المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(2) باب تمني الموت وذكره - شرح المشكاة للطيبي الكاشف عن حقائق السنن - جـ ٤

[الطيبي]

فهرس الكتاب

- ‌(21) باب سجود القرآن

- ‌(22) باب أوقات النهي

- ‌(23) باب الجماعة وفضلها

- ‌(24) باب تسوية الصف

- ‌(25) باب الموقف

- ‌(26) باب الإمامة

- ‌(27) باب ما علي الإمام

- ‌(28) باب ما علي المأموم من المتابعة

- ‌(29) باب من صلي صلاة مرتين

- ‌(30) باب السنن وفضائلها

- ‌(31) باب صلاة الليل

- ‌(32) باب ما يقول إذا قام من الليل

- ‌(33) باب التحريض علي قيام الليل

- ‌(34) باب القصد في العمل

- ‌(35) باب الوتر

- ‌(36) باب القنوت

- ‌(37) باب قيام شهر رمضان

- ‌(38) باب صلاة الضحى

- ‌(39) باب التطوع

- ‌(40) باب صلاة التسبيح

- ‌(41) باب صلاة السفر

- ‌(42) باب الجمعة

- ‌(43) باب وجوبها

- ‌(44) باب التنظيف والتبكير

- ‌(45) باب الخطبة والصلاة

- ‌(46) باب صلاة الخوف

- ‌(47) باب صلاة العيدين

- ‌(48) باب في الأضحية

- ‌(49) باب العتيرة

- