمير المدينة زائراً، فلم آذن له (3) .

قال الزبير ابن أبي بكر: كتب لي أبي بالعراق عليك: بالعلم إن كنت فقيراً كان لك مالاً، وإن استغنيت كان جمالاً (4) .

وقال الزهري: العلم ذكر ولا يحبه إلا ذكور الرجال (5) .

وبقي نوع آخر من الناس وهو لم يذكره هنا وهم: الذين يتعلمون العلم ويكتمون

(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/7) .

(2)

انظر: إحياء علوم الدين (1/8) .

(3)

انظر: إحياء علوم الدين (1/8) .

(4)

انظر: إحياء علوم الدين (1/8) .

(5)

انظر إحياء علوم الدين (1/8) .

ص: 147

عن الناس، فهم ينفعون أنفسهم به ولا يعلمون الناس بخلاً، فهذا النوع من الناس أيضاً مذموم قبيح، فإن العلم فضل الله، ويحرم عليه أن يبخل بفضل الله على مستحقيه، ولله در القائل:

ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله

على قومه يستعن عنه ويذمم

قال تعالى: ?وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ? [آل عمران: 187] .

وقال تعالى: ?وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ? [البقرة: 146] .

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما أتى الله عالماً علماً إلا أخذ عليه من الميثاق ما أخذ من النبيين، أن يبينه ولا يكتمه» (1) .

وقال: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» (2) .

ولو كتم العلم عمن لا يستحقه ككثير من الجهال الذين لا ينتفعون بالعلم ولا يلتفتون إلى العمل به أو يخاف عليهم من الفتنة بما يتعلمه فلا إثم عليه حينئذ في كتمه.

قال إمامنا الشافعي:

ومن منح الجهال علماً أضاعه

ومن منع المستوجبين فقد ظلم

وكاتم علم الدين عمن يريده

يبوء بإثم زاد وآثم إذا كتم

وقال بعضهم ونسب إلى زين العابدين:

إني لأخفي من علمي جواهره

كي لا يرى العلم ذو جهل فيفتننا

ورب جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجلاً دينون دمى

يرون أقبح ما يأتونه حسنا

(1) أخرجه ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/104، رقم 141) ، وابن حجر في القول المسدد (1 /5) عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (3/321، رقم 3658) ، والترمذي في سننه (5/29، رقم 2649) وقال: حسن. وابن ماجه في سننه (1/98، رقم 266) ، وأحمد في مسنده (2/344، رقم 8514) ، والحاكم (1/182، رقم 345) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/275، رقم 1743) عن أبي هريرة.

وأخرجه ابن ماجه في سننه (1/97، رقم 264) عن أنس. قال البوصيري: هذا إسناد ضعيف.

وأخرجه الطبراني في الكبير (10/128، رقم 10197) عن ابن مسعود.

قال الهيثمي (1/163) : فيه سوار بن مصعب وهو متروك.

ص: 148

وقد تقدم في هذا أبو حسن

وأوصى حسينا بما قد أخبر الحسنا

والمراد بالمثل قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم» الصفة العجيبة الشأن لا القول السائر.

وقوله: «الهدى» الدلالة الموصلة إلى البغية.

«والعلم» المراد به معرفة الأدلة الشرعية.

وقوله: «كمثل الغيت الكثير» وهو المطر، وسمى المطر «غيثاً» لإغاثة الخلق.

فائدة: اختلف العلماء في الغيث الربيعي والغيث الشتوي أيهما ألطف على قولين، فقيل: الشتوي ألطف، لأن حرارة الشمس تكون حينئذ أقل، فلا تجذب من ماء البحر إلا الطفه، والجو صاف وهو خال من الأبخرة الدخانية، والغبار المخالط للماء، وكل هذا يوجب لطفه وصفائه وخلوه من مخالط.

وقيل: الربيعي ألطف، لأن الحرارة توجب تحلل الأبخرة الغليظة، وتوجب رقة الهواء ولطافته، فيخف بذلك الماء، وتقل أجزاؤه الأرضية وتصادف وقت حياة النبات والأشجار وطيب الهواء.

