الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلس الخامس والثلاثون
في قصة موسى مع الخضر صلوات وسلامه عليهما
الحمد لله الذي جعل العلم للعلماء نسباً، وأغناهم به وإن عدموا مالاً ونسباً، ولأجله فاز إدريس بالجنة واخبتا، ولطلبه قام الكليم ويوشع وانتصبا، فسار إلى أن لاقيا في سفرهما نصباً، وبسببه خلق الله آدم للبشر أباً، وأمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس أبى، واستخرج من ذريته قبائل وشعباً، وأجرى عليهم قلم القضا، وجعل لكل شيء سبباً، وفق أهل العلم بعنايته فقاموا في خدمته رغباً ورهبا، وفقهم إذ عرفهم أحكامه فأحرزوا به رتبا، وجعلهم في الدنيا كالأعلام وهداة للأنام فاقتفوا به جداً وأبا، وقذف في قلوبهم من المشكلات ما كان بعيداً محتجبا، وكساهم به عزاً وجلالة وسمتاً ومهابة فغدا كل منهم مكرماً ومجتبى، وأذاقهم حلاوة أحكامة فما وجدوا في سفر طلبه تعبا، فإذا وفدوا إليه في القيامة ألبسهم تيجان الكرامة وناداهم أهلاً وسهلاً ومرحبا.
قَالَ البُخَارِي:
بَاب مَا يُستَحبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللهِ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ أَخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفاً الْبِكَالِىَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ. فَقَالَ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَامَ مُوسَى النَّبِىُّ خَطِيباً فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَىُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَنَا أَعْلَمُ. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْداً مِنْ عِبَادِى بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ يَا رَبِّ وَكَيْفَ بِهِ فَقِيلَ لَهُ احْمِلْ حُوتاً فِى مِكْتَلٍ فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهْوَ ثَمَّ، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، وَحَمَلَا حُوتاً فِى مِكْتَلٍ، حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَا فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنَ الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً، وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَباً، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمِهِمَا فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا، لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً، وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِى أُمِرَ بِهِ. فَقَال لَهُ فَتَاهُ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ، قَالَ مُوسَى ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِى، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً، فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ - أَوْ قَالَ تَسَجَّى بِثَوْبِهِ - فَسَلَّمَ مُوسَى. فَقَالَ الْخَضِرُ
وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ فَقَالَ أَنَا
مُوسَى. فَقَالَ مُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ قَالَ نَعَمْ. قَالَ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِى مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً، يَا مُوسَى إِنِّى عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لَا أَعْلَمُهُ. قَالَ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، وَلَا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ، فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الْخَضِرُ، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِى الْبَحْرِ. فَقَالَ الْخَضِرُ يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِى وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَاّ كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِى الْبَحْرِ. فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ. فَقَالَ مُوسَى قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ. فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَاناً. فَانْطَلَقَا فَإِذَا غُلَامٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلَاهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ. فَقَالَ مُوسَى أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا - قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ وَهَذَا أَوْكَدُ - فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا،
فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ. قَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ. فَقَالَ لَهُ مُوسَى لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا. قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ» . قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا» (1) .
(1) قال الحافظ ابن حجر وفي قصة موسى والخضر من الفوائد:
أن الله يفعل في ملكه ما يريد، ويحكم في خلقه بما يشاء مما ينفع أو يضر، فلا مدخل للعقل في أفعاله ولا معارضة لأحكامه، بل يجب على الخلق الرضا والتسليم، فإن إدراك العقول لأسرار الربوبية قاصر فلا يتوجه على حكمه لم ولا كيف، كما لا يتوجه عليه في وجوده أين وحيث.
وإن العقل لا يحسن ولا يقبح وإن ذلك راجع إلى الشرع: فما حسنه بالثناء عليه فهو حسن، وما قبحه بالذم فهو قبيح.
وإن لله تعالى فيما يقضيه حكماً وأسراراً في مصالح خفية اعتبرها كل ذلك بمشيئته وإرادته من غير وجوب عليه ولا حكم عقل يتوجه إليه، بل بحسب ما سبق في علمه ونافذ حكمه، فما أطلع الخلق عليه من تلك الأسرار عرف، وإلا فالعقل عنده واقف. فليحذر المرء من الاعتراض فإن مآل ذلك إلى الخيبة.
ولننبه هنا على مغلطتين:
الأولى: وقع لبعض الجهلة أن الخضر أفضل من موسى تمسكا بهذه القصة وبما اشتملت عليه، وهذا إنما يصدر ممن قصر نظره على هذه القصة ولم ينظر فيما خص الله به موسى عليه السلام من الرسالة وسماع كلام الله وإعطائه التوراة فيها علم كل شيء، وإن أنبياء بني إسرائيل كلهم داخلون تحت شريعته ويخاطبون بحكم نبوته حتى عيسى، وأدلة ذلك في القرآن كثيرة، ويكفي من ذلك قوله تعالى: ?إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي? [الأعراف: 144] .
قال: والخضر وإن كان نبيا فليس برسول باتفاق، والرسول أفضل من نبي ليس برسول، ولو تنزلنا على أنه رسول فرسالة موسى أعظم وأمته أكثر فهو أفضل، وغاية الخضر أن يكون كواحد من أنبياء بني إسرائيل وموسى أفضلهم. وإن قلنا إن الخضر ليس بنبي بل ولي فالنبي أفضل من الولي، وهو أمر مقطوع به عقلاً ونقلا، والصائر إلى خلافه كافر لأنه أمر معلوم من الشرع بالضرورة.
قال: وإنما كانت قصة الخضر مع موسى امتحاناً لموسى ليعتبر.
ذهب قوم من الزنادقة إلى سلوك طريقة تستلزم هدم أحكام الشريعة فقالوا: إنه يستفاد من قصة موسى والخضر أن الأحكام الشرعية العامة تختص بالعامة والأغبياء، وأما الأولياء والخواص فلا حاجة بهم إلى تلك النصوص، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم، ويحكم عليهم بما يغلب على خواطرهم، لصفاء قلوبهم عن الأكدار وخلوها عن الأغيار. فتنجلي لهم العلوم الإلهية والحقائق الربانية، فيقفون على أسرار الكائنات ويعلمون الأحكام الجزئيات فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات، كما اتفق للخضر، فإنه استغنى بما ينجلي له من تلك العلوم عما كان عند موسى، ويؤيده الحديث المشهور:«استفت قلبك وإن أفتوك» قال القرطبي: وهذا القول زندقة وكفر، لأنه إنكار لما علم من الشرائع، فإن الله قد أجرى سنته وأنفذ كلمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله السفراء بينه وبين خلقه المبينين لشرائعه وأحكامه، كما قال الله تعالى: ?اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ? [الحج: 75] وقال: ?اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ? [الأنعام: 124] وأمر بطاعتهم في كل ما جاءوا به، وحث على طاعتهم والتمسك بما أمروا به فإن فيه الهدى. وقد حصل العلم اليقين وإجماع السلف على ذلك، فمن ادعى أن هناك طريقا أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الطرق التي جاءت بها الرسل يستغني بها عن الرسول فهو كافر يقتل ولا يستتاب. قال: وهي دعوى تستلزم إثبات نبوة بعد نبينا، لأن من قال إنه يأخذ عن قلبه لأن الذي يقع فيه هو حكم الله وأنه يعمل بمقتضاه من غير حاجة منه إلى كتاب ولا سنة فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم:«إن روح القدس نفث في روعي» .
