المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس السابع والعشرون - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ٢

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس السابع والعشرون

‌المجلس السابع والعشرون

في الكلام على باب علامات المنافق وما في حديثه من الفوائد

وفيه شيء من ترجمة سفيان الثوري

قَالَ البُخَارِي:

بَابُ عَلَامَاتِ المنَافِقِ

حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ، قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (1) .

(1) شرح السفيري حديثين من هذا الباب هذا الحديث والذي يليه، قال الحافظ ابن حجر: قوله: «آية المنافق ثلاث» الآية: العلامة، وإفراد الآية إما على إرادة الجنس، أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث، والأول أليق بصنيع المؤلف، ولهذا ترجم بالجمع وعقب بالمتن الشاهد لذلك. وقد رواه أبو عوانة في صحيحه بلفظ:«علامات المنافق» فإن قيل: ظاهره الحصر في الثلاث فكيف جاء في الحديث الآخر بلفظ «أربع من كن فيه

الحديث» ؟ أجاب القرطبي: باحتمال أنه استجد له صلى الله عليه وسلم من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده. وأقول: ليس بين الحديثين تعارض، لأنه لا يلزم من عد الخصلة المذمومة الدالة على كمال النفاق كونها علامة على النفاق، لاحتمال أن تكون العلامات دالات على أصل النفاق، والخصلة الزائدة إذا أضيفت إلى ذلك كمل بها خلوص النفاق. على أن في رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ما يدل على إرادة عدم الحصر، فإن لفظه:«من علامة المنافق ثلاث» وكذا أخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري، وإذا حمل اللفظ الأول على هذا لم يرد السؤال، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت، وببعضها في وقت آخر. وقال القرطبي أيضاً والنووي: حصل من مجموع الروايتين خمس خصال، لأنهما تواردتا على الكذب في الحديث والخيانة في الأمانة، وزاد الأول الخلف في الوعد والثاني الغدر في المعاهدة، والفجور في الخصومة. قلت: وفي رواية مسلم الثاني بدل الغدر في المعاهدة الخلف في الوعد كما في الأول، فكأن بعض الرواة تصرف في لفظه لأن معناهما قد يتحد، وعلى هذا فالمزيد خصلة واحدة وهي الفجور في الخصومة.

والفجور: الميل عن الحق والاحتيال في رده. وهذا قد يندرج في الخصلة الأولى وهي الكذب في الحديث.

ووجه الاقتصار على هذه العلامات الثلاث أنها منبهة على ما عداها، إذ أصل الديانة منحصر في ثلاث: القول، والفعل، والنية. فنبه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخلف. لأن خلف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارناً للوعد، أما لو كان عازماً ثم عرض له مانع أو بدا له رأى فهذا لم توجد منه صورة النفاق، قاله الغزالي في الإحياء. وفي الطبراني في حديث طويل ما يشهد له، ففيه من حديث سلمان «إذا وعد وهو يحدث نفسه أنه يخلف» وكذا قال في باقي الخصال، وإسناده لا بأس به ليس فيهم من أجمع على تركه، وهو عند أبي داود والترمذي من حديث زيد بن أرقم مختصر بلفظ:«إذا وعد الرجل أخاه ومن نيته أن يفي له فلم يف فلا إثم عليه» .

قوله: «إذا وعد» قال صاحب المحكم: يقال وعدته خيراً، ووعدته شراً. فإذا أسقطوا الفعل قالوا في الخير: وعدته، وفي الشر: أوعدته. وحكى ابن الأعرابي في نوادره: أوعدته خيراً بالهمزة. فالمراد بالوعد في الحديث الوعد بالخير، وأما الشر فيستحب إخلافه. وقد يجب ما لم يترتب على ترك إنفاذه مفسدة. وأما الكذب في الحديث فحكى ابن التين عن مالك أنه سئل عمن جرب عليه كذب فقال: أي نوع من الكذب؟ لعله حدث عن عيش له سلف فبالغ في وصفه، فهذا لا يضر، وإنما يضر من حدث عن الأشياء بخلاف ما هي عليه قاصداً الكذب. انتهى.

قال النووي: هذا الحديث عده جماعة من العلماء مشكلاً من حيث أن هذه الخصال قد توجد في المسلم المجمع على عدم الحكم بكفره. قال: وليس فيه إشكال، بل معناه صحيح والذي قاله المحققون: إن معناه أن هذه خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم. قلت: ومحصل هذا الجواب الحمل في التسمية على المجاز، أي: صاحب هذه الخصال كالمنافق، وهو بناء على أن المراد بالنفاق نفاق الكفر. وقد قيل في الجواب عنه: إن المراد بالنفاق نفاق العمل كما قدمناه. وهذا ارتضاه القرطبي واستدل له بقول عمر لحذيفة: هل تعلم في شيئاً من النفاق؟ فإنه لم يرد بذلك نفاق الكفر، وإنما أراد نفاق العمل. ويؤيده وصفه بالخالص في الحديث الثاني بقوله:«كان منافقا خالصاً» . وقيل: المراد بإطلاق النفاق الإنذار والتحذير عن ارتكاب هذه الخصال وإن الظاهر غير مراد، وهذا ارتضاه الخطابي. وذكر أيضاً أنه يحتمل أن المتصف بذلك هو من اعتاد ذلك وصار له ديدنا. قال: ويدل عليه التعبير بإذا، فإنها تدل على تكرر الفعل. كذا قال. والأولى ما قاله الكرماني: إن حذف المفعول من «حدث» يدل على العموم، أي: إذا حدث في كل شيء كذب فيه. أو يصير قاصراً، أي: إذا وجد ماهية التحديث كذب. وقيل: هو محمول على من غلبت عليه هذه الخصال، وتهاون بها، واستخف بأمرها، فإن من كان كذلك كان فاسد الاعتقاد غالباً. وهذه الأجوبة كلها مبنية على أن اللام في المنافق للجنس، ومنهم من ادعى أنها للعهد فقال: إنه ورد في حق شخص معين أو في حق المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتمسك هؤلاء بأحاديث ضعيفة جاءت في ذلك لو ثبت شيء منها لتعين المصير إليه. وأحسن الأجوبة ما ارتضاه القرطبي. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/89 – 91) .

