المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس السابع والثلاثون - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ٢

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس السابع والثلاثون

‌المجلس السابع والثلاثون

في بيان فضائل الوضوء وأركانه وشرائطه

وفي بيان فوائد كثيرة متعلقة بذلك

وأحببت أن أفتحه بخطبة ذكرها الغزالي في أول كتاب أسرار الطهارات من كتابه أحياء علوم الدين وهي:

الحمد لله الذي تلطف بعباده فتعبدهم بالنظافة، وأفاض على قلوبهم تزكية لسرائرهم أنواره وإلطافه، وأعد لظواهرهم تطهيراً لها الماء المخصوص بالرقة واللطافة، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المستغرق بنور الهدي أطراف العالم وأكنافه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين صلاة تحمينا بركاتها يوم المخافة، وتنتصب جنة بيننا وبين كل آفة (1) .

قَالَ البُخَارِي:

كِتَابُ الوُضُوءِ

قال البلقيني: وإنما ذكر البخاري كتاب الوضوء بعد كتاب العلم وقبل كتاب الصلاة، لأن بعد العلم يكون العمل، وأفضل الأعمال البدنية الصلاة، ولا يتوصل إليها إلا بالطهارة.

«الوضوء» بضم الواو اسم للفعل أعني: غسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغسل الرجلين، وبفتحها اسم للماء الذي يتوضأ به هذا هو المشهور فيهما، ومثله «الطهور والطهور» سمي هذا الفعل «وضوء» لحصول النظافة والنضارة به، فإنه مشتق من الوضاءة بالمد، وهو النظافة والنضارة، فإذا غسل المتوضئ هذه الأعضاء صار وضيئاً أي: نظيفا ذا ضياء وحسن.

(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/125) .

ص: 230

باب مَا جَاءَ فِي قَولِ اللهِ عز وجل

? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ ? [المائدة: 6](1)

استدل البخاري بهذه الآية على وجوب الوضوء.

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:

الوضوء بالضم هو الفعل، وبالفتح الماء الذي يتوضأ به على المشهور فيهما، وحكي في كل منهما الأمران. وهو مشتق من الوضاءة، وسمي بذلك لأن المصلى يتنظف به فيصير وضيئا.

وأشار بقوله: «ما جاء» : إلى اختلاف السلف في معنى الآية فقال الأكثرون: التقدير إذا قمتم إلى الصلاة محدثين. وقال آخرون: بل الأمر على عمومه من غير تقدير حذف، إلا أنه في حق المحدث على الإيجاب، وفي حق غيره على الندب. وقال بعضهم: كان على الإيجاب ثم نسخ فصار مندوباً. ويدل لهذا ما رواه أحمد وأبو داود أن أسماء بنت زيد بن الخطاب حدثت أباه عبد الله بن عمر عن عبد الله بن حنظلة الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر، فلما شق عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث. ولمسلم من حديث بريدة:«كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله. فقال: عمدا فعلته» أي لبيان الجواز.

واختلف العلماء أيضا في موجب الوضوء فقيل: يجب بالحدث وجوبا موسعا، وقيل به وبالقيام إلى الصلاة معا ورجحه جماعة من الشافعية، وقيل بالقيام إلى الصلاة حسب، ويدل له ما رواه أصحاب السنن من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة» واستنبط بعض العلماء من قوله تعإلى: ?إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ? [المائدة: 6] إيجاب النية في الوضوء لأن التقدير إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضؤوا لأجلها، ومثله قولهم: إذا رأيت الأمير فقم، أي لأجله. وتمسك بهذه الآية من قال: إن الوضوء أول ما فرض بالمدينة، فأما ما قبل ذلك فنقل ابن عبد البر اتفاق أهل السير على أن غسل الجنابة إنما فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة كما فرضت الصلاة، وأنه لم يصل قط إلا بوضوء. قال: وهذا مما لا يجهله عالم. وقال الحاكم في المستدرك: وأهل السنة بهم حاجة إلى دليل الرد على من زعم أن الوضوء لم يكن قبل نزول آية المائدة. ثم ساق حديث ابن عباس: «دخلت فاطمة على النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي قالت: هؤلاء الملأ من قريش قد تعاهدوا ليقتلوك. فقال: ائتوني بوضوء. فتوضأ

الحديث» . قلت: وهذا يصلح رداً على من أنكر وجود الوضوء قبل الهجرة، لا على من أنكر وجوبه حينئذ. وقد جزم ابن الجهم المالكي بأنه كان قبل الهجرة مندوبا وجزم ابن حزم بأنه لم يشرع إلا بالمدينة، ورد عليهما بما أخرجه ابن لهيعة في المغازي التي يرويها عن أبي الأسود يتيم عروة عنه أن جبريل علم النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء عند نزوله عليه بالوحي، وهو مرسل، ووصله أحمد من طريق ابن لهيعة أيضا لكن قال: عن الزهري عن عروة عن أسامة بن زيد عن أبيه.

وأخرجه ابن ماجه من رواية رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهري نحوه، لكن لم يذكر زيد بن حارثة في السند.

وأخرجه الطبراني في الأوسط من طريق الليث عن عقيل موصولا، ولو ثبت لكان على شرط الصحيح، لكن المعروف رواية ابن لهيعة. انظر فتح الباري (1/232 - 233) .

ص: 231

سؤال: فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي أن الوضوء يجب لكل صلاة، سواء كان الإنسان محدثاً أو متوضأ، مع إنه لا يجب عليه إذا كان متوضأ وأراد الصلاة أن يتوضأ؟

فالجواب عنه من وجوه:

الأول: أنه لابد من تقدير في الآية، وهو أن يقال: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين كذا قال الجمهور.

الثاني: لا حاجة إلى التقدير فإن الوضوء كان في أول الإسلام يجب لكل صلاة فرض عملاً بظاهر الآية، ثم نسخ هذا الحكم يوم فتح مكة، حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم الصلوات الخمس بوضوء واحد، فوجوب الوضوء لكل فرض المستفاد من الآية كان في أول الإسلام ثم نسخ، لكن ضعف هذا النووي في شرح مسلم.

الثالث: أن الأمر بوجوب الوضوء لكل صلاة محمول في حق المتوضئ على الندب، وفي حق المحدث على الوجوب، وإن تجديده لكل صلاة مندوب إليه، فالحاصل: أنه يجوز للإنسان أن يصلي الصلوات الخمس وما شاء من الفوائت والنوافل بوضوء واحد، ودليله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ عند كل صلاة، فلما كان يوم الفتح صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد فقال عمر: إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله قال: «ياعمر فعلته عمداً» أي: لبيان الجواز رواه مسلم (1) .

لكن الأفضل والمستحب أن يتوضأ لكل صلاة وإن كان على طهارة.

فقد روى أحمد بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء» (2) .

وروي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات» (3) .

(1) أخرجه مسلم (1/232، رقم 277) . وأخرجه أيضا: أبو داود (1/44، رقم 172) ، والترمذي (1/89، رقم 61) وقال: حسن صحيح. والنسائي (1/86، رقم 133) ، والدارمي (1/176، رقم 659) ، وابن خزيمة (1/9، رقم 12) ، وابن الجارود (1/13، رقم 1) ، وعبد الرزاق (1/54، رقم 158) ، وأحمد (5/351، رقم 23023) ، وابن حبان (4/607، رقم 1708) عن بريدة.

(2)

أخرجه أحمد (2/258، رقم 7504)، قال الهيثمي (1/221) : فيه محمد بن عمر بن علقمة، وهو ثقة حسن الحديث. والنسائي في الكبرى (2/197، رقم 3039) عن أبي هريرة.

(3)

أخرجه الترمذي (1/87، رقم 59) وقال: هذا إسناد ضعيف. وأخرجه أيضا: أبو داود (1/16، رقم 62) ، وابن ماجه (1/170، رقم 512) ، والطحاوي (1/42) ، وابن أبي شيبة (1/16، رقم 53) ، وعبد بن حميد (ص 271، رقم /859) عن عمر.