قال: وقد بلغنا عن بعضهم أنه قال: أنا لا آخذ عن الموتى، وإنما آخذ عن الحي الذي لا يموت.
وكذا قال آخر: أنا آخذ عن قلبي عن ربي. وكل ذلك كفر باتفاق أهل الشرائع، ونسأل الله الهداية والتوفيق.
وقال غيره: من استدل بقصة الخضر على أن الولي يجوز أن يطلع من خفايا الأمور على ما يخالف الشريعة ويجوز له فعله فقد ضل، وليس ما تمسك به صحيحاً، فإن الذي فعله الخضر ليس في شيء منه ما يناقض الشرع، فإن نقض لوح من ألواح السفينة لدفع الظالم عن غصبها ثم إذا تركها أعيد اللوح جائز شرعاً وعقلاً، ولكن مبادرة موسى بالإنكار بحسب الظاهر. وأما قتله الغلام فلعله كان في تلك الشريعة. وأما إقامة الجدار فمن باب مقابلة الإساءة بالإحسان. والله أعلم. انظر فتح الباري (1/219 – 222) .
قوله: «إِنَّ نَوْفاً الْبِكَالِىَّ» : قال العلماء: نوفا هذا هو ابن فضالة، وكنيته أبو زيد وقيل: أبو رشيد، وهو ابن امرأة كعب الأحبار، وقيل: ابن أخيه.
قال ابن رجب: وهو ممن أسلم من أحبار اليهود، وهو منسوب إلى بني بكال بطن من حمير، فلهذا يقال له البكالي، وكان من علماء التابعين.
«يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِى إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ. فَقَالَ كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ» : معنى هذا: أن سعيد بن جبير قال لابن عباس أن نوفا يزعم أن موسى الذي قص الله تعالى لنا قصته مع الخضر في سورة الكهف، ليس موسى بنى إسرائيل الذي هو موسى بن عمران، بل هو موسى آخر موسى بن ميشا (1)، فلما سمع ذلك ابن عباس عن نوفا قال عنه:«كذب عدو الله» حيث قال: إنه ليس موسى بن عمران.
وقد استشكل العلماء قول ابن عباس في حق نوفا: «كذب عدو الله» وقالوا: كيف يكون عدو الله وهو مؤمن، وكان عالماً قاضياً إماماً لأهل دمشق.
وأجابوا عنه بأجوبة: أحدها: أن المراد كذب شيطانه الحامل له على هذه المقالة.
ثانيها: أن قول ابن عباس كذب عدو الله خرج مخرج التنفير من كلامه حيث قال: «إن موسى الذي قصد الخضر ليس موسى بن عمران بل موسى آخر» وليس المراد القدح فيه.
ثالثها: أن ابن عباس قاله في حالة الغضب، وحال الغضب تطلق الألفاظ ولا يراد بها حقائقها.
«قال ابن عباس: حَدَّثَنَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ» : هذا هو الصحابي الجليل الأنصاري الخزرجي، وكان رجلاً قصيراً نحيفاً أبيض الرأس واللحية، شهد العقبة الثانية وبدراً وما بعدها من المشاهد، وكان كاتب الوحي، وهو أحد الستة الذين حفظوا القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد الفقهاء الذين كانوا يفتون على عهده أيضاً.
ومن فضائله: أنه أقرأ الصحابة لكتاب الله تعالى.
(1) قال ابن حجر في الفتح (1/219) : قوله: «انما هو موسى آخر» كذا في روايتنا بغير تنوين فيهما، وهو علم على شخص معين قالوا: إنه موسى بن ميشا بكسر الميم وبالشين المعجمة، وجزم بعضهم أنه منون مصروف لأنه نكرة، ونقل عن ابن مالك أنه جعله مثالاً للعلم إذا نكر تخفيفاً.
ومن فضائله ومناقبه التي لم يشاركه فيها أحد من الصحابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرني الله تعالى أن أقرأ عليك القرآن» (1) وسنذكر في المجالس الآتية حكمة أمر الله له بالقراءة عليه.
سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأنصار، وسماه عمر سيد المسلمين روى له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائه حديث وأربعة وستون حديثاً، ذكر البخاري منها سبعة أحاديث مات سنة تسع عشرة أو عشرين أو ثلاثين بالمدينة.
«عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَامَ مُوسَى النَّبِىُّ» : قال العلماء: كان موسى صلوات الله وسلامه عليه من ذرية إبراهيم الخليل، فإنه موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاو بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وكان عمره حين مات كما قاله ابن الملقن مائة وعشرين سنة.
واختلف العلماء في السبب الذي قصد موسى لأجله الخضر، فقيل سببه: أن موسى سئل ربه فقال: أي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: أي رب أي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال: فهل في عبادك في الأرض أعلم مني؟ قال: نعم، قال: رب من هو؟ قال: الخضر ثم نعته له ودله على مكانه فقصده.
وقيل سببه: أن موسى لما ظهر على فرعون وغلبه وأخذ مصر من القبط، وأهلكهم الله واستقر هو وبنو إسرائيل، أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام «موسى النبي خطيباً في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم، فعتب الله عليه، إذ لم يرد العلم إليه» أي: لم يرض الله بقوله أنا أعلم، فإنه كان من حقه أن يرد العلم إلى الله، بأن يقول: الله أعلم به أو يرد برد الملائكة أن يقول: لا علم لنا إلا ما علمتنا، فإن مخلوقات الله لا يعلمها إلا الله قال الله تعالى: ?وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَاّ هُوَ? [المدثر: 31] .
وليس معنى العتب هنا المؤاخذة وتغير النفس، فإن ذلك في حق الله مستحيل.
«فأوحى الله إليه» : لما لم يرد العلم إليه.
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط (2/88، رقم 1337) عن أبي بن كعب.
