المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس الرابع والثلاثون - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ٢

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس الرابع والثلاثون

‌المجلس الرابع والثلاثون

في الكلام على حديث: «لا تكذبوا علي فإنه من كذب علي»

وفيه ذكر شيء من فضل سيدنا علي رضي الله عنه

قَالَ البُخَارِي:

باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم

«حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِى مَنْصُورٌ قَالَ سَمِعْتُ رِبْعِىَّ بْنَ حِرَاشٍ

»

وربعي بن حراش تابعي ثقة كوفي عابد ورع، وكان أعور، ويقال: من فضائله أنه لم يكذب قط، وكان له ابنان عاصيان على الحجاج فقيل للحجاج: إن أباهما لم يكذب كذبة قط، لو أرسلت إليه وسألته عنهما فأرسل إليه عنهما فقال: أين ابناك؟ فقال: هما في البيت. قال: قد عفونا عنهما بصدقك.

ومن فضائله: أنه حلف لا يضحك حتى يعلم أين مصيره إلى الجنة والنار، فما ضحك إلا بعد الموت.

وكان له أخوان أحدهما يقال له: مسعود، وهو الذي تكلم بعد الموت، والآخر ربيع وهو أيضاً: حلف أن لا يضحك حتى يعرف أهو في الجنة أم النار، فقال غاسله: إنه لم يزل بعد موته مبتسماً على سريره حتى فرغنا.

قال ابن المديني: لم يرو عن أخيه مسعود شيء إلا كلامه بعد الموت.

وربعي: منسوب إلى الربيع، أدرك علياً وحدث عنه، وكانت وفاته في خلافة عمر بن عبد العزيز.

«قال سمعت ربعي بن حراش يقول: سمعت علياً رضي الله عنه»

هذا هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يجتمع مع رسول الله رضي الله عنه في عبد المطلب الجد الأدنى، ينسب إلى هاشم فيقال: القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ابن عم رسول الله لأبويه، ولم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام علياً، ويكني أبا الحسن وأبا تراب كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحب أسمائه إليه.

وما نقله في الفصول المهمة لبعض المالكية من أن سيدنا علي بن أبي طالب ولدته أمة في جوف الكعبة، فهو ضعيف عند العلماء كما نقله النووي ولم يولد في جوف الكعبة سوى حكيم بن حزام دخلت أمة الكعبة وهي حامل، فضربها المخاض، فأتيت بنطع فولدته في الكعبة، ولا يعرف ذلك لغيره.

ص: 161

وأمه اسمها: فاطمة بنت أسد أسلمت وهاجرت، وهي أول هاشمية وضعت هاشمياً، ماتت في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ونزل في قبرها وتمعك فيه.

فقد روى عمر بن شبة في كتاب المدينة قال: بينما هو صلى الله عليه وسلم في أصحابه أتاه آت فقال: إن أم علي وجعفر وعقيل قد ماتت، فقال:«قوموا بنا إلى أمي» قال: فقمنا كأن على رؤوسنا الطير، فلما انتهينا إلى الباب نزع قميصه وقال «إذا كفنتموها فأشعروه إياها تحت أكفانها» فلما خرجوا إلى القبر جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة يحمل ومرة يتقدم ومرة يتأخر، حتى انتهينا إلى القبر فتمعك اللحد، ثم خرج فقال:«ادخلوها بسم الله وعلى اسم الله» فلما دفنوها قام قائما وقال: «جزاك الله من أم ومن مربيه خيراً» وسألناه عن نزع قميصه وتمعكه في اللحد فقال: «أردت أن لا تمسها النار إن شاء الله تعالى، وأن يوسع الله عليها قبرها» وقال: «ما أعفي أحد من ضغطه القبر إلا فاطمة بنت أسد» قيل: يا رسول الله ولا القاسم ابنك؟ قال: «ولا إبراهيم» (1) .

وجاء في رواية عن أنس أنه قال لما ماتت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعنها، دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عند رأسها فقال:«رحمك الله كنت بأبي وأمي بعد أمي تجوعين وتشبعين، وتعرين وتكسين، وتمنعي نفسك طيب الطعام وتطعميني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة» ثم أمر أن تغسل ثلاثاً فلما أتى الماء الذي فيه الكافور سكبه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ثم خلع رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه وألبسها إياه وكفنها فوقه، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب رضي الله عنهم وغلاماً أسود يحفرون قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرج ترابه بيده، فلما فرغ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاضطجع فيه ثم قال:«الحمد لله الذي يحي ويميت وهو حي لا يموت، اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي إنك أنت ارحم الراحمين» وكبر عليها أربعاً وأدخلها اللحد هو والعباس وأبو بكر الصديق رضي الله عنهم (2) .

(1) أورده ابن أبي حاتم في العلل (1/365، رقم 1080)، وقال: قال أبي: هذا حديث منكر جدا.

(2)

أخرجه الطبراني في الكبير (24/351، رقم 871) ، وفي الأوسط (1/67، رقم 189)، قال الهيثمي (9/257) : فيه روح بن صلاح وثقه ابن حبان والحاكم، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح. وأبو نعيم في الحلية (3/121) .

ص: 162

ودفنت بالبقيع وعليها قبة عظيمة بقرب سيدنا عثمان، وسنذكر في كتاب الجنائز حكمة عصر القبر للآدمي، وفوائد متعلقة بذلك إن شاء الله تعالى.

ومن فضائل علي رضي الله عنه: أنه أول من أسلم على قول، وقيل: أول أسلم أبو بكر، وقيل: خديجة، وقيل: زيد بن حارثة، وقيل: بلال.

قال العراقي: والصواب التفصيل، وهو أن يقال: أول من أسلم من الرجال: أبو بكر. ومن النساء: خديجة. ومن الصبيان: على. ومن العبيد: بلال. ومن الموالي: زيد بن حارثه.

واختلف في عمره لما أسلم فقيل: كان عمره سبع سنين، وقيل: تسعة، وقيل: عشر، وقيل غير ذلك.

وكان يقول: سبقتكم إلى الإسلام طراً صغيراً ما بلغت أوان حلمي (1) .

وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء قاله الطبري (2) .

ومن فضائله: أنه أول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المحب الطبري: قال علي: «صليت قبل أن يصلي الناس بسبع سنين» (3) .

وفي رواية: «صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين قبل أن يصلي معنا أحد من الناس» (4) أخرجه أحمد.

وجاء في حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لقد صلت الملائكة عليَّ وعلى علي لأنا كنا

(1) انظر التحقيق في أحاديث الخلاف لابن الجوزي (2/235) .

(2)

ورد في ذلك أثر عن علي بن أبي طالب حيث قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين وأسلمت يوم الثلاثاء. أخرجه أبو يعلى (1/348، رقم 446)، قال الهيثمي (9/102) : فيه مسلم بن كيسان الملائي وقد اختلط.

(3)

أخرجه النسائي في الكبرى (5/106، رقم 8395) ، وابن ماجه (1/44، رقم 120)، قال البوصيري في مصباح الزجاجة (1/20) : إسناد صحيح رجاله ثقات. والحاكم (3/120، رقم 4584) ، وابن أبي شيبة (6/368، رقم 32084) .

(4)

ما وقفنا عليه في مسند الإمام أحمد (1/99، رقم 776) . عن حبة العرني قال رأيت عليا رضي الله عنه ضحك على المنبر لم أره ضحك ضحكا أكثر منه حتى بدت نواجذه ثم قال ذكرت قول أبي طالب ظهر علينا أبو طالب وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصلي ببطن نخلة فقال ماذا تصنعان يا بن أخي فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقال ما بالذي تصنعان بأس أو بالذي تقولان بأس ولكن والله لا تعلوني أستي أبداً وضحك تعجباً لقول أبيه ثم قال: اللهم لا أعترف أن عبداً لك من هذه الأمة عبدك نبيك ثلاث مرات لقد صليت قبل أن يصلي الناس سبعاً.

ص: 163

نصلي وليس يصلي معنا أحد» (1) .

ويروى أن أبا طالب قال لعلي لما رآه يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي بني ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ قال له: «يا أبت آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقت بما جاء به، وصليت معه لله، واتبعته» فزعموا أنه قال: «أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه» (2) .

وفي رواية قال له: «يا بني أطع ابن عمك، فإنه لا يأمرك إلا بخير، وأما أنا فلا أفارق دين آبائي» .

ومن خصائصه: أنه كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزله الرأس من الجسد، وبمنزلة هارون من موسى، فقد نقل الطبري عن البراء أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: «أنت مني بمنزلة رأسي من جسدي» (3) .

وود أنه قال: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي» (4) .

ومن فضائله وخصائصه: ما ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه قال: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخي بيني وبين أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنت أخي في الدنيا والآخرة» (5) .

فائدة: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين الصحابة مرتين، مرة في مكة ومرة في المدينة، وأنكر ابن تيمية المؤآخات التي كانت في المدينة بين المهاجرين والأنصار، وكان عددهم مائة، ويقال: تسعين، والحكمة في المؤآخات: أن تزول الوحشة عن المهاجرين.

ومن فضائله: ما أخرجه أحمد في المناقب عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على باب الجنة مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي أخو رسول الله قبل أن تخلق السماوات والأرض بألفي عام» (6) .

(1) أخرجه الديلمي (3/433، رقم 5331) عن أبي أيوب.

(2)

انظر: السيرة الحلبية (1/436) .

(3)

أخرجه ابن عساكر (42/ 344) .

(4)

أخرجه البخاري (3/1359 رقم 3503) ، ومسلم (4/1870، رقم 2404) ، والترمذي (5/641، رقم 3731) وقال: حسن. وابن ماجه (1/42، رقم 115) ، والطيالسي (1/28، رقم 205) ، وأحمد (1/179، رقم 1547) عن سعد بن أبي وقاص.

(5)

أخرجه ابن عساكر (42/51) عن ابن عمر.

