المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المجلس التاسع والثلاثون - شرح البخاري للسفيري = المجالس الوعظية في شرح أحاديث خير البرية - جـ ٢

[شمس الدين السفيري]

الفصل: ‌المجلس التاسع والثلاثون

‌المجلس التاسع والثلاثون

في ذكر شيء من فضائل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وشيء من خصائصها، وخصائص نبينا صلى الله عليه وسلم وذكر اختلاف العلماء في الوضوء هل هو من خصائص هذه الأمة أم لا؟

الحمد لله الذي أتقن كل شيء بحكمته فاحتبك، وبعث حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم فأنار به كل حلك، وآتاه من المعجزات والخصائص ما لم يؤته نبي ولا ملك، وجعل جنده الملائكة تسير معه حيث سلك، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ما سار ملك ودار فلك.

باب فضل الوضوء والغر المحجلين من آثار الوضوء

جاء في أكثر الروايات والغر المحجلين بالرفع ووجِّه بأوجه:

الأول: مبتدأ وخبره محذوف، وهو مفضلون فكأنه قال: والغر المحجلون مفضلون على غيرهم، أو لهم فضل ونحوه.

الثاني: أن يكون «الغر» مبتدأ أيضاً وخبره من آثار الوضوء، ومعناه: من الغر المحجلون منشأهم آثار الوضوء.

الثالث: أن «الغر» مرفوع على سبيل الحكاية فقد ورد في بعض طرق الحديث: «أنتم الغر المحجلون» (1) .

قَالَ البُخَارِي: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِى هِلَالٍ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ رَقِيتُ مَعَ أَبِى هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ، فَتَوَضَّأَ فَقَالَ إِنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ «إِنَّ أُمَّتِى يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» (2) .

(1) أخرجه مسلم (1/216، رقم 246) عن أبي هريرة.

وأخرجه أبو يعلى (4/118، رقم 2162) عن جابر. قال الهيثمي (10/344) : رجاله رجال الصحيح.

(2)

للحافظ ابن حجر عند شرحه لهذا الحديث فوائد منها:

قوله: «رقيت» : صعدت.

قوله: «فتوضأ» : كذا لجمهور الرواة، وللكشميهني يوما بدل قوله فتوضأ وهو تصحيف.

وقد رواه الإسماعيلي وغيره من الوجه الذي أخرجه منه البخاري بلفظ «توضأ» وزاد الإسماعيلي فيه «فغسل وجهه ويديه فرفع في عضديه، وغسل رجليه فرفع في ساقيه» وكذا لمسلم من طريق عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال نحوه، ومن طريق عمارة بن غزية عن نعيم وزاد في هذه: أن أبا هريرة قال: «هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ» فأفاد رفعه، وفيه رد على من زعم أن ذلك من رأى أبي هريرة بل من روايته ورأيه معا.

قوله: «أمتي» : أي أمة الإجابة وهم المسلمون، وقد تطلق أمة محمد ويراد بها أمة الدعوة وليست مرادة هنا.

قوله: «يدعون» : ينادون أو يسمون.

قوله: «غرا» : جمع أغر أي ذو غرة، وأصل الغرة لمعة بيضاء تكون في جبهة الفرس، ثم استعملت في الجمال والشهرة وطيب الذكر، والمراد بها هنا النور الكائن في وجوه أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وغرا منصوب على المفعولية ليدعون أو على الحال، أي أنهم إذا دعوا على رءوس الأشهاد نودوا بهذا الوصف وكانوا على هذه الصفة.

قوله: «محجلين» : من التحجيل وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس، وأصله من الحجل وهو الخلخال، والمراد به هنا أيضا النور.

واستدل الحليمي بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، وفيه نظر لأنه ثبت عند المصنف في قصة سارة رضي الله عنها مع الملك الذي أعطاها هاجر أن سارة لما هم الملك بالدنو منها قامت تتوضأ وتصلي، وفي قصة جريج الراهب أيضاً أنه قام فتوضأ وصلى ثم كلم الغلام، فالظاهر أن الذي اختصت به هذه الأمة هو الغرة والتحجيل لا أصل الوضوء، وقد صرح بذلك في رواية لمسلم عن أبي هريرة أيضاً مرفوعا قال:«سيما ليست لأحد غيركم» وله من حديث حذيفة نحوه. و «سيما» : أي علامة.

وقد اعترض بعضهم على الحليمي بحديث «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي» وهو حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به لضعفه، ولاحتمال أن يكون الوضوء من خصائص الأنبياء دون أممهم إلا هذه الأمة.

قوله: «من آثار الوضوء» : بضم الواو، ويجوز فتحها على أنه الماء قاله ابن دقيق العيد.

قوله: «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» : أي فليطل الغرة والتحجيل. واقتصر على إحداهما لدلالتها على الأخرى نحو ?سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ? [النحل: 81] واقتصر على ذكر الغرة وهي مؤنثة دون التحجيل وهو مذكر لأن محل الغرة أشرف أعضاء الوضوء، وأول ما يقع عليه النظر من الإنسان. على أن في رواية مسلم من طريق عمارة بن غزية ذكر الأمرين، ولفظه «فليطل غرته وتحجيله» .

وقال ابن بطال: كنى أبو هريرة بالغرة عن التحجيل لأن الوجه لا سبيل إلى الزيادة في غسله، وفيما قال نظر لأنه يستلزم قلب اللغة، وما نفاه ممنوع لأن الإطالة ممكنة في الوجه بأن يغسل إلى صفحة العنق مثلا.