وأخرجه البخاري (4/1896، رقم 4676) ، ومسلم (1/550، رقم 799) ، والنسائي في الكبرى (5/66، رقم 8238) ، وأحمد (3/218، رقم 13310) عن أنس.
وقال: «إن عبداً من عبادي بمجمع البحرين» أي: عند ملتقى البحرين وهما بحر فارس وبحر الروم مما يلي المشرق.
«هو أعلم منك، قال: يارب كيف به» أي: على أي حال يكون الطريق إلى ملاقاته، وجاء في رواية:«قال يارب فدلني عليه حتى أتعلم منه» .
«فقيل له: احمل حوتاً في مكتل» أي: إذا أردت الاجتماع به فاحمل معك حوتاً سمكة في مكتل أي: في زنبيل واذهب إليه.
قال: «فإذا فقدته فهو ثم» أي: إذا فقدت الحوت فالعبد الذي هو أعلم منك هناك، فجعل فقد الحوت علامة ودليلاً على مكانة.
«فانطلق» أي: موسى، «وانطلق بفتاه» أي: بصاحبه «يوشع بن نون» قاصدين الخضر.
قال أبو عبد الله: «يوشع» يجوز أن يقال: بالشين المعجمة وإن يقال بالسين المهملة، يوشع كان نبياً في زمن موسى صلوات الله وسلامه عليهما سواء.
فإن قيل: عدوا من جملة شروط النبوة أن يكون النبي أكمل أهل زمانة، وهذا يستلزم عدم جواز إرسال نبيين في عصر واحد، فكيف أرسل يوشع في زمن موسى وهارون أخوه أيضاً في زمنه، فإن إرسال موسى وأخيه ثابت بنص القرآن قال الله تعالى: ?اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ? [طه: 43] . وقال: ?فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا? [الشعراء: 15] . وقال: ?فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ? [طه: 47] .
جوابه: أن معنى هذا الشرط والمراد منه أنه يشترط أن يكون أكمل أهل زمانه ممن ليس نبياً فهو شرط عام، ولكنه مخصوص كما أفاد ذلك ابن الهمام وشيخنا ابن أبي الهمام في المسايرة وشرحها.
«وحملا حوتاً في مكتل» أي: تزودا عند سفرهما لأجل الخضر بسمكة مالحة وضعاها في مكتل وسارا.
«حتى كانا عند الصخرة» أي: حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين أي: بين البحرين قيل: وكانت هذه الصخرة دون نهر الزيت بالمغرب.
والحكمة في أنهما اجتمعا بمجمع البحرين: أنهما بحران في العلم، وكان عند الصخرة عين ماء تسمى ماء الحياة، لا يصيب ذلك الماء شيئاً ميتاً إلا حي بإذن الله تعالى، وكان قد أكلا من ذلك الحوت أحد جنبيه، وبقي الجنب الآخر، فلما وصلا إلى الصخرة «وضعا رؤوسهما فناما» .
قيل: قام يوشع بن نون وتوضأ من عين الحياة فانتضح على الحوت المالح في المكتل من ذلك الماء فعاش.
وقيل: أصابه روح الماء وبرده فاضطرب في المكتل وعاش.
«فانسل الحوت من المكتل» أي: فخرج منه فسقط في البحر كما قال تعالى: ?فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَباً? [الكهف: 61] أي: ذهب في البحر ذهاباً.
قيل: وأمسك الله جرية الماء على الحوت فصار عليه مثل الطاق أي: مثل عقد البناء وهو: ما ترك تحته خالياً وعقد أعلاه بالبناء.
فائدة: اتفق هنا معجزتان:
إحداهما: حياة السمكة المملوحة المأكول منها.
والثانية: صيرورة الماء مثل السرب المحفور تحت الأرض كما جاء في رواية: «فجعل الماء لا يلتئم حتى صار كالكوة» .
وهاتان المعجزتان إما موسى أو للخضر. «وكان لموسى وفتاه عجباً» .
فائدة: قال الدميرى: قال أبو حيان الأندلسي: رأيت سمكة بقرب مدينة «سبته» من نسل الحوت الذي أكل منه موسى وفتاه بصفته، فأحياه الله تعالى فاتخذ سبيله في البحر سرباً، ونسلها في البحر إلى الآن في ذلك الموضع، وهي سمكة طولها أكثر من ذراع، وعرضها شبر واحد أحد جنبيها شوك وعظام، وجلد رقيق على أحشائها وعينها ورأسها نصف رأس، من رآها من هذا الجانب استنفرها، ويحسب أنها مأكوله، ونصفها الآخر صحيح، والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة.
ومن غريب ما روى أيضاً: أن بعض المفسرين ذكر أن موضع سلوك الحوت عاد حجراً طريقاً وإن موسى مشى عليه تبعاً للحوت حتى أفضى به ذلك الطريق إلى جزيرة في البحر فيها وجد الخضر.
فلما استيقظ موسى نسى صاحبه يوشع أن يخبره بالحوت.
«فانطلقا بقية ليلتهما ويومهما» وفي رواية في البخاري في التفسير وفي مسلم أيضاً: «فانطلقا بقية يومهما وليلتهما» (1) وهو الصواب وكما قاله البرماوي وابن الملقن لقوله: «فلما أصبح» .
(1) أخرجه البخاري (4/1752، رقم 4448) ، ومسلم (4/1847، رقم 2380) ، والترمذي (5/309، رقم 3149) .
وجاء في رواية: «حتى إذا كان من الغد وارتفع النهار حتى جاء وقت الظهر» .
«قال موسى لفتاه آتنا غدآءنا» والغداء: بفتح الغين المعجمة والممدودة الطعام الذي يؤكل أول النهار.
«لقد لقينا من سفرنا هذه نصبا» أي: تعباً، وإنما حصل لسيدنا موسى التعب والجوع بعد مفارقة الحوت لا قبله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ولم يجد موسى مساً من النصب حتى جاوز المكان الذي أُمر به» .
والحكمة في حصول التعب له والجوع بعد مفارقة الحوت حتى يطلب الغداء، فيذكر فيه نسيان الحوت، فيرجع إلى محله فيجتمع بمراده.
قال أبو الفضل الجوهري: مشى موسى عليه السلام للمناجاة أربعين يوماً لم يحتج إلى طعام، ولما مشى إلى بشر لحقه الجوع.
«فقال لفتاه» يوشع لما طلب منه الغداء «أرأيت إن أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت» أي: لما نمنا عند الصخرة نسيت الحوت.
سؤال: فإن قيل: كيف نسى يوشع الحوت ومثله لا ينسى، لكونه أمارة على مرادهما.
جوابه: أن الشيطان قد شغله بوسواسه حتى نسي، ولذلك قال: ?وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَاّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ? [الكهف: 63] .