ص: 53

وَقَالَ: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى

ص: 54

يَدَعَهَا إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» (1) .

قوله: «حدثنا قبيصه بن عقبة قال: حدثنا سفيان» هذا هو الإمام الكبير العالم الرباني أحد أصحاب المذاهب الستة المتبوعة، القائم بالحق غير خائف في الله لومة لائم سفيان بن سعيد الثوري منسوب إلى جده بثور الكوفي إمام أهل الكوفة، وهو تابعي التابعين ومناقبه جمة.

قال عبد الله بن المبارك: كتبت عن ألف ومائه شيخ ما كتبت عن أفضل منه (2) .

وكان ابن المبارك يتسابق على سفيان ويقول: لما لم أطرح نفسي بين يدي سفيان ما أصنع بفلان وفلان (3) .

وكان مولده سنة سبع وتسعين، ومن فضائله أنه قال ما استودعت فهمي شيئاً فخانني.

ومن كراماته: أن أبا جعفر المنصور بلغه أن سفيان كان يتكلم فيه بسبب ظلم الناس فكان يتطلبه، فلما حج المنصور بعث الخشابين قدامه إلى مكة، وكان سفيان في مكة فقال المنصور: إذا رأيتم سفيان فاصلبوه، فوصلوا مكة ونصبوا الخشبة، ونودي سفيان فإذا رأسه في حجر الفضيل بن عياض، ورجله في حجر ابن عينيه فقالوا: يا سفيان لا تشمت بنا الأعداء، فقام وذهب وأخذ بأستار الكعبة وقال:

(1) قال الحافظ ابن حجر: قال الشيخ محيي الدين: إنما أوردها البخاري على طريق المتابعة لا الأصالة. وتعقبه الكرماني بأنها مخالفة في اللفظ والمعنى من عدة جهات، فكيف تكون متابعة؟ وجوابه: أن المراد بالمتابعة هنا كون الحديث مخرجا في صحيح مسلم وغيره من طرق أخرى عن الثوري، وعند المؤلف من طرق أخرى عن الأعمش، منها رواية شعبة المشار إليها، وهذا هو السر في ذكرها هنا. وكأنه فهم أن المراد بالمتابعة حديث أبي هريرة المذكور في الباب، وليس كذلك إذ لو أراده لسماه شاهدا.

وأما دعواه أن بينهما مخالفة في المعنى فليس بمسلم، لما قررناه آنفاً. وغايته أن يكون في أحدهما زيادة وهى مقبولة لأنها من ثقة متقن. والله أعلم.

فائدة: رجال الإسناد الثاني كلهم كوفيون، إلا الصحابي وقد دخل الكوفة أيضاً. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/91) .

(2)

أورده ابن القيسراني في تذكرة الحفاظ (1/204) ، والذهبي في سير أعلام النبلاء (7/237) .

(3)

أورده الخطيب في تاريخ بغداد (9/156) .

ص: 55

برئت منها إن دخل المنصور، فسقط المنصور من فوق الدآبة ومات قبل أن يدخل مكة فخرج سفيان وصلى عليه (1) .

ومن فضائله ما حكاه بعض العلماء عن محمد بن خزيمة قال: لما مات أحمد بن حنبل اغتممت غماً شديداً فبت ليلتي فرأيته في المنام وهو يتبختر في مشيته، فقلت: يا أبا عبد الله أي مشية هذه؟ قال: مشية الخدام في دار السلام. فقلت: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وتوجني وألبسني نعلين من ذهب، وقال: يا أحمد هذا بقولك إن القرآن كلامي، ثم قال لي: يا أحمد ادعني بتلك الدعوات التي كنت تدعو بها في دار الدنيا، فقلت: يا رب كل شيء بقدرتك على كل شيء لا تسألني عن شيء واغفر لي كل شيء. فقلت: وما فعل الله بك؟ قد فعل ثم قال: يا أحمد هذه الجنة فقم وادخل إليها فدخلت فإذا سفيان الثوري، وله جناحان أخضران يطير بهما من نخلة إلى نخلة، ويقول: ?الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ? [الزمر: 74](2) .