ص: 232

وقال: «الوضوء على الوضوء نور على نور» قاله الغزالي قال العراقي في تخريج الأحياء ولم أجد له أصلاً (1) .

قال العلماء: وإنما يستحب تجديد الوضوء بالأول صلاة ما فرضاً كانت أو نفلاً، وإلا فلا يستحب.

سؤال: فإن قيل: إن هذه الآية مدنية بإجماع العلماء، والوضوء فرضه الله تعالى بمكة مع فرض الصلاة؟

قال ابن عبد البر: معلوم عند جميع أهل المغازي أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل منذ فرضت عليه الصلاة إلا بوضوء، ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند، فكيف استدل البخاري وغيره من العلماء على وجوب الوضوء بهذه الآية وهي مدنية؟

فالجواب: أن هذه الآية من الآيات التي تأخر نزولها عن حكمها.

قال شيخنا العلامة جلال الدين السيوطي رحمه الله: من القرآن ما تأخر حكمه عن نزوله، ومنه ما تأخر نزوله عن حكمه.

يعني: أن النزول قد يكون سابقاً على الحكم كقوله: ?قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى? [الأعلى: 14، 15] فإنها نزلت في زكاة الفطر، وكان نزولها بمكة وزكاة الفطر فرضها الله تعالى في المدينة في السنة الثانية من الهجرة، لأنه لم يكن بمكة عيد ولا زكاة ولا صوم، فقد تأخر الحكم فيها عن النزول، وإن الحكم قد يكون سابقاً على النزول، ومثل له بآية الوضوء قال: والحكمة في نزول آية الوضوء بالمدينة بعد تقدمة العمل به وفرضه بمكة، ليكون فرضه متلواً في التنزيل.

فائدة: اختلف العلماء في الوضوء متى يجب؟

فقيل: يجب بالحدث وجوباً موسعاً.

وقيل: يجب بإرادة القيام إلى الصلاة، والأصح أنه يجب بهما أي: بالحدث وإرادة القيام إلى الصلاة، فعلى هذا لا يجب قبل دخول الوقت لكن يستحب، بل هو أفضل

(1) انظر: إحياء علوم الدين (1/135)، وقال المنذري في الترغيب والترهيب (1/98) : لا يحضرني له أصل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولعله من كلام بعض السلف، والله أعلم. وقال ابن حجر في فتح الباري (1/234) : حديث ضعيف. وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/447) : ذكره في الإحياء وقال مخرجه العراقي لم أجد له أصلا، وسبقه لذلك المنذري، وقال الحافظ ابن حجر: حديث ضعيف، ورواه رزين في مسنده.

ص: 233

من فعله بعد دخول الوقت، وإن كان فعله بعد دخول الوقت واجباً فهذه سنة أفضل من فرض، وهي أحد المسائل الثلاث التي السنة فيها أفضل من الفرض.

الثانية: ابتداء السلام فإن رده فرض، والابتداء أفضل من الرد.

الثالثة: إبراء المعسر من كل الدين أو بعضه فإنه سنة، وهو أفضل من الصبر عليه إلى ميسرة وهو فرض، وقد ورد في فضل من انظر معسراً وإبراءه من الدين كله أو بعضه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من أنظر معسراً ووضع له أظلم الله يوم القيامة تحت ظل عرشه، يوم لا ظل لا ظله» رواه الترمذي (1) .

وفي ذلك أيضاً نفع لمن عليه الدين وتنفيس كربه، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من أقر عين مؤمن أقر الله عينه يوم القيامة» (2) .

وقال: «الخلق كلهم عيالاً لله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله» (3) .

وقال: «من أغاث ملهوفاً كتب الله له ثلاثاً وسبعين حسنة، واحدة يصلح بها آخرته ودنياه، والباقي في الدرجات» (4) .

وقد نظمها شيخنا العلامة السيوطي فقال:

الفرض أفضل من تطوع عابد

حتى ولو قد جاء منه بأكثر

إلا الله التطهر قبل وقت وابتداء

للسلام كذاك إبراء المعتسر

لطيفة في المعنى: قال في نزهة المجالس: إذا كان يوم القيامة أمر بطبقات المصلين إلى الجنة.

فتأتي أول زمرة وجوهم كالشمس فتقول الملائكة: من أنتم؟ قالوا: نحن المحافظون على الصلاة، قالوا: كيف محافظتكم على الصلاة؟ قالوا: كنا نتوضأ قبل الوقت.

ثم تأتي زمرة أخرى وجوههم كالبدر فتقول الملائكة: من أنتم؟ قالوا: نحن

(1) أخرجه الترمذي (3/599، رقم 1306) وقال: حسن صحيح غريب. وأخرجه أيضا: أحمد (2/359، رقم 8696) عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه ابن المبارك (1/239، رقم 685) عن عبيد الله بن زحر عن بعض أصحابه مرسلاً.

(3)

أخرجه أبو يعلى (6/65، رقم 3315)، قال الهيثمي (8/191) : رواه أبو يعلى والبزار، وفيه يوسف بن عطية الصفار، وهو متروك. والبيهقي شعب الإيمان (6/43، رقم 7445) عن أنس.

(4)

أخرجه أبو يعلى (7/255، رقم 4266)، قال الهيثمي (8/191) : رواه أبو يعلى والبزار وفي إسنادهما زياد بن أبي حسان وهو متروك. والبيهقي في شعب الإيمان (6/120، رقم 7670) عن أنس.

ص: 234

المحافظون على الصلاة، قالوا: كيف كانت محافظتكم على الصلاة؟ قالوا: كنا نتوضأ قبل الوقت.

ثم تأتي زمرة أخرى وجوههم كالكوب فتقول الملائكة: من أنتم؟ قالوا: نحن المحافظون على الصلوات، قالوا: كيف كانت محافظتكم على الصلاة؟ قالوا: كنا نتوضأ بعد الأذان.

فقد تبين لك من هذا أن الوضوء قبل الوقت أفضل، إذ الزمرة التي كانت تتوضأ قبل الوقت جاءت وجوهها كالقمر ليلة البدر، والتي كانت تتوضأ بعد الوقت جاءت وجوهها كالكوكب، ولا شك في تفضيل القمر على سائر الكواكب، فالذي جاء على صورته كذلك، وأفضل من الزمرتين المذكورتين الزمرة الأولى، وهى التي جاءت وجوههم على صورة الشمس، فإن هذه الزمرة كانت تتوضأ قبل الوقت وتذهب إلى المسجد وتنتظر الأذان، فلهذا سبقت الزمر كلها، وجاءت على صورة الكوكب الأعظم وهو الشمس.

لكن لنا وضوء لا يصح إلا بعد دخول الوقت وهو: وضوء صاحب الضرورة كما سنذكره.

واعلم أن الوضوء له فرائض وشرائط وفضائل وسنن وآداب:

أما فرائضه: فقد اختلف أرباب المذاهب:

فعند أبي حنيفة فرائض الوضوء أربعة: غسل الوجه، وغسل اليدين مع المرفقين، ومسح بعض ربع الرأس، وغسل الرجلين مع الكعبين.

وعند إمامنا الشافعي إمام الأئمة -قدس الله سره ونور ضريحه- فرائض الوضوء ستة:

الفرض الأول: النية في الوضوء لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» (1) .

وعند أبي حنيفة لا تجب النية في الوضوء ولا في الغسل، ويصحان عنده بدونها،

(1) أخرجه البخاري (1/3، رقم 1) ، ومسلم (3/1515، رقم 1907) ، والترمذي (4/179، رقم 1647) ، وأبو داود (2/262، رقم 2201) ، والنسائي (6/158، رقم 3437) ، وابن ماجه (2/1413، رقم 4227) ، والحميدي (1/16، رقم 28) ، وأحمد (1/25، رقم 168) ، والبيهقي (1/41، رقم 181) ، وابن خزيمة (1/73، رقم 142) ، والدارقطني (1/50) ، وأبو عوانة (4/487، رقم 7438) ، والبزار (1/380، رقم 257) ، وهناد (2/440، رقم 871) عن عمر بن الخطاب.