(6)

أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (2/668، رقم 1140) . وأخرجه أيضاً: الطبراني في الأوسط (5/343، رقم 5498) . قال الهيثمي (9/111) : فيه أشعث ابن عم الحسن بن صالح. وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/238، رقم 379) وقال: لا يصح. وأبو نعيم في الحلية (7/256) ، والخطيب (7/387) والديلمي (4/123، رقم 6380) .

ص: 164

وقريب من هذه الفضيلة ما نقل عن ابن عباس قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم وإذا بطائر في فمه لوزة خضرة، مكتوب عليها بالأصفر لا إله إلا الله محمد رسول الله نصرته بعلي.

وأما زهده فقد نقل: أن قوته كان دقيق الشعير فيأخذ منه قبضه فيضعها في قدح، ثم يصيب ماء ويشرب.

وكان رضي الله عنه يوماً جالساً فجاءه التياح فقال: يا أمير المؤمنين امتلأ بيت المال من صفراء وبيضاء فقال: الله أكبر فقام ونادى في الناس فأعطى ما في بيت المال لفقراء المسلمين، وهو يقول: يا صفراء يا بيضاء غري غيري ها وها، حتى ما بقي منه دينار ولا درهم، ثم أمر بنضحه وصلى فيه ركعتين رجاء أن يشهد له يوم القيامة (1) .

قال الأرقم: رأيت علياً رضي الله عنه وهو يبيع سيفاً له في السوق ويقول: من يشتري مني هذا السيف، فوالذي فلق الحبة لطالما كشفت به الحروب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان عندي ثمن إزار ما بعته.

وأما كرماته فكثيرة:

منها ما ذكره في شوارد الملح: أن رجلاً قال لعلي إني أريد السفر وأخاف من السبع، فدفع إليه خاتمة وقال له: إذا جاءك السبع فقل له: هذا خاتم علي بن أبي طالب. فلما سافر الرجل وجاءه السبع فقال له: هذا خاتم علي بن أبي طالب، فرفع السبع رأٍسه إلى السماء وهمهم، ثم نظر إلى الأرض وهمهم، ثم نظر إلى المشرق وكذلك إلى المغرب، ثم ذهب مهرولاً، فلما رجع الرجل من سفره أخبر علياً عن السبع بما فعل، قال: أتعرف ماذا قال بنظره إلى هذه الجهات الأربع؟ فقال: الله ورسوله أعلم وابن عم رسوله أعلم، فقال: إنه قال حين رفع نظره إلى السماء: وحق من رفعها، وحين نظر إلى الأرض: وحق من وضعها، وحين نظر إلى المشرق: وحق من أطلعها، وحين نظر إلى المغرب: وحق من غيبها ما أسكن في بلاد يشكوني فيها لعلي بن أبي طالب.

ومن كراماته التي ظهرت له وهو في بطن أمه ما ذكره النسفي: أن أمه لما حملت به كانت إذ ذاك تعبد الأصنام، فكانت إذا أرادت السجود للصنم يعترض في بطنها فيمنعها من السجود للصنم.

(1) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1/531، رقم 884) ، وأبو نعيم في الحلية (1/81) .

ص: 165

قال بعضهم: فذلك يقال له دون غيره من الصحابة: كرم الله أي: كرم الله وجهه من السجود للصنم في حال كونه حملاً وبعد انفصاله.

ومن كراماته التي وقعت له وهو رضيع ما ذكره ابن الجوزي: أنه كان رضي الله عنه في مهده فقصدته حية فانحدر من مهده ونزل إليها وقتلها، فتعجبت أمه من ذلك فسمعت هاتفاً يقول: هذا حيدرة انحدر من مهده إلى عدوه فقتله.

ومنها: ما ذكره النسفي أن فاطمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله إن علياً ينام ليلة الجمعة وهي ليلة فضيلة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن الله تعالى تصدق عليه بنومه ليلة الجمعة، وإن الله تعالى يخلق من روحه إذا هو نام طيراً أخضر يسرح إلى طرق السماء، فما منها موضع شبر إلا وفيه لروح علي ركعة أو سجدة» .

قال النسفي فلذلك كان يقول: سلوني عن طريق السماوات فإني أعلم بها من طريق الأرض، فلما قال ذلك يوماً جاءه جبريل في صورة رجل ليختبره فقال: إن كنت صادقاً فأخبرني أين جبريل؟ فنظر علي رضي الله عنه في السماء يميناً وشمالاً ثم إلى الأرض كذلك فقال: ما وجدته في السماء ولا في الأرض، ولعله أنت.

وأما علمه رضي الله عنه فقد كان غزير العلم، ومما وقع له من الغرائب في العلم ما قاله ابن العماد في الذريعة والمحب الطبري وغيرهما قالا: جلس رجلان يأكلان ومع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة فخلطا الأرغفة فمر بهما رجل فسلم عليهما، فقالا له: اجلس وكل معنا، فجلس وأكل معهما واستووا في أكلهم الأرغفة الثمانية، فلما فرغوا قام الرجل القادم عليهما وطرح لهما ثمانية دراهم وقال: خذا هذا عوضاً عما أكلت لكما من خبزكما، فتنازع صاحب الخمسة أرغفة وصاحب الثلاثة في الثمانية دراهم، فقال صاحب الخمسة أرغفة: لي خمسة دراهم ولك ثلاثة، فقال صاحب الثلاثة: لا أرضى إلا أن تكون الدراهم بيننا نصفين، لك أربعة ولي أربعة فارتفعا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقصا عليه القصة، فقال لصاحب االثلاثة: إرض بثلاثة دراهم فإن خبز رفيقك أكثر من خبزك، فخذ منه الثلاثة ودع له الخمسة، فقال: لا والله لا رضيت إلا بمر الحق، فقال علي رضي الله عنه: ليس لك بمر الحق إلا درهم واحد وله سبعة، فقال الرجل سبحان الله يا أمير المؤمنين هو يعطيني ثلاثة وما أرضى بها وتقول الآن ليس لك إلا واحد، فقال له علي رضي الله عنه: أليس الثمانية أرغفة أربعة وعشرين ثلثاً أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس على السواء؟ قال: بلى قال: فأكلت أنت ثمانية أثلاث يبقي لك واحد، فإن لك تسعة أثلاث لأن لك ثلاثة أرغفة إذا جعلت أثلاثا كانت تسعة، وأكل صاحبك ثمانية

ص: 166

أثلاث وله خمسة عشر ثلثاً، لأن الخمسة أرغفة إذا جعلت أثلاثاً كانت خمسة عشر، أكل منها ثمانية يبقى له سبعة، وأكل الضيف

ثمانية أثلاث سبعة أثلاث لصاحبك، فاستحق السبعة، والثلث الذي لك فلك الدرهم، فقال الرجل: رضيت الآن.

والضابط في ذلك أن يوزع المبلغ على الأرغفة التي أكلها الدافع.

ومما وقع له أيضاً رضي الله عنه: أن رجلاً في زمانه تزوج امرأتين فولدتا في ليلة مظلمة، فأتت إحداهما بصبي والأخرى بأنثى، فاختصما في الصبي وكل منهما تقول: هذا ولدي، فارتفعا إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمر كل امرأة أن تجلب من لبنها شيئاً، ثم وزن الحليبين فرجح أحدهما على الآخر، فحكم بأن الصبي لصاحبة اللبن الراجح، فقيل: من أين أخذت هذا؟ قال من قوله تعالى: ?لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ? [النساء: 11] فالله تعالى فضل الذكر على الأنثى في كل شيء حتى في غذائه.

والحديث المشهور على ألسنة الناس: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» قال ابن الملقن: إنه حديث منكر.

لكن قال شيخنا الحافظ العلامة الجلال السيوطي: هذا الحديث أخرجه الترمذي من حديث علي (1) .

والطبراني والحاكم وصححه من حديث ابن عباس (2) .

وحسنه الحافظ العلائي وابن حجر.

وجاء في رواية: «أنا دار الحكمة وعلي بابها» (3) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه» (4)

حديث صحيح كما قاله النووي

(1) أخرجه الترمذي (5/637، رقم 3723) بلفظ: «أنا دار الحكمة» . قال الترمذي: غريب منكر.

(2)

أخرجه الطبراني في الكبير (11/65، رقم 11061)، قال الهيثمي (9/114) : فيه عبد السلام بن صالح الهروي وهو ضعيف. وأخرجه الحاكم (3/137، رقم 4637) .

(3)

أخرجه الترمذي (5/637، رقم 3723) وقال: غريب منكر. وأبو نعيم في الحلية (1/64) عن علي.

(4)

أخرجه الحاكم (3/143، رقم 4652) عن ابن عباس.

وأخرجه ابن أبي شيبة (6/374، رقم 32132) ، وأحمد (5/347، رقم 22995) ، والحاكم (3/119، رقم 4578) عن بريدة.

وأخرجه أحمد (4/281، رقم 18502) عن البراء.

وأخرجه الطبراني في الكبير (2/357، رقم 2505) عن جرير. قال الهيثمي (9/106) : فيه بشر بن حرب وهو لين ومن لم أعرفه أيضًا.

وأخرجه الترمذي (5/633، رقم 3713) وقال: حسن صحيح. والنسائي في الكبرى (5/130، رقم 8464) ، والطبراني في الكبير (3/179، رقم 3049) عن زيد.

وأخرجه ابن أبي شيبة (6/366، رقم 32072) عن جابر. وأخرجه ابن أبي شيبة (6/366، رقم 32073) ، والطبراني في الكبير (4/173، رقم 4052) عن أبي أيوب.

وأخرجه الطبراني (19/291، رقم 646) عن مالك بن الحويرث. قال الهيثمي (9/106) : رجاله وثقوا.

ص: 167

في فتاويه.

واتفق من اللطائف الغرائب بسبب هذا الحديث ما ذكره القرطبي في تفسيره في سورة «سأل» أن شخصاً يقال له: «الحارث» لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه» يا محمد: أمرتنا بالشهادتين فقبلنا منك، وأمرتنا بالصلاة الخمس عن الله فقبلنا منك، وذكر الزكاة والحج، ثم لم ترض حتى فضلت علينا علياً آلله أمرك بهذا أم من عندك؟ فقال:«والله الذي لا إله إلا هو إنه من عند الله» ، فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فنزل عليه حجر من السماء فقتله (1) .