ونقل الرافعي عن بعضهم أن الغرة تطلق على كل من الغرة والتحجيل. ثم إن ظاهره أنه بقية الحديث، لكن رواه أحمد من طريق فليح عن نعيم وفي آخره: قال نعيم لا أدري قوله من استطاع

الخ من قول النبي صلى الله عليه وسلم أو من قول أبي هريرة، ولم أر هذه الجملة في رواية أحد ممن روى هذا الحديث من الصحابة وهم عشرة ولا ممن رواه عن أبي هريرة غير رواية نعيم هذه والله أعلم.

واختلف العلماء في القدر المستحب من التطويل في التحجيل فقيل: إلى المنكب والركبة، وقد ثبت عن أبي هريرة رواية ورأيا.

وعن ابن عمر من فعله أخرجه ابن أبي شيبة، وأبو عبيد بإسناد حسن، وقيل المستحب الزيادة إلى نصف العضد والساق، وقيل إلى فوق ذلك.

وقال ابن بطال وطائفة من المالكية: لا تستحب الزيادة على الكعب والمرفق لقوله صلى الله عليه وسلم «من زاد على هذا فقد أساء وظلم» وكلامهم معترض من وجوه، ورواية مسلم صريحة في الاستحباب فلا تعارض بالاحتمال. وأما دعواهم اتفاق العلماء على خلاف مذهب أبي هريرة في ذلك فهى مردودة بما نقلناه عن ابن عمر، وقد صرح باستحبابه جماعة من السلف وأكثر الشافعية والحنفية. وأما تأويلهم الإطالة المطلوبة بالمداومة على الوضوء فمعترض بأن الراوي أدرى بمعنى ما روى، كيف وقد صرح برفعه إلى الشارع صلى الله عليه وسلم وفي الحديث معنى ما ترجم له من فضل الوضوء، لأن الفضل الحاصل بالغرة والتحجيل من آثار الزيادة على الواجب، فكيف الظن بالواجب؟ وقد وردت فيه أحاديث صحيحة صريحة أخرجها مسلم وغيره، وفيه جواز الوضوء على ظهر المسجد لكن إذا لم يحصل منه أذى للمسجد أو لمن فيه. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/235 - 237) .

ص: 266

في إسناد هذا الحديث لطيفتان:

إحداهما: أن جميع رجاله رجال من فرسان الصحيحين وباقي الكتب الستة إلا يحيى بن بكير فإنه من رجال البخاري ومسلم وابن ماجه.

الثانية: أن النصف الأول من إسناده مصريون، والنصف الثاني مدنيون.

قال ابن الملقن: هذا الحديث رواه مع أبي هريرة سبعة من الصحابة: ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، وأبو أمامة الباهلي، وأبو ذر الغفاري، وعبد الله بن بسر المازني، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم.

قوله: «رقيت» بكسر القاف بمعنى صعدت، وحكي فتحها مع الهمز ودونه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن أمتي» قال الكرماني: «الأمة» : الجماعة، وهو في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع.

قال العلماء: أمة محمد تطلق على أمة الدعوة، وهم جميع من أرسل إليهم من مسلم وكافر على اختلاف أنواعه، فإنه صلى الله عليه وسلم دعى الجميع إلى كلمة التوحيد، فلا إنكار على من قال في حق يهودي معين أو نصراني وغيره أنه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من أمة

ص: 268

الدعوة، وتطلق أمة محمد صلى الله عليه وسلم على أمة الإجابة إلى قسمين إلى أمة الطاعة وهم: من أسلم وأطاع، وإلى أمة المعصية وهم: من أسلم وعصى، والمراد بالأمة في هذا الحديث: أمة الإجابة بقسميها كما قاله ابن حجر لا أمة الدعوة.

وقوله: «يدعون» إما من الدعاء بمعنى النداء، وإما من الدعاء بمعنى التسمية، والمعنى على الأول: إن أمتي ينادون يوم القيامة، وعلى الثاني: يسمون يوم القيامة.

وأصل القيامة: «القوامة» قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.

وقوله: «غراً محجلين» إذا قلنا منصوبان إما على الحال من ضمير «يدعون» إن كان بمعنى النداء، ويعدى «يدعون» بإلى، وإما على المفعولية إن كان بمعنى التسمية.

سؤال: فإن قيل: إلى أين ينادون يوم القيامة إذا قلنا أن «يدعون» بمعنى ينادون؟

جوابه: أنهم ينادون إلى موقف الحساب أو إلى الميزان أو إلى غير ذلك، حال كونهم على هذا الوصف فيقال لهم: يا أمة محمد أقبلوا إلى الحساب أو الميزان أو إلى الصراط أو إلى الحوض أو إلى الجنة أو غير ذلك.

فيأتون وهم غر محجلون أي: على جباههم وأيديهم وأرجلهم نور ساطع كالغرة البيضاء في جبهة الفرس، والتحجيل الذي في يديها ورجليها، فإن «الغرة» في اللغة: بياض في جبهة الفرس، «والتحجيل» بياض في يديها ورجليها، فسمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غراً وتحجيلاً تشبيها بذلك.

وأما إذا كان «يدعون» بمعنى يسمون فمعنى الحديث: أن الملائكة تسمي أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم تشريفاً لهم وتكريماً من بين سائر الأمم، فيقولون لهم: يا غر المحجلين أو يا أصحاب الغرة والتحجيل، حين يرون عليهم هذا النور الحاصل لهم من الوضوء.

وقوله: «من آثار الوضوء» يجوز قراءته بضم الواو، فإن النور حصل من هذا الفعل، ويجوز قراءته بفتح الواو بناء على أن هذا النور حصل من آثار الماء المستعمل في الوضوء.