ص: 235

ويحتاج إلى الجواب عن الحديث.

نعم عند علمائنا الشافعية وضوء وغسل لا يحتاج كل منهما إلى النية وهو وضوء الميت وغسله فإنهما يصحان بلا نية من الغاسل.

بل لنا وضوء آخر مستقل، وغسل آخر مستقل غير وضوء الميت وغسله فيهما النية، بل يصح الوضوء وحده بدونهما، وكذا الغسل وصورته في الوضوء، والغسل من ماء السيل فإن العلماء قالوا: يستحب إذا سال الماء في الوادي أن يغتسل منه وأن يتوضأ، فإن لم يجمعهما وأراد الاقتصار على أحدهما فالاقتصار على الغسل أفضل وبعده الوضوء.

قال الأسنوي: وهل هما عبادتان يشترط فيهما النية أو لا؟ المتجه الثاني أي عدم اشتراط النية فيهما فهذا وضوء لا يجب فيه النية وغسل كذلك، وقد نظمت هذا السؤال فقلت:

يا عالما قد حاز كل الفضل

بين لنا ما صورة في الغسل

خالية عن نية معتبرة

في غير غسل ميت مصورة

وفي وضوء مستقل مثله

فأنت بمن شاع فينا فضله

أبقاك ربي دائماً مفيدا

مؤيداً على العدا فريدا

ومحل النية: القلب، ويكفي الاقتصار عليه ولو نوى بلسانه وقلبه غافل لا يكفيه ذلك، نعم الأكمل أن ينوي بقلبه ويتلفظ بلسانه، والنية في الوضوء لها ثلاث كيفيات:

الكيفية الأولى: أن يقول المتوضئ: نويت رفع الحدث.

قال فقهاؤنا: ولو كان على الإنسان أحداث كأن بال ولمس ونام ونوى رفع أحديهما بأن قال: نويت رفع حدث النوم مثلاً كفته هذه النية وارتفع حدثه، قال: وإن نوى غير ما عليه كأن نوى رفع حدث النوم مع أنه لم ينم وإنما بال فهل يصح وضوءه بهذه النية وهل يرتفع حدثه؟ فيه تفصيل وهو أن يقال: إن فعل ذلك عمداً لم يصح وضوءه، وإن فعله غلطاً صح.

الكيفية الثانية: أن ينوي استباحة شيء مفتقراً إلى طهر، والشيء المفتقر إلى الطهر الصلاة واستباحة الطواف أو استباحة مس المصحف أو نحو ذلك صح وضوءه.

سؤال: فإن قيل: إذا نوى استباحة شيء مفتقراً إلى طهر، ولكن يتعذر فعله بذلك الوضوء في ذلك الوقت، كمن نوى استباحة الطواف وهو «بحلب» مثلاً، أو استباحة صلاة العيد وهو في «رجب أو شعبان» مثلاً فهل يصح وضوءه أم لا؟

ص: 236

فالجواب: أنه يصح وضوءه بهذه النية، ويصلي بها جميع الصلوات لأنه نوى ما لا يستباح إلا بالوضوء، وإذا قال: نويت استباحة قراءة القرآن، ودخول المسجد لم يصح وضوءه بهذه النية، فإن قرأته للقران من غير مس المصحف تباح بدون وضوء، وكذلك دخول المسجد يباح بدون الوضوء، نعم يستحب الوضوء لقراءة القرآن ولداخل المسجد، وسنذكر في المجالس الآتية أن الوضوء يستحب في أكثر من أربعين صورة.

الكيفية الثالثة: أن يقول: إني نويت أداء فرض الوضوء، ويكفي أن يقول:«إني نويت أداء الوضوء» بإسقاط لفظه «الفرض» ، ويكفي أن يقول:«نويت فرض الوضوء» بإسقاط لفظه «أداء» ، بل يكفي أن يقول:«نويت الوضوء» .

سؤال: فإن قيل: كيف يصح الوضوء بقول الإنسان: «نويت فرض الوضوء» إذا توضأ قبل دخول الوقت، مع أن وقت الوضوء قبل دخول الوقت سنة وليس بفرض؟

وسؤال آخر وهو: أن يقال: كيف يصح وضوء الصبي بقوله: «نويت فرض الوضوء» والوضوء في حقه ليس بفرض؟

فالجواب عن السؤالين: أنه ليس المراد بالفرض هنا: لزوم الإتيان به، وإلا لامتنع وضوء الصبي بهذه النية بل المراد كونه شرط للصلاة، وشرط الشيء يسمى فرضاً.

هذه الكيفيات الثلاث هي المشهورة، ولنا كيفية أخرى يصح الوضوء بها وهي أن يقول:«نويت الطهارة عن الحدث» ، أو «نويت الطهارة للصلاة» .

فإن قال: «نويت الطهارة» ولم يزد على ذلك، قيل: لا يصح وضوءه لأن الطهارة تكون عن خبث وعن حدث فلا يحصل التميز بقوله: «نويت الطهارة» إلا إذا قال عن الحدث أو للصلاة، ورجحه صاحب الروض.

وقيل: يصح وهو ظاهر كلام الرافعي وقواه النووي في المجموع.

وهذه الكيفيات يتخير فيها السليم وهو من سلم من سلس البول ونحوه، وأما الضرورة كمن حدثه دائم أي: كمن به سلس البول والمستحاضة فلا يكفيه أن يقول: «نويت رفع الحدث» لأن حدثه لا يرتفع بل يكفيه أن يقول: «نويت استباحة الصلاة» مثلاً، أو يقول:«نويت أداء الوضوء» كما صرح في الحاوي الصغير، وحكمه حكم المتيمم، فإذا نوى استباحة الفرض استباحه واستباح النفل، وإن نوى استباحة النفل استباح النفل فقط ولا يصلي به الفرض.

فائدة: يصح الوضوء والصلاة وغيرهما من العبادات بالنية من غير إضافة إلى الله تعالى، فإن العبادة لله تعالى وإن لم يضفها إليه.

ص: 237

قال العلماء: ويجب أن تكون النية عند أول مغسول من الوجه لتقترن بأول الفرض كنية الصلاة، وإذا نوى عند غسل الوجه ولم ينو قبل ذلك لم يحصل له ثواب السنن السابقة على الصحيح، فينبغي أن ينوي في ابتداء الوضوء عند غسل كفية ليثاب على السنن السابقة فيقول:«نويت الطهارة للصلاة» فإذا وصل إلى غسل الوجه ينوي رفع الحدث، أو أداء فروض الوضوء، واستباحة الصلاة كما تقدم.

ولو نوى عند المضمضة مثلاً رفع الحدث، فإن استصحب هذه النية إلى غسل الوجه جاز بل هو الأفضل ليثاب، على السنن السابقة، وإن كانت قبل غسل الوجه فلا تكفيه هذه النية، بل لابد من إعادتها عند غسل الوجه، ولا يجب على المتوضئ أن ينوي عند كل عضو، بل تكفي هذه النية عند غسل الوجه عن الكل، نعم لو فرقها على أعضائه جاز، بأن ينوي عند كل عضو رفع الحدث عنه بأن يقول عند غسل الوجه: نويت رفع حدث الوجه، وعند اليدين: نويت رفع حدث اليدين، وهكذا.