«قال موسى» له لما استمع قوله: فإني نسيت الحوت «ذلك ما كنا نبغ» أي: فقدنا للحوت هو الذي كنا نطلبه، لأنه علامة على وجود مطلوبنا.
«فارتدا على آثارهما قصصاً» أي: فرجعا يقتصان الآثار حتى وصلا إلى الصخرة.
«فلما أتيا إلى الصخرة» أراه مكان فقد الحوت.
«إذا برجل مسجى بثوب، أو قال: تسجى بثوبه» أي: فلما وصل إلى الصخرة وإذا بالخضر مغطىً بثوب كله كتغطية الميت وجهه ورجله وجميعه، كما جاء في رواية أخرى:«قد تسجى بثوب قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه» .
وقال الثعلبي: فانتهى موسى وفتاه إلى الخضر وهو نائم على طنفسة خضراء، على وجه الماء، وهو مسجي بثوب أخضر.
وفي صحيح البخاري (1) : «فأتيا جزيرة فوجدا الخضر قائماً يصلي على طنفسة
(1) وقع في الأصل صحيح مسلم ولم نقف على هذه الرواية في صحيح مسلم فلعل الصواب ما أثبتناه.
خضراء على كبد البحر» (1) أي: وسطه.
«فسلم موسى» على الخضر، «فقال» له «الخضر وأنى بأرضك السلام» أي: من أين السلام في هذه الأرض التي لا يعرف فيها السلام، فأني اسم استفهام بمعنى: من أين هنا، كما في قوله تعالى: ?أَنَّى لَكِ هَذَا? [آل عمران: 37] فإنها نكون بمعنى: من أين، وبمعنى: متى وحيث وكيف.
وتعجب الخضر من وقوع السلام إما لأن السلام لم يكن معروفاً عندهم إذ ذاك، إلا بين الأنبياء والأولياء، وإما لأن تلك البلاد كانت بلاد كفر وهم لا يعرفون السلام.
فلما قال له الخضر: «وأنى بأرضك السلام» تحقق موسى أن الخضر عرفه فعرَّفه بنفسه «فقال: أنا موسى فقال» له الخضر: أنت «موسى نبي بني إسرائيل؟ قال: نعم» .
وقال بعض العلماء: إن موسى لما سلم عليه وهو مغطى عرَّفه أنه موسى، فرفع رأسه واستوى جالساً وقال: عليك السلام يا نبي بنى إسرائيل، قال: ما الذي أدراك بي، ومن أخبرك أني نبي بني إسرائيل؟ قال: الذي أدراك بي ودلك علي، ثم قال الخضر: يا موسى أما يكفيك أن التوراة بيدك، وأن الوحي يأتيك، قال موسى: إن ربي أرسلني لأتبعك وأعلم من علمك.
ثم «قال» موسى للخضر: «هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً» أي: صواباً أرشد به، وإنما سأله ذلك لأن الزيادة إلى العلم مطلوبة.
سؤال لصاحب الكشاف وهو: فإن قيل: دلت حاجته إلى العلم من الخضر أنه ليس موسى بن عمران بل موسى بن ميشا لأن موسى بن عمران نبي، والنبى يجب أن يكون أعلم أهل زمانه.
وأجاب: أنه لا نقص بالنبي في أخذ العلم من نبي مثله.
وقال الكرماني: وهذا الجواب لا يتم على القول بولاية الخضر، ثم أجاب: بأن موسى لم يسأل الخضر عن شيء من أمر الدين، والأنبياء لا يجهلون ما يتعلق بدينهم الذي يعبدون الله به، وإنما سأله عن شيء ليس عنده علمه مما ذكر في السورة.
فلما سأل موسى الخضر أن يتبعه حتى يتعلم منه «قال» له الخضر: «إنك لن
(1) أخرجه البخاري (4/1754، رقم 4449) .
تستطيع معي صبراً» يعني: إنك سترى مني شيئاً ظاهره منكر فلا تصبر عليه.
ثم قال له الخضر أيضاً: «يا موسى إني أعلم علم من علم الله علمينه لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه إياه الله لا أعلمه» أنا.
جاء في رواية: «أن الخضر قال له: فما شأنك إن الوحي يأتيك يا موسى، إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه» .
ثم قال له: «وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً» يعني: على ما لم تعلمه.
«قال» له موسى: «ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً» : إنما قال موسى إن شاء الله لأنه لم يكن على ثقة من نفسه فيما التزم من عدم عصيانه، وهذه عادة الأنبياء والأولياء ألا يثقوا إلى أنفسهم طرفة عين.
فقال الخضر: «فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً» يعني: إذا رأيت مني ما تنكره باطناً بحسب علمك، فاصبر حتى أبينه لك بعلته بحسب علمي، فقبل موسى شرطه رعاية لأدب المتعلم مع العالم.
سؤال: فإن قيل: كيف قال «فحملوهما» مع أنهم كانوا ثلاثة الخضر وموسى ويوشع، ويدل عليه قوله:«فكلموهم» .
فالجواب: أن يوشع لما كان تابعاً اكتفي بذكر الأصل عن الفرع، وهذا نظير قوله تعالى: ?فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى? [طه: 117] ولم يقل فتشقيان، بل ثنى ثم أفرد، لأن آدم هو الأصل فأفرد بالذكر، وحواء كانت تابعة فلم تذكر اكتفاءً بذكر الأصل عن الفرع.
فالحاصل: أن أهل السفينة حملوا الثلاثة في سفينتهم بغير أجرة.
«فجاء عصفور» وذكر بعضهم: أنه الصُّرَد قاله الزركشي.
«فوقع على حرف السفينة» أي: على طرفها «فنقر نقرة أو نقرتين في البحر، فقال الخضر: يا موسى، ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كنقرة هذا العصفور» نقص علمي وعلمك من علم الله عز وجل لاكتفون هذا العصفور في البحر.
استشكل العلماء هذا وقالوا: إن ظاهره يقتضي أن علم الله يدخله النقص مع أن الزيادة والنقص لا يدخلان في علم الله تعالى؟
وأجابوا عن الاستشكال المذكور بأجوبة:
أحدهما: أن هذا على جهة التمثيل، والمعنى: أن علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله كنسبة ما نقر العصفور من البحر، فإنه لقلته وحقارته لا يظهر، وكأنه لم يأخذ شيئا.
الثاني: أن «إلا» هنا بمعنى «ولا» كأنه قال: ما نقص علمي وعلمك شيئاً من علم الله، ولا ما أخذ العصفور من هذا البحر، أي: أن علم الله لا يدخله النقص ومثل هذا قوله تعالى ?وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَاّ خَطَئاً? [النساء: 92] .