والحاصل: أن الغرة والتحجيل نشأ عن الفعل بالماء، فيجوز أن ينسب إلى كل منهما.

وفي هذا الحديث فوائد كثيرة:

منها: أن فيه دلالة على استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، والمراد بإطالة الغرة عند العلماء غسل ما فوق الواجب من جميع جوانب الوجه، وغايته أن يغسل صفحة العنق من مقدمات الرأس، والمراد بإطالة التحجيل غسل ما فوق الواجب من

ص: 269

جميع جوانب الرجلين واليدين، وغايته استيعاب العضدين والساقين أي: غسل اليدين إلى المنكبين والرجلين إلى الركبتين.

وكان أبو هريرة رضي الله عنه يستوعب في وضوءه العضدين والساقين حتى يوصل الماء إلى إبطيه.

وهكذا نقل عن عبد الله بن عمر عملاً بظاهر قوله: «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل» .

واقتصر على ذكر الغرة في قوله «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته» ولم يقل وتحجيله لدلالتها عليه كما في قوله تعالى: ?سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ? [النحل: 81] ولم يذكر البرد لدلالة الحر عليه.

سؤال: فإن قيل: لأي شيء لم يقتصر صلى الله عليه وسلم بذكر التحجيل عن ذكر الغرة لأنه مذكر وهي مؤنثة والمذكر أشرف من المؤنث؟

جوابه: أنه صلى الله عليه وسلم إنما اقتصر بذكر الغرة عن ذكر التحجيل دون العكس لأن محلها أشرف أعضاء الوضوء، ولأنه أول ما يقع عليه البصر يوم القيامة.

ومنها: أن فيه دلالة على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة وهذه المسألة فيها ثلاثة أقوال للعلماء:

الأول: أنه من خصائص هذه الأمة، وبهذا القول جزم الحليمي في منهاجه، واستدل على ذلك بهذا الحديث.

الثاني: أنه ليس من خصائص هذه الأمة بل كان مشروعاً في سائر الأمم، والذي اختصت به هذه الأمة الغرة والتحجيل، ورجح هذا القول شيخ الإسلام ابن حجر وقال أنه الظاهر قال: ويؤيده ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «لكم سيما -أي علامة- ليست لأحد غيركم، تردون علي غراً محجلين من أثر الوضوء» (1) .

الثالث: أنه من خصائص هذه الأمة ولم يشاركها فيه إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا القول لهذه الأمة شرف عظيم حيث استوو مع الأنبياء في هذه الخصوصية وامتازوا عنهم بالغرة والتحجيل ولقد أحسن من قال في المعنى:

(1) أخرجه مسلم (1/217، رقم 247) . وأخرجه أيضا: ابن ماجه (2/1431، رقم 4282) ، وأبو يعلى (11/72، رقم 6209) ، وابن أبي شيبة (1/15، رقم 42) ، وابن حبان (3/324، رقم 1048) عن أبي هريرة.

ص: 270

ستأتي الناس في العرصات سكرى

بلا أثر يكون لهم مزيننا

وتتأتي أمة المختار غدا

بآثار الوضوء محجلينا

لأيديهم وأرجلهم وميض

فوجههم تروق الناظرينا

فكونوا يا عباد الله قوماً

مدى أعماركم متطهرينا

تفوزوا بالطهارة ما حييتم

وفي غدكم تفوقوا العالمينا

وهل هذا النور الذي في أعضاء الوضوء المعبر عنه بالغرة والتحجيل ثابت لكل واحد من هذه الأمة يوم القيامة، سواء توضأ في الدنيا أم لم يتوضأ، أو يكون لمن يتوضأ في الدنيا؟

قال ابن الملقن في شرحه على هذا الصحيح: ظاهر الأحاديث يقتضي أن ذلك خاص بمن توضأ منهم، فقد ورد في صحيح ابن حبان: يا رسول الله كيف تعرف من يرد من أمتك؟ قال: «غر محجلون بلق من آثار الوضوء» (1) .

وأما ما نقل عن بعض المالكية أنه نقل عن العلماء: أن الغرة والتحجيل حكم ثابت لهذه الأمة من توضأ منهم ومن لم يتوضأ، كما قالوا: لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، وأن أهل القبلة كل من آمن من أمته سواء صلى أم لم يصلي، فهو كما قاله ابن الملقن نقل غريب.

ومنها: أن فيه دلالة على استحباب المحافظة على الوضوء وسننه المشروعة.

ومنها: أن فيه دلالة على ما أعد الله من الفضل والكرامة لأهل الوضوء يوم القيامة.

ومنها: أن فيه دلالة على جواز الوضوء على ظهر المسجد، وإذا جاز على ظهره جاز فيه، فإن حرمة أعلاه وظاهره كحرمة داخلة، وعلى هذا أكثر العلماء.

وكره جماعة الوضوء فيه تنزيها له كما ينزه عن البصاق والنخامة، وممن كره الوضوء ابن سيرين، ونقل عن الإمام مالك وعن سحنون.

قال ابن الملقن: وقد صرح جماعة من أصحابنا بجوازه فيه، وإن الأولى أن يكون في إناء.

(1) أخرجه ابن حبان (3/323، رقم 1047) . وأخرجه أيضا: ابن ماجه (1/104، رقم 284) قال البوصيري (1/42، رقم 4) : هذا إسناد حسن. وأحمد (1/453، رقم 4329) ، وابن أبي شيبة (1/15، رقم 40) ، والشاشي (2/107، رقم 629) ، وأبو يعلى (8/462، رقم 5048) ، والطبراني في الأوسط (3/366، رقم 3419) عن ابن مسعود.