الفرض الثاني: غسل الوجه، سمي «وجهاً» لحصول المواجهة به، وله طول وعرض، فحده طولاً من منابت شعر رأسه غالباً إلى منتهي لحييه، وحده عرضاً من الأذن إلى الأذن، وإذا أنبت على جبهته شعر يسمى «الغمم» يجب غسله مع الوجه، كما يجب غسل الحاجب معه، وسمي «حاجباً» لأنه يحجب عن العين شعاع الشمس، ويجب مع غسل الوجه غسل «الهدب» بالدال المهملة وهو: الشعر النابت على جفن العين، وغسل «الشارب» وهو الشعر النابت على الشفة العليا، وسمي شارباً: لملاقاته فم الإنسان عند الشرب، وغسل «العنفقة» : وهو الشعر النابت تحت الشفة السفلى، وغسل «العذار» وهو: ما حاذى الأذن بين الصدع والعارضين.

وغسل هذه الشعور مع بشرتها واجب، سواء أخفت أم كثفت.

وأما «اللحية» فإن كانت خفيفة وجب غسل ظاهرها وباطنها، وإن كانت كثيفة وجب غسل ظاهرها فقط ولا يجب غسل باطنها، لأنه صلى الله عليه وسلم غسل وجه بغرفة واحدة كما رواه البخاري، وكانت لحيته الشريفة كثيفة، وبعضهم عبر: بعظيمة، وبعضهم: بغزيرة.

والكثة: هي التي لا ترى بشرتها في مجلس التخاطب، بخلاف الخفيفة، ولو كان بعض اللحية خفيفاً وبعضها كثيفاً أو تميزا فلكل حكمه، وإن لم يتميزا وجب غسل الكل ظاهراً وباطنا، نعم لنا لحية كثة يجب غسل ظاهرها وباطنها وهي: ما إذا أنبت للمرأة والخنثى المشكل لحية كثة لندرتهما أو ندرة كثافتها، ولأنه يندب للمرأة إزالتها

ص: 238

لأنها مثله في حقها.

فالحاصل: أنه يجب غسل باطن شعور الوجه كما يجب غسل ظاهر باطن اللحية الكثة، إلا إذا كانت من المرأة والخنثى، هذا إذا كانت في حد الوجه، وأما الشعور الخارجة عن حده كشعر اللحية النازل وشعر العذار والسبال فإن كانت كثيفة وجب غسل ظاهرها فقط، وإن كانت خفيفة وجب غسل الظاهر والباطن منها.

أما النزعتان وهما بياضان يكتنفا الناصية والصدغين، وهما فوق الأذنين متصلان بالعذرين فليسا من الوجه.

فائدة: لو خلق للإنسان وجهان وجب غسلهما، ولو خلق للإنسان رأسان كفاه المسح على بعض أحديهما، والفرق أن الواجب في الوجه غسل جميعه فيجب غسلهما، لحصول المواجهة بهما، والواجب في الرأس مسح بعض ما يسمى رأساً، وذلك يحصل ببعض أحدهما.

الفرض الثالث: غسل اليدين مع المرفقين.

فائدة: في المرفقين لغتان: أحدهما: كسر الميم وفتح الفاء، والثانية: فتح الميم وكسر الفاء.

سؤال: فإن قيل: ما الدليل على وجوب غسل المرفقين مع اليدين؟

فالجواب: الدليل على ذلك قوله تعالى: ?وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ? [المائدة: 6] والإجماع، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم المبين للوضوء المأمور به، فإنه صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم اليسرى حتى أشرع في العضد.

فإن قيل: لا دليل في الآية على وجوب غسل المرفقين مع اليدين، لأن «إلى» لنهاية الغاية، والغاية لا تدخل في المغيا؟

فالجواب: أن اليد حقيقة من رؤوس الأصابع إلى المنكب على الأصح، فإما أن تجعل اليد في الآية مجازاً إلى المرفق، وتدخل الغاية في المغيا هنا بقرنيتي الإجماع والاحتياط للعبادة، وإما أن تجعل باقية على حقيقتها إلى المنكب، وتجعل حينئذ غاية الغسل وتدخل الغاية في المغيا أيضاً لما تقدم كما قال بذلك جماعة، أو تجعل «إلى» حينئذ للترك المقدر، وتخرج الغاية حينئذ عن المغيا كما قال به كما قال جماعة أخرى، والمعنى على الأول: اغسلوا أيديكم من رؤوس أصابعها إلى المرافق، وعلى الثاني: اغسلوا أيديكم واتركوا منها إلى المرافق.

وأوضح من هذا الجواب أن يقال: إن «إلى» في الآية بمعنى مع كما في قوله تعالى ?

ص: 239

مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ? [آل عمران: 52] أي: مع الله، وفي قوله تعالى: ?وَلَاتَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ? [المائدة: 2] أي: مع أموالكم.

قال العلماء: فإن قطع شيء من يد الإنسان وجب غسل ما بقي لقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (1) وإن قطعت من مرفقه وجب غسل رأس عظم العضد لأنه من المرفق، وإن قطعت من فوق المرفق سقط هذا الفرض، وندب غسل باقي عضده، لئلا يخلو العضو عن طهارة.

سؤال: فإن قيل: من القواعد المشهورة أن التابع يسقط بسقوط المتبوع، كسقوط رواتب الفرائض عن المجنون تبعاً للفرائض، فلأي شيء قالوا هنا يستحب غسل باقي عضده مع سقوط غسل اليد عنه؟

فالجواب: أن سقوط المتبوع عن المجنون رخصته فالتابع أولى به، وسقوطه هنا ليس رخصته بل لتعذره، فحسن الإتيان بالتابع محافظة على العبادة بقدر الإمكان، ولأن التابع للفرائض شرع تكملة لنقصها، فإذا لم يكن متبوع فلا تكملة، وهنا لم يشرع تكملة للمتبوع، لأنه كامل بالمشاهدة، فتعين أن يكون مطلوباً لنفسه.

ويجب غسل اليدين ما عليهما من شعر، وغسل يد زائدة إن نبت بمحل الفرض، وإن نبت بغير محل الفرض غسل ما حاذى منها محل الفرض، لوقوع اسم اليد عليه، ولو خلق له يدان أصليتان أو أحدهما أصلية والأخرى زائدة ولم تتميز وجب غسلهما، أما إذا تميزت الزائدة بفحش قصر ونقص أصابع وضعف بطش ونحوه فلا يجب غسلها إذا كانت في غير محل الفرض.

سؤال: فإن قيل: قالوا في السرقة إذا خلق له يدان أصليتان يقطع إحداهما فقط فلأي شيء قالوا هنا إذا خلق له يدان يجب غسلهما؟

فالجواب: أن الوضوء مبناه على الاحتياط لأنه عبادة، وأما السرقة فإنه حد والحد مبناه على الدرء لأنه عقوبة.

قال الفقهاء: ولو كشطت جلدة العضد ونزلت منه لم يجب غسلها مع غسل اليدين ولا غيره، لأن اسم اليد لا يقع عليها، ولو كشطت جلدة الذراع منه وجب غسلها لأنها من اليد سواء المحاذي وغيره، إلا إذا التصقت بعد كشطها من أحدهما

(1) أخرجه ابن حبان (9/18، رقم 3704) ، وابن خزيمة (4/129، رقم 2508) عن أبي هريرة.

ص: 240

بالآخر فإنه يجب غسل المحاذي للفرض دون غيره، وإن تجافت بعد أن التصقت عن محل الفرض لزمه غسل ما تحتها أيضاً لندرته، ولو كشطت جلدة أحدهما وانتهى كشطها إلى الآخر ثم تدلت منه، فالاعتبار بما تدلت منه، فإذا بلغ كشطها من العضد إلى الذراع وجب غسلها معه، لأنها صارت جزءاً من محل الفرض، وإذا انتهى كشطها من الذراع إلى العضد فلا يجب، لأنها صارت جزءاً من غير محل الفرض.

الفرض الرابع: بعض الرأس سواء أمسح على بشرته أو على شعره الذي لا يخرج عن حده ولو قدر رأس أبرة، حتى لو أخذ أبرة وغمسها في الماء ووضعها على رأسه كفاه عند علمائنا الشافعية.