والثالث: أن «إلا» على بابها، والمراد بالنقص: التفويت الذي له أثر محسوس، ونقر العصفور ليس ينقص البحر بهذا المعنى، فكذلك علمنا لا ينقص من علم الله شيئاً.
وهذا كقول الشاعر:
ولا عيب فيه غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
أي: ليس فيهم عيب.
الرابع: أن العلم هنا بمعنى: المعلوم كالعمل في قوله تعالى: ?وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ? [البقرة: 256] ولولا ذلك لما صح دخول التبعيض فيه، لأن الصفة القديمة لا تبعض.
الخامس: لابن رجب وهو جواب حسن قال: إن البحر لا ينقص البتة من العصفور، بل ولا بشرب غيره من الحيوانات، بل ولا بالاستسقاء منه، ولو نزف منه جميه أهل الأرض لم ينقص شيئاً في الحقيقة، وذلك أن البحر يمده جميع أنهار الدنيا، ومياهها الجارية، فلا يؤخذ منه شيء، إلا وفي تلك الحال يستخلف فيه ما هو أكثر مما أخذ منه، فلا يتصور نقصه مع ذلك.
وشبه ذلك بما في الجنة من طعام وشراب وثمار وغيرها قال: فإنها لا تنقص أبداً مع تناول أهل الجنة منها، فإنه يستخلف في الحال مثل المأخوذ منه أو أكثر فالمعنى: إن علمي وعلمك لا ينقص من علم الله شيئاً كما لا ينقص هذا العصفور من هذا البحر شيئاً، وهذا كقوله تعالى: ?لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَاّ سَلاماً? [مريم: 62] أي: لا يسمعون فيها لغو البتة.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فعمد الخضر إلى لوح من ألواح السفينة» أي: بعد أن توسطوا البحر.
«فنزعه» وقيل: نزع لوحين منها.
وقد جاء في رواية في الصحيح: «أنه وتد فيها وتداً» .
وفي رواية أخرى: «أنه عمد إلى قدوم» أي: فأس «فخرق لوحاً من السفينة حتى دخلها الماء» .
«فقال موسى» بعد أن دخل الماء السفينة وحشا الخرق بثوبه، وقيل: إن الماء لم يدخلها وسدها موسى بثوبه خوفاً من دخوله.
«قوم حملونا بغير نول» وأحسنوا إلينا.
«فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها» أي: ما هذا جزاؤهم منا.
«لقد جئت شيئاً إمراً» أي: لقد فعلت فعلاً عظيماً منكراً.
فقال الخضر لموسى: «ألم أقل إنك لم تستطيع معي صبراً» فاعتذر إليه موسى وقال: «لا تؤاخذني بما نسيت» أي: غفلت.
«ولا ترهقني من أمري عسراً» يعني عاملني في صحبتي إياك بالعفو والتيسير، ولا تضيق علي وتعاملني بالعسر.
«فكانت الأولى» أي: المسألة الأولى «من موسى نسياناً» أي: فلهذا اعتذر، وأما الثانية: فإنه لم ينس فلهذا لم يعتذر، وجاء في رواية في الصحيح:«فكانت الأولى من موسى نسياناً، والوسطى شرطاً، والثالثة عمداً» .
فائدة: قال الثعلبي: قال ابن عباس: «لما خرق الخضر السفينة تنحى موسى ناحيته ثم قال في نفسه: ما كنت أصنع بمصاحبة هذا الرجل، كنت في بني إسرائيل أتلو عليهم كتاب الله غدوة وعشية، وآمرهم فيطيعون، فقال له الخضر: يا موسى أتريد أن أخبرك بما حدثت به نفسك؟ قال: نعم، قال: قلت كذا وكذا، قال: «صدقت» .
«فانطلقا بعد خروجهما من السفينة يمشيان على الساحل فإذا غلام» لطيف ظريف وضيئ.
«يلعب مع الغلمان» أي: مع الأطفال، وكانوا عشرة فأخذه الخضر وقتله بلا ذنب في الظاهر، وموسى ينظر إليه.
وفي مسلم: «فذعر موسى ذعرة منكرة عندها» (1) .
واختلف العلماء في كيفية قتله إياه:
فقيل: أخذه فضجعه ثم ذبحه بالسكين.
(1) أخرجه مسلم (4/1850، رقم 2380) .
وقيل: ضرب رأسه بالجدار حتى قتله.
وقيل: أدخل أصبعه في سرته أي الصبي فاقتلعها فمات.
وقال في هذا الحديث: «فأخذ الخضر برأسه من أعلاه فاقتلع رأسه بيده» .
واختلفوا في اسمه أيضاً، فقيل: جيسور، وقيل: حسين، وقيل جنتور، وقيل غير ذلك.
«فقال موسى أقتلت نفسا ذكية» أي: طاهرة من الذنوب لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث.
وأكثر العلماء والمفسرين على أنه كان دون البلوغ، والذي يدل عليه أنه كان دون البلوغ قوله:«إذا غلام يلعب مع الصبيان» فإن الغلام يطلق على من دون البلوغ فقد قال العلماء: المولود يسمى غلاماً وصبياً وطفلاً إلى البلوغ، فإذا بلغ يسمى شاباً إلى الثلاثين، فإذا وصل إلى الثلاثين يسمى كهلاً إلى الأربعين، فإذا وصل إلى الأربعين يسمى شيخاً.
وذهب بعض العلماء إلى أنه كان بالغاً لما قتله الخضر، واستدلوا على ذلك بقوله:«بغير نفس» فإن المعنى: قتلت نفساً ذكية من غير أن يصدر منها قتل يوجب القصاص، والصبي لو قتل لا قصاص عليه، فدل على أنه كان بالغاً.
وأجاب الكرماني عنه: بأن المراد بقوله: «بغير نفس» التنبيه على أنه قتل بغير حق، أو إن شرعهم كان يقضي إيجاب القصاص على الصبي.
«قال موسى: للخضر لقد جئت» بقتلك الصبي
«شيئاً نكراً» أي: منكراً فلما قال له هذا الكلام غضب الخضر، ثم اقتلع كتف الصبي الأيسر، وقشر اللحم منه، فإذا عظمة كتفه مكتوب عليها كافر لا يؤمن بالله أبداًً، فلما اعترض على الخضر في فعله الثاني، وأنكر عليه كما أنكر عليه أولاً.
«قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال ابن عينية: وهذا أوكد» يعني: زيادة لك هنا أوكد في عتاب موسى، وفي عدم حفظه للوصية وقلة صبره، وفي ذلك أيضاً تنبيه على أنه لا عذر لموسى في هذه المرة الثانية بخلاف الأولى، ولهذا قال للخضر:«إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني بعد هذه المرة» أي: لا تتركني أتبعك وفارقني قد بلغت من لدني عذراً في فراقك إياي.