ص: 271

وأما رش المسجد بالماء المستعمل فقد اختاره النووي في شرح المهذب أنه جائر كما يجوز الوضوء فيه، وتبعه على اختياره الأسنوي، والشيخ إسماعيل بن المقرئ في «روضه» فإنه قال فيه: ويجوز نضحه بمستعمل.

لكن قال البغوي: إنه لا يجوز لأن النفس إنما تعافه، وتبعه على ذلك الخوارزمي وصاحب الأنوار في كتاب الاعتكاف، وضعف النووي قوله، ورد تعليله بأن النفس إنما تعاف شربه ونحوه لا نضحه في المسجد.

قال الزركشي والبغوي وغيره: إن يفرقوا بين جواز الوضوء فيه وبين نضحه بالماء بأن المتوضئ إنما يفعل ذلك لحاجته إليه، بخلاف النضح فإنه يقع قصداً، والشيء يغتفر ضمناً ما لا يغتفر قصداً، وبأن ماء الوضوء بعضه غير مستعمل بخلاف ماء النضح، وظاهر قول القاضي زكريا في شرح الروض يقتضي ترجيح قول البغوي فلينظر في كلامه أي: في شروط الصلاة في بحث المسجد.

ومنها: أن فيه دلالة على كمال فضل نبينا صلى الله عليه وسلم أطلعه الله تعالى على أمور من المغيبات مستقبلة من أمور الآخرة، وما يقع فيها لم يطلع عليه نبياً غيره، فأخبر بها في الدنيا أمته، وستقع كما أخبر فإنه صادق مصدوق، لاينطق عن الهوى، فمن ما أخبر به من أمور الآخرة ما ذكره في هذا الحديث أن أمته تأتي يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، وكأنك بهذا وقد وقع، وكأنك بالدنيا ولم تكن، وبالآخرة ولم تزل.

وأما ما أخبر به صلى الله عليه وسلم عن أمور مغيبة مستقبلة من أمور الدنيا فكثير وهو معجزة من معجزاته الباهرة وآية من آياته الظاهرة.

ونقل عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً فما ترك شيئاً يقوم في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدثه، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وما أخبر به صلى الله عليه وسلم من ذلك فهو مما أعلمه الله به (1) .

قال العلماء: النبي لا يعلم من المغيبات إلا ما أعلمه الله تعالى به، ويدل عليه قوله تعالى: ?عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ?

[الجن: 27] .

قال شيخنا العلامة الشيخ كمال الدين بن أبي شريف في شرح المسايرة: ذكر

(1) أخرجه مسلم (4/2217، رقم 2891) ، وأبو داود (4/94، رقم 4240) ، وابن حبان (15/5، رقم 6636) .

ص: 272

الحنفية في فروعهم تصريحاً بتكفير من اعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، لمعارضته قوله تعالى: ?قُل لَاّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ? [النمل: 65] وقد وقع كثير مما أخبر به صلى الله عليه وسلم من المغيبات المستقبلة، فإن أردت تحقيق ذلك لديك فاستمع وتوجه إلى ما نتلو عليك فنقول:

مما أخبر به صلى الله عليه وسلم ووقع أنه أخبر قبل فتح مكة أن أصحابه تظهر على أهل مكة وتفتح لهم مكة وقد وقع ذلك.

ومنه: أنه أخبر عن أمته أنها تفترق على ثلاثة وسبعين فرقة الناجية منها واحدة وقد وقع ذلك.

ومنه: ما رواه عبد الله بن عباس قال كنت قاعداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل عثمان فلما دنى منه قال: «يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة، تقع قطرة من دمك على فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم» (1) وقد وقع ذلك.

ومنه: أنه قال لفاطمة رضي الله عنها: «إنك أول بيتي لاحقة بي» فقالت: ونعم السلف أنا لك فكانت أول من مات بعده من أهل بيته (2) .

ومنه: أنه قال صلى الله عليه وسلم: «إن عماراً تقتله الفئة الباغية» (3) فقتله أصحاب معاوية.

ومنه: أنه خرج يوماً إلى أصحابه وفيهم أبو بكر وعمر وعلي وعمار وأبو ذر رضي الله عنهم وهو يبكي فقيل: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: «أخبرني جبريل أن ابني الحسين يقتل بعدي بأرض الطف، فجاءني بهذه التربة، وأخبرني أن فيها مضجعه» (4) .

ومنه: أن أبي ابن خلف كان يلقي صلى الله عليه وسلم بمكة فيقول: يا محمد إن عندي العود فرساً أعلفه كل يوم فرقاً من ذرة أقتلك عليها، فيقول عليه الصلاة والسلام:«بل أنا أقتلك إن شاء الله» فحصل لهذا الملعون في عنقه خدش غير كبير، فاحتقن الدم فلما رجع إلى

(1) أخرجه الحاكم وصححه (3/110، رقم 4555) .

(2)

متفق عليه أخرجه البخاري (3/1326، رقم 3426) ، ومسلم (4/1905، رقم 2450) عن عائشة.

(3)

أخرجه مسلم (4/2236، رقم 2916) ، وابن أبي شيبة (7/548، رقم 37851) ، والنسائي في الكبرى (5/155، رقم 8543) ، وإسحاق بن راهويه (1/110، رقم 63) عن أم سلمة.

(4)

أخرجه الطبراني في الكبير (3/107، رقم 2814) عن عائشة، قال الهيثمي (9/188) : فيه ابن لهيعة.