ووجه المشابهة بين العلم والغيث أن الغيث يحيي البلد الميت، والعلم يحيي القلب الميت، وإنما اختار الغيث من بين سائر المطر أسماء المطر ليؤذن باضطرار الخلق حينئذ إليه صلى الله عليه وسلم كاضطرارهم إلى المطر.

قال الله تعالى: ?وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ? [الشورى: 28] .

وقد كانت الناس قبل بعثته صلى الله عليه وسلم في جهل وضلال، امتحنوا بموت القلب حتى أصابهم الله برحمة من عنده، وأغاثهم به صلى الله عليه وسلم فأرسله إليهم رحمة.

قال تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ? [الأنبياء: 107] أي: لجميع الخلق: للمؤمنين بالهداية، وللمنافقين بالأمان من القتل، وللكافرين بتأخير العذاب، فهداهم وزال ضلالهم، وعلم جاهلهم، وقوَّم مائلهم، وأحيا قلوبهم الميتة به، كما أحيا الأرض الميتة بالغيث المرسل إليها، وهذا يدل على شرفه وعلو قدره صلى الله عليه وسلم وعظيم قدره عند الله.

ويدل أيضاً على علو قدره صلى الله عليه وسلم أنه كان في حياته صلى الله عليه وسلم يستأذن رب العزة سبعون ألف ملك لينزلوا إلى الأرض لرؤيته، فكانوا ينزلون وينظرون إليه لما يعلمون من كرامته على الله عز وجل.

* * *

ص: 149

باب رفع العلم وظهور الجهل

قَالَ البُخَارِي: وقال ربيعة: لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه (1) .

هذا تعليق من البخاري بصيغة الجزم الدالة على أنه من تصحيحات التعلقيات، لا من تمريضاته ومعناه: لا ينبغي لمن عنده شيء من العلم ولو كان قليلاً أن يضيع نفسه، بأن لا يفيد الناس ولا يسعى في تعليم الخير.

وفيه دليل على أنه يندب للإنسان إذا كان في البلد مثله في العلم أن يقضي بين الناس إذ علم أنه يزول خموله وينتشر علمه بذلك.

حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ، قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا» (2) .

قوله: «إن من أشراط الساعة» أي: من علاماتها، فإن الأشراط جمع شرط بفتح الشين، والراء، وهي العلامة.

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الأثر فوائد عظيمة منها:

قوله: «وقال ربيعة» : هو ابن أبي عبد الرحمن الفقيه المدني، المعروف بربيعة الرأي قيل له ذلك لكثرة اشتغاله بالاجتهاد.

ومراد ربيعة أن من كان فيه فهم وقابلية للعلم لا ينبغي له أن يهمل نفسه فيترك الاشتغال، لئلا يؤدي ذلك إلى رفع العلم.

أو مراده الحث على نشر العلم في أهله لئلا يموت العالم قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم.

أو مراده أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه.

وقيل مراده تعظيم العلم وتوقيره، فلا يهين نفسه بأن يجعله عرضا للدنيا. وهذا معنى حسن. انظر فتح الباري (1/178) .

(2)

للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الأثر فوائد منها:

قوله: «أشراط الساعة» : أي علاماتها، وهذه العلامات منها ما يكون من قبيل المعتاد، ومنها ما يكون خارقا للعادة.

قوله: «أن يرفع العلم» : المراد برفعه موت حملته.

قوله: «ويثبت» : أي ينتشر.

قوله: «ويشرب الخمر» : المراد كثرة شرب الخمر واشتهاره.

قوله: «ويظهر الزنا» : أي يفشو. انظر فتح الباري (1/178) .