ومن فضائله ما حكاه في الروض الفائق فقال: «قيل: لما بلغ سفيان الثوري رضي الله عنه من العمر خمسة عشر قال: لأمه يا أماه هبيني لله، فقالت: يا ولدي إنما يهدى للملوك من يصلح لهم وأنت لا تصلح لله، فاستحيا من أمه، ودخل بيتاً فأقام فيه سنتين متوجهاً إلى الله تعالى بالعبادة، فدخلت عليه أمه بعد ذلك فوجدته مجتهداً في العبادة وعليه آثار السعادة، فقبلت بين عينيه وقالت: يا ولدي الآن قد وهبتك لله فخرج عنها وغاب عشر سنين في سياحته متلذذاً في عبادته، فاشتاق إلى أمه فزارها ليلاً، فلما طرق الباب نادته من وراء الحجاب يا سفيان من وهب لله شيئاً فلا يعود فيه، وأنا قد وهبتك لله فلا أراك إلا بين يديه، ولله در من قال:

ولا تحسبوا أني نسيت ودادكم

وإني وإن طال الأمد لست أنساكم

قطعت لكم عهداً قديماً وحرمة

ونحن على العهد الذي قد عهدناكم

ونحن على ما تعهدون من الوفا

يودكم قلبي وبالغيب يرعاكم

ولست بناس عهدكم بعد بعدكم

وما دام قلبي عندكم كيف ينساكم

(1) انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (7/41) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (7/251) .

(2)

انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (9/190) .

ص: 56

ومن فضائله ما قاله حجة الإسلام الغزالي رحمه الله في كتابه منهاج العابدين عن بعض الصالحين أنه قال: رأيت سفيان الثوري في النوم بعد موته فقلت: ما حالك يا أبا عبد الله؟ فأعرض عني وقال: ليس هذا زمان الكنى فقلت: كيف حالك يا سفيان فأنشأ سفيان يقول:

نظرت إلى ربي عيانا فقال لي

هنيأ رضائي عنك يا ابن سعيد

لقد كنت قواماً إذا الليل قد دجا

بعبرة مشتاق وقلب عميد

فدونك فاختر أي قصر تريده

وزرني فإني عنك غير بعيد

ومن فضائله ما ذكره في كتاب أنس المحاضرة عن بشر بن الحارث: أن سفيان الثوري كان عليلاً، وكان بلبل يجيىء ويصيح في داره، فلما أن مات وحملت جنازته طار فوق الجنازة فلما دفن تمرغ على القبر ومات.

وكانت وفاة الثوري بالبصرة سنة ستين ومائة.

«قال: حدثنا سفيان عن الأعمش» هذا هو سليمان بن مهران بكسر الميم الكوفي التابعي، وكان في عينه ضعف.

قال يحيى القطان: كان الأعمش من النساك، وكان علامة الإسلام (1) .

وكانت الملوك والسلاطين عنده أحقر الناس مع فقره وحاجته، وكان كثيراً ما يلبس الفروة جلدها على جلده، وصوفها إلى خارج ويذهب إلى الصلاة وكانت وفاته سنة ثمان وأربعين.

«

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«أربع مَنْ كُنَّ فِيهِ كان مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» . تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ» .

استشكل جماعة من العلماء هذا الحديث وقالوا: إن هذه قد توجد في المسلم المصدق بقلبه ولسانه ولا يحكم بكفره بالإجماع، ولا بنفاق يجعله الله في الدرك الأسفل من النار، ثم أجابوا عن الاستشكال بأوجه:

أحدها: أن المراد بالنفاق هنا النفاق العملي الإيماني فإن النفاق على قسمين

(1) انظر: حلية الأولياء لأبي نعيم (5/50) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي (6/232) .

ص: 57

أحدهما: أن يظهر صاحبه الإسلام ويبطن الكفر فيقال له: منافق نفاق الكفر، ويقال له: زنديق فهو وإن كان في الظاهر مسلماً فهو في الباطن كافر مخلد في النار، والمنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان نفاقهم نفاق كفر، وكان رأسهم وكبيرهم عبد الله بن أبي سلول.

وقد أنزل الله في حقهم: ?إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ? [المنافقون: 1] أي: فيما أضمروه ومن تكذيبك خلاف ما قالوه.

القسم الثاني: أن يترك الإنسان المحافظة على أمور الدين سراً ويفعلها ويحافظ عليها علنا، كما إذا خلا الإنسان بنفسه لا يصلي ولا يعمل شيئاً من العبادة، وإن اجتمع الناس صلى وحافظ على العبادة فيسمى مثل هذا منافق أيضاً، ولكن دون النفاق الأول فإن هذا نفاق في العمل لا يخرجه عن الإسلام، والأول نفاق في الاعتقاد وكثير من الجهال الفساق على هذا النفاق لا يعمل شيئاً من الطاعات إلا بين الناس، وإذا خلا بنفسه تركها.

فقوله: «آية المنافق» أي: علامة المنافق ذكر صلى الله عليه وسلم للمنافق في الحديث الأول ثلاث علامات، وفي الثاني أربع علامات.

قال النووي: حصل من مجموع الروايتين خمس خصال للمنافق وهي: الكذب والخيانة والخلف والغدر والفجور.