ص: 273

قريش قال: والله قتلني محمد، قالوا: ذهب والله فؤادك، والله ما بك من بأس قال: إنه قد كان قال لي: والله أنا أقتلك فوالله لو بصق علي لقتلني فمات «بسرف» وهم قافلون به إلى مكة (1) .

ومنه: أن عمه العباس لما خرج من مكة مع الكفار في غزوة بدر لأجل قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزوجته أم الفضل: إن أصبت -أي: قتلت- فهذا المال إعط منه للفضل كذا ولقثم كذا ولعبد الله كذا، وقسمه على أولاده ولم يطلع على هذا المال أحد غيرها وغيره، ولم يعلم به أحداً إلا الله، فلما أسر العباس مع الأسارى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا عم أفد نفسك» فقال: ليس لي مال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين المال الذي دفعته بمكة لأم الفضل وقلت لها: إعط لولدي الفلاني كذا، ولولدي فلان كذا» فقال العباس: من أعلمك بهذا وما علم به أحد غيري وغيرها؟ أشهد أنك رسول الله حقاً (2) .

وأما ما أخبر به عن أمور مغيبة مستقبلة في الدنيا ولم تقع إلى الآن فكثيرة:

منها: خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام وغير ذلك، وستقع كما أخبر.

وفي الحديث دليل على فضل أمة محمد زادها الله شرفاً وتعظيماً.

قال العلماء: خص الله تعالى هذه الأمة ونبيها بخصائص كثيرة منها:

الوضوء على أحد الأقوال كما تقدم.

ومنها: التيمم.

ومنها: المسح على الخف.

ومنها: جعل الماء مزيلا للنجاسة.

ومنها: تحية السلام وهي تحية الملائكة وأهل الجنة في الجنة.

ومنها: صلاة الجمعة.

ومنها: صلاة الجماعة.

ومنها: أن إجتماعهم حجة واختلافهم رحمة، وكان اختلاف من قبلهم عذاباً.

ومنها: أن الطاعون لهم شهادة ورحمة، وكان على الأمم قبلهم عذاباً.

ومنها: أن ما دعوا به استجيب لهم.

(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (4/33) .

(2)

أخرجه أحمد (1/ 353، رقم 3310) والحاكم (3/366، رقم 5409) وقال: صحيح على شرط مسلم.

ص: 274

ومنها: أنه يغفر لهم الذنب بالوضوء.

ومنها: أنهم يأكلون صدقاتهم في بطونهم ويثابون عليها.

ومنها: أنه يعجل لهم الثواب في الدنيا مع ادخاره في الآخرة.

ومنها: أن الجبال والأشجار تتباشر بمرورهم عليها لتسبيحهم وتقديسهم.

ومنها: أن أبواب السماء تفتح لأعمالهم وأرواحهم وتتباشر بهم الملائكة.

ومنها: أن الله وملائكته يصلون عليهم.

قال سفيان بن عيينه: أكرم الله أمة محمد فصلى عليهم كما صلى على الأنبياء فقال: ?هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ? [الأحزاب: 43] .

ومنها: أن المائدة توضع بين أيديهم فما يرفعونها حتى يغفر لهم.

ومنها: أنه لا تزال طائفة منهم على الحق حتى يأتي أمر الله.

ومنها: أن فيهم أقطاباً وأوتاداً ونجباءً وأبدالاً.

قال الحسن: لولا الأبدال لخسفت الأرض بما فيها، ولولا الصالحون لفسدت الأرض، ولولا العلماء لصارت الناس مثل البهائم، ولولا الصالحون لفسدت الأرض، ولولا العلماء لصارت الناس مثل البهائم، ولولا السلطان لأكل الناس بعضهم بعضا، ولولا الحمقى لخربت الأرض، ولولا الريح لأنتن ما بين السماء والأرض.

ومنها: أن علماءهم كأنبياء بني إسرائيل فقد قال صلى الله عليه وسلم: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» (1) .

وقال صلى الله عليه وسلم: «العالم في قومه كالنبي في أمته» (2) .

ومنها: أن الملائكة تسمع في السماء آذانهم وتلبيتهم.

(1) قال المناوي في فيض القدير (4/384) : سئل الحافظ العراقي عما اشتهر على الألسنة من حديث: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل. فقال: لا أصل له، ولا إسناد بهذا اللفظ، ويغني عنه: العلماء ورثة الأنبياء. وهو حديث صحيح. وقال العجلوني في كشف الخفاء (2/83) : قال السيوطي وابن حجر والدميري والزركشي: لا أصل له.

(2)

أخرجه الرافعي في التدوين (3/95) عن أبي رافع.

وأخرجه الديلمي (2/373، رقم 3666) عن ابن عباس.

وأخرجه ابن حبان في الضعفاء (2/39، ترجمة 571 عبد الله بن عمر بن غانم) .

قال القاري في المصنوع (1/115) : ضعيف جدا، وفي المقاصد: جزم شيخنا وغيره بأنه موضوع، وإنما هو كلام بعض السلف.

ص: 275

ومنها: أنه ليس منهم أحد إلا مرحوماً.

ومنها: أنهم يلبسون ثياب أهل الجنة.

ومنها: أن الملائكة تحضرهم إذا قاتلوا.

ومنها: أنهم نودوا في القرآن بيا أيها الذين آمنوا، ونوديت الأمم في كتبها بيا أيها المساكين، وشتان ما بين الخطابين.