ص: 150

وقوله: «أن يرفع العلم» ليس المراد برفع العلم محوه من صدور الحفاظ وقلوب العلماء، فإن الله سبحانه وتعالى لا يهب العلم لخلقه ثم ينتزعه منهم، بعد أن تفضل عليهم به تعالى الله أن يسترجع ما وهب من علمه الذي يؤدي إلى معرفته والإيمان به وبرسله، وإنما يكون قبض العلم بموت العلماء وعدم المتعلمين، فلا يوجد فيمن يبقى من يخلف من مضى، وقد أنذر عليه الصلاة والسلام بقبض الخير كله، ولا ينطق عن الهوى.

والذي يدل على أن المراد برفع العلم موت العلماء ما يأتي في هذا الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتنخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا» (1) .

وقد جاءت أخبار من الكتاب والسنة وغيرها أن موت العلماء نقص في الدين، وعلامة لحلول البلاء المبين.

قال الله تعالى: ?أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا? [الرعد: 41]

قال عطاء وجماعة: نقصانها موت العلماء وذهاب الفقهاء (2) .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء، ما اختلف الليل والنهار» (3) .

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (1/50، رقم 100) ، ومسلم في صحيحه (4/2058، رقم 2673) ، والترمذي في سننه (5/31، رقم 2652) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه في سننه (1/20، رقم 52) ، وأحمد في مسنده (2/162، رقم 6511) ، وابن أبي شيبة في المصنف (7/505، رقم 37590) ، والدارمي في سننه (1/89، رقم 239) ، وابن حبان (10/432، رقم 4571) عن ابن عمر.

وأخرجه الخطيب في التاريخ (5/312)، والبزار كما في محمع الزوائد (1/201) كلاهما عن عائشة. قال الهيثمي (1/201) : فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف، ووثقه عبد الملك بن سعيد بن الليث.

وأخرجه الطبراني في الأوسط (6/277، رقم 6403)، قال الهيثمي (1/201) : فيه العلاء بن سليمان الرقي ضعفه ابن عدي وغيره. وابن عدي (5/223 ترجمة 379 العلاء بن سليمان الرقى) وقال: منكر الحديث ويأتي بمتون ولها أسانيد لا يتابعه عليها أحد. كلاهما عن أبي هريرة.

(2)

أورده البغوي في تفسيره (3/24) .

(3)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (2/268، رقم 1719) .

ص: 151

وقال أيضاً: «عليكم بالعلم قبل أن يقبض، وقبضه ذهاب أهله» (1) .

وقال عمر رضي الله عنه: «موت ألف عابد صائم النهار قائم الليل أهون من موت عالم بصير بحلال الله وحرامه» (2) .

وقال علي رضي الله عنه: «إن مات العالم ثلم ثلمة في الإسلام ولا يسدها إلا خلف منه» (3) .

وقال: «إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كف لم تعد» .

وقال سلمان: «لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يعلم الآخر، فإذا أهلك الأول قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس» (4) .

وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: «هلاك علمائهم» (5) .

قال علي بن موسى: «أعظم الرزايا موت العلماء» .

وقوله: «ويشرب الخمر» قال العلماء: شرب الخمر من الكبائر، سماها الله تعالى في كتابه الإثم.

قال تعالى: ?قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ? [الأعراف: 33] .

قال الحسن: الإثم هو الخمر.

ويدل على إطلاق الإثم عليها قول لبيد:

شربت الإثم حتى ضل عقلي

كذاك الإثم تذهب بالعقول

وإذا شربها في الدنيا ومات من غير توبة فإنه لا يشربها في الآخرة، مع أنها أطيب شراب الآخرة، ويدل على ذلك ما في صحيح مسلم عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل مسكر حرام، وكل خمر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة، وإذا شربها في الدنيا ومات من غير توبة أسقي

(1) أخرجه الطبراني في الكبير (9/170، رقم 8845)، قال الهيثمي (1/126) : رواه الطبراني في الكبير وأبو قلابة لم يسمع من ابن مسعود.

وأخرجه عبد الرزاق عن معمر بن راشد في الجامع (11/252) .