أما الكذب فهو: الأخبار عن الشيء على خلاف الواقع سواء كان عمداً أو جهلاً، لكن لا إثم عليه في الجهل، بخلاف العمد وهو حرام، وقبيح في الجاهلية والإسلام، وهو من الكبائر إن كان يترتب عليه ضرر لأحد من الناس، فمن كذب على إنسان وقال عنه: أنه سرق ولم يسرق فقطعوا يده بقوله، وكذا الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه من الكبائر.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من كذب على متعمداً فليتبوأ مقعده من النار» (1) .

(1) حديث متواتر: أخرجه البخاري في صحيحه (1/52، رقم 108) ومسلم في صحيحه (1/10، رقم 2) ، والترمذي في سننه (5/35، رقم 2660) وقال: حسن صحيح. والنسائي في الكبري (3/458 رقم 5914) ، وابن ماجه في سننه (1/13، رقم 32) ، وأحمد في مسنده (3/98، رقم 11960) ، والطيالسي في مسنده (ص 277، رقم 2084) عن أنس.

وأخرجه ابن ماجه في سننه (1/13، رقم 33) ، وأحمد في مسنده (3/303 رقم 14294) والدارمي في سننه (1/87، رقم 231) ، وأبو يعلي في مسنده (3/376، رقم 1847) عن جابر.

وأخرجه البخاري في صحيحه (1/52، رقم 107) ، وأبو داود في سننه (3/319، رقم 3651) ، والنسائي في الكبري (3/457، رقم 5912) ، وابن ماجه في سننه (1/14 رقم 36) ، وأحمد في مسنده (1/165، رقم 1413) ، والطيالسي في مسنده (ص 27، رقم 191) عن الزبير.

وأخرجه الترمذي في سننه (5/36، رقم 2662) عن علي، وقال: حسن صحيح.

وأخرجه ابن ماجه في سننه (1/14، رقم 37) ، وأبو يعلي في مسنده (2/428، رقم 1229) عن أبي سعيد.

وأخرجه الترمذي في سننه (5/35، رقم 2659) ، وابن ماجه في سننه (1/13، رقم 30) عن ابن مسعود.

ص: 58

أما إذا لم يترتب على الكذب ضرر لأحد فهو من الصغائر القبيحة الفاحشة، وقد دل على تحريمه الكتاب والسنة وإجماع الأمة.

قال الله تعالى: ?وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ? [الإسراء: 36] .

قال قتادة (1) : أي لا تقل رأيت وأنت لم تره، وسمعت ولم تسمعه، وعلمت ولم تعلم (2) .

وقال تعالى: ?مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ? [ق: 18] .

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» (3) .

قال الغزالي رحمه الله: قال ابن عباس: «أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر» (4) .

وقال بشر بن الحارث (5)

: «من عامل الله بالصدق استوحش من الناس» (6) .

(1) هو: أبو الخطاب، قتادة بن دعامة بن قتادة بن عزيز السدوسي البصري، مفسر، حافظ، ضرير، أكمه، قال أحمد بن حنبل: قتادة أحفظ أهل البصرة، وكان مع علمه بالحديث إماما في العربية ومفردات اللغة، توفي سنة (118هـ) .

انظر: تذكرة الحفاظ (1/115) ، ووفيات الأعيان (1/427) .

(2)

أورده ابن جرير في تفسيره (15/86) .

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (5/2261، رقم 5743) ، ومسلم في صحيحه (4/2012، رقم 2607) ، وأبو يعلي في مسنده (9/71، رقم 5138) ، وابن حبان في صحيحه (1/508، رقم 273) ، والبيهقي في سننه الكبرى (10/243، رقم 20927) عن ابن مسعود.

(4)

انظر: إحياء علوم الدين (4/387) .

(5)

وهو المعروف بالحافي، واسمه: بشر بن الحارث بن علي بن عبد الرحمن المروزي، أبو نصر، المعروف بالحافي، ولد سنة: 150 هـ، وهو من كبار الصالحين، له في الزهد والورع أخبار، وهو من ثقات رجال الحديث، من أهل مرو سكن بغداد وتوفي بها سنة: 227هـ.

ومن فضائله أن المأمون قال: لم يبق في هذه الكورة أحد يُستحيى منه غير هذا الشيخ بشر بن الحارث.

(6)

انظر: إحياء علوم الدين (4/387) .

ص: 59

وقال بعضهم: رأيت منصور الدينوري في المنام فقلت: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي ورحمني وأعطاني ما لم أؤمل، فقلت له: أحسن ما توجه به العبد إلى الله ماذا؟ فقال: الصدق وأقبح ما توجه به الكذب (1) .

وقال أبو سليمان: «اجعل الصدق مطيتك، والحق سيفك، والله تعالى غاية طلبك» (2) .

وقال محمد بن علي الكناني: «وجدنا دين الله مبنياً على ثلاثة أركان على الحق والصدق والعدل، فالحق على الجوارح، والعدل على القلوب، والصدق على العقول» (3) .