ومنها: أنهم يكونون على كوم عال في الموقف يوم القيامة، ولهم نور كالأنبياء، وليس لغيرهم إلا نور واحد، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فله من كل شعرة من رأسه نور، ووجهه نور، وليس للأنبياء إلا نوران.

ومنها: أن لهم سيما في وجوههم من أثر السجود.

ومنها: أن ذريتهم تسعى بين أيديهم.

ومنها: أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم.

ومنها: أنهم يمرون على الصراط كالبرق الخاطف والريح العاصف.

ومنها: أنهم يشفع محسنهم في مسيئهم.

ومنها: أن الله عجل لهم عذابها في الدنيا وفي البرزخ لتأتي يوم القيامة بلا ذنوب.

ومنها: أنها تدخل قبورها بذنوبها وتخرج منها بلا ذنوب، يمحص الله عنها باستغفار المؤمنين.

ومنها: أن أطفالهم كلهم في الجنة، وليس ذلك لسائر الأمم في أحد الاحتمالين للسبكي في تفسيره.

ومنها: أن الله يتجلى على هذه الأمة فيرونه ويسجدون له بإجماع أهل السنة، وفي الأمم السابقة احتمالان لابن حمزة.

ومنها: أنه يدخل الجنة منهم سبعون ألفاً بلا حساب.

ومنها: أنهم جمعت لهم الصلوات الخمس ولم تجمع لأحد من الأنبياء، وبأنهن كفارات ما بينهن.

ومنها: أنه اشتق لهم اسمان من أسماء الله تعالى المسلمون والمؤمنون، وسمى دينهم الإسلام ولم يوصف بهذا الوصف إلا الأنبياء.

وخفف الله عن هذه الأمة ما لم يخففه عن غيرها من الأمم.

ومنها: أنه وضع عنها قتل النفس في التوبة، وكانت توبة الأمم السابقة بقتل أنفسهم كما نطق الله به في القرآن.

ومنها: فقأ العين من النظر إلى ما لا يحل.

ص: 276

ومنها: قرض موضع النجاسة ولا يطهرها الماء.

ومنها: ربع المال في الزكاة.

ومنها: أنه كان من عمل من اليهود شغلاً يوم السبت يصلب، ولم يجعل علينا يوم الجمعة مثل ذلك.

ومنها: أنه كان من سرق استرق عبداً.

ومنها: أنه كان من قتل نفسه حرمت عليه الجنة، وليس هذا في هذه الأمة.

ومنها: أن جميع الأمم افتضحت عند هذه الأمة ولم يفضحوا عند أمة من الأمم، وهكذا يستر الله على هذه الأمة يوم القيامة ولا يفضحها ورد في مسند الفردوس للديلمي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:«سئلت ربي أن يجعل حساب أمتي إلي لئلا تفتضح عند الأمم، فأوحى الله إلي يا محمد بل أنا أحسابهم فإن كان منهم زلة سترناها عليك، حتى لا يفتضح عبدي عندك، ولا يحزن لأجلهم قلبك» (1) .

ومنها: أنه ستر على من لم يتقبل عمله منهم، وكان من قبلهم يفتضح إذا لم تأكل النار قربانهم، وغفر لهم الذنوب بالاستغفار، والندم توبة لهم.

قال رزين: روي أن آدم قال: إن الله أعطى أمة محمد صلى الله عليه وسلم أربع كرامات لم يعطينها كانت توبتي بمكة وأحدهم يتوب في كل مكان، وسلبت ثوبي حين عصيت وهم لا يسلبون، وفرق بيني وبين زوجتي، وأخرجت من الجنة.

قال: وكان بني إسرائيل إذا أخطأ أحدهم حرم عليه طيب الطعام، وتصبح أخطائه مكتوبة على باب داره (2) .

ومنها: أنهم لا يعذبون بعذاب عذب به من قبلهم.

ومنها: إذا شهد الاثنان منهم لعبد بخير وجبت له الجنة، وكانت الأمم السابقة إذا شهد منهم مائة لعبد بخير وجبت له الجنة.

ومنها: أنهم أقل الأمم عملاً وأكثرهم أجراً وأقصرهم أعماراً، وكان الرجل من الأمم السابقة أعبد منهم بثلاثين ضعفاً وهم خير منه بثلاثين ضعفاً.

ومن فضائلهم وخصائصهم: أنهم نزلوا منزلة العدول من الحكام فيشهدون على الأمم يوم القيامة أن رسلهم بلغوهم الرسالة، كما أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ

(1) أخرجه الديلمي (2/312، رقم 3409) .

(2)

انظر: فيض القدير (5/6) .

ص: 277

شَهِيداً? [البقرة: 143] .

معنى قوله ?أُمَّةً وَسَطاً? عدول خيار.

وقال ابن الملقن: أنا أرى أن وسطاً في هذا الموضع بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين، مثل: وسط الدار، وأرى أن الله تعالى إنما وضعهم بذلك لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلو فيه كالنصارى، ولا أهل تقصير فيه كاليهود، ومعنى قوله: ?لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ? أي: على الأمم أن رسلهم بلغوهم الرسالة، ومعنى: ?وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً? أي: ويكون النبي صلى الله عليه وسلم معدلاً ومزكياً لكم، وذلك أن الله يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ثم يقول لكفار الأمم: ألم يأتكم نذير فينكرون ويقولون: ما جاءنا من نذير، فيسأل الأنبياء عن ذلك فيقولون: كذبوا فقد بلغناهم، فيسألهم البينة وهو أعلم بهم إقامة للحجة، فيؤتى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيشهدون لهم أنهم قد بلغوا فتقول الأمم الماضية: من أين علموا وأنهم أتوا بعدنا؟ فيسأل هذه الأمة فيقولون: أرسلت إلينا رسولاً وأنزلت إلينا كتاباً أخبرتنا فيه بتبليغ الرسل، وأنت صادق فيما أخبرت، ثم يؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمتهم فيزكيهم ويشهد بصدقهم.