«فانطلقا يمشيان حتى إذا أتيا أهل قرية» واختلف العلماء في هذه القرية التي أتاها الخضر وموسى.
فقيل: هي «أنطاكية» وعليه ابن عباس وأكثر العلماء والمفسرين.
وقيل: هي قرية من قري الروم تسمى «الناصورة» وإليها ينسب النصاري.
وقيل: «آيلة» وهي: أبعد الأرض من السماء.
وكان دخولهما قبل غروب الشمس، وكانوا محتاجين إلى الطعام مفتقرين إلى تحصيله، إما بكسب أو سؤال، وقد مستهما الحاجة إليه، لأن ذلك الوقت كان وقت جدب واضطرار.
فلما دخلا القرية «استطعما أهلها» أي: طلبوا منهم الطعام ضيافة، «فأبوا أن يضيفوهما» فإنهم كانوا لئاماً.
وقد روى أبي بن كعب أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله: ?فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا? [الكهف: 77] قال: «كانوا أهل قرية لئاماً» قال قتادة: شر القرى التي لا تضيف الضيف ولا تعرف لابن السبيل حقه.
فلم يجدوا تلك الليلة في تلك القرية قرى (1) ولا مأوى، وكانت ليلة باردة فالتجئوا إلى حائط على شارع «يريد أن ينقض» أي: يقرب أن يسقط لميلانه كما أشار الله إلى ذلك بقوله: ?فَوَجَدَا فِيهَا جِداَراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ? [الكهف: 77] ، ولم يزل أهل القرية وغيرهم من الناس يمر تحته على خوف منه، وكان قد بناه رجل صالح.
قال الثعلبي: وكان سمك ذلك الحائط مائتي ذراع بذارع ذلك القرن، وكان طوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع، وكان عرضه خمسون ذراعاً فأقامه الخضر لما رآه مائلاً.
واختلف العلماء في كيفية إقامته، فقيل: هدمه ثم قعد يبنيه، وقيل: دفعه بيده ثم قعد يبنيه، وقيل: دفعه بيده فقام، وقيل: مسحه بيده فاستقام كما قال في هذا الحديث: «قال الخضر بيده، فأقامه» أي: أشار إليه بيده فأقامه، قيل: في هذا الذي فعله الخضر دلالة على أنه نبي، لأن إقامة هذا الجدار بإشارة من يده معجزة عظيمة، وأجاب عنه الكرماني: بأنه يحتمل أن يكون ذلك كرامة تصدر من الولي، فلا دلالة فيه على أنه نبي.
«فقال له موسى» لما أقام الجدار وأصلحه: قوم استضفناهم فلم يضيفونا مع شدة احتياجنا إلى الطعام فأصلحت جدارهم بلا ضيافة منهم.
(1) المراد به إكرام الضيف.
«لو شئت لاتخذت عليه أجراً» أي: لاتخذت على ذلك أجرة لتكون لنا قوة وبلغة على سفرنا.
قال الخضر: «هذا فراق بيني وبينك» أي: لهذا الاعتراض الثالث علي سبب للفراق بيني وبينك يا موسى (1) .
ثم قال له: ?سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً? [الكهف: 78] أي: سأخبرك عن سبب خرق السفينة وقتل الغلام وإصلاحي الجدار، لتعلم أنه لا إنكار علي.
ثم أخذ يبين له ذلك فقال كما قال الله تعالى حكاية عنه: ?أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ? أي: لعشرة مساكين أخوة، ولم يكن لهم معيشة غيرها ورثوها من أبيهم، وكانت تساوي ألف دينار.
ثم قال له الخضر: فأردت أن أعيب هذه السفينة قطعاً لطمع الطامعين فيها، ودفعاً لشرهم، فإنه كان ?وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً? قال: فخرقتها وعبتها لئلا يتعرض لها ذلك الملك ويدعها لعيبها، فإذا جاوزوه صلحوها فانتفعوا بها، وقد أصلحها الخضر بعد مجاوزة الملك.
فائدة: استدل ابن عبد السلام بخرق السفينة مخافة أخذ الغاصب على أنه إذا كان تحت يد الإنسان مال يتيم أو سفيه أو مجنون، وخاف عليه أن يأخذه ظالم، أنه يجب أن يعيبه لأجل حفظها، وقريب من هذه المسالة ما لو خاف الوصي على المال الذي تحت يده من استيلاء ظالم عليه فله تخليصه بشيء منه، والله يعلم المفسد من المصلح، ونظير هذا ما لو كان تحت يده مال يتيم مثلاً وعلم أنه لو لم يبذل منه شيء لقاضي سوء لانتزعه منه وسلمه لبعض خونته وأدي ذلك إلى ذهابه، فإنه يجب عليه أن يدفع إليه شيئاً ويتحرى في أقل ما يمكن إرضاؤه به، والقول قوله إذا نازعه المحجور عليه بعد رشده في بذل ذلك، وإن لم تدل القرائن عليه، وكذلك القول من عيب مال اليتيم قوله ونحوه إذا نازعه اليتيم ونحوه بعد الرشد ونحوه في أنه لم يفعله لهذا الغرض، كما قاله القاضي زكريا في شرح الروض قبيل باب الوديعة أنه الأوجه، قال: لأن ذلك لا يعلم إلا منه غالباً.
ثم أخذ الخضر يبين له ما فعله بالغلام فقال كما قال الله حكاية عنه ?وَأَمَّا الغُلامُ
(1) إلي هنا انتهت الرواية التي عند البخاري وبعدها أكمل السفيري القصة بنحو ما جاء في سورة الكهف من الآية (79) إلي الآية (81) .
فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ? وكان هو كافراً، وكان ابن عباس يقرأ هذه الآية ?وَأَمَّا الغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ?.
وفي صحيح مسلم: «وأما الغلام فطبع يوم طبع كافراً، وكان أبواه قد عطفاً عليه فلو أنه أدرك أرهقهما طغياناً وكفراً» .
وهذا بمعنى قول الخضر ?فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً? أي: فعلمنا أنه لو أدرك وبلغ لدعى أبويه إلى الكفر، فيجيبانه ويدخلان معه في دينه لفرط حبهما إياه فيدخلان النار، والطغيان: الزيادة في الضلال.
ثم قال الخضر: ?فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً? أي: وأوصل للرحم وأبر بوالديه.
قال الثعلبي: فأبدلهما الله جارية مؤمنة أدركت يونس بن متى، فتزوجها نبي من الأنبياء فولدت له نبياً فهدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم.