(2)

أخرجه الحارث كما في بغية الباحث (2/813، رقم 842) .

(3)

أخرجه الخطيب في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1/199، رقم 347) .

(4)

أخرجه أحمد في الزهد (1/151) ، والدارمي (1/90، رقم 242) .

(5)

أخرجه أبو نعيم في الحلية (4/276) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/253، رقم 1662) ، وابن أبي شيبة (7/458، رقم 37206) ، والدارمي (1/90، رقم 241) .

ص: 152

من عرق أهل النار» (1) .

وفي صحيح مسلم أيضاً عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن على الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» قيل: وما طينة الخبال؟ قال: «عرق أهل النار» أو قال: «عصارة أهل النار» (2) .

قال البغوي: جاء في الحديث: «أن الله تعالى خلق ثلاثة أشياء بيده خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة الفردوس بيده ثم قال: وعزتي وجلالي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث» (3) .

فإن قيل: شرب الخمر كيف يكون من علاماتها والحال كان واقعاً في جميع الأزمان، وحذر صلى الله عليه وسلم من شربه؟

وأجيب: بأن المراد بشرب الخمر الذي هو من علامات الساعة أن تشرب شرباً فاشياً، كما جاء في رواية:«ويكثر شرب الخمر» ، أو المراد: أن الشرب وحده ليس علامة بل العلامة مجموع الأمور المذكورة.

وقوله: «ويظهر الزنا» أي: يفشو وينتشر.

قال ابن الملقن: والزنا يمد ويقصر، والأولى لغة نجد، والثانية لغة أهل الحجاز.

فائدة: ذكر في هذا الحديث من علامات الساعة أربعة وجاء في غيره من الأحاديث علامات أخرى كثيرة: كإطالة البنيان، وزخرفة المساجد، وإمارة الصبيان، ولعن آخر هذه الأمة أولها، وكثرة الهرج، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (3/1588، رقم 2003) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (3/327، رقم 3679) ، والترمذي في سننه (4/290، رقم 1861)، وقال: حسن صحيح. والنسائي في الكبرى (3/212، رقم 5093)، والطيالسي في مسنده (ص: 260، رقم 1916) ، وأحمد في مسنده (2/29، رقم 4831) ، وابن حبان في صحيحه (12/188، رقم 5366) ، والطبراني في الكبير (12/294، رقم 13157) .

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه (3/1587، رقم 2002) . وأخرجه أيضاً: النسائي في سننه (8/327، رقم 5709) ، وأحمد في مسنده (3/360، رقم 14923) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/7، رقم 5579) .

(3)

أخرجه الدارقطني في الصفات (1/26، رقم 28) وأبو الشيخ (5/1555) عن عبد الله بن الحارث بن نوفل.

وأخرجه الديلمي (1/181، رقم 675) عن علي.

ص: 153

وإن رضوا رضوا لأنفسهم وإن غضبوا غضبوا لأنفسهم، لا يغضبون لله ولا يرضون لله.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علامات الساعة أربعة أشياء: كثرة المطر وقلة النبات، وكثرة القراء وقلة العلماء» أفاده ابن الجوزي.

ومن علاماتها إنكار الحق، قال علي رضي الله عنه:«يأتي على الناس زمان ينكر الحق فيه تسعة أعشارهم» (1) .

ولها علامات أخرى غير ذلك وهذه العلامات هي العلامات الصغار، والحكمة في إظهارها وإيجادها قبل الساعة تنبيه الناس على رقدتهم، وحثهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة، فينبغي للناس بعد ظهورها أن يطهروا أنفسهم، وينفطموا عن الدنيا، ويستعدوا للساعة الموعود بها.

وقد وقعت هذه العلامات في هذه الأزمان كما أخبر صلى الله عليه وسلم وتحقق بهذا الحديث معجزة النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه في كل ما أخبر به صلى الله عليه وسلم.