وقال وهب بن منبه: «وجدت على حاشية التوراة اثنين وعشرين حرفاً كان صلحاء بني إسرائيل يجتمعون فيقرءونها: لا كنز أنفع مع العلم، ولا مال أربح من الحلم، ولا حسب أوضع من الغضب، ولا قرين أزين من العقل، ولا رفيق أشر من الجهل، ولا شرف أعز من التقوى، ولا كرم أوفى من ترك الهوى، ولا عمل أفضل من الفكر، ولا حسنة أعلى من الصبر، ولا سيئة أخزى من الكبر، ولا دواء أنفع من الرفق، ولا داء أوجع من الخرق، ولا رسول أعدل من الخلق، ولا دليل أنصح من الصدق، ولا فقر أذل من الطمع، ولا غنى أشقى من الجمع، ولا حياة أطيب من الصحة، ولا معيشة أهنأ من العفة، ولا عبادة أحسن من الخشوع، ولا زهد خير من القنوع، ولا حارس أحفظ من الصمت، ولا غائب أقرب من الموت» (4) .

وقال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع» (5) .

وقال صلى الله عليه وسلم: «يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب» (6) .

(1) انظر: إحياء علوم الدين (4/387) .

(2)

انظر: إحياء علوم الدين (4/387) .

(3)

انظر: إحياء علوم الدين (4/387) .

(4)

انظر: إحياء علوم الدين (4/387) .

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (4/298، رقم 4992) ، والحاكم في المستدرك (1/195، رقم 381) ، وابن حبان في صحيحه (1/213، رقم 30) عن أبي هريرة.

(6)

أخرجه أحمد في مسنده (5/252، رقم 22224) عن أبي أمامة.

قال الهيثمي (1/92) : منقطع بين الأعمش وأبي أمامة.

ص: 60

وقال صلى الله عليه وسلم: «يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنوكم» (1) .

وعن عبد الله بن جراد قال: قلت: يا رسول الله المؤمن يزني؟ قال: «قد يكون ذلك» ، المؤمن يسرق؟ قال:«قد يكون ذلك» ، المؤمن يكذب؟ قال:«لا» .

قال الله تعالى: ?إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ? [النحل: 105] .

وقال صلى الله عليه وسلم: «ويل لمن يحدث فيكذب ليضحك القوم ويل له، ويل له» (2) .

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليقول الكلمة لا يقول إلا ليضحك بها الناس، يهوى بها أبعد ما بين السماء والأرض، وإنه ليزل عن لسانه أشد مما يزل عن قدميه» (3) .

وقال صلى الله عليه وسلم: «من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهو كذبه» (4)

رواه أحمد.

وعن عبد الله بن عامر رضي الله عنه دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتنا فقالت: هاك تعالى أعطيك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لها:«أما إنك لو لم تعطه شيئاً كتبت عليك كذبة» (5) رواه أبو داود والبيهقي.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/12، رقم 7) ، وأحمد في مسنده (2/349، رقم 8580) عن أبي هريرة.

(2)

أخرجه أبو داود في سننه (4/297، رقم 4990) ، والترمذي في سننه (4/557، رقم 2315) وقال: حسن. والنسائي في الكبرى (6/509، رقم 11655) ، والطبراني في المعجم الكبير (19/403، رقم 951) ، والحاكم في المستدرك (1/108، رقم 142) ، والدارمي في سننه (2/382، رقم 2702) ، وأحمد في مسنده (5/5، رقم 20058) ، وهناد في الزهد (2/554، رقم 1150) ، والروياني في مسنده (2/107، رقم 910) عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.

(3)

أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/213، رقم 4832) ، وابن المبارك في الزهد (1/255، رقم 734) عن أبي هريرة.

(4)

أخرجه أحمد في مسنده (2/452، رقم 9835) عن أبي هريرة.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/142) : رواه أحمد من رواية الزهري عن أبي هريرة ولم يسمعه منه.

(5)

أخرجه أبو داود في سننه (4/298، رقم 4991) ، والبيهقي في الكبرى (10/198، رقم 20628) . وأخرجه أيضاً: أحمد في مسنده (3/447، رقم 15740) ، والضياء في المختارة (9/483، رقم 466) ، وابن أبي شيبة في المصنف (5/236، رقم 25609) .

ص: 61

وقال عبد الله المبارك: «من عقوبة الكذاب أنه يرد عليه صدقه» (1) .

وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كذب العبد كذبة تباعد منه الملك مسيرة ميل من نتن ما جاء به» (2) .

وفي الموطأ عن ابن مسعود قال: «لا يزال العبد يكذب وتنكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه كله، فيكتب ثم الله من الكاذبين» (3) .

نعم يجوز الكذب في صور ويجب في صور، أما الصور التي يجب فيها الكذب فثلاث:

الأولى: في الحرب بأن يظهر لمن يراه الناس خلاف ما يبطن لأجل الحرب، فإن الحرب خدعة ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يريد غزوة يغزوها إلا وري بغيرها (4) .

الثانية: في الإصلاح بين شخصين أو طائفتين.

الثالثة: الكذب لأجل إرضاء زوجته كأن يشتري لها شيئاً بثمن لا ترضى به إلا أن يكون بأكثر فيخبرها الأكثر كاذباً.

ففي الصحيحين أن أم كلثوم رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، فينمي خيراً أو يقول خيراً» (5) .

وزاد مسلم في رواية: «قالت أم كلثوم ولم أسمعه يرخص في شيء مما تقوله الناس إلا في ثلاث» يعني في الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته والمرأة زوجها.

(1) أورده الخطيب في الكفاية في علم الرواية (1/117) .