وقد ورد في فضل من أحب سيدنا علياً وفي ذم من أبغضه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أحب علياً فقد أحبني، ومن أبغض علياً فقد أبغضني، ومن آذى علياً فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله» .

وفي رواية: «من أحب علياً فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله، ومن أبغض عليا فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله» (2) .

ولله در القائل:

علي حبه جنة

إمام الناس والجنة

وصهر المصطفى حقاً

ويقتسم للورى الجنة

(1) انظر: تفسير القرطبي (18/278) .

(2)

أخرجه الطبراني في الكبير (23/380، رقم 901) عن أم سلمة، قال الهيثمي (9/132) : إسناده حسن.

وأخرجه الحاكم (3/141، رقم 4648) عن سلمان، وقال: صحيح على شرط الشيخين.

ص: 168

فائدة: سئل العراقي رضي الله عنه من أحب علياً أكثر من أبي بكر وعمر وعثمان هل يكون بذلك آثماً أم لا؟

أجاب: بأن المحبة قد تكون لأمر ديني،، وقد تكون لأمر دنيوي، فالمحبة الدينية لازمة للأفضلية فمن كان أفضل كانت محبتنا الدينية له أكثر، فمتى اعتقد الإنسان أن أبا بكر أفضل ثم أحب علياً من جهة الدين أكثر، كان هذا تناقضاً وهو آثم بهذه المحبة، وأما المحبة الدنيوية فليست لازمة فإذا أحب علياً أكثر من أبي بكر لأمر دنيوي تكون من أقاربه وغير ذلك فلا تناقض في ذلك، وليس بآثم بهذه المحبة، إذ من اعترف بأن أفضل هذه الأمة بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أبو بكر لكنه أحب علياً أكثر من أبي بكر فإنه كانت المحبة المذكورة محبة دينية فهذا لم يعترف بأفضلية أبي بكر إلا بلسان وأما بقلبه فهو مفضل لعلي لكونه أحب محبة دينية زائدة على محبة أبي بكر وهذا لا يجوز، وإن كانت المحبة المذكورة محبة دنيوية ككونه من ذرية علي رضي الله عنه أو لغير ذلك من المعاني فلا امتناع من ذلك والله اعلم.

وسنذكر في كتاب الوضوء طرفاً آخر من ترجمة سيدنا علي.

«

سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم «لَا تَكْذِبُوا عَلَىَّ، فَإِنَّهُ مَنْ كَذَبَ عَلَىَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ» (1) .

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد عظيمة منها:

قوله: «لا تكذبوا علي» : عام في كل كاذب، مطلق في كل نوع من الكذب، ومعناه لا تنسبوا الكذب إلي. ولا مفهوم لقوله:«علي» لأنه لا يتصور أن يكذب له لنهيه عن مطلق الكذب. وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب وقالوا: نحن لم نكذب عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، وما دروا أن تقويله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى، لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام والمكروه. ولا يعتد بمن خالف ذلك من الكرامية حيث جوزوا وضع الكذب في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في القرآن والسنة واحتجوا بأنه كذب له لا عليه، وهو جهل باللغة العربية. وتمسك بعضهم بما ورد في بعض طرق الحديث من زيادة لم تثبت وهي ما أخرجه البزار من حديث ابن مسعود بلفظ: «من كذب على ليضل به الناس

الحديث» الحديث، وقد اختلف في وصله وإرساله، ورجح الدارقطني والحاكم إرساله، وأخرجه الدارمي من حديث يعلى بن مرة بسند ضعيف، وعلى تقدير ثبوته فليست اللام فيه للعلة بل للصيرورة كما فسر قوله تعالى: ?فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِّيُضِلَّ النَّاسَ? [الأنعام: 144] والمعنى: أن مآل أمره إلى الإضلال، أو هو من تخصيص بعض أفراد العموم بالذكر فلا مفهوم له كقوله تعالى: ?لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً? [آل عمران: 131] ?وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ? [الأنعام: 151] فإن قتل الأولاد ومضاعفة الربا والإضلال في هذه الآيات إنما هو لتأكيد الأمر فيها لا لاختصاص الحكم.

قوله: «فليلج النار» جعل الأمر بالولوج مسببا عن الكذب، لأن لازم الأمر الإلزام والإلزام بولوج النار سببه الكذب عليه أو هو بلفظ الأمر ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم من طريق غندر عن شعبة بلفظ «من يكذب علي يلج النار» ولابن ماجه من طريق شريك عن منصور قال:«الكذب علي يولج -أي يدخل- النار» . انظر فتح الباري (1/199 - 200) .

ص: 169

هنا فوائد:

الأولى: قال العلماء: الكذب عند الأشاعرة: الأخبار بالشيء على خلاف ما هو عمداً كان أو سهواً.

وعند المعتزلة: إنما يسمى كذباً في حالة العمد، ولا يسمى كذباً في حال السهو، بدليل أن الإجماع منعقد على أن الناسي لا إثم عليه.

وأجاب عنه الأشاعرة: بأنه لا يلزم من عدم الإثم عدم تسميته كذباً، وأما ما جاء في بعض الروايات:«من كذب عليَّ متعمداً» فهو لبيان أن إثم الكذب إنما في حال العمد لا في حال السهو، ولا لبيان أنه لايسمى كذباً إلا إذا كان عمداً.

الثانية: الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم حرام، وهو فاحشة عظيمة من الكبائر سواء أكان عمداً أو سهواً وليس كذلك، بل إنما يكون من الكبائر إذا كان عمداً، بدليل الرواية الأخرى:«من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» (1)

فهو مطلق محمود على

(1) حديث متواتر أخرجه البخاري (1/52، رقم 108) ومسلم (1/10، رقم 2) ، والترمذي (5/35، رقم 2660) وقال: حسن صحيح. والنسائي في الكبرى (3/458 رقم 5914) ، وابن ماجه (1/13، رقم 32) ، والطيالسي (1/277، رقم 2084) ، وأحمد (3/98، رقم 11960) عن أنس.

وأخرجه أحمد (3/303 رقم 14294) والدارمي (1/87، رقم 231) ، وابن ماجه (1/13، رقم 33) وأبو يعلى (3/376، رقم 1847) عن جابر.

وأخرجه البخاري (1/52، رقم 107) ، وأبو داود (3/319، رقم 3651) ، والنسائي في الكبرى (3/457، رقم 5912) ، وابن ماجه (1/14 رقم 36)، والطيالسي (ص: 27، رقم 191) ، وأحمد (1/165، رقم 1413) عن الزبير.

وأخرجه الترمذي (5/36، رقم 2662) عن علي، وقال: حسن صحيح.

وأخرجه الطبراني في الكبير (8/35، رقم 7302) ، والحاكم (3/454، رقم 5712) عن صهيب.

وأخرجه أبو يعلى (2/7، رقم 631) ، والطبراني في الكبير (1/114، رقم 204) عن طلحة.

وأخرجه أبو يعلى (2/428، رقم 1229) ، وابن ماجه (1/14، رقم 37) عن أبي سعيد.

وأخرجه الترمذي (5/35، رقم 2659) ، وابن ماجه (1/13، رقم 30) عن ابن مسعود.

وأخرجه الطبراني في الكبير (12/293، رقم 13153) قال الهيثمي (1/143) : رجاله موثقون. والخطيب (7/418) عن ابن عمر.

وأخرجه البزار (7/202، رقم 2774) ، والطبراني (8/316، رقم 8181) قال الهيثمي (1/147) : فيه خلف بن خليفة وثقه يحيى بن معين وغيره وضعفه بعضهم. كلاهما عن أبي مالك الأشعري.

وأخرجه الطبراني في الكبير (12/36، رقم 12394) عن ابن عباس.

ص: 170

هذا الحديث المقيد بالعمدية.

الثالثة: ذهب الإمام أبو محمد الجويني إلى أن من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم عمداً يكفر ويراق دمه.

واختاره الإمام ناصر الدين ابن المنير (1) ووجهه: بأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلاً لا ينفك عن استحلال الحرام أو الحمل على استحلاله، واستحلال الحرام كفر والحمل على الكفر كفر.

قال ابن حجر: فيما قاله نظر لا يخفى، وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد ذلك واستحله، لكن يفسق كما يفسق مرتكب الكبيرة، قالوا: وما قال الجويني ضعيف، وممن ضعفه ولده إمام الحرمين وقال: من هفوات الوالد.

الرابعة: الكذب على غيره صلى الله عليه وسلم من الأنبياء كبائر أيضاً قياساً عليه كما نبه على ذلك القاضي زكريا في كتابه غاية الوصول.

وأما الكذب على غير نبي فهو من الصغائر إلا أن يقترن به ما يصيره كبيرة، كأن يعلم الكاذب على إنسان أنه يقتل بكذبه أو يحد فهو حينئذ من الكبائر.

قال ابن عبد السلام: وعليه يحمل خبر الصحيحين: «إن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذاباً» (2) .

الخامسة: من كذب عليه صلى الله عليه وسلم عمداً وحدث فسق وردت رواياته كلها، وبطل الاحتجاج بجميعها.

(1) هو: ابن المنير السكندري واسمه: أحمد بن محمد بن منصور من علماء الأسكندرية وأدبائها ولي قضاءها وخطابتها مرتين. ولد سنة: 620 هـ، له تصانيف منها: تفسير حديث الاسراء على طريقة المتكلمين، والانتصاف من الكشاف، وله نظم، وكانت وفاته في سنة: 683 هـ.

(2)

أخرجه البخاري (5/2261، رقم 5743) ، ومسلم (4/2012، رقم 2607) ، وأبو يعلى (9/71، رقم 5138) ، وابن حبان (1/508، رقم 273) ، والبيهقي (10/243، رقم 20927) عن ابن مسعود.

ص: 171

فلو تاب وحسنت توبته قال الإمام أحمد وجماعة من الشافعية: لا تقبل رواياته أبداً بل يحتم جرحه دائماً.