وأما العلامات الكبار: كخروج الدجال ويأجوج ومأجوج والدابة وغير ذلك، فإنها لا تظهر إلا قرب الساعة أو مصاحبة لها.

فائدة أخرى: ظهور اللواط وانتشاره بين الناس كظهور الزنا في أنه من علامات الساعة.

قال ابن الجوزي في كتابه سوق العروس: روى ابن ماجة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط» (2) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله عمل عمل قوم لوط» (3) .

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوه الفاعل

(1) أخرجه أحمد في الزهد (1/130) ، وفي فضائل الصحابة (1/529، رقم 880) .

(2)

أخرجه ابن ماجه في سننه (2/856، رقم 2563) وأخرجه أيضاً: الترمذي في سننه (4/58، رقم 1457) وقال: حسن غريب. وأحمد في مسنده (3/382، رقم 15133) ، وأبو يعلى في مسنده (4/97، رقم 2128) ، والحاكم في المستدرك (4/397، رقم 8057) وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي في شعب الإيمان (4/354، رقم 5374) .

(3)

أخرجه أحمد في مسنده (1/108، رقم 855) ، والطبراني في الكبير (11/218، رقم 11546) ، والحاكم في المستدرك (4/396، رقم 8052)، وقال: صحيح الإسناد. والبيهقي في السنن الكبرى (8/231، رقم 16794) .

ص: 154

والمفعول به» (1) .

وقد اختلف العلماء في حكم من عمل عمل قوم لوط.

فقال الإمام مالك كما نقله القرطبي عنه: يرجم سواء كان محصناً أو غير محصن، قال: وكذا يرجم المفعول به إذا كان محلتماً (2) .

وقال أبو حنيفة: يعذر المحصن وغيره (3) .

وقال الشافعي: يجد حد الزنا إن كان غير محصن، ويرجم إن كان محصناً (4) .

وقال ابن عباس: ينظر إلى أعلى بناء بالقرية فيلقى منه ثم يتبع بالحجارة (5) .

وقيل: يحرق بالنار.

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ثبت عن خالد بن الوليد أنه وجد في بعض ضواحي العرب رجلاً ينكح كما تنكح المرأة، فكتب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه بذلك فاستشار الصحابة رضي الله عنهم فكان علي أشدهم قولاً فيه فقال: ما فعل هذا إلا فعل أمة من الأمم، وقد علمتهم ما فعل الله بهم، أرى أن يحرق بالنار، فكتب أبو بكر إلى خالد بذلك فحرقه (6) .

وقال بعض السلف: إذا ركب الذكر الذكر عجت الأرض إلى الله، وهربت الملائكة إلى ربها، وشكت إليه عظيم ما رأت، وهرب الشيطان خوفاً من اللعنة أن تصيبه.

وأول من أظهر هذه الفاحشة للناس قوم لوط كما أشار الله إلى ذلك بقوله العزيز ?وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ

(1) أخرجه أبو داود في سننه (4/158، رقم 4462) ، والترمذي في سننه (4/57، رقم 1456) ، وابن ماجه في سننه (2/856، رقم 2561) ، والحاكم في المستدرك (4/395، رقم 8047) وقال: صحيح الإسناد، والبيهقي في السنن الكبرى (8/231، رقم 16796) ، وأحمد في مسنده (1/300، رقم 2732) ، وأبو يعلى في مسنده (4/348، رقم 2463) ، وعبد بن حميد في مسنده (1/200، رقم 575) ، والدارقطني في سننه (3/124) عن ابن عباس.

(2)

انظر: تفسير القرطبي (7/243) .

(3)

انظر: تفسير القرطبي (7/243) .

(4)

انظر: تفسير القرطبي (7/243) .

(5)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/357، رقم 5388) .

(6)

أخرجه البيهقي في سننه الكبرى (8/232) .

ص: 155

العَالَمِينَ? [الأعراف: 80] .

وقال تعالى: ?أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ العَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ? [الشعراء: 165، 166] .

وكان فعلهم بهذه الفاحشة بتعليم إبليس لعنة الله.