وري عن جعفر الصادق عن أبيه أنه قال: أبدلهما جارية ولدت سبعين نبياً.
ثم أخذ يبين له حال الجدار فقال كما قال الله تعالى: ?وَأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ? وكان اسم الغلامين: «أصرم، وصريم» .
?وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا? واختلف العلماء في ذلك الكنز أي شيء كان:
فقيل: كان صحفاً مدفونة تحته فيها علم.
وقيل: كان لوحًا من ذهب مكتوب في أحد شقية: «بسم الله الرحمن الرحيم عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي شقه الآخر أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه» رواه عطاء عن ابن عباس.
وقال أكثر العلماء: إن الكنز كان ملآناً بذهب وفضة وهو الظاهر من إطلاقه.
ثم قال: ?وَكَانَ أَبُوهُمَا? شيخاً ?صَالِحاً? أي: أميناً تقياً، فحفظا بصلاح أبيهما ولن يذكر منهما صلاحاً، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء.
قال محمد بن المنكدر: إن الله ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده وبقعته التي
هو فيها، والدويرات حوله، فما يزالون في حفظ وستر (1) .
لطيفة: حكي عن بعض العلوية أنه دخل على هارون الرشيد وقد همَّ بقتله، فلما دخل عليه أكرمه وخلى سبيله، فقيل له: بما دعوت حتى أنجاك الله منه قال: قلت: يا من حفظ الكنز على الصبيين لصلاح أبيهما احفظني منه لصلاح آبائي (2) .
قال الخضر: ?فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا? المدفون تحت الجدار ?وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي? وإنما فعلته بأمر الله ?ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً?.
لطيفة: قال الثعلبي: لما أنكر موسى على الخضر خرق السفينة مخافة غرق أهلها، وقتل الغلام، وإقامة الجدار محتسباً بدون أجر، قال له: يا موسى أتلومني على خبر السفينة مخافة غرق أهلها ونسيت نفسك حين ألقتك أمك وأنت صغير في اليم ضعيف فحفظك الله، وتلومني على قتل الغلام الكافر بلا أمر، ونسيت نفسك حين قتلت القبطي بغير أمر، تلومني على ترك أخذ الأجرة في إقامة الجدار، ونسيت نفسك حين سقيت أغنام شعيب لأجل الله تعالى (3) .
قال الثعلبي: وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أو غيره: أن موسى لما أرد فراق الخضر قال له الخضر: استودعك الله، فقال له موسى: أوصني، فقال له الخضر، لا تكن مشاء في غير حاجة، وإياك واللجاجة، ولا تضحك من غير عجب، ولا تعير الخطائين بخطاياهم، وابك على خطيئتك، ولا تؤخر عمل اليوم إلى الغد (4) .
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحم الله موسى لوددنا لوصبر حتى يقص علينا من أمرهما» .
«لوددنا» جواب قسم محذوف، «ولو صبر» في تأويل المصدر أي: والله لوددنا صبر موسى، لأنه لو صبر لأبصر أعجب العجائب.
وروي عن أبي بن كعب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه فقال ذات يوم: «رحمة الله علينا وعلى أخي موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب العجاب، ولكنه قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت
(1) أورده ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم (1/187) .
(2)
انظر: قصص الأنبياء المسمي عرائس المجالس (ص 129) .
(3)
انظر: قصص الأنبياء السابق.
(4)
انظر: قصص الأنبياء السابق.
من لدني عذراً» .
استنبط الإمام النووي وغيره من قصة موسى والخضر فوائد كثرة:
قالوا: فيه دلالة على استحباب الرحلة للعلم وفضيلة طلبه.
وفيه: دلالة على جواز النزول للسفر.
وفيه: دلالة على أنه ينبغي للإنسان أن يستعمل الأدب مع العالم، وأن يحترم المشايخ، وأن يترك الاعتراض عليهم، وأن يؤول ما لم يفهم ظاهره من أقوالهم وأفعالهم، وأن يوفي بما عاهدهم عليه، وأن يعتذر لهم عند مخالفتهم.
وفيه: دلالة على أنه يجوز للإنسان أن يطلب من غيره الطعام عند احتياجه إليه.
وفيه: دليل على إثبات كرامات الأولياء.
وفيه: دليل على جواز الإجازة، وعلى جواز ركوب السفينة، وعلى جواز ركوبها بغير أجرة برضا صاحبها.
وفيه: دليل على أن الشرع إنما يحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه.
وفيه: دليل على أن الكذب: الإخبار على خلاف الواقع عمداً أو سهواً خلافاً للمعتزلة (1) .
وفيه: دليل على أنه إذا تعارضت مفسدتان على شيء واحد جاز دفع أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما، كمسئله ابن عبد السلام السابقة وغيرها، ولهذا خرق الخضر السفينة لدفع غصبها، فإن الخرق أهون من الغضب.
وفيه: دليل على جواز فساد بعض المال لإصلاح باقيه.
قال العلماء: يجوز خصاء صغار الحيوان المأكول لأجل أن يطيب لحمه، ولا يجوز خصاء كبار المأكول ولا خصاء غير المأكول مطلقاً، وعليهما يحمل حديث النهي عن خصاء البهائم.
وقالوا: يجوز قطع بعض آذان الأنعام للتمييز، قاله ابن الملقن.
وفيه: دليل على جواز التسليم لكل ما جاء به الشرع، وإن كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول ولا يفهمه كل الناس، ولو كان ظاهره منكراً، واستفيد هذا من قتل الغلام وخرق السفينة، فإن صورتهما صورة المنكر، وفي نفس الأمر كانا صحيحين
(1) فإنهم يشترطون الكذب عن طريق العمد فقط، ولكن المذهب الحق أن الإخبار بغير الواقع سواء كان عمداً أو سهواً أو غلطاً. قاله النووي في شرح مسلم (1/94) .
ولهما حكمة كانت خفية عن الخلق، فلما أعلمهم الخضر بها بعد أن أعلمه الله بها علموها، ولهذا قال: ?وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي?.
وفيه: دليل على أنه يجب الرجوع إلى قول أهل العلم عند التنازع.
وفيه: دليل على أنه يجب على العالم الرغبة في الزيادة من العلم والحرص عليه، ولا يقنع بما عنده، ولهذا لم يكتف موسى بعلمه بل طلب الزيادة.
وفيه: دليل على أنه لا بأس على العالم والفاضل أن يخدمه المفضول، ويقضي له حاجته، ولا يكون هذا من أخذ العوض على تعليم العلم والآداب، بل من مروءات الأصحاب، وحسن العشرة، ودليل هذا: حمل فتى موسى وهو يوشع الغداء.
وفيه: دليل على أنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول: لا أعلم ولا أدري.