(2)

أخرجه الترمذي في سننه (4/348، رقم 1972) وقال: حسن غريب. وابن عدي في الكامل (5/283، ترجمة 1421 عبد الرحيم بن هارون) ، وأبو نعيم في الحلية (8/197) .

(3)

أخرجه مالك في الموطأ (2/990، رقم 1794) .

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه (3/1078، رقم 2787) ، ومسلم في صحيحه (4/2128، رقم 2769) عن كعب بن مالك.

(5)

أخرجه البخاري في صحيحه (2/958، رقم 2546) ، ومسلم في صحيحه (4/2011، رقم 2605) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (4/280، رقم 4920) ، والترمذي في سننه (4/331، رقم 1938)، وقال: حسن صحيح. وأحمد في مسنده (6/403، رقم 27313) ، والطبراني في المعجم الكبير (25/77، رقم 192) عن أم كلثوم بنت عقبة.

ص: 62

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكذب مكتوب إلا أن يكذب الرجل في الحرب فإنه خدعه، أو يكذب بين اثنين فيصلح بينهما، أو يكذب لامرأته ليرضيها» (1) .

وأما الصور التي يجب فيها الكذب فمنها: ما إذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله وسأله شخصاً مسلماً عنه هل يعرف محله فإنه يجب عليه الكذب، وإذا حلف وجب عليه أن يحلف أنه لا يعلم مكانه، ولا إثم عليه بل يثاب على هذا الكذب ثواب الواجب، نعم إن كان الحلف في هذه الصورة بالطلاق وقع عليه.

ومنها: لو كان عند إنسان وديعة لشخص فسأله ظالم عنها ليأخذها منه، وجب عليه الكذب، فإن حلَّفه الظالم بالله تعالى جاز له الحلف كاذباً لمصلحة الوديعة ووجب عليه تكفير يمينه، فلو لم يحلف وأخبره بأن الوديعة عنده فأخذها الظالم قهراً وجب ضمانها عليه، وإن أكرهه الظالم في هذه الصورة على الحلف بالطلاق فهو مخير بين الحلف وبين الاعتراف والتسليم، فإن اعترف وسلم ضمن على المذهب لأنه فدى زوجته بالوديعة، وإن حلف بالطلاق أن الوديعة ليست عنده طلقت زوجته على المذهب، لأنه فدى الوديعة بزوجته.

فائدة: الكذب على المسلم كأن قال رأيت في منامي ولم ير شيئاً حرام.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين طرفي شعيرة، ومن استمع بحديث قوم وهم له كارهون صب أذنيه الآنك، ومن صور صورة كلف أن ينفخ فيها روح وليس بنافخ» (2) رواه البخاري.

ومعنى «تحلم» : قال إنه حلم في نومه، ورأى كذا وكذا، وهو كاذب.

«والآنك» بالمد وضم النون وتخفيف الكاف: الرصاص المذاب قاله النووي.

وأما «الخيانة» : فهي التصرف في الأمانة على خلاف الشرع كالجناية في الوديعة فإنها أمانة في يد المودع، فإذا تلفت الوديعة تحت يده من غير تقصير فلا ضمان عليه لعدم خيانته، أما إذا قصر فيها فإنه يضمن، وأسباب الضمان كثيرة نقلها الفقهاء رضي الله عنهم.

(1) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (4/204، رقم 4798) .

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه (6/2581، رقم 6635) . وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (4/306، رقم 5024) ، والترمذي في سننه (4/231، رقم 1751) وقال: حسن صحيح. وأحمد في مسنده (1/359، رقم 3383) .

ص: 63

ويدل على تحريم الخيانة في الأمانة الحديث الذي ذكره البخاري حيث جعل الخيانة إحدي علامات المنافق.

وقول الله تعالى: ?فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ? [البقرة: 283] .

وقوله تعالى: ?إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أهلها? [النساء: 58] .

وقوله صلى الله عليه وسلم: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» (1)

حسنة الترمذي وصححه الحاكم على شرط مسلم.

وأما الغدر وهو مخالفة العهد، فالذي يدل على تحريمه الحديث الذي ذكره البخاري.

وقول الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ? [المائدة: 1] .

وقوله تعالى ?وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كان مَسْئُولاً? [الإسراء: 34] .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال هذه غدرة فلان» (2) .

لطيفة في الوفاء بالعهد وعدم الغدر: نقل الإخباريون عن عبد الله بن المبارك أنه كان في غزوة فالتقى هو ومجوسي للقتال فدخل وقت الصلاة، فقال للمجوسي: دخل وقت الصلاة عبادتنا اصبر على حتى أصلي، وعاهدني على أن لا تقصدني بمكروه حتى أفرغ من الصلاة، فعاهده على ذلك، ثم توضأ عبد الله بن المبارك

(1) أخرجه الترمذي في سننه (3/564، رقم 1264) وقال: حسن غريب، والحاكم في صحيحه (2/53، رقم 2296) وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرجه أيضاً: أبو داود في سننه (3/290، رقم 3535) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/271، رقم 21092) عن أبي هريرة.