وقال الحسن: لا ينكحون إلا الغرباء وكانت الغرباء يقصدون بلادهم لأنها كانت مخصبة.

وقيل: إن إبليس تمثل لهم في صورة شاب ثم دعاهم إلى دبره فنكح في دبره، فتعلموا منه واستمروا على هذه الفاحشة، فإبليس أول عمل هذه الفاحشة، فإنهم كانوا يدخرون الغلة ويطلبون بها الغلاء، فإذا عز الطعام قصد الناس إليهم من أطراف الدنيا فقال لهم إبليس لعنة الله: إني حكيم بأحوال السنين القادمة وسيكون فيها الغلاء الشديد، ولا تنبت الأرض لكم حب الحصيد، فاحفظوا ما عندكم، وامتنعوا من بيع غلتكم إن أردتم سلامة أنفسكم وأهليكم، فإذا انقضت المدة أعلمتكم وأمرتكم بالبيع فيحصل لكم الطعام الجزيل بالطعام القليل، فاقطعوا عنكم الغرباء وامنعوهم البيع والشراء، وإنهم لا ينقطعون حتى تفعلوا ما أقول لكم، كل غريب يأتي أرضكم فلوطوا به، شيخاً كان أو صبياً، سمحاً أو سرياً، ففعلوا ذلك بكل من يجئ، فلم يبق منهم أحد إلا وفعل ذلك.

فلهذا قيل: كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر عابر سبيل حذفوه بالحصى فأيهم أصابه كان أولى به، فيأخذ ما معه ويغرمه ثلاثة دراهم وينكحه، ولهم قاض بذلك.

هذا هو المنكر الذي نبه الله سبحانه وتعالى أنهم كانوا يفعلون بقوله جل ذكره: ?وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المُنكَرَ? [العنكبوت: 29] .

وقيل: المنكر الذي كانوا يفعلون أنهم كانوا يسخرون بأهل الطريق.

وقيل: المنكر أنهم كانوا يتضارطون في مجالسهم.

وقيل: المنكر أنهم كانوا يبصق بعضهم على بعض.

وقيل: المنكر أنه كان يجامع بعضهم بعضاً في مجالسهم.

وكان لوطا عليه السلام يدعوهم فلا يجيبون، ويعظهم فلا يرجعون ولا يتعظون، ويزجرهم فلا ينزجرون، وكان إبراهيم الخليل يزور لوطاً في كل عام، ويحذرهم الله وهم مصرون على معصيته، ثم نزلت الملائكة على إبراهيم فقال: ?قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ

ص: 156

أَيُّهَا المُرْسَلُونَ? [الذاريات 31] يعني: في ماذا جئتم؟ ?قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ? [الذاريات 32، 33] .