ورده النووي وقال: هذا مخالف للقواعد، والمختار القطع بصحة توبته وقبول روايته بعدها، قال: بدليل أن العلماء أجمعوا على صحة رواية من كان كافراً وأسلم، وعلى قبول شهادة تحملها كافر ثم أداها بعد الإسلام، كما إذا تحملها صبي وأداها بعد البلوغ، وكما إذا تحملها وأداها بعد التوبة.

السادسة: لا فرق في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بعد ما كان في الأحكام وغيره كالترغيب والترهيب فكله حرام بإجماع من يعتد به.

وأما ما ذهب إليه الكرَّامية من جواز الوضع عليه صلى الله عليه وسلم في الترغيب والترهيب، فهو مذهب باطل.

قال شيخ الإسلام ابن حجر: وقد اغتر قوم من الجهلة فوضعوا أحاديث في الترغيب والترهيب وقالوا: نحن لم نكذب عليه بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، وما دروا أن تقويله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل يقتضي الكذب على الله تعالى لأنه إثبات حكم من الأحكام الشرعية سواء كان الإيجاب أو الندب وكذا مقابلتهما.

السابعة: من روى حديثاً ظن أو علم أنه موضوع، ولم يبين حال رواته وضعفهم فهو داخل في هذا الوعيد، وقد صرح بهذا في حديث آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم:«من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين» (1) .

الثامنة: يدخل في وعيد هذا الحديث من قرأ الحديث ولحن فيه، ولهذا قال العلماء: ينبغي للراوي أن يعرف من اللغة والنحو والأسماء ما يسلم من قول ما لم يقل.

وروى ابن الصلاح بسنده عن الأصمعي أنه قال: إن أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار» لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يلحن، فمهما رويت عنه

(1) أخرجه ابن ماجه (1/14، رقم 38) عن علي.

وأخرجه مسلم (1/8) ، وابن ماجه (1/15 رقم 39) ، والطيالسي (1/121 رقم 895) ، وابن حبان (1/211، رقم 29) عن سمرة.

وأخرجه مسلم (1/8) ، والترمذي (5/36، رقم 2662) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (1/15، رقم 41) ، وأحمد (4/250، رقم 18209) ، والطبراني في الكبير (20/422، رقم 1021) عن المغيرة.

ص: 172

حديثاً ولحنت فيه كذبت عليه.

التاسعة: قوله «فليلج النار» بلفظ الأمر ومعناه الخبر، ويؤيده رواية مسلم:«من يكذب علي يلج النار» (1) المعنى: أن جزاءه على كذبه ولوج النار، وقد يجازى وقد يعفو الله عنه، ولا يقطع بدخوله النار وكذا كل وعيد ككبيرة غير الكفر.

قال البرماوي وغيره: وإن جوزي بدخول النار فلا يخلد، بل لابد من خروجه بفضل الله ورحمته.

* * *

(1) أخرجه مسلم (1/9، رقم 1) .

ص: 173

قَالَ البُخَارِي: «حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ

»

المراد بأبيه عبد الله بن الزبير، ولنذكر شيئاً من ترجمته فتقول: هو الصحابي ابن الصحابي أمير المؤمنين وكان يكني بكنيتين أحديهما: أبو بكر، والأخرى: أبو حبيب بابنه حبيب، وهو أول مولود ولد في الإسلام للمهاجرين بالمدينة، وهاجرت أمه أسماء بنت الصديق من مكة وهي حامل به فولدته في سنة ثتنتين من الهجرة، لعشرين شهراً من التاريخ ففرح به أهل المدينة فرحاً شديداً، وذلك أنهم قيل: إن اليهود قد سحرتكم ولا يولد لكم ولد، ثم أتت به النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره فدعا بتمره فمضغها ثم تفل في فمه وحنكه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق النبي صلى الله عليه وسلم ثم دعا له.

روى السهيلي وغيره أن عبد الله بن الزبير لما ولد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو هو» فلما سمعت بذلك أسماء أمسكت عن إرضاعه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه ولو بماء عينيك» .

وكان وصولاً لرحمة، وكان رضي الله عنه فصيحاً، ذا أنفة، أطلس، لا لحية له ولا شعر في وجهه، وكان كثير الصوم والصلاة، شديد البأس، كريم الجدات والأمهات والخالات.

ومن فضائله: أنه كان إذا صلى صار كأنه عود من الخشوع، وكان إذا سجد يطول حتى تنزل العصافير على ظهره، لا تحسبه إلا جذماً، وكان مرة يصلي وإذا بحية سقطت من سقف البيت على ابنه ثم تطوقت على بطنه وهو نائم، فصاح أهل البيت ولم يزالوا بها حتى قتلوها وهو يصلي، وما التفت ولا عجل ولا علم، فلما فرغ بعد ما قتلت الحية فقال: ما بالكم فأخبروه.

قالت أمه: كان صواماً بالنهار قواماً بالليل، وكان يسمى خادم المسجد، وكان وصولاً لرحمة.

ومن فضائله: أنه كان عظيم المجاهدة، قسم الدهر ثلاث ليال، ليلة يصلي قائماً وليلة يصلي راكعاً وليلة يصلي ساجداً حتى الصباح.

ومن فضائله: أنه أحد العبادله الاًربعة وهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والرابع هو رضي الله عنهم، وليس منهم عبد الله بن مسعود، وغلَّطوا الجوهري حين عده منهم.

تولى الخلافة بعد موت معاوية بن يزيد ستة أربع وستين، واجتمع على طاعته أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان ما عدا أهل الشام، وجدد عمارة الكعبة وجعل لها

ص: 174

بابين وحج الناس ثماني حجج، وبقي في الخلافة إلى أن حصر.

قال الواقدي: حصر ابن الزبير ليلة هلال ذي القعدة سنة اثنين وسبعين ستة أشهر وسبع عشر بمكة المشرق، وكان حصره أشد الحصار، وكان المحاصر له الحجاج وجماعته، واستمر محاصراً إلى أن اصابته رمية حجر جاءته من ناحية الصفا فوقعت بين عينيه فنكس رأسه وهو يقول:

لسنا على الأعقاب تدمي في كلومنا

ولكن على أقدامنا يقطر الدم

فاجتمعوا عليه فلم يزالوا يضربونه حتى قتلوه، وكان قتلة يوم الثلاثاء لست عشر ليلة خلت من جماد الأول سنة ثلاث وسبعين، وهو ابن اثنين وسبعين سنة في أيام عبد الملك بن مروان، وأمر الحجاج بصلب جثته وحمل رأسه إلى خراسان.

وقال يعلى بن حرملة: دخلت مكة بعد ما قتل الحجاج عبد الله بن الزبير بثلاثة أيام فإذا هو مصلوب، فجاءت أمه امراة عجوز كبيرة طويلة مكفوفة البصر تقاد فقالت للحجاج: أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ فقال لها الحجاج: تقولين عن هذا المنافق، فقالت: والله ما كان منافقاً، ولكنه كان صواماً قواماً براً، قفال: انصرفي إنك عجوز قد خرفت، قالت: لا والله ما خرفت، ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«يخرج من ثقيف كذاب ومبير» فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت المبير (1) .

ويروى أن عبد الله بن عمر مر على ابن الزبير وهو مصلوب فقال: رحمك الله فإنك كنت صواماً قواماً وصولاً للرحم، وإنى أرجو أن لا يعذبك الله عز وجل.

وقيل: إن الحجاج أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر بعد أن صلبه فأبت أن تأتيه، فأعاد عليها الرسول: إما أن تأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك، قال: فأبت وقالت: والله لا آتيك حتى تبعث إلى من يسحبنى بقروني، فأخذ الحجاج بغلته وانطلق إليها حتى دخل عليها فقال لها: كيف رأيتينى صنعت بعدو الله؟ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك.

وكان السبب في إنزاله من الخشبه أخوه عروة فإنه ذهب إلى عبد الملك بن مروان فرغب إليه في إنزاله من الخشبة فاسعفه فأنزل، ثم أمرت أمه أسماء ابن أبي ملكية بغسله

(1) أخرجه الطبراني في الكبير (24/101، رقم 272)، قال الهيثمي (7/256) : رواه الطبراني وأبو المحياة وأبوه لم أعرفهما.

ص: 175

فقال: كنا لا نتناول عضواً إلا جاء معنا، وكنا نغسل العضو ونضعه في أكفانه حتى فرغنا منه، ونتناول العضو الذي يليه فتغسله ثم نضع في أكفانه حتى فرغنا منه، ثم قامت تصلي عليه، وكانت تقول قبل ذلك: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني بجثته، فما أتت عليها جمعه حتى ماتت.

«قال: أي عبد الله بن الزبير قلت للزبير»

هذا هو قاتل الأبطال، وباذل الأموال، صاحب السيف الصارم، والرأي الحازم أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب.

قال العلماء: «الزبير» بضم الزاي «ابن العوام» بتشديد الواو لم يزل اسمه في الجاهلية والإسلام الزبير، ويكنى: أبي عبد الله، يجتمع نسبه بنسب النبي صلى الله عليه وسلم في قصي بن كلاب، وينسب إلى أسد بن عبد العزى فيقال: القرشي الأسدى، أمه صفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت وهاجرت، والنبي صلى الله عليه وسلم ابن خاله، وكان إسلامه بعد أبي بكر رابعاً أو خامساً قاله المحب الطبرى.

وفي الكرمانى: أسلم رابع أربعة أو خامس خمسة على يد الصديق رضي الله عنه وكان عمره لما أسلم ستة عشر سنة، وقيل: اثنتى عشرة سنة.

ولما أسلم كان عمه يلفه في حصير ويدخن عليه بالنار، ويقول له: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبداً.

وصفته: أنه كان طويلا تخط رجلاه الأرض إذا ركب، خفيف العارضين، أسمر اللون، قال الكرماني: كان أشعر الكتف.

ومن فضائله: أنه أحد العشرة المبشرون بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، وأحد المهاجرين الأولين إلى الحبشة والمدينة.