ومن فضائل هذه الأمة: أن الله تعالى سماها صالحين فقال: ?وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ? [الأنبياء: 105] أي: كتبنا في الكتب المنزلة من بعد اللوح المحفوظ أن الأرض أي: أرض الجنة، وقيل: الأرض التي فتحها المسلمون كالحجاز والعراق وغيرها، يرثها عبادي الصالحون أي: أمة محمد، فسماهم صالحين كما في الآية الأخرى: ?وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَوْمِ الصَّالِحِينَ? [المائدة: 84] .

ومن فضائلها: أنه وصفها بالفلاح فقال تعالى: ?قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ? [المؤمنون: 1] .

ووصفها بالخير فقال: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ? [آل عمران: 110] وقيل: معناه كنتم خير أمة في اللوح المحفوظ.

قال بعض المفسرين: معنى الآية: أنتم خير أمة أخرجت للناس لأنكم تأمرونهم بالمعروف وتنهوهم عن المنكر، وتردونهم إلى الإسلام، وتدخلوا إلى الجنة وتمنعوهم دخول النار.

ومن فضائلها: أنه يعطى كل منهم يهودياً أو نصرانياً فيقال له: يا مسلم هذا

ص: 278

فداؤك من النار، ويدل عليه ما رواه ابن ماجه في سننه (1) عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«إن أمتي أمة مرحومة فإذا كان يوم القيامة يدفع إلى كل رجل رجل من أهل الشرك، فقيل: هذا فداؤك من النار» (2) .

قال القرطبي: قال علماؤنا: ظاهر هذا الحديث وغيره من الأحاديث الواردة في هذا المعنى الإطلاق والعموم، وليست كذلك وإنها هى في ناس مذنبين تفضل الله عليهم بمغفرته ورحمته، فأعطى كلا منهم فكاكاً من النار من الكفار.

واستدلوا على هذا بحديث مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى» (3) .

قالوا: ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «فيغفرها لهم» أنه يسقط المؤاخذة عنهم بها حتى كأنهم لم يذنبوا، ومعنى وضعها على اليهود والنصارى أنه يضاعف عليهم عذابهم بقدر جرمهم وجرم مذنبي المسلمين، أو أخذوا بذلك وإلا فالله تعالى لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره كما قال تعالى: ?وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الأعراف: 164] وله سبحانه أن يضاعف لمن يشاء العذاب ويخفف عن من يشاء بحكم إرادته ومشيئته، إذ لا يسأل عما يفعل.

فائدة: جميع الأمم سبعون أمة وهذه الأمة هي خاتمتها وأفضلها، كما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة» (4) .

وروى الطبراني في المعجم الأوسط وحسنه الهيثمي (5) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن

(1) وقع في الأصل: ما رواه مسلم في صحيحه. ولعل الصواب ما أثبتناه فالحديث أخرجه ابن ماجه عن أنس، وعلق عليه البوصيري في مصباح الزجاجة، وهذا يدل على تفرد ابن ماجه برواية الحديث عن باقي أصحاب الكتب الستة، ومنهم الإمام مسلم.

(2)

أخرجه ابن ماجه (2/1434، رقم 4292) عن أنس، قال البوصيري (4/257) : هذا إسناد ضعيف لضعف كثير وجبارة.

(3)

أخرجه مسلم (4/2120، رقم 2767) عن أبي موسى.

(4)

أخرجه مسلم (2/585، رقم 855) عن أبي هريرة.

(5)

وقع في الأصل: ابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن. ولعل الصواب ما أثبتناه فالحديث أخرجه الطبراني في الأوسط، وعلق عليه الهيثمي في مجمع الزوائد، وهو لا يعلق إلا على الأحاديث التي لم ترد في الكتب الستة ومنها سنن الترمذي وابن ماجه.

ص: 279

الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي» (1) .

فائدة: أمة محمد في الجنة أكثر من نصف أهل الجنة، ويدل عليه ما رواه الترمذي عن بريدة مرفوعاً وحسنه:«أهل الجنة عشرون ومائة صف، ثمانون منها من هذه الأمة، وأربعون منها من سائر الأمم» (2) .

أفاد هذا الحديث أنهم أكثر من النصف، وأنهم ثلثا أهل الجنة.

سؤال: فإن قيل: جاء في الصحيحين ما يدل على أن هذه الأمة شطر أهل الجنة فقط، ونص الحديث فيهما عن عبد الله قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة» فكبرنا ثم قال: «أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة» فكبرنا ثم قال: «أما ترضون أنم تكونوا شطر أهل الجنة وسأخبركم عن ذلك، ما المسلمون في الكفار إلا كشعرة سوداء في ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في ثور أسود» (3) فما الجمع بين هذا الحديث والحديث الذي رواه الترمذي، فإنهما متنافيان في الظاهر.

فالجواب: كما قاله البرماوي وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم طمع أن تكون أمته شطر أهل الجنة فأعطاه الله تعالى ذلك، فأخبر أمته ثم زاده على الشطر وأخبره به، فأخبر أمته ثانيا، فاندفع الثاني وزال الإشكال والحمد لله على كل حال.