فصار إبراهيم يجادل الملائكة من شفقته على العباد ويرجو صلاحهم قبل الهلاك، حتى قالت الملائكة: أتجادلنا في قوم لوط، وكان جدالة لهم أنه قال لهم: لو كان في البلد مائة مؤمن أكنتم تعاقبوهم؟ قالوا: لا. قال: فخمسون؟ قالوا: لا. فخمسة؟ قالوا: لا ?قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَاّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الغَابِرِينَ? [العنكبوت 32] ثم مضت الملائكة إلى لوط وقالوا له: نحن ضيوفك وما عرف أنهم ملائكة وما قدر أن يرد الضيف، بل بقي محزوناً خائفاً عليهم من قومه، لعلمه بعادتهم وفسادهم، فإنهم دخلوا على لوط في صورة حسنة فقال لهم لوط: إن أهل البلد مفسدون، وكان الله تعالى قد أمر جبريل والملائكة أن لا يعذبوا قوم لوط حتى يشهد عليهم لوط بالفساد ثلاث مرات، فلما قال: إنهم مفسدون قال جبريل: هذه شهادة فلما أمسى قال لوط: إن هؤلاء القوم مفسدون قال جبريل: هذه شهادة ثانية فكرر لوط القول، وكانت امرأته منافقة فذهبت إلى البلد وأخبرتهم وقالت لهم: إن عند لوط مرد لهم وجوه حسان، وأخبر أهل البلد بعضهم بعضاً فجاءوا إلى دار لوط وقالوا: ?أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العَالَمِينَ? [الحجر: 70] معناه: أما قلنا لك لا تضف أحداً، فقال لهم: هؤلاء بناتي إن أردتم زوجتكم بهن واتركوا الفاحشة ولا تفضحوني في ضيفي فقالوا كلهم: لنا نساء ولا نريد إلا الضيوف، فقال لهم: ليس لي دار مانعة ولا حصن حصين، وجعل يتضرع فلم ينفع، فدخل الملائكة بيتاً وأغلقوا عليهم باباً فما قدروا أن يدخلوا على الملائكة، حتى كسروا الباب فضرب جبريل بجناحه وجوههم فعميت عيونهم، فقالوا: غداً نريك ما نعمل يا لوط، هذا سحر منك يا لوط، قد أعميت أبصارنا وضاق صدر لوط لذلك فقال له جبريل: إنا رسل ربك قال لهم لوط: هم كثيرون وأنا وحدي، فقال جبريل: إني لأجل هلاكهم قد جئت إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب، فلما مضى من الليل

ثلثه قال جبريل: يا لوط خذ الأهبة للخروج فقد وجب العذاب، فقال لوط: إن لي صهراً وله حق على فأريد أن أعرفه ذلك فقال: الأمر لك، فلما أخبر لوط صهره قال له: أسوة بالقوم إن هلكوا هلكت، فلما قرب الوقت أشار جبريل إلى سور البلد فانفتح فيه باب وخرج لوط وأهله، وقال له جبريل: لا يلتفت منكم أحد إلى ورائه، ثم أهلكهم الله بالحجارة أمطر عليهم حجارة من السماء بعد أن قلب ديارهم وأدخل جناحه تحت قرى قوم لوط وهي خمس

ص: 157

مدائن، وكان فيها أربعمائه ألف إنسان، وقيل: أربعة آلاف ألف، فرفع المدائن كلها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة، ونبيح الكلاب، ولم يكفأ لهم إناء، ولم ينتبه نائم، ثم قلبها فجعل عاليها سافلها وأمطر الله بعد ذلك عليهم حجارة أي: على المسافرين منهم أينما كانوا في البلاد وكانت هذه الحجارة من سجيل أي: طين مطبوخ، وكانت صلبة وكان مكتوباً عليها اسم من يرمي بها كما قال تعالى: ?مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ? أي: معلمة باسم صاحبها، قيل: دخل رجل منهم الحرم قبل وصول الحجر إليه، فكان ذلك الحجر الذي أرسل إليه معلقاً في السماء أربعين يوماً حتى خرج من الحرم فأصابه فأهلكه، قال: ?وَمَا هِيَ? أي: عقوبتهم ?مِنَ الظَّالِمِينَ? أي: العاملين بعملهم ?بِبَعِيدٍ? [هود: 83] .

قال عليه الصلاة والسلام: «لا تذهب الأيام ولا الليالي حتى تستحل هذه الأمة أدبار الرجال، كما استحلوا فروج النساء، فتصيب طوائف منهم حجارة من عند ربك» .

قال في نزهة المجالس جاء في الحديث: «أنه يؤتى يوم القيامة بأطفال ليس بهم رؤوس فيقول الله تعالى: من أنتم؟ فيقولون: نحن المظلومون، فيقول: من ظلمكم؟ فيقولون: آباؤنا كانوا يأتون الذكران من العالمين فألقوا في الأدبار، فيقول الله تعالى: سوقوهم إلى النار واكتبوا على وجوههم آيسين من رحمة الله» (1) .

ومن هذا القبيل سحاق النساء زنا بينهن.