ومن خصائصه: أنه أول من سل سيفاً في سبيل الله عز وجل، ودعا له النبي صلى الله عليه وسلم لفعله ذلك وذلك أنه ورد عن سعيد بن المسيب أنه قال: أول من سل سيفاً في سبيل الله الزبير بن العوام، بينا هو بمكة إذ سمع نغمة يعني صوتاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فخرج عرياناً ما عليه شيء، في يده السيف صلتاً، فتلقاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له:«مالك يا زبير؟» قال: سمعت أنك قد قتلت، قال:«فما كنت صانعاً؟» قال: أردت والله أن استعرض أهل مكة أي: أقتل ولا أسأل عن أحد قال: فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن فضائله: أنه حواري النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لكل نبى

ص: 176

حواري، وحواري الزبير» (1) .

وفي صحيح مسلم: «ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ثم ندبهم، فانتدب الزبير ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكل نبي حواري وحواري الزبير» (2) ومعنى الحواري: الناصر والحواريون أنصار عيسى عليه الصلاة والسلام، ومعنى ندب فانتدب أي: دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاب.

ومن فضائله: أنه كان على رأسه في غزوة بدر عمامة صفراء فنزلت الملائكة على رؤسهم عمائم صفر على سيماه قاله المحب الطبري.

والحكمة في نزولهم موافقين له أن هذه الحرب أول حرب للملائكة فنزلت على سيما أول محارب لله عز وجل وفي سبيله.

ومن فضائله: أنه شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في صدره أمثال العيون من الطعن والرمي، وكان كثير الصدقة.

قال كعب: كان للزبير ألف مملوك يؤدون إليه الخراج فما يدخل بيته منها درهم واحد كان يتصدق بذلك كله، وكان رضي الله عنه تاجراً محظوظاً أي: له حظ في التجارة، وسئل عن ذلك فقال: لأني لم أشتري معيباً ولم أزد ربحاً والله يبارك لمن يشاء.

قتل رضي الله عنه في وقعة الجمل فإنه كان مع عائشة، قال أبو الأسود الدؤلى: لما دنا علي وأصحابه والزبير، ودنت الصفوف بعضها من بعض خرج علي على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى الزبير فأقبل حتى اختلف أعناق دوابهما فقال علي: يا زبير نشدتك بالله أتذكر يوم مر بك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكان كذا وكذا وقال: «يا زبير تحب علياً؟» قلت: ألا أحب علياً ابن خالي وعلى ديني؟ فقال: «يا علي أتحبه؟» فقلت: يا رسول الله: ألا أحب ابن عمتي وعلى ديني؟ فقال: «يا زبير لتقاتلنه وأنت له ظالم» قال: بلى

(1) أخرجه البخاري (3/1047، رقم 2692) ، ومسلم (4/1879، رقم 2415) ، والترمذي (5/646، رقم 3745) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (1/45، رقم 122) ، وأحمد (3/338، رقم 14675) ، وعبد بن حميد (1/328، رقم 1088) عن جابر بن عبد الله.

وأخرجه الحاكم (3/408، رقم 5558) عن الزبير بن العوام، وقال: صحيح على شرط الشيخين.

وأخرجه الترمذي (5/646، رقم 3744) وقال: حسن صحيح. والطبراني في الكبير (1/119، رقم 228) ، وابن أبي شيبة (6/377، رقم 32168) ، والحاكم (3/414، رقم 5579) ، وأحمد (1/102، رقم 799) ، وأبو يعلى (1/445، رقم 594) عن علي.

(2)

أخرجه مسلم (4/1879، رقم 2415) عن جابر بن عبد الله.

ص: 177

والله لقد أنسيته مذ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكرته الآن، والله لا أقاتلك، فرجع الزبير على دآبته يشق الصفوف، فعرض له ابنه عبد الله، وقال مالك يعنى رجعت قال: ذكرني علي حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لتقاتلنه وأنت له ظالم» ولا أقاتله ثم رجع منصرفاً إلى المدينة (1) .

قيل: علم أنه يقتل في ذلك اليوم فأنشد في حال رجوعه:

ولقد علمت لو أن علمي نافعاً

أن الحياة من الممات قريب

فلما وصل إلى مكان بناحية البصرة يقال له: وادي السباع لحقه ابن جرموز، ومعه شخصان فقتلوه، ثم قطع ابن جرموز رأسه وجاء به علياً رضي الله عنه واستأذن في الدخول عليه فلم يأذن له بل قال لشخص عنده وقد علم بأن معه رأس الزبير: بشر قاتل ابن صفية بالنار.

ورأى علي سيفه بعد ذلك فتأمل وقال: طالما فرج بهذا السيف الكرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كان قتله رضي الله عنه يوم الخميس لعشر خلون من جمادي الآخرة ستة وثلاثين، وفي ذلك اليوم كانت وقعة الجمل، واختلف في سنة يوم قتل فقيل: سبع وستون سنة، وقيل: ست وستون سنة، وقيل: أربعة وستون، وقيل غير ذلك، ودفن في موضع قتله، ثم حول إلى البصرة، وقبره مشهور فيها.

روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانيه وثلاثون حديثاً، اتفقا منها على اثنين وانفرد البخاري بسبعة، أنشد فيه حسان بن ثابت:

أقام على هدي النبي وعهده

حواريه والقول بالفعل يعدل

أقام على منهاجه وطريقه

يولي ولي الحق والحق أعدل

هو الفارس المشهور والبطل الذي

يصول إذا ما كان يوماً يحجل

له من رسول الله قربى قريبة

ومن نصرة الإسلام مجد موثل

فكم كربة ذب الزبير بسيفه

عن المصطفى والله يعطي ويجزل

إذا كشفت عن ساقها الحرب هشها

بأبيض سباق إلى الموت يرفل

فما مثله فيهم وما كان قبله

وليس يكون الدهر ما دام يذبل

ثناؤك خير من فعال معاشر

وفعلك يا ابن الهاشميته أفضل

(1) أخرجه الحاكم بنحوه من طريق آخر عن على (3/412، رقم 5573) .

ص: 178

«

قُلْتُ لِلزُّبَيْرِ إِنِّى لَا أَسْمَعُكَ تُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا يُحَدِّثُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ. قَالَ أَمَا إِنِّى لَمْ أُفَارِقْهُ وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (1) .

قال البرماوى: هذا الحديث في نهاية الصحة، وقيل: إنه متواتر، وقال بعضهم: روي عن أكثر من ستين صحابياً، منهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وقال بعض آخر: رواه مائتان من الصحابة.

قال ابن الصلاح: ثم لم يزل عدده في إزدياد على الاستمرار، وليس في الأحاديث

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:

قوله: «كما يحدث فلان وفلان» : سمى منهما في رواية ابن ماجه عبد الله بن مسعود.

قوله: «أما إني لم أفارقه» أي لم أفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم زاد الإسماعيلي: «منذ أسلمت» والمراد في الأغلب وإلا فقد هاجر الزبير إلى الحبشة، وكذا لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حال هجرته إلى المدينة. وإنما أورد هذا الكلام على سبيل التوجيه للسؤال، لأن لازم الملازمة السماع، ولازمه عادة التحديث، لكن منعه من ذلك ما خشيه من معنى الحديث الذى ذكره.

قوله: «من كذب علي» كذا رواه البخاري ليس فيه «متعمداً» وقد أخرجه الدارمي من طريق أخرى عن عبد الله بن الزبير بلفظ: «من حدث عني كذبا» ولم يذكر العمد. وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه من اختيار قلة التحديث دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه سواء كان عمدا أم خطأ، والمخطئ وإن كان غير مأثوم بالإجماع لكن الزبير خشى من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر، لأنه وإن لم يأثم بالخطأ لكن قد يأثم بالإكثار إذ الإكثار مظنة الخطأ، والثقة إذا حدث بالخطأ فحمل عنه وهو لا يشعر أنه خطأ يعمل به على الدوام للوثوق بنقله، فيكون سبباً للعمل بما لم يقله الشارع، فمن خشي من إكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم إذا تعمد الإكثار، فمن ثم توقف الزبير وغيره من الصحابة عن الإكثار من التحديث. وأما من أكثر منهم فمحمول على أنهم كانوا واثقين من أنفسهم بالتثبت، أو طالت أعمارهم فاحتيج إلى ما عندهم فسئلوا فلم يمكنهم الكتمان. رضى الله عنهم.

قوله: «فليتبوأ» أي فليتخذ لنفسه منزلا، يقال تبوأ الرجل المكان إذا اتخذه سكنا، وهو أمر بمعنى الخبر أيضاً، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التهكم، أو دعاء على فاعل ذلك أي بوأه الله ذلك.

وقال الكرماني: يحتمل أن يكون الأمر على حقيقته، والمعنى من كذب فليأمر نفسه بالتبوء ويلزم عليه كذا، قال: وأولها أولاها، فقد رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر بلفظ «بنى له بيت في النار» .

قال الطيبي: فيه إشارة إلى معنى القصد في الذنب وجزائه، أي كما أنه قصد في الكذب التعمد فليقصد بجزائه التبوء. انظر فتح الباري (1/200 - 201) .

ص: 179

ما في مرتبته من التواتر ولا للمتواتر مثال إلا هو، وتوافره معنوي، فإن اختلاف الروايات في الألفاظ مع الاشتراك في المعاني نحو:«من تعمد علي كذباً» ، و «من يقل علي ما لم أقل» ، و «من كذب علي متعمداً» يسمى مثله بالمتواتر من جهة المعنى أي: القدر المشترك الحاصل من جميع الألفاظ متواتر.

وادعى بعض العلماء: أنه ليس في الأحاديث حديث اجتمع على روايته إلا هذا ورده البرماوي وقال: قد اجتمع العشرة في حديث رفع اليدين والمسح على الخفين، وقال البرماوى أيضاً: المحفوظ في حديث الزبير أنه ليس فيه متعمداً، وقد روي عن الزبير أنه قال:«والله ما قال متعمداً وأنتم تقولون متعمداً» (1) .

قوله: «فليتبوأ» أمر للغائب يجوز فيه كسر اللام، والمشهور سكونها، والتبوء: اتخاذ المبأة أي: المنزل، فليتخذ له منزلاً من النار، وهو أمر معناه الخبر، وحينئذ فمعنى «فليتبوأ مقعده من النار» : أن الله يبوئه مقعده من النار، قال الكرماني: ويحتمل أنه أمر على حقيقته وأنه يلزم بالتبوء.

