الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ حَرَمِ الْمَدِيَنةِ
2010 -
أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَنا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ، أَنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، نَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْبِرْتِيُّ، نَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَنا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: مَا كَتَبْنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلا الْقُرْآنَ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعَنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلائِكَةِ.
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ، ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخفَرَ مُسْلِمًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ، وَمَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، وَالْمَلائِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلا عَدْلا».
هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، أَخْرَجَهُ مُحَمَّدٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْأَعْمَشِ، وَيُرْوَى:«مَا بَيْنَ عَايِرٍ إِلَى ثَوْرٍ» .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: عَايِرٌ وَثَوْرٌ: جَبَلانِ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَا يَعْرِفُونَ بِالْمَدِينَةِ جَبَلا، يُقَالُ لَهُ:«ثَوْرٌ» ، وَإِنَّمَا «ثَوْرٌ» بِمَكَّةَ، فَيَرَوْنَ أَنْ أَصْلَ الْحَدِيثِ «مَا بَيْنَ عَايِرٍ إِلَى أُحُدٍ» .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صَيْدِ الْمَدِينَةِ، وَشَجَرِهَا، فَقَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لَا جَزَاءَ عَلَى مَنِ اصْطَادَ فِي الْمَدِينَةِ صَيْدًا، أَوْ قَطَعَ شَجَرًا.
وَقَالَ قَوْمٌ: تَحْرِيمُ الْمَدِينَةِ إِنَّمَا هُوَ تَعْظِيمُ حُرْمَتِهَا دُونَ تَحْرِيمِ صَيْدِهَا وَشَجَرِهَا، وَاحْتَجُّوا بَحَدِيثِ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ لِأَخٍ لَهُ صَغِيرٍ:«يَا أَبَا عُمَيْرٍ، مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ؟» ، وَالنُّغَيْرُ: صَيْدٌ، وَلَوْ كَانَ صَيْدُ الْمَدِينَةِ حَرَامًا لَمْ يَحِلَّ اصْطِيَادُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَلَأَنْكَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ عَلَيْهِمْ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى تَحْرِيمِ شَجَرِهَا دُونَ صَيْدِهَا لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى تَحْرِيمِهَا جَمِيعًا، وَحَمَلُوا الْحَدِيثَ عَلَى طَائِرٍ أُخِذَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أُدْخِلَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ يَرَى الْجَزَاءَ عَلَى مَنْ قَتَلَ شَيْئًا مِنْ صَيْدِ الْمَدِينَةِ، أَوْ قَطَعَ شَيْئًا مِنْ شَجَرِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لابَتَيِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا» .
وَرُوِيَ أَنَّ سَعْدًا، وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، وَأَبَا هُرَيْرَةَ كَانُوا يَرَوْنَ صَيْدَ الْمَدِينَةِ حَرَامًا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ تَرْتَعُ بِالْمَدِينَةِ مَا ذَعَرْتُهَا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا حَرَامٌ» ، وَوَجَدَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ غِلْمَانًا قَدْ أَلْجَأُوا ثَعْلَبًا إِلَى
زَاوِيَةٍ، فَطَرَدَهُمْ عَنْهُ، وَقَالَ: أَفِي حَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصْنَعُ هَذَا! وَأَخَذَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ نُهْسًا مِنْ يَدِ وَاحِدٍ اصْطَادَهُ، فَأَرْسَلَهُ.
فَأَمَّا إِيجَابُ الْجَزَاءِ، فَلَمْ يَصِحَّ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ، وَكَانَ الشَّافِعِيُّ يَذْهَبُ فِي الْقَدِيمِ إِلَى أَنَّ مَنِ اصْطَادَ فِي الْمَدِينَةِ صَيْدًا، أَوْ قَطَعَ شَجَرًا أُخِذَ سَلَبُهُ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ سَعْدًا رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ، فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطُهُ، فَسَلَبُهُ، فَجَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ، فَكَلَّمُوهُ أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَ مِنْ غُلامِهِمْ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَلَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّمَا نُهِيَ عَنْ قَطْعِ سِدْرِ الْمَدِينَةِ لِيَبْقَى شَجَرُهَا، فَيَسْتَأْنِسَ بِهَا، وَيَسْتَظِلَّ بِهَا مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهَا.
قَوْلُهُ: «مَنْ آوَى مُحْدِثًا» ، يُرْوَى عَلَى وَجْهَيْنِ «مُحْدِثًا» بِكَسْرِ الدَّالِ وَهُوَ صَاحِبُ الْحَدَثِ وَجَانِيهِ، وَ «مُحْدَثًا» بِفَتْحِ الدَّالِ وَهُوَ الْأَمْرُ الْمُحْدَثُ، وَالْعَمَلُ الْمُبْتَدَعُ الَّذِي لَمْ تَجْرِ بِهِ سُنَّةٌ، وَقِيلَ: أَرَادَ مَنْ آوَى جَانِبًا، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ.