وروي أن سليمان عليه السلام قال لإبليس: أي الأعمال أحب إليك، وأبغض إلى الله؟ قال: لولا منزلتك عند الله ما أخبرتك، إني لست أعلم شيئاً أحب إلىَّ وأبغض إلى الله من استغناء الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، وأول من علم النساء السحاق بنت إبليس وتسمى الدلهان، رأت الرجال قد استغنوا بالرجال فجاءت إلى النساء في صورة امرأة وشهت إليهن ركوب بعضهن على بعضهن وعلمتهن كيف يصنعن قاله الثعلبي.

قال المتولي من الشافعية: إذا كانت المرأة تميل إلى النساء، وخافت من النظر إلى وجه المرأة وكفيها الفتنة لم يجز لها النظر كما في الرجل مع الرجل.

قال الأذرعي: وهذا مما يبتلى به ذوات السحاق.

(1) قال العجلوني في كشف الخفاء بعد أن ذكر الحديث (2/522) : نقل ابن حجر المكي في الفتاوي عن الحافظ السيوطي أنه موضوع.

ص: 158

فائدة: إتيان البهيمة حرام لكن هل يوجب الحد أم يعزر اختلف العلماء في ذلك.

قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في كتابه الداء والدواء: اختلف العلماء فيمن أتى بهيمة قيل: يعزر وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، وقيل: حكمه حكم الزاني وهو قول الحسن، وقيل: حكمه حكم اللوطي نص عليه أحمد، فيخرج على الروايتين عنه في حده هل هو القتل حتماً أو هو كالزاني؟ ويشكل على قول الشافعي وغيره أنه يعزر فقط من غير قتل ولا حد ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة والحاكم (1) .

ويدل على تحريم إتيان البهيمة أيضاً ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ويقول: ادخلوا مع الداخلين، الفاعل والمفعول به، والناكح يده، والناكح البهيمة، وناكح المرأة في دبرها، والجامع بين المرأة وابنتها، والزاني بحليلة جاره، والمؤذي جاره حتى يلعنه الناس» (2) .

دل الحديث على تحريم إتيان البهيمة وتحريم الاستمناء باليد، وتحريم بقية السبعة.

وإخراج المني باليد حرام في الكتاب والسنة قال الله تعالى: ?َالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ العَادُونَ? [المؤمنون: 5، 6، 7] أي: الظالمون المتجاوزون الحلال إلى الحرام.

قال البغوي: في الآية دليل أن الاستمناء باليد حرام، وهو قول العلماء (3) .

قال ابن جريج: سئلت عطاء عنه فقال: «بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن قوماً يحشرون وأيديهم حبالى» وأظنهم هؤلاء (4) .

(1) أخرجه أبو داود في سننه (4/159، رقم 4464) ، والترمذي في سننه (4/56 رقم 1455) ، والنسائي في الكبرى (4/322، رقم 7340) ، وابن ماجه في سننه (2/856، رقم 2564) ، والحاكم في المستدرك (4/395، رقم 8049) وقال: صحيح الإسناد. وأخرجه أيضا: البيهقي في سننه الكبرى (8/233 رقم 16812) ، وأبو يعلى في مسنده (4/347، رقم 2462) عن ابن عباس.

(2)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/378، رقم 5470) ، والديلمي في الفردوس (2/332، رقم 3497) عن أنس بن مالك.

(3)

انظر: تفسير البغوي (3/303) .

(4)

انظر: تفسير البغوي (3/303) .

ص: 159

وعن سعيد بن جبير: عذب الله أمة كانوا يعثبون بمذاكيرهم (1) .

والواجب على فاعله التعذير كما قاله ابن الملقن وغيره، نعم عند أبي حنيفة وأحمد إذا خاف على نفسه العنت نقله في الحلية عنهما ثم قال: وله وجه عندي، ويباح الاستمناء بيد زوجته أو جاريته، لكن قال القاضي حسين: مع الكراهة لأنه في معنى العزل.

* * *

(1) انظر: تفسير البغوي (3/303) .

ص: 160