وإنما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مرة: «أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة»

(1) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/289، رقم 942) قال الهيثمي (10/69) : فيه صدقة بن عبد الله السمين، وثقه أبو حاتم وغيره، وضعفه جماعة، فإسناده حسن. وابن عدي (4/127، ترجمة 969) والذهبي في الميزان (4/175 ترجمة 4541) كلاهما في ترجمة عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب.

(2)

أخرجه الترمذي (4/683، رقم 2546) وقال: حسن. وأخرجه أيضًا: ابن ماجه (2/1434، رقم 4289) ، والدارمي (2/434، رقم 2835) ، وابن حبان (16/498، رقم 7459) ، والحاكم (1/155، رقم 273) وقال: صحيح على شرط مسلم. وأحمد (5/347، رقم 22990) .

(3)

أخرجه البخاري (5/2392، رقم 6163) ، ومسلم (1/200، رقم 221) ، والترمذي (4/684، رقم 2547) وقال: حسن صحيح. وابن ماجه (2/1432، رقم 4283) ، والطيالسي (1/43، رقم 324) ، وأحمد (1/386، رقم 3661) ، والبزار (5/237، رقم 1850) ، وأبو عوانة (1/84، رقم 250) ، والبيهقي (3/180، رقم 5410) .

ص: 280

وثانياً: «أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة» وثالثاً: «أما رضيتم أن تكونوا شطر أهل الجنة» لأن ذلك أوقع في نفوسهم وأبلغ في إكرامهم، فإن إعطاء الإنسان مرة بعد أخرى دليل على الاعتناء به، وأيضاً له حكمة أخرى وهو أنهم في كل مرة كانوا يشكرون الله ويكبرونه ويحمدونه على إعطائهم ذلك، كما يدل عليه قوله:«فكبرنا» أي: عظمنا ذلك أي قلنا: الله أكبر، ففي التكرار رحمة بهم على تحديد شكر الله وتكبيره وحمده على كثرة نعمه.

ومن فضائلها ما ذكره الثعلبي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال موسى عليه السلام يارب هل خلقت أمة أكرم عليك من أمتي؟ قال الله: يا موسى إن فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الخلق كفضلي على جميع خلقي. قال: يارب ليتني رأيتهم. قال: يا موسى إنك لن تراهم، ولو أردت أن تسمع كلامهم أسمعتك. قال: يارب فإني أريد أن أسمع كلامهم. قال الله عز وجل: يا أمة أحمد، فأجبنا كلنا من أصلاب آبائنا وأرحام أمهاتنا، لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. قال الله تعالى: يا أمة أحمد إن رحمتي سبقت غضبي، وعفوي سبق عقابي، وقد أعطيتكم قبل أن تسألوني، وقد غفرت لكم قبل أن تعصوني، من جاء في يوم القيامة يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسولي وعبدي جعلت الجنة مأواه، وإن كانت ذنوبه أكثر من زبد البحر» .

وذكر الثعلبي أيضاً عن كعب الأحبار: أن موسى عليه الصلاة والسلام نظر في التوراة فقال: إنى أجد أمة خير الأمم أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، ويقاتلون أهل الضلالة، حتى يقاتلوا الأعور الدجال، رب أجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم يا موسى.

فقال رب إني أجد أمة هي الحمادون رعاة الشمس المحكمون إذا أرادوا أمراً قالوا: نفعل إن شاء الله فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

فقال: ربي إني أجد أمة يأكلون كفاراتهم وصدقاتهم، وكان الأولون يحرقون صدقاتهم بالنار، وهم المستجيبون والمستجاب لهم، الشافعون والمشفوع لهم، فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

فقال: إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شِرف كبر الله، وإذا هبط وادياً حمد الله، الصعيد لهم طهر، والأرض لهم مسجد، حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء حيث لا يجدون الماء، غر محجلون من آثار الوضوء

ص: 281

فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

فقال: رب إني أجد أمة إذا همَّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة بمثلها، وإن عملها ضعفت عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وإذا همَّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب عليه، وإن عملها كتبت سيئة مثلها فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

فقال: رب إني أجد أمة مرحومة ضعفاء يرثون الكتاب الذين اصطفيتهم فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات، فلا أجد أحد منهم إلا مرحوماً فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

فقال: رب إني أجد أمة مصاحفهم في صدورهم، يلبسون ثياب أهل الجنة، يصفون في صلاتهم صفوف الملائكة، أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل، لا يدخل النار أحد منهم أبد، إلا من رمي الحساب مثل ما يرمي الحجر من وراء الشجر فاجعلهم أمتي. قال: هي أمة محمد صلوات الله عليه وسلامه عليه.

فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته قال: ياليتني من أصحاب محمد، فأوحى الله عز وجل إليه ثلاث آيات: ?يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي? إلى قوله: ?دَارَ الفَاسِقِينَ? [الأعراف: 144، 154] ?وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ? [الأعراف: 159] قال: فرضي موسى كل الرضا.

لطيفة: وهي خاتمة قال في نزهة المجالس: جاء في الخبر: أنه يؤتى يوم القيامة برجل من أمتي له ذنوب كعدد رمل عالج، فيوقف بين يدى الله تعالى فيقول له: انطلقوا به الى النار، فيلتفت فيقول الله: مالك تلتفت؟ فيقول: يارب خرجت من الدنيا، وما انقطع رجائي منك، وأمرت بي إلى النار رجائي منك، فيقول الله تعالى: وعزتي وجلالي ما كان هذا ظن عبدي بي، ولكن هذه دعوة دعاها علي أشهدكم يا ملائكتي أني قد قبلت دعوته وغفرت له.

* * *

ص: 282