أما إذا مسح على الشعر الذي يخرج عن حد الرأس بالمد من جهة سفله فإنه لا يكفي، ولو قطر الماء على رأسه كفى.

قال في الأنوار: ولو قطرت على خمارها ووصلت رطوبتها إلى شعرها حصل الفرض، ولو وقف تحت المطر فنزل على رأسه كفى، ولو غسل رأسه بدل مسحه كفاه ولم يكره ولم يستحب، بخلاف ما لو غسل الخف بعد لمسه فإنه يكره، لأنه يعيبه، ولو مسح رأسه ببرد وثلج لا يذوبان كفى لحصول المقصود به، ولو كان عنده ثلج أو برد فذاب فتوضأ به واغتسل كفاه، بل يجب استعماله إن لم يجد غيره، واختلف الروايات عن أبي حنيفة في مسح الرأس، ففي رواية: أنه يجزئ قدر ربع الرأس، وهو الراجح عندهم، وفي رواية أخرى: مقدار الناصية، وفي رواية أخرى: قدر ثلاث أصابع، ومذهب الإمام أحمد والإمام مالك وجوب استيعاب الرأس فلا يجزئ سواه، واكتفى الشافعي بمسح البعض، لأن المفهوم من المسح عند إطلاقه، والله تعالى قال ?وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ? [النائدة: 6] وأطلق فدل على الاكتفاء بالبعض، وأيضاً الباء إذا دخلت على متعدد كما في الآية تكون للتبعيض، أو على غيره كما في قوله تعالى: ?وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ? [الحج: 29] تكون للإلصاق.

سؤال: فإن قيل: لأي شيء وجب تعميم مسح الوجه واليدين في التيمم ولم يجب تعميم الرأس في الوضوء مع أن آية التيمم وهي: ?فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ? [النساء: 43] كآية مسح الرأس؟

فالجواب: إنما وجب الإستيعاب في التيمم لثبوت ذلك بالسنة، ولأنه يدل عن الوضوء فاعتبر مبدله، ومسح الرأس أصل فاعتبر لفظه.

فإن قيل: لأي شيء لم يجب تعميم مسح الخف بالماء مع أنه بدل عن غسل

ص: 241

الرجلين؟

فالجواب: أن التعميم يفسده، مع أن مسحه مبني على التخفيف لجوازه مع القدرة على الغسل، بخلاف التعميم.

الفرض الخامس: غسل الرجلين مع الكعبين من كل رجل، وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم، ولا يجب غسل الرجلين في حق لابس الخفين عيناً، بل هو مخير بين الغسل وهو أفضل لأصالته، ولمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم غالباً، وبين المسح، وذهبت الشيعة إلى أن الواجب في الرجلين في الوضوء المسح لا الغسل، واستدلوا على ذلك بقرأة من قرأ ?وَأَرْجِلِكُم? بالجر وقالوا أنه معطوف على ?بِرُءُوسِكُمْ? فوجب فيهما المسح كوجوبه في المعطوف عليه.

واستدل أهل السنة على وجوب غسل الرجلين بقوله تعالى: ?وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ? [المائدة: 6] على قراة النصب والجر، أما على قراءة النصب فإنه معطوف على ?وُجُوهَكُمْ? لفظاً، وأما قراءة الجر فإنه معطوف أيضاً على ?وُجُوهَكُمْ? لمجاورته لرؤوسكم، ويسمى جر الجوار فهو كقوله تعالى: ?عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ? [هود: 26] والأليم صفة للعذاب وإنما جر بالمجاورة، وكقولهم:«حجر ضب خرب» فهو وإن كان مجرور لفظاً فهو منصوب معنى عطفاً على ?وُجُوهَكُمْ? والمعطوف على المغسول مغسول، فبطل ما قاله الشيعة من أنه معطوف على الممسوح فوجب مسحه.

الفرض السادس: الترتيب في أفعاله خلافاً لأبي حنيفة دليلنا عليه فعله صلى الله عليه وسلم المبين للوضوء المأمور به قال الإمام الرازي: إنما أوجب الشافعي الترتيب في الوضوء لوجوه عديدة مستنبطة من الآية وساقها وذكر منها:

أن الترتيب لو لم يكن واجباً لكان مقتضى البلاغة أن يبدأ الله تعالى في الآية بالرأس ويختم بالرجلين، فلما بدأ بالوجه وختم بهما دل على وجوبه.

وأيضاً: لو لم يكن الترتيب واجباً لكان مقتضى البلاغة أن يميز الممسوح من المغسول فلما ذكر سبحانه ممسوحاً بين مغسولات، وتفريق للتجانس لا ترتكبه العرب إلا لفائدة، وفائدته هنا وجوب الترتيب لا ندبه بقرينة الأمر في قوله: ?فَاغْسِلُوا? وإنما بدأ الله دل على وجوبه.

ها هنا فوائد:

الأولى: بين القفَّال في كتابه محاسن الشريعة حكمة ترتيب هذه الأعضاء فقال: قدم الوجه لشرفه ثم اليدين لأنهما بارزتان، ويعمل بهما غالباً بخلاف الرأس والرجلين،

ص: 242

ثم الرأس.

الثانية: قيل الحكمة في وجوب غسل هذه الأعضاء ومسح الرأس: أن آدم مشى إلى الشجرة التي نهاه الله عن الأكل منها برجليه، ونظر إليها بعينه متوجهاً إليها بواجهة وأخذ منها بيديه، ولمس رأسه ورقها.

وكان ابن عباس يقول بوجوب غسل باطن العين في الوضوء والغسل، والصحيح أنه لا يجب غسل باطن العين بل لا يستحب بل يكره.

وقيل: الحكمة في اختصاص هذه الأعضاء أن أكثر معاصي ابن آدم من هذه الأعضاء الأربعة.

الثالثة: لو توضأ الإنسان منكوساً أربع مرات أجزأه لحصول غسل كل عضو في مرة.

الرابعة: لو اغتسل محدث بنية رفع الحدث أو نحوه أجزأه عن الوضوء، ولو لم يمكث في الانغماس زمناً يمكن فيه الترتيب، لأن الغسل يكفي للأكبر فالأصغر، ولأن الترتيب يقدر في لحظات.

سؤال: فإن قيل: لو أغفل لمعة من غير أعضاء الوضوء في هذا الغسل هل يكفي هذا الغسل عن وضوءه أم لا؟

قال القاضي حسين: لا يكفي.

ولو اغتسل المتوضئ ونوى رفع الجناية أو نحوها هل يكفيه عن وضوءه أم لا؟

جوابه: إن نوى ذلك غالطاً ورتب كفاه وإلا فلا.

الخامسة: لنا وضوء صحيح خال عن غسل الرجلين أو عن غسل اليدين، وصورته: ما إذا اغتسل جنب إلا يديه أو إلا رجليه مثلاً، ثم أحدث ثم غسلهما عن الجنابة توضأ، ولا تجب عليه إعادة غسلهما لارتفاع حدثهما بغسلهما عن الجنابة، فهذا وضوء خال عن غسل الرجلين أو اليدين، وهما مكشوفان بلا علة.

وزعم ابن القاضي أنه خال عن الترتيب أيضاً، وغلطه الأصحاب بأنه غير خال عنه بل لم يجب فيه الغسل الرجلين أو اليدين.

السادسة: لنا وضوء خال عن الترتيب، وصورته: ما إذا غسل الجنب بدنه إلا أعضاء الوضوء ثم أحدث لم يجب ترتيبها أفاده القاضي زكريا في شرح الروض.

السابعة: لو نوى بعد الفراغ من الوضوء قطعه لم يبطل، ولو نوى في أثنائه قطعة لم يبطل ما مضى له من الوضوء، ولكن انقطعت نيته فيعيدها للباقي.