قال الطيبى: الأمر بالتبوء تهكم وتغليظ، إذ لو قيل: كان مقعده النار لم يكن فيه هذا التغليظ.

* * *

(1) أخرجه الشاشي (1/97، رقم 34) .

ص: 180

قال البخاري: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ أَنَسٌ إِنَّهُ لَيَمْنَعُنِى أَنْ أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثاً كَثِيراً أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَال: «مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِباً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (1) .

قال الكرماني: قوله: «كذبا» عام في جميع أنواع الكذب، لأن النكرة في سياق الشرط كالنكرة في سياق النفي في إفادة العموم.

* * *

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:

قوله: «حديثا» : المراد به جنس الحديث، ولهذا وصفه بالكثرة.

قوله: «أن النبي صلى الله عليه وسلم» : هو وما بعده في محل الرفع لأنه فاعل «يمنعني» وإنما خشى أنس مما خشى منه الزبير، ولهذا صرح بلفظ الإكثار لأنه مظنة، ومن حام حول الحمى لا يأمن وقوعه فيه، فكان التقليل منهم للاحتراز، ومع ذلك فأنس من المكثرين لأنه تأخرت وفاته فاحتيج إليه ولم يمكنه الكتمان. ويجمع بأنه لو حدث بجميع ما عنده لكان أضعاف ما حدث به. ووقع في رواية عتاب مولى هرمز، سمعت أنسا يقول:«لولا أني أخشى أن أخطئ لحدثتك بأشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم» الحديث أخرجه أحمد، فأشار إلى أنه لا يحدث إلا ما تحققه ويترك ما يشك فيه. وحمله بعضهم على أنه كان يحافظ على الرواية باللفظ فأشار إلى ذلك بقوله:«لولا أن أخطئ» . وفيه نظر، والمعروف عن أنس جواز الرواية بالمعنى كما أخرجه الخطيب عنه صريحا، وقد وجد في رواياته ذلك كالحديث في البسملة، وفي قصة تكثير الماء عند الوضوء، وفي قصة تكثير الطعام.

قوله: «كذبا» : هو نكرة في سياق الشرط فيعم جميع أنواع الكذب. انظر فتح الباري (1/201) .

ص: 181

قال البخاري: حَدَّثَنَا مَكِّىُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِى عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» . (1) .

قال ابن حجر: هذا أول ثلاثي وقع في البخاري، فيه أعلى من الثلاثيات، وقد أفردت فبلغت أكثر من عشرين حديثاً والحديث الثلاثي هو ما كان فيه بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين البخاري ثلاثة.

* * *

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:

هذا الحديث أول ثلاثي وقع في البخاري، وليس فيه أعلى من الثلاثيات، وقد أفردت فبلغت أكثر من عشرين حديثاً.

قوله: «من يقل» : أصله يقول وإنما جزم بالشرط.

قوله: «ما لم أقل» أي شيئا لم أقله فحذف العائد وهو جائز وذكر القول لأنه الأكثر وحكم الفعل كذلك لاشتراكهما في علة الامتناع وقد دخل الفعل في عموم هذه الأحاديث، فلا فرق في ذلك بين أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وفعل كذا إذا لم يكن قاله أو فعله، وقد تمسك بظاهر هذا اللفظ من منع الرواية بالمعنى. وأجاب المجيزون عنه بأن المراد النهى عن الإتيان بلفظ يوجب تغير الحكم مع أن الإتيان باللفظ لا شك في أولويته. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/201 - 202) .

ص: 182

قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِى حَصِينٍ عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَال: َ «تَسَمَّوْا بِاسْمِى وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِى، وَمَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِى، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِى صُورَتِى، وَمَنْ كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (1) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: «تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي» إيضاحه أنه يجوز التسمية باسم النبي صلى الله عليه وسلم ولا يتكني بكنيته بل يكون التكني بغير كنيته صلى الله عليه وسلم.

والكنية: ما صدر بأب أو أم كأبي بكر وأم هانيء.

واللقب: ما أشعر بمدح أو ذم نحو: مجد الدين وكمال الدين، وأنف الناقة.

والاسم: كمحمد وزيد وغيرهما.

فاسم النبي صلى الله عليه وسلم المشهور: «محمد» ، وكنيته:«أبو القاسم» ، ولقبه:«رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

وإذا علمت ذلك فاعلم أن في الحديث دلالة على جواز التسمي باسمه صلى الله عليه وسلم محمد أو غيره من أسمائه فإن ذلك نافع في الدنيا والآخرة.

(1) للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:

قوله: ذكر البخاري هذا الحديث بتمامه في كتاب الأدب من هذا الوجه، وقد اقتصر مسلم في روايته له على الجملة الأخيرة وهي مقصود الباب، وإنما ساقه المؤلف بتمامه ولم يختصره كعادته لينبه على أن الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم يستوي فيه اليقظة والمنام. والله سبحانه وتعالى أعلم.

فإن قيل: الكذب معصية إلا ما استثنى في الإصلاح وغيره، والمعاصى قد توعد عليها بالنار، فما الذي امتاز به الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوعيد على من كذب على غيره؟ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما أن الكذب عليه يكفر متعمده عند بعض أهل العلم، وهو الشيخ أبو محمد الجويني، لكن ضعفه ابنه إمام الحرمين ومن بعده، ومال ابن المنير إلى اختياره، ووجهه بأن الكاذب عليه في تحليل حرام مثلا لا ينفك عن استحلال ذلك الحرام أو الحمل على استحلاله، واستحلال الحرام كفر، والحمل على الكفر كفر. وفيما قاله نظر لا يخفى، والجمهور على أنه لا يكفر إلا إذا اعتقد حل ذلك. الجواب الثاني أن الكذب عليه كبيرة والكذب على غيره صغيرة فافترقا، ولا يلزم من استواء الوعيد في حق من كذب عليه أو كذب على غيره أن يكون مقرهما واحداً أو طول إقامتهما سواء، فقد دل قوله صلى الله عليه وسلم:«فليتبوأ» على طول الإقامة فيها، بل ظاهره أنه لا يخرج منها لأنه لم يجعل له منزلا غيره، إلا أن الأدلة القطعية قامت على أن خلود التأبيد مختص بالكافرين، وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الكذب عليه وبين الكذب على غيره. انظر فتح الباري (1/202 - 203) .

ص: 183

وقد ورد في فضل التسمي باسمه أخبار كثيرة روى عن أبي أمامة الباهلى رضي الله عنه عن رسول صلى الله عليه وسلم قال: «من ولد له مولود فسماه محمدا حباً لي وتبركاً باسمي، كان هو ومولوده في الجنة» (1) .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا كان يوم القيامة ناد مناد من قبل الله عز وجل ألا من اسمه محمد فيلقم، فإذا اجتمعوا بين يدي الله عز وجل أمر بهم إلى الجنة كرامة لاسم النبي صلى الله عليه وسلم» .

وروي عن الحسن البصري أنه قال: «إن الله ليوقف العبد بين يديه يوم القيامة اسمه أحمد أو محمد قال: فيقول الله تعالى له: عبدى أما استحييتني وأنت تعصينى واسمك اسم حبيبي محمد صلى الله عليه وسلم، فينكس العبد رأسه حياء ويقول: اللهم إني قد فعلت، فيقول عز وجل: يا جبريل خذ بيد عبدي فأدخله الجنة، فإني استحي أن أعذب بالنار من اسمه اسم حبيبى محمد صلى الله عليه وسلم» .

وعن علي بن موسى الرضي عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سميتم الولد محمداً فعظموه ووقروه وبجلوه ولا تذلوه ولا تحقروه ولا تجبهوه، ولا تردوا له قولا تعظيماً لمحمد صلى الله عليه وسلم» (2) .

وجاء في الحديث: «إن البيت إذا كان فيه من اسمه محمد اتسع بأهله، وكثر خيره، وحضرته الملائكة، وبعد منه الشيطان» .

وجاء في حديث آخر: «ما اجتمع قوم في مشورة ومعهم رجل اسمه محمد فلم يدخلوه في مشورتهم إلا لم يبارك لهم» (3) .

وأما التكني بكنيته أبي القاسم فقد اختلف العلماء في ذلك: فذهب إمامنا الشافعي وأهل الظاهر إلى أنه لا يحل لأحد أن يتكنى بأبي القاسم، سواء كان اسمه محمد أو غيره، كان في زمنه أو بعده، وحمل الشافعي ومن تبعه النهي على العموم، ومنع قوم

(1) أخرجه الرافعي (2/343) عن أبي أمامة.

(2)

أخرجه الخطيب (3/91) . وأورده الذهبي في الميزان (4/59، ترجمة 4205 عبد الله بن أحمد بن عامر عن أبيه عن علي الرضا عن آبائه) وذكر أنه حدث بنسخة موضوعة باطلة ما تنفك عن وضعه أو وضع أبيه.

وأخرجه بنحوه الديلمي (1/340، رقم 1354) عن جابر.

(3)

أخرجه ابن عدي (1/168، ترجمة 4 أحمد بن كنانة شامى)، وقال: منكر الحديث. وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/174، بعد رقم 267) عن علي.

ص: 184

من القائلين بهذا المذهب تسميته الولد بالقاسم، كي لا يكون سبباً لتكنيته والده بأبي القاسم، ويؤيد هذا قوله في الحديث:«إنما أنا القاسم» (1) فأخبر بالمعنى الذي اقتضى اختصاصه بهذا الكنية.

وذهب الإمام مالك إلى جواز التكني به بعد زمانه، وجعل النهي مختصاً بحياته صلى الله عليه وسلم قال: لأن الحديث ورد على سبب وهو: أن اليهود في زمانه تكنوا بهذه الكنية، وكانوا إذا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادون يا أبا القاسم فيلتفت صلى الله عليه وسلم فيقولون: لم نعنك، إظهاراً للإيذاء، قال: وقد زال ذلك المعنى.