وأخرجه الطبراني في الكبير (1/261، رقم 760) ، وفي الصغير (1/288 رقم 475) ، والدارقطني (3/35) ، وأبو نعيم في الحلية (6/132) ، والحاكم في المستدرك (2/53، رقم 2297) وقال: على صحيح على شرط مسلم. والبيهقي في السنن الكبرى (10/271، رقم 21093) ، والضياء في المختارة (7/281، رقم 2738) عن أنس.

قال الهيثمي (4/145) : رواه الطبراني في الكبير والصغير، ورجال الكبير ثقات.

وأخرجه الطبراني في الكبير (8/127، رقم 7580) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/271، رقم 21092) وقال: ضعيف. كلاهما عن أبي أمامة.

قال الهيثمي (4/145) : فيه يحيى بن عثمان بن صالح المصري، قال ابن أبي حاتم: تكلموا فيه.

(2)

أخرجه ابن ماجه في سننه (2/959، رقم 2872) ، وأبو يعلى في مسنده (9/234، رقم 5342) .

ص: 64

وصلى، والمجوسي ينظر ولا يتكلم حفظاً للعهد، فلما فرغ من صلاته التقيا للقتال فلم يقدر أحدهما على الآخر إلى أن جاء وقت غروب الشمس، وعبادة المجوسي هي السجود للشمس وقت طلوعها وغروبها، فقال المجوسي لعبد الله بن المبارك: دخل وقت عبادتنا عاهدني أنت أيضاً كما عاهدتك واصبر على حتى أفرغ من عبادتي ولا تغدر. فعاهده عبد الله بن المبارك على ذلك، فلما سجد للشمس وثب عليه عبد الله بن المبارك بسيفه ليقتله وهو ساجد، فهتف به هاتف: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، فرجع فلما فرغ المجوسي قال له: مالك هممت بي ثم رجعت؟ قال: سمعت هاتفاً يقول كذا، فقال المجوسي: نعم الرب ربك يعاتب وليه لأجل عدوه، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.

لطيفة أخرى: عاهد بعض الصالحين ربه عز وجل أن لا يستغيث بأحد من الخلق إلا به سبحانه وتعالى، فخرج إلى الحج فمر في طريقه على بئر والنوم في عينيه فسقط فيه، ولم يقدر على الخروج منه، فمر بالبئر رجلان فقال أحدهما للآخر: هذا البئر يضر بالمارين فلا نبرح حتى نطمه من طريق الناس، وهو يسمع ما قالاه من أسفل البئر، فأراد أن يستغيث بهما فذكر العهد فسكت فطماه وذهبا، فأرسل الله سبعاً ففتح البئر وناوله يده فرفعه بها فسمع هاتفاً يقول: من التجأ في مهماته إلينا، ولم يتكل على سوانا، وناجاني في الغيب فنجيناه من التلف.

وأنشد في المعنى:

إذا لم يكن بيني وبينك مرسل

فريح الصبا مني إليك رسول

لطيفة ثالثة: طلب الحجاج رجلاً ليقتله فقال: أيها الأمير عندي ودائع للناس فأمهلني حتى أردها، فأعرض عنه وقال: لا أطلقك إلا بكفيل، فخرج الرجل يطلب كفيلاً يكفله ومعه جماعة الحجاج، فوجد رجلاً جميل الوجه من أقارب الحجاج فقاله له: ما اسمك؟ فقال: عبد الكريم، فأخبره بقصته مع الحجاج، فقال: أنا أكفلك عنده. وكفله عند الحجاج، فقال له الحجاج: إن لم يأت أقتلك مكانه وإن بيني وبينك قرابة. قال: نعم، فذهب الرجل ورد ودائع الناس فلما أبطأ على الحجاج طلب الكفيل، وأمر بقتله فقال له: دعني أصلي ركعتين ثم أفعل ما أردت، فصلى ركعتين ثم قال: يا رب إن الرجل اطمأن إليَّ لأني عبد الكريم وأنت الكريم. ثم رفع السياف سيفه وأراد ضربه، وإذا بالرجل قد أقبل فقال له السياف: كيف رجعت

ص: 65

إلى القتل؟ والحجاج يسمع فقال: ردني قوله تعالى: ?وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ? [النحل: 91] ?وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ? [البقرة: 40] والوفاء بالعهد من الإيمان، فلا أخرج من الإيمان لأجل حياة زائلة، فقال الحجاج: أذهبا فقد عفوت عنكما.

وأما الفجور في الخصومة فهو حرام كما يدل على تحريمه الحديث المذكور، وقوله صلى الله عليه وسلم:«كفي بالمرء إثما أن لا يزال مخاصماً» (1) .

والخصومة: لجاج في الكلام ليستوفي به الإنسان مقصوده من مال أو غيره، نعم إن خاصم الإنسان بحق يستوفي حقه فليس ذلك بحرام، وإنما الحرام المذموم من المخاصمة أن يخاصم بباطل أو بغير علم، كبعض وكلاء القضاة فإنه يتوكل بالخصومة قبل أن يعرف الحق في أي جانب فيخاصم بغير علم، فالخصومة مبدأ الشر، وهي توغر الصدر وتهيج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحقد بينهما، فأطلق كل واحد منهما لسانه في حق الآخر، فينبغي للعاقل أن لا يفتح عليه باب الخصومة إلا لضرروة بالغة، وحينئذ يحفظ لسانه وقلبه عن آفاتها.