ص: 243

الثامنة: إذا بطل وضوءه في أثنائه بحدث أو غيره يثاب على الماضي أم لا؟

قيل: أن يثاب كما في الصلاة، ويحتمل أن يقال: إن بطل باختباره فلا، أو بغيره فنعم.

قال النووي عن الماوردي: ومن أصحابنا من قال: لا ثواب له بحال، لأنه لا يراد لغيره بخلاف الصلاة.

التاسعة: لو توضأ فقطعت يده أو تثقب لم يجب غسل ما ظهر، لأن ذلك ليس ببدل عما تحته، إلا إذا أحدث بعده ونظيره ما لو خلق رأسه بعد مسحه فإنه لا يعيد المسح.

العاشرة: إذا كان الإنسان متوضئاً أو أراد تجديد الوضوء ماذا ينوي، لا يستقيم أن ينوي رفع الحدث لأن حدثه مرتفع، ولا استباحة الصلاة لأنه مستبيح لها بوضوءه الأول، ولا فرض لأنه ليس بفرض عليه، قال الأسنوي قد يقال: يكتفى بنية الرفع أو الاستباحة كالصلاة المعادة، ثم قال غيره: إن ذلك مشكل خارج عن القواعد، لكن قال ابن العماد: وتخريجه على الصلاة ليس ببعيد، لأن قضيته التجديد أن يعيد الشيء بصفته الأولى، وإلا لم يكن تجديداً.

الحادية عشر: أي عضو من أعضاء الوضوء يجب غسله في بعض الأزمان دون بعض، وليس عليه جبيرة ولا خف وقد نظم هذا السؤال بعضهم فقال:

يا إماماً قد فاق أهل الزمان

بفنون من العلوم حسان

ما الذي أنت قائل في سؤال

هو من فنك الكثير المعاني

أي عضو من الوضوء يغسل

في زمان قد خص دون زمان

لم يكن موضع الجبائر والخف

ولكنه خفي المكان

فأتنا بالجواب عما سألناك

سريعاً فيه بغير ثوان

وصورته في موضع اللحية الكثيفة، فإنه قبل نبات الشعر عليه يجب غسله بعد كثافته مع نباته لا يجب غسله، وإذا خف بعد كثافته وجب غسله، وقد أجاب السائل عنه نظماً فقال:

خد جواباً عما سألت سريعاً

حسن اللفظ في بديع المعاني

إن هذا المكان يعرف منا

بمحل اللحى من الأذقان

شعر الوجه إن تكاثف فيه

لم يجب غسله على الإنسان

ص: 244

وهو قبل الإنبات يغسل أو

أخف نبات من فوق هذا المكان

هاك درراً بأعلى الدر في

النظم إذا كان من نحور الغوان

وأما شرائط الوضوء: فقد اختلف العلماء في عددها، فمنهم من جعلها عشرة، ومنهم من زاد على ذلك، ومنهم من نقص عن ذلك، ومنهم من وصلها إلى مائة وست وخمسين شرطاً، ثم رد الجميع إلى شرط واحد، وهو لا يقترن بمانع.

قال العلماء: معرفة شروط العبادات واجبة على كل مخاطب، لتوقف العبادات على معرفتها والإتيان بها على الوجه المشروع، إذ لا يغتفر فيها الجهل ولا النسيان، فمن توضأ مع الجهل بكيفية الوضوء لم يصح.

فمن شروط الوضوء: الإسلام، فلا يصح وضوء الكافر.

ومنها: الماء الطهور، فلا يصح الوضوء بل ولا الغسل ولا إزالة النجاسة بغير الطهور، كالماء المستعمل ولو كان المستعمل له صبياً أو من لا يرى وجوب النية في الوضوء والغسل وهو الحنفي، وإنما يصح بالطهور وهو الماء المطلق، والمطلق ما يقع عليه اسم ماء بلا قيد، أما إذا تقيد الماء كأن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بشيء طاهر مخالط تغيراً يمنع إطلاق اسم الماء عليه فإنه لا يصح الوضوء منه، ولا الغسل ولا إزالة النجاسة، كما إذا وقع في الماء زعفران فغير لونه، أو صابون أدخل فغير لونه، أو مسك فغير رائحته، وإنما كان غير طهور لأنه: لا يسمى ماء، ولهذا لو حلف أن لا يشرب الماء فشرب هذا المتغير بطاهر لا يحنث، خلافاً لأبي حنيفة فإنه جوز الوضوء بالماء المتغير بالزعفران أو نحوه.

ولنا شخص توضأ بماء متغير لا يقع عليه اسم الماء، ولا هو باق على أصل خلقته ويصح وضوءه، وصورته: في الماء المتغير بما في مقره أو ممره أو بمجاوره كعود أو دهن أو نحو ذلك.

ومنها: العلم بأنه طهور، فإذا لم يعلم من أراد الوضوء من ماء أنه طهور لا يصح الوضوء منه.

ومنها: التمييز، فلا يصح وضوء غير المميز كالمجنون والصبي الذي لا يميز.

ولنا شخص غير مميز ويصح وضوءه، وصورته: فيما إذا حج الإنسان ومعه صبي غير مميز أو مجنون فإن الولي يحرم عنه بالحج لينال أجر الحج، وعند الطواف يوضئه وينوي عنه ويصح وضوءه في هذه الصورة.

ومنها: طهارة المحل عن الخبث إن لم يصلح الغسل لإزالة الحدث، كالسادسة في

ص: 245

الكلبية، فإذا تنجس وجه الإنسان مثلاً نجاسة كلبيه فغسله خمس مرات، ثم أراد أن يتوضأ فيشترط لصحة الوضوء أن يغسله مرة أخرى لتصير سادسة، فإن السادسة كالتي قبلها لا تصح لإزالة الحدث، إذ لا يزال الخبث باق اتفاقاً بخلاف السابعة بعد الترتيب فإنها صالحة لإزالتها، أفاد هذا الشرط الجوهري وغيره.

ومنها: أن لا يكون على أعضاء الوضوء شيء مانع من وصول الماء إليه، يسمى «بالمانع الحببي» كشمع ونحوه، فإذا يجعل الإنسان في شقوق رجليه دهن شمع ووضع على يده أو رجليه حناء أو نحو ذلك وجب عليه في الوضوء أو الغسل إزالة عينه، فإن لم يزله لم يصح وضوءه ولا غسله حتى يغسل ذلك المحل، ويغسل ما بعده في الوضوء، نعم لا يضر بقاء لون الحناء فإنه ليس بحائل، ولو كان على عضوه دهن مائع فجرى عليه الماء فلم يثبت بل قطع صح وضوءه، وأما الوسخ الذي تحت الأظافر فقال جمهور العلماء: إنه مانع من صحة الوضوء والغسل، وقال الإمام حجة الإسلام الغزالي: لا يمنع من صحته لمشقة الاحتراز عنه، وما أحسنها من رخصة فإنه قل من سلم من وسخ تحت أظافره خصوصاً أرباب الصنائع والحرف.

سؤال: فإن قيل: أي شيء على أعضاء الوضوء أو الغسل مانع من وصول الماء إلى ذلك العضو لا يضر.

جوابه: الوسخ الذي نشوءه من البدن، فإذا تجمد من عرق الإنسان وسخ، فإنه ليس بمانع من صحة الوضوء ولا الغسل، وإن منع من وصول الماء إلى العضو، لأنه جزء من البدن، أما إذا تجمد الوسخ من الغبار فإنه يضر، لأنه ليس جزءاً منه.

ومنها: معرفة كيفيته.

ومنها: أنه لا يميز بين فرض الوضوء ونفله، فمن اعتقد أن جميع أفعال الوضوء سنة لا يصح وضوءه، كما أنه لو اعتقد أن جميع أفعال الصلاة سنة، فإن صلاته لا تصح، ولو اعتقد بعض أفعال الوضوء ولم يميز بين الفرض والسنة لم يصح أيضاً وضوءه، كما لو اعتقد ذلك في الصلاة فإنها لا تصح، وإن كان بعضها سنة.