وَقَوْلُهُ: «لَا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ» ، قِيلَ فِي تَفْسِيرِ الْعَدْلِ: إِنَّهُ الْفَرِيضَةُ، وَالصَّرْفُ: النَّافِلَةُ، وَمَعْنَى الصَّرْفُ: الرِّبْحُ وَالزِّيَادَةُ، وَمِنْهُ صَرْفُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الصَّرْفُ: التَّوْبَةُ، وَالْعَدْلُ
وَالْفِدْيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا} [الْأَنْعَام: 70].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [الْبَقَرَة: 123].
وَأَمَّا الصَّرْفُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا} [الْفرْقَان: 19]، حَمَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى هَذَا.
وَقَوْلُهُ: «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» ، الذِّمَّةُ: الْأَمَانُ، مَعْنَاهُ: إِذَا أَعْطَى وَاحِدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَمَانًا لِبَعْضِ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَإِنَّ أَمَانَهُ مَاضٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُجيِرُ عَبْدًا، وَهُوَ أَدْنَاهُمْ وَأَقَلُّهُمْ، سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى، أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَلَمْ يُجَوِّزْ أَبُو حَنِيفَةَ أَمَانَ الْعَبْدِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْجِهَادِ.
وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْأَمَانُ مِنْ آحَادِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا أَمَّنَ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ، فَأَمَّا عَقْدُ الْأَمَانِ لِأَهْلِ نَاحِيَةٍ عَلَى الْعُمُومِ، فَلا يَصِحُّ إِلا مِنَ الإِمَامِ، كَعَقْدِ الذِّمَّةِ، لِأَنَّهُ الْمَنْصُوبُ لِمُرَاعَاةِ النَّظَرِ لِأَهْلِ الإِسْلامِ عَامَّةً.
وَقَوْلُهُ: «فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا» ، يُرِيدُ نَقَضَ الْعَهْدَ، يُقَالُ: خَفَرْتُ الرَّجُلَ: إِذَا أَمَّنْتُهُ، وَأَخْفَرْتُهُ بِالْأَلِفِ: إِذَا نَقَضْتُ عَهْدَهُ.
وَقَوْلُهُ: «مَنْ
وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ»، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَعْنَى الشَّرْطِ حَتَّى يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ غَيْرَ مَوَالِيهِ إِذَا أَذِنُوا لَهُ فِيهِ، لِأَنَّ الْوَلاءَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يَنْتَقِلُ بِحَالٍ، كَمَا لَا يَنْتَقِلُ النَّسَبُ، وَإِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى التَّوْكِيدِ لِتَحْرِيمِهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى مَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ، يُرِيدُ: إِذَا سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ فِعْلَ هَذَا الصَّنِيعِ فَلا يَفْعَلْهُ مُسْتَسِرًّا بِهِ عَنْ أَوْلِيَائِهِ، بَلْ يُخْبِرُهُمْ وَيَسْتَأْذِنُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا اسْتَأْذَنَ أَوْلِيَاءَهُ فِي مُوَالاةِ غَيْرِهِمْ، مَنَعُوهُ عَنْ ذَلِكَ، وَإِذَا اسْتَبَدَّ بِهِ دُونَهُمْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ أَمْرُهُ، وَرُبَّمَا يُعْرَفُ عِنْدَ طُولِ الْمُدَّةِ، وَامْتِدَادِ الزَّمَنِ بِوَلاءِ مَنِ انْتَقَلَ إِلَيْهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِبُطْلانِ حَقِّ مَوَالِيهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الإِمَامُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ:«إِنَّ صَيْدَ وَجٍّ وَعِضَاهَهُ حَرَامٌ مُحَرَّمٌ لِلَّهِ» ، وَوَجٌّ: ذَكَرُوا أَنَّهَا مِنْ نَاحِيَةِ الطَّائِفِ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِي الإِمْلاءِ أَنَّهُ لَا يُصَادُ فِيهِ، وَلا يُعْضَدُ شَجَرُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ضَمَانًا، وَقَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ: مَنْ فَعَلَهُ يُؤَدِّبُهُ الْحَاكِمُ.
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: لَسْتُ أَعْلَمُ لِتَحْرِيمِهِ «وَجًّا» مَعْنَى، إِلا أَنْ يَكُونَ عَلَى سَبِيلِ الْحِمَى لِنَوْعٍ مِنْ مَنَافِعِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّحْرِيمُ إِنَّمَا كَانَ فِي وَقْتٍ مَعْلُومٍ، وَفِي مُدَّةٍ مَحْصُورَةٍ، ثُمَّ نُسِخَ، فَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى الإِبَاحَةِ كَسَائِرِ بِلادِ الْحِلِّ.
قَالَ الإِمَامُ، رحمه الله: وَفِي هَذَا الْمَعْنَى النَّقِيعُ حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى النَّظَرِ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِإِبِلِ الصَّدَقَةِ، وَنَعَمِ الْجِزْيَةِ، فَيَجُوزُ الاصْطِيَادُ فِيهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَنْعُ الْكَلأِ مِنَ الْعَامَّةِ، فَلَوْ أَتْلَفَ رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ شَجَرِهِ، قَالَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ: عَلَيْهِ غُرْمُ مَا أَتْلَفَ، كَحَشِيشِ الْحَرَمِ.
وَلا يَجُوزُ بَيْعُ النَّقِيعِ، وَلا بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ أَشْجَارِهِ كَالْمَوْقُوفِ.