جاء في الخبر: «العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة قائمة، ولا أدري» (1) .
وقال الشعبي: «لا أدري» نصف العلم.
وقال الإمام مالك: جنة العالم «لا أدري» فإذا أخطأها فقد أصيبت مقالته.
وقال أبو حفص النيسابوري: العالم هو الذي يخاف عند السؤال أن يقال له يوم القيامة: من أين أجبت؟.
وكان ابن عمر يقول: يريدون أن يجعلونا جسراً يعبرون علينا.
وكان ابن عمر أيضاً يسأل عن عشر مسائل فيجيب عن واحدة ويسكت عن تسعة.
ونقل عن الإمام مالك أنه سئل عن ثماني وأربعين مسألة فقال في اثنين وثلاثين منها: «لا أدري» .
وكذلك قال إمامنا الشافعي «لا أدري» في مسائل.
وكذلك أبو حنيفة سئل عن تسع مسائل فقال فيها: «لا أدري» .
وكذلك كان أحمد بن حنبل يكثر من قول: «لا أدري» .
حتى نقل عن جبريل أنه قال: «لا أدري» .
وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم قال: «لا أدري» .
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط (1/299، رقم 1001) عن ابن عمر، قال الهيثمي (1/172) : رواه الطبراني في الأوسط، وفيه منسوب رواه عن مالك بن أنس، وروى عنه إبراهيم بن المنذر، ولم أر من ترجمه.
قال حجة الإسلام الغزالي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا أدري أعزير نبي أم لا، وما أدري تبع ملعون أم لا، وذو القرنين نبي أم لا» (1) .
ولما سئل عن خير بقاع الأرض وشرها؟ قال: «لا أدري» حتى نزل جبريل فسأله فقال: «لا أدري» إلى أن علمه الله تعالى أن المسجد خير البقاع، وشرها السوق (2) .
وكان في الفقهاء من يقول: «لا أدري» أكثر من أن يقول: «أدري» منهم: الثوري، ومالك، وأحمد، والفضيل، وبشر بن الحارث.
وقال عبد الرحمن بن أبي ليلي: «أدركت في هذا المسجد مائة وعشرين صحابياً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منهم من أحد يسأل عن حديث أو فتيا إلا ودَّ أن أخاه كفاه ذلك» (3) .
وفي لفظ آخر: «كانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر ويردها الآخر إلى الآخر حتى تعود إلى الأول» (4) .
وفي الحديث: دليل على أنه ينبغي للعالم التواضع مع الناس كلهم، خصوصاً مع المتعلمين، فيرفق بهم ويلين لهم الكلام، ويبذل لهم النصيحة، كما أن المتعلم ينبغي له أن يتواضع لعلمه، ويجلس بين يديه متأدباً، لأن الله تعالى عتب على موسى حين لم يرد العلم إليه، وأراه من هو أعلم منه، وقد أمر الله سيد المتواضعين نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بخفض الجناح قال الله تعالى: ?وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ? [الحجر: 88] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نأتي أبا سعيد الخدري فيقول: مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن الناس لكم تبع، وإن رجالاً ليأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا آتوكم فاستوصوا بهم خيراً» رواه الترمذي وابن ماجة وغيرهما (5) .
(1) أخرجه أبو داود (4/218، رقم 4674) ، والحاكم (1/92، رقم 104)، وقال: صحيح على شرط الشيخين. والبيهقي (8/329، رقم 17373) عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه الطبراني في الأوسط (7/154، رقم 7140) عن أنس، قال الهيثمي (2/6) : فيه عبيد بن واقد القيسي، وهو ضعيف.
(3)
أخرجه ابن المبارك في الزهد (1/19، رقم 58) ، والدارمي (1/65، رقم 135) .
(4)
أورده الغزالي في إحياء علوم الدين (1/70) .
(5)
أخرجه الترمذي (5/30، رقم 2650) ، وابن ماجه (1/91، رقم 249)، وأخرجه أيضًا: الطبراني في الشاميين (1/226، رقم 405) ، وأبو نعيم في الحلية (9/253) .
وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لينو لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه» (1) .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أكرم الناس جليسي الذي يتخطى الناس حتى يجلس إلي، لو استطعت أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت» (2) .
وفي رواية قال: «إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني» .
وقال أيوب السجستاني: ينبغي للعالم أن يضع التراب على رأسه تواضعاً لله تعالى.
وفي قول الخضر لسيدنا موسى عليه السلام: «إني على علم من علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه» دليل على أن موسى علمه الله الشريعة دون الحقيقة.
قال شيخنا جلال الدين السيوطي: إنما جمعت الحقيقة والشريعة لنبينا صلى الله عليه وسلم ولم يكن للأنبياء إلا أحدهما بدليل قصة موسى مع الخضر وقوله: «إني على علم
…
» إلى آخره.
قال البلقيني: قول الخضر لموسى: «إني على علم
…
» إلى آخره، ظاهره أنه يمتنع تعليم العلمين معاً وهو مشكل، فإنه لا يمنع جمعها. ثم أجاب بجوابين:
أحدهما: بين فيه وجه امتناع الجمع بين الحقيقة الشريعة فقال: جواب هذا الإشكال: أن علم الحقائق والكشوف ينافي علم الظاهر، فلا ينبغي للعالم الحاكم بالظاهر أن يعلم الحقائق للتنافي، لأنه إذا وجد غلاماً ظاهر الشرع يقتضي امتناع قتله، والحقيقة تقتضي أن يقتل، فلا ينبغي له أن يعلم هذا لما قررناه من التنافي، وأما العالم بالحقيقة فلا ينبغي له أن يعلم العلم الظاهر الذي ليس مكلفاً به، والذي ينافي ما عنده من الحقيقة، فإنه إذا اطلع بمقتضى الحقيقة على أن هذا الغلام يقتل كان منافياً للظاهر الشريعة.
الجواب الثاني: أنه يمكن حمل العلم على تنفيذه أي: العمل به لا على امتناع تعلمه والمعنى: أن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلمه لتعمل به، ولأن العمل به مناف لمقتضى الشرع، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمه فأعمل بمقتضاه لأن مقتضاه منافي لمقتضى الحقيقة، قال: فعلى هذا لا يجوز للولي التابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اطلع على حقيقة شيء أن ينفذ ذلك بمقتضى الحقيقة، وإنما عليه تنفيذ الحكم للظاهر، قال: ولا أر من تعرض لذلك، والله تعالى أعلم.
(1) أخرجه الديلمي (1/79، رقم 238) ، وابن عدي (4/335 ترجمة 1165 عباد بن كثير الثقفي) عن أبي هريرة.
(2)
أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/86، رقم 9569) .