وغايته: أنه أدى سنة باعتقاد أنها فرض، فإنه لا يصح، كما قال الغزالي: العامي الذي لا يميز فرائض صلاته من سننها تصح صلاته بشرط: أن لا يقصد النفل بما هو فرض، أما لو اعتقد أن جميع أفعال الوضوء فرض فإنه يصح، وإن كان بعضها سنة كما لو اعتقد ذلك في الصلاة فإنها تصح، وإن كان بعضها سنة، وغايته: أنه أدى سنة باعتقاد أنها فرض وذلك لا يضر.

ص: 246

ومنها: استحباب النية حكماً، فمن نوى قطع الوضوء في أثنائه بطلب نيته بالنسبة إلى بقية الأعضاء فيجب استئنافها، وأما ما مضى فهو صحيح كما تقدم.

ومنها: جريان الماء على العضو المغسول، فلا يكفي إيصال الماء إلى العضو المغسول من غير جريان، فكم من إنسان عند غسل الوجه مثلاً يمسح وجهه بالماء مسحاً من غير أن يسيل عليه الماء، فهذا وضوء باطل، لأن الواجب في الوجه واليدين الغسل لا المسح، ولا يتميز الغسل عن المسح إلا يجريان الماء.

ومنها: استيعاب العضو للمغسول بالغسل، فلا يكفي غسل بعضه قال صلى الله عليه وسلم:«ويل للأعقاب من النار» (1) .

ومنها: أن يغسل مع المغسول جزءاً يتصل به من غيره، فإذا غسل وجهه فلابد أن يغسل شيئاً من الرأس والرقبة ليتقين أنه استوعبه، وإذا غسل يديه فلابد أن يغسل معهما شيئاً من الساقين لما تقرر في علم الأصول أن ما لا يتم الواجب إلا به، وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب.

ومنها: أن لا يقترن بمانع شرعي، فمن وضأته امرأة أجنبية وكانت تلمس أعضاءه فإن وضوءه لا يصح عندنا، وكذلك من توضأ وريحه أو بوله خارج منه لاقترانه بمانع شرعي، نعم لنا شخص توضأ وبوله يسيل منه ووضوءه صحيح، وصورته: فيمن به سلس البون مثلاً إذا تعذر عليه حبسه فإن وضوءه صحيح وصلاته أيضاً وإن قطر بوله على الحصير، ويشترط في صحة وضوء صاحب الضرورة أيضاً دخول الوقت، وأن يحشو فرجه بقنطه وغيرها، وأن يقدم الاستنجاء على الوضوء، وأن يتوضأ لكل فريضة، فمن حدثه دائم كمن به سلس البول لا يصح وضوءه إلا بعد دخول الوقت كالمتيمم، ولا يصح وضوءه إلا بعد حشو فرجه والاستنجاء، وإذا توضأ لكل فرض

(1) أخرجه أحمد (3/316، رقم 14432) ، وابن أبي شيبة (1/32، رقم 268) عن جابر.

وأخرجه البخاري (1/33، رقم 60) ، ومسلم (1/214، رقم 241) ، وأبو داود (1/24، رقم 97) ، والنسائي (1/77، رقم 111) ، وابن ماجه (1/155، رقم 455) عن ابن عمرو.

وأخرجه البخاري (1/73، رقم 163) ، ومسلم (1/214، رقم 242) ، والترمذي (1/58، رقم 41) ، وابن ماجه (1/154، رقم 453) ، وعبد الرزاق (1/20، رقم 58) ، وأحمد (2/482، رقم 10253) ، وابن حبان (3/368، رقم 1088) عن أبي هريرة.

وأخرجه مالك (1/19، رقم 35) ، والشافعي (1/175) ، وعبد الرزاق (1/23، رقم 69) ، ومسلم (1/213، رقم 240) وابن ماجه (1/154، رقم 451) عن عائشة.

ص: 247

يجب عليه أن يدخل قطنته في إحليله فإن انقطع وإلا عصب مع ذلك رأس الذكر.

فائدة: من به سلس المني يغتسل لكل فرض.

وأما فضائل الوضوء فكثيرة:

منها: أن المتوضئ يحبه الله كما يحب التائب قال الله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ? [البقرة: 222] بالماء من الأحداث والنجاسات.

وقال تعالى: ?فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ? [التوبة: 108] .

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الطهارة نصف الإيمان أو نصف الصلاة، فقد روينا في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«الطهور شطر الإيمان» (1) .

واختلف بالمراد بالإيمان في هذا الحديث:

فقيل: المراد به الصلاة، فإن الإيمان يطلق عليها قال الله تعالى: ?وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ? [البقرة: 143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس.

وقيل: المراد به معناه الحقيقي وهو المقابل للكفر، وعلى المعنيين فيه دلالة على فضل الوضوء، بل على فضل مطلق الطهارة، أما على الأول فإنها جعلت نصف الصلاة التي هي أفضل العبادات البدنية.

وهنا سؤال وهو: الطهارة بعض شرائط الصلاة، فكيف جعلت نصف الصلاة؟

جوابه: أن الطهارة أقوى شرائط الصلاة فجعلت كأنها الشرط كله، فأطلق عليها الشطر بهذا الاعتبار.

وأما على الثاني فإنها جعلت نصف الإيمان الحقيقي باعتبار أنها طهارة عن الشرك، وأنها طهارة عن الأحداث، فهما طهارتان إحداهما تختص بالباطن، والأخرى بالظاهر، فما أعظمها من فضيلة حيث جعلت نصف الإيمان الذي هو السبب في سعادة الدارين.

(1) أخرجه مسلم (1/203، رقم 223) ، والترمذي (5/535، رقم 3517) وقال: صحيح. والدارمي (1/174، رقم 653) ، وأحمد (5/342، رقم 22953) ، وأبو عوانة (1/189، رقم600) ، والطبراني في الكبير (3/284، رقم 3423) ، وابن منده (1/374، رقم 211) ، والبيهقي في شعب الإيمان (3/3، رقم 2709) عن أبي مالك الأشعري.

ص: 248

ومنها: أنه مفتاح الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم:«مفتاح الصلاة الطهور» (1) .

ومنها: أنه سبب للنظافة التي بُني الدين عليها، قال صلى الله عليه وسلم:«بني الدين على النظافة» (2) .

ومنها: أنه مكفر للذنوب والخطايا ورفع الدرجات، روينا في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع الدرجات: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط» (3) .

ومعنى «إسباغ الوضوء على المكاره» إتمامه في شدة البرد.

فائدة: ذكر أهل العلم في معنى قوله: «فذلكم الرباط» وجهين:

أحدهما: أنه شبه الذي يتوضأ في شدة البرد، ويكثر الذهاب إلى المسجد، وينتظر الصلاة بعد الصلاة في الأجر بالمرابط في سبيل الله قبالة أعدائه.

والثاني: أنه رباط صاحبه عن إثم الخطيئة، فكأنه عقله عنها بفعله.

وروينا في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره» (4) .

(1) أخرجه أبو داود (1/167 رقم 618) والترمذي (1/8، رقم 3) وقال: هذا الحديث أصح شىء في هذا الباب. وابن ماجه (1/101 رقم 275) ، وأبو يعلى (1/456، رقم 616) ، والدارقطني (1/360) ، والضياء (2/341، رقم 718) وقال: إسناده حسن. والشافعي (1/34) ، وابن أبي شيبة (1/208، رقم 2378) ، وأحمد (1/123، رقم 1006) عن على.

وأخرجه ابن أبي شيبة (1/208، رقم 2380) ، والحاكم (1/223، رقم 457) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم. والبيهقي (2/85، رقم 2386) . أخرجه أيضاً: الطبراني في الأوسط (3/36، رقم 390) عن أبي سعيد.

(2)

أورده الرافعي في التدوين (1/176) عن أبي هريرة.