وذهب بعضهم إلى: أنه لا يجوز هذه التكنية لمن اسمه محمد ويجوز لغيره، واختار هذا المذهب الرافعي وقال: يشبه أن يكون هذا أصح، لأن الناس لم يزالوا يكتنون به في جميع الأعصار من غير إنكار.

ورد النووي في الأذكار هذا المذهب وقال: فيه مخالفة لظاهر الحديث، واختار ما ذهب إليه الإمام مالك من تخصيص التحريم بحياته صلى الله عليه وسلم أخذاً من السبب المذكور.

وقال في الروضة: إنه أقرب المذاهب أخذاً من سبب النهي، وضعفه البيهقي ومع أنه مخالف لقاعدة: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ثم قال: بل الأقرب ما رجحه الرافعي، وقال الأسنوي: إنه الصواب لما فيه من الجمع بين خبر الصحيحين المذكور وخبر: «من تسمى باسمي فلا يتكنى بكنيتي، ومن تكنى بكنيتي فلا يتسمى باسمي» (2) وهذا الحديث رواه ابن حبان وصحح البيهقي إسناده.

فإن قيل: يشكل على ما قاله الرافعي تكنية سيدنا علي ولده محمد بن الحنفية بأبي القاسم، فإنه جمع بين الاسم والكنية، وأجابوا عنه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص له في

(1) جزء من حديث صحيح متفق عليه ورد عن أكثر من صحابي فأخرجه البخاري (5/2290، رقم 5843) ، ومسلم (3/1682، رقم 2133) ، وأحمد (3/385، رقم 15169) ، والبيهقي (9/308، رقم 19107) عن جابر.

وأخرجه البخاري (1/39، رقم 71) ، ومسلم (2/719، رقم 1037) ، وأحمد (4/99، رقم 16956) عن معاوية.

(2)

أخرجه البيهقي (9/309، رقم 19111) وأخرجه أيضًا: أبو داود (4/292، رقم 4966) ، وأحمد (3/313، رقم 14396) ، والطيالسي (ص 241، رقم 1750) عن جابر.

وأخرجه أحمد (2/312، رقم 8094) ، وأبو يعلى (10/449، رقم 6063) ، والبيهقي في شعب الإيمان (2/146، رقم 1409) عن أبي هريرة.

ص: 185

ذلك كما قاله الشافعي وأصحابه، فإنه ورد في سنن أبي داود أن علياً قال يا رسول الله إن ولد لي من بعدك ولد اسميه باسمك وأكنيه بكنيتك؟ قال:«نعم» (1) .

وقال أحمد بن عبد الله: ثلاثة تكنوا بأبي القاسم رخص لهم: محمد بن الحنفية، ومحمد بن أبي بكر، ومحمد بن طلحة بن عبيد الله قاله ابن الملقن.

فإن قيل: يشكل على قول الرافعي أيضاً ما رواه أبو داود عن عائشة قالت: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إني قد ولدت غلاماً فسميته أبا القاسم فذكر لي أنك تكره ذلك فقال: «ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي، أو ما الذي أحل كنيتي وحرم اسمي» (2) .

أجاب شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر عنه وقال: يشبه إن صح أن يكون قبل النهي لأن أحاديث النهي أصح يعني هذا الحديث المذكور ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل النهي عن التكنية بكنيته، وحينئذ فلا يشكل لأن المتاخر نسخه.

فائدة: لم ينه عن التسمية باسمه صلى الله عليه وسلم لأنه كان لا ينادى به غالباً ولو نودي به لم يجب إلا لضرورة قاله القاضي زكريا.

فائدة أخرى: التكني بغير أبي القاسم جائز بلا خلاف.

فائدة أخرى: المستحب إذا خاطب أهل الفضل ومن قاربهم أن يخاطبهم بالكنية، وكذا إذا كتب إلى شخص رسالة، وكذا إذا روى عنه روايته فيقول في الرسالة: السلام على أبي فلان. وفي الرواية: حدثنا الشيخ أو الإمام أبو فلان بن فلان. ومن الأدب أن الإنسان إذا كتب رسالة شخص أن لا يكتب كنيته فيها، بل ولا في غير الرسالة إلا أن لا يعرف إلا بالكنية، أو كانت الكنية أشهر من اسمه فله أن يكتبها، قال بعضهم: إذا كانت أشهر كتب اسمه وكتب بعده: المعروف بأبي فلان، ولنا عود إلى ذكر فوائد متعلقة بالكنية في محل آخر إن شاء الله تعالى.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي» فقد اختلف العلماء في معناه فقال القاضي الباقلاني: معنى الرؤية أنها رؤية

(1) أخرجه أبو داود (4/292، رقم 4967) . وأخرجه أيضا الحاكم (4/309، رقم 7737)، وقال: صحيح على شرط الشيخين. والبيهقي (9/309) ، وابن أبي شيبة (5/263، رقم 25914) .

(2)

أخرجه أبو داود (4/292، رقم 4968)، وأخرجه أيضا: البيهقي (9/309، رقم 19114) ، وأحمد (6/135، رقم 25084) .

ص: 186

صحيحة ليست بأضغاث أحلام ولا من تشبيهات الشيطان، ويدل على أن الرؤية في قوله:«فقد رآني» مؤوله برؤيا المنام لأنها رؤية حقيقية أن الرائي قد يراه على خلاف صفته المعروفة، كان يراه أبيض اللحية، وأنه قد يراه شخصان في زمن واحد أحدهما في المشرق والآخر في المغرب فيراه كل منهما في مكانه.

قال حجة الإسلام الغزالي: ليس معنى «فقد رآني» : أنه رأى جبهتى وبدني بل رأى مثالاً صار ذلك المثال آلة يتأدى بها المعنى الذي في النفس إليه، بل البدن في اليقظة أيضاً ليس إلا آلة النفس، فالحق أن ما يرى حقيقة روحه المقدسة التي هي محل النبوة فما رآة من الشكل ليس هو روح النبي صلى الله عليه وسلم ولا شخصه بل مثال له.

قال: ومثل ذلك من يرى الله تعالى في المنام، فإن ذاته منزهه عن الشكل والصورة، ولكن تنتهي تعريفاته إلى العبد بواسطة مثال محسوس نور أو غيره، ويكون ذلك المثال حقاً في كونه واسطة في التعريف، فيقول الرائي: رأيت الله في المنام لا بمعنى أني رأيت ذات الله تعالى كما يقول في حق غيره.

وقال ابن العربي القاضي (1) : إن رآه على صفته فهي هو حقيقة، وإن رآه على غير صفته فهي رؤيا تأويل لا حقيقة، والراجح كما قال الكرماني وغيره وصوبه النووي: حمل الحديث على ظاهره بأن يقال: معنى «فقد رآني» رؤيا حقيقية لا منامية وما مثالية، ولو رآه على غير صفته المعروفة أو في مكانين وليس لمانع أن يمنع ذلك، لأن العقل لا يحيله حتى يضطر إلى التأويل.

فإن قيل: كيف تكون الرؤية حقيقية إذا رآه على غير صفته أو في مكانين؟

فالجواب: إن التغير المذكور ليس في ذاته بل في صفاته، وتكون ذاته مرئية وصفاته مستحيلة، والرؤية أمر يخلقه الله في الحي ولا يشترط أن يكون بمواجهته ولا تحديق بصر، ولا كون المرئي ظاهراً بل الشرط كون موجودا فقط حتى تجوز رؤية أعمى الصين من في قبة الأندلس، ولم يقم دليل على فناء جسمه صلى الله عليه وسلم بل الحديث يقتضي بقاءه.

سؤال: فإن قيل: الحديث المسموع منه في المنام هل هو حجة يستدل به أم لا وإذا أمر أحد بشيء هل يجب عليه امتثال أم لا.

فالجواب: أن الحديث المسموع منه صلى الله عليه وسلم في المنام ليس بحجة، إذا يشترط في الاستدلال به أن يكون الراوي ضابطاً عند السماع، والنوم ليس حاله الضبط، وإذا أمر أحد بشيء لا يجب عليه امتثاله على الأصح لكن يستحب.

(1) ابن العربي القاضي هو أبو بكر، أبو بكر بن بن عبد الله بن محمد المعافري الإشبيلي المالكي، من حفاظ الحديث، ومن علماء المالكية، ولد بإشبيلية، ورحل إلى المشرق، وبرع رحمه الله في الفقه، والحديث، والأصول، وعلوم القرآن، وبلغ رتبة الاجتهاد في علوم الدين من تصانيفه: شرح على الترمذي، وأحكام القرآن توفي سنة: 543هـ.

انظر: شذرات الذهب (4/141) ، وتذكرة الحفاظ (4/86) .

ص: 187

سؤال: فإن قيل: إذا رآه شخص في المنام قلنا إنه هو حقيقة فهل يطلق على الشخص الرائي أنه صحابي أم لا؟

فالجواب: لا يطلق عليه بمجرد رؤيته في المنام أن صحابي، لأن الصحابي مسلم رأى النبي صلى الله عليه وسلم الرؤية المعهودة الجارية على العادة، أو رآه في حياته في الدنيا، لأنه أخبر صلى الله عليه وسلم الناس عن الله تعالى في الدنيا لا في القبر، فالصحبة إنما تثبت وتعتبر حال كونه مخبراً عن الله تعالى.

وقوله: «فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي» يحتمل أن يراد بالشيطان هنا إبليس شخصه، فتكون الألف واللام للعهد، ويحتمل أن يراد غيره من نوعه، فالألف واللام للجنس.

والشيطان: إما مشتق من «شاط» بمعنى هلك فيكون على وزن «فعلان» ، وإما من «شيطان» أي: بعد على وزن «فيعال» .

ومعنى: «لا يتمثل في صورتي» لا يتصور في صورتي، وعدم تصور الشيطان بصورة النبي صلى الله عليه وسلم معدود من خصائصه، والحكمة في ذلك حتى لا يكذب لعنه الله على لسانه صلى الله عليه وسلم في النوم.