قال بعضهم: ما رأيت شيئاً أذهب للدين ولا أنقص للمروءة، ولا أضيع للذة، ولا أشغل للقلب من الخصومة.

فائدة: قال العلماء: ينبغي للإنسان إذا قال خصمه: بيني وبينك كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال العلماء المسلمين أو نحو ذلك، أو قال: اذهب معي إلى حاكم المسلمين، أو للمفتي للفصل في الخصومة التي بيننا وما أشبه ذلك أن يقول: سمعنا وأطعنا، أو سمعاً وطاعة، أو نعم وكرامة أو شبه ذلك.

قال الله تعالى: ?إِنَّمَا كان قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ? [النور: 51] .

وإذا قال له خصمه في المخاصمة والمنازعة في أمر: اتق الله، أو خف الله تعالى، أو راقب الله تعالى، أو اعلم أن الله مطلع عليك، أو اعلم أن ما تقوله يكتب عليك أو تحاسب عليه، أوقال له: قال الله تعالى ?يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراًّ? [آل عمران: 30] ، وقال تعالى ?وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى

(1) أخرجه الترمذي في سننه (4/359، رقم 1994)، وقال: غريب. والطبراني في الكبير (11/57، رقم 11032) ، والبيهقي في شعب الإيمان (6/340، رقم 8432) عن ابن عباس.

ص: 66

اللَّهِ? [البقرة: 281] ، أو نحو ذلك فيبنغي أن يتأدب ويقول سمعاً وطاعة، أو سل الله التوفيق، أو اسأل الله الكريم لطفه، ويتلطف في مخاطبة من قال ذلك، وليحذر كل الحذر من تساهله عند ذلك في عبارات فإن كثيراً من الناس يتكلمون عند ذلك بما لا يليق، وربما يتكلم بعضهم بما يكون كفراً.

وأما الخلف في العهد فهو حرام جداً عند جماعة من العلماء، وبه قال عمر بن العزيز، والذي يذهب الإمام الشافعي والإمام أبو حنيفة والجمهور من العلماء أن خلف الوعد ليس بحرام بل مكروه كراهة تنزيه كراهة شديدة، وقالوا: يستحب الوفاء به، وعند المالكية إن ارتبط الوعد بسبب كقوله: تزوج، أعط كذا فوجب الوفاء به وكان خلفه حراماً، وإن كان وعداً مطلقاً فلا يجب الوفاء به.

فالحاصل: أن خلف الوعد إما حراماً وإما مكروهاً.

قال الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ? [الصف: 2، 3] .

والوفاء بالوعد من أخلاق الأنبياء والأولياء والصالحين نفعنا الله بهم أجمعين.

قال القاضي عياض: باع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث من إنسان شيئاً وبقي له بقية، فقال له ذلك الإنسان: قف مكانك يا محمد حتى آتيك بالبقية، فذهب ونسي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان، فاستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان ثلاثة أيام حفظاً للوعد، ثم تذكر بعد اليوم الثالث فجاء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لقد شققت عليَّ أنا ههنا منذ ثلاثة أيام انتظرك» (1) .

وذكر بعض المفسرين في قوله حكاية عن إسماعيل: ?إِنَّهُ كان صَادِقَ الوَعْدِ? [مريم: 54] أن رجلاً قال له: اجلس يا إسماعيل في هذا المكان حتى آتيك فجلس فيه سنة، ثم جاءه فقال له: مكانك حتى آتيك فجلس فيه سنة أخرى، فقال له: مكانك حتى آتيك فغاب عنه سنة، ثم جاءه وهو في ذلك المكان لم يتغير، فلذلك وصفه الله بأنه كان صادق الوعد.

(1) أخرجه أبو داود في سننه (4/299، رقم 4996) ، وابن سعد في الطبقات الكبرى (7/59) ، والضياء في المختارة (9/260، رقم 226) ، والبيهقي في السنن الكبرى (10/198، رقم 20624) عن عبد الله بن أبي الحمساء.

ص: 67

وأفاد بعضهم أنه وقع نظير هذا للشيخ العارف بالله تعالى الرباني سيدي عبد القادر الكيلاني، وكان القائل الخضر.

لطيفة خاتمة: قال في روض الأفكار: خرج رجل من أهل اليمن لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم فقال له جماعة: سلم لنا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر، فلما دخل المدينة وزار قبره الشريف صلى الله عليه وسلم نسي تبليغ السلام عليه وعلى صاحبيه فخرج مع القافلة، فذكر ما حمله ذلك الرجل من السلام، فترك القافلة ورجع إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله: فلان ابن فلان يسلم عليك وعلى صاحبيك. ثم رجع ليلحق القافلة فوجدهم قد رحلوا فرجع بقلب مكسور إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ونام فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر فقال أبو بكر: هذا الرجل يا رسول الله؟ قال: نعم. فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا أبا الوفاء. قلت: يا رسول الله كنيتي أبو العباس. فقال: أنت أبو الوفاء، وأخذ بيدي فوضعني في مكان غير مكاني، فانتبهت فرأيت نفسي في المسجد الحرام، فأقمت بمكة ثمانية أيام حتى جاء الحجاج.

* * *

ص: 68