(3)

أخرجه مسلم (1/219، رقم 251) . وأخرجه أيضا: الترمذي (1/72، رقم 51) ، والنسائي (1/94، رقم 139) ، ومالك (1/161، رقم 384) ، وعبد الرزاق (1/520، رقم 1993) ، وأحمد (2/235، رقم 7208) ، وابن حبان (3/313، رقم 1038) ، وابن خزيمة (1/6، رقم 5) عن أبي هريرة.

(4)

أخرجه مسلم (1/216، رقم 245) . وأخرجه أيضاً: أحمد (1/66، رقم 476) ، والبزار (2/82، رقم 433) ، وأبو عوانة (1/194، رقم 615) ، والبيهقي في شعب الإيمان (3/12، رقم 2731) عن عثمان.

ص: 249

وروينا أيضاً في صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، ومع آخر قطره من الماء، فإذا غسل يديه خرج كل خطيئة بطشها يداه مع الماء ومع آخر قطره من الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء ومع آخر قطره من الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب» ، وأخرجه الترمذي أيضاً وقال: هذا حديث حسن صحيح (1) .

رواه النسائي وزاد فيه: «وإذا مسح رأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافله له» (2) .

ومنها: كما قاله في نزهة المجالس: إن العبد إذا غسل وجهه صار في الآخرة كوجه يوسف، وإذا غسل يديه أخذ كتابه بيمينه، كما أخذ موسى الألواح بيمينه، وإذا مسح رأسه يوضع عليه تاج العز، كما وضع على سليمان، وإذا غسل رجليه ركب النجائب، كما ركب محمد صلى الله عليه وسلم البراق.

ومنها: أنه ينجو من عذاب القبر، ويدل على ذلك الحديث الطويل الذي رواه الطبراني في الكبير والحكيم والترمذي في نوادر الأصول والأصبهاني في الترغيب وهو حديث كثير الفوائد وسنذكره في المجالس الآتية فإنه ذكر فيه أنه صلى الله عليه وسلم قال:«رأيت رجلاً من أمتي قد سلط عليه عذاب القبر، فجاءه وضوءه فاستنقذه منه» (3) .

فائدة: إذا أراد العبد العاصي أن يتوب إلى الله تعالى فينبغي له أن يتوضأ قبلها، ويأتي بأركان التوبة، ويصلي ركعتين، فقد نص علماؤنا الشافعية على استحباب ركعتين عند التوبة لخبر رواه الترمذي وحسنه: «ليس عبد يذنب ذنباً فيقوم فيتوضأ

(1) أخرجه مسلم (1/215، رقم 244) ، والترمذي (1/6، رقم 2) وقال: حسن صحيح. وأخرجه أيضاً: مالك (1/32، رقم 61) ، والدارمي (1/197، رقم 718) ، وابن خزيمة (1/5، رقم 4) ، وأبو عوانة (1/207، رقم 669) ، والبيهقي (1/81، رقم 386) ، وابن حبان (3/315، رقم 1040) عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه النسائي (1/74، رقم 103) عن عبد الله الصنابحي.

(3)

أورده الحكيم (3/231)، وأخرجه الطبراني في الكبير كما في مجمع الزوائد (7/180) قال الهيثمي: رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما سليمان بن أحمد الواسطي وفي الآخر خالد بن عبد الرحمن المخزومي وكلاهما ضعيف. كلاهما عن عبد الرحمن بن سمرة

ص: 250

يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر له» (1) ثم فراغه يتوسل إلى الله في قبول توبته، فقد قيل: إن الله سبحانه وتعالى لما أراد أن يتوب على آدم، أمره جبريل أن يتوضأ ويتوسل إلى الله تعالى.

كما نقل عن ابن عباس أنه قال: «لما أصاب آدم الزلة أهبط على الأرض إلى جبل «سرنديب» وهو يبكي، فلما طال بكاؤه وهبط إليه جبريل فقال: يا آدم كم هذا البكاء ألم تعلم أن الله تعالى جعل الماء طهوراً، والإيمان نوراً؟ فقال: نعم، قال: قم واغسل الأعضاء التي قصدت بها الزلة، وتوجه إليه، وتوكل عليه، فقام آدم وتوضأ وصلي وجعل يقول: ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فتقبل منه وغفر له» .

وقيل: إن آدم في مدة بكائه كان واضعاً وجهه على الأرض لله وهو يبكي حتى نبت العشب حول وجهه من دموعه وغطى رأسه، وكلما ذكر زلته يتأوه ويصيح فيخرج من فمه نفس يُسوِّد العشب، فلما أراد أن يتوب عليه ناداه يا آدم يا صفوتي فلم يجب ربه، فناداه ثانيا فلم يجبه، فناداه ثالثاً فلم يجبه، فارتعدت الملائكة من الخوف وقالوا: أهلكنا فإن آدم لم يجب ربه، فنزل جبريل وقال: يا آدم ألم تسمع نداء ربك؟ قال آدم: نعم أسمع نداءه وهو يقول: يا صفوتي، فكيف أكون صفياً وأنا قد عصيت، وظننت أنه خلق غيري وهو يناديه، فإن كان النداء لي فلبيك اللهم لبيك، فنودي وهو على تلك الحال: يا آدم ما كنت تقول في قلبك قبل ندائي لك وأنا علام الغيوب؟ قال: يارب كنت أقول: ومن يغفر الذنوب إلا الله، وكلما تذكرت ذنبي انكسر قلبي، فقال الله تعالى: يا آدم ألم تعلم أني عند المنكسرين من أجلي إذا لم يقطع عبدي الرجاء.

في صحيح مسلم في حديث مطول عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه، ثم إذا

(1) أخرجه الترمذي (2/257، رقم 406) وقال: حسن. وأخرجه أيضا: أبو داود (2/86، رقم 1521) ، ووالنسائي في الكبرى (6/109، رقم 10247) ، وابن ماجه (1/446، رقم 1395) ، وابن حبان (2/389، رقم 623) ، وأبو يعلى (1/25، رقم 15) ، والبيهقي في شعب الإيمان (5/401، رقم 7077) ، والضياء في الأحاديث المختارة (1/82، رقم 7) وقال: إسناده صحيح. والطيالسي (1/2، رقم 1) ، وابن أبي شيبة (2/159، رقم 7642) ، وأحمد (1/2، رقم 2) ، والحميدي (1/4، رقم 4) عن أبي بكر.

ص: 251

غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى فحمد الله وأثنى عليه ومجده بالذي هو له أهل وفرغ قلبه لله إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه» (1) .

وقال الغزالي في الإحياء قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأ العبد المسلم فتمضمض خرجت الخطايا من فمه، فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه، فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه، حتى تخرج من أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من أظفار يديه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفاره، ثم كان مشية إلى المسجد وصلاته نافلة له» (2) .

ويروى: «إن الطاهر كالصائم» (3) .

وقال عمر رضي الله عنه: «إن الوضوء الصالح يطرد عنك الشيطان» (4) .

* * *

(1) أخرجه مسلم (1/569، رقم 832) . وأخرجه أيضاً: أحمد (4/112، رقم 17060) ، والبيهقي (1/81، رقم 387) ، وأبو عوانة (1/206، رقم 668) ، وابن سعد (4/217) عن عمرو بن عبسة.

(2)

أخرجه النسائي (1/74، رقم 103) ، وابن ماجه (1/103، رقم 282) ، ومالك (1/31، رقم 60) ، وأحمد (4/349، رقم 19091) ، والحاكم (1/220، رقم 446) وقال: صحيح. والبيهقي في شعب الإيمان (3/13، رقم 2734) عن عبد الله الصنابحي.

(3)

أخرجه الديلمي (2/463، رقم 3981) عن عمرو بن حريث. قال المناوي (4/289) : قال الحافظ العراقي: سنده ضعيف.

(4)

انظر: إحياء علوم الدين (1/135 - 136) .

ص: 252