لطيفة: قال في الروض الفائق عن أبي محمد بن العلاء رحمة الله تعالى أنه قال: دخلت المدينة وقد غلب علي الجوع، فزرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه وعلى الصحابيين أبي بكر وعمر رضى الله عنهما، وقلت يا رسول الله جئت وبي من الفاقة والجوع ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وأنا ضيفك في هذه الليلة، ثم غلبني النوم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأعطاني رغيفاً فأكلت نصفه، ثم انتبهت من المنام ونصفه الآخر في يدي فتحقق عندي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فإن الشيطان لا يتمثل بي» ثم نوديت يا أبا عبد الله لا يزور قبري أحد إلا غفر له، ونال شفاعتي غداً.

فائدة: جميع الأنبياء كنبينا صلى الله عليه وسلم في هذه الخصوصية وهي: أن من رآهم في المنام فهم هم، ولا يتمثل الشيطان في صورتهم، كما نبه على ذلك الكرماني نقلاً عن محيي السنة، فمن عد هذه الخاصة من خصائص نبينا أراد بها الخاصة الإضافية أي: بالنسبة إلى الأمة لا حقيقية لمشاركة الأنبياء له فيها.

وقال الدماميني (1) في خصائصه: لم أقف على أن جميع الأنبياء كنبينا في هذه الخاصة، ولكن جلالة مقام النبوة تقتضي أن لا يتسلط الشيطان على التمثيل بصورة أحد من أهلها المصطفين الأخيار، كائناً من كان لكراماتهم على الله، ورفعة منزلتهم عنده

(1) الدماميني هو: عبد الله بن محمد بن عبد الله ابن أبي بكر الدماميني، قاض مالكي قرشي مخزومي من أهل من أهل الاسكندرية، ولي قضاءها أكثر من ثلاثين سنة، قال السخاوي: صار وجيها ضخم الرياسة مع نقص بضاعته في العلم، وقال العيني: لم يكن له اشتغال بالعلم بل ان يخدم الناس كثيراً. قلت: والناظر إلى نموذج خطه، لا يجرده من العلم، وحسبه ثلاثون سنة في القضاء، وكانت وفاته سنة: 845 هـ.

ص: 188

فينبغي تحرير النقل في ذلك، هذه عبارته وكأنه لم يقف على عبارة الكرماني.

فائدة أخرى: ورد في الحديث: «إن أول ما يرفع من الأرض رؤيته صلى الله عليه وسلم في المنام والقرآن والحجر الأسود» .

فائدة أخرى: قال علماء التعبير من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه فإن كان مغموماً ذهب غمه، وإن كان مديوناً قضى الله دينه، وإن كان مغلوباً نصره الله تعالى، وإن كان محبوساً أطلق، وإن كان عبداً أعتق، وإن كان غائباً رجع إلى أهله سالماً، وإن كان معسراً أغناه الله تعالى، وإن كان مريضاً شفاه الله تعالى، وإن رآه في أرض حرب فإن أولئك الجند ينتصرون على عدوهم، وإن رآه في أرض مقحطة فإن أهلها يخصبون ويرفع عنهم القحط.

قيل: وإن رآه في صورة شاب طويل فإنه يكون فتنه في الناس وقتلاً كثيراً، وإن رآه في صورة شيخ كبير فإن الناس في عافية، وإن رآه وهو أبيض يعلوه حمرة وعليه ثياب بيض، فإنه يتوب إلى الله تعالى ويحسن عمله وتستقيم طريقته.

فائدة أخرى: أخرج البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي» (1) .

قوله: «فسيرانى في اليقظة» زيادة على الحديث الذي ساقه البخاري هنا، وقد اختلف العلماء في معناه.

فقيل: معناه أن من رآني في منامه فسيراني يوم القيامة، ورد هذا بأن كل أمته يوم القيامة يراه من رآه منهم في منامه ومن لم يره، فلا فائدة لتخصيص ذلك بمن رآه.

وقيل: معناه أن من آمن به في حياته ولم يره لكونه غائباً عنه، فإذا رآه في النوم يكون مبشراً له أنه لابد وإن يراه في اليقظة قبل موته.

والصحيح: حمل الحديث على ظاهرة بأن يقال: إن كل من رأى النبي في منامه لابد وأن يراه في اليقظة بعيني رأسه، وهو عام شامل لكل من رآه في النوم في حياته وبعد مماته، وشامل لمن فيه الأهلية كالخواص ومن لا أهلية له كالعوام.

واستشكل الحديث من جهة: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته في عالم الغيب فكيف يراه الحي وهو في عالم الشهادة، ورد هذا الإشكال ابن أبي جمرة وقال: في هذا القول من

(1) أخرجه البخاري (6/2567، رقم 6592) ، ومسلم (4/1775، رقم 2266)، وأبو داود (4/305 رقم 5023) . وأخرجه أيضا: أحمد (5/306، رقم 22659) .

ص: 189

المحذور وجهان خطران

أحدهما: عدم التصديق بقول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى.

والثاني: الجهل بقدرة القادر وتعجيزها فإنه تعالى قادر أن يجعل رؤيته في النوم صلى الله عليه وسلم سبباً لرؤيته في اليقظة.

قال شيخنا جلال الدين السيوطي في كتابه تنوير الحلك في إمكان رؤية النبي صلى الله عليه وسلم والملك: ولا يمتنع رؤية ذاته الشريفة بجسده وروحة، وذلك أنه عليه الصلاة والسلام وسائر الأنبياء أحياء ردت إليهم أرواحهم بعدما قبضوا، وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في الملكوت العلوي والسفلي، وقال: قال الأستاذ أبو منصور عبد الظاهر بن طاهر البغدادي من المتكلمين المحققين من أصحابنا: إن نبينا صلى الله عليه وسلم حي بعد وفاته، وأنه يبشر بطاعات أمته، ويحزن بمعاصي العصاة منهم، وأنه تبلغه صلاة من يصلي عليه من أمته، وقال: إن الأنبياء لا يبلون ولا تأكل الأرض منهم شيئاً، وقد مات موسى في زمانه وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم أنه رآه في قبره مصلياً (1) .

وقال البيهقي: النبي صلى الله عليه وسلم حي بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته، لم يتبدل منه شيء وأنه غيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة مع كونهم أحياء بأجسادهم، فإذا أراد الله رفع الحجاب عمن أراد الكرامة برؤيته فيراه على هيئته التي هو عليها فلا مانع من ذلك، ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال، وأكثر ما يقع هذه الرؤية للعامة قبيل الموت عند الاحتضار فلا تخرج روح من رآه في منامه حتى يراه في اليقظة، وفاء بوعده صلى الله عليه وسلم وأما غير العامه وهم الخواص فتحصل لهم هذه الرؤية في طول حياتهم، إما كثيراً وإما قليلاً بحسب اجتهادهم ومحافظتهم على السنة، فالإخلال بالسنة مانع كبير.

وقد نقل عن كثير من السلف والخلف ممن كانوا رأوه صلى الله عليه وسلم في النوم وكانوا ممن يصدقون بهذا الحديث، فرأوه بعد ذلك في اليقظة وسألوه عن أشياء كانوا منها متشوشين فأخبرهم بتفريجها، ونص لهم على الوجوه التي منها فرجها، فجاء الأمر

(1) أخرجه مسلم (4/1845، رقم 2375) ، والنسائي (3/215، رقم 1631) ، وابن حبان (1/242، رقم 50) ، وابن أبي شيبة (7/335، رقم 36575) ، وأحمد (3/148، رقم 12526) ، وأبو يعلى (6/71، رقم 3325) ، وعبد بن حميد (1/362، رقم 1205) ، وأبو نعيم في الحلية (6/253) عن أنس.

ص: 190

كذلك بلا زيادة ولا نقص.

حكي عن ابن عباس صلى الله عليه وسلم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فتذكر هذا الحديث، وبقي يفكر فيه، ثم دخل على بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهي ميمونة فقص عليها قصته، فقامت وأخرجت له مرآته صلى الله عليه وسلم قال رضي الله عنه: فنظرت في المرأة فرأيت صورة النبي صلى الله عليه وسلم ولم أر لنفسي صورة.

وعن الشيخ عفيف الدين اليافعي عن الشيخ الكبير قدوة الشيوخ العارفين وبركة أهل زمانه أبي عبد الله القرشي قال: لما جاء الغلام الكبير إلى مصر توجهت لأن أدعو فقيل لي: لا تدعو لا يسمع لأحد منكم في هذا الأمر دعاء، فسافرت إلى الشام فلما وصلت إلى قرب ضريح الخليل عليه السلام تلقاني الخليل أي: في اليقظة فقلت: يا رسول الله اجعل ضيافتي عندك الدعاء لأهل مصر، فدعا لهم ففرج الله عنهم، قال اليافعي: فقوله: «تلقاني الخليل» قول حق لا ينكره إلا جاهل بمعرفة ما يرد عليهم من الأحوال التي يشاهدون فيها ملكوت السماوات والأرض، وينظرون الأنبياء أحياء غير أموات كما نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى موسى في الأرض، وقد تقرر أن ما جاز للأنبياء معجزة جاز للأولياء كرامة بشرط عدم التحدي.

وحكى الشيخ الإمام سراج الدين ابن الملقن في طبقات الأولياء عن الشيخ الرباني سيدي عبد القادر الجيلاني قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر أي: في اليقظة فقال: يا بني لم لا تتكلم قلت يا أبتاه أنا رجل عجمي كيف أتكلم على فصحاء بغداد فقال: افتح فاك، قال: فقتحنه، فتفل فيه سبعاً، وقال: تكلم على الناس، وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق كثير، فارتج علي فرأيت علياً قائماً بإزائي في المجلس فقال لي: يا بني لم لا تتكلم؟ قلت: يا أبتاه قد ارتج علي فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه ستاً، فقلت: لم لا تكملها سبعاً؟ قال: أدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم توارى عني فقلت: غواص الفكر يغوص في بحر القلب على دار المعارف، فيستخرجها إلى ساحل الصدر، فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان، فتشترى بنفائس أثمان حسن الطاعة في بيوت أذن الله أن ترفع.

* * *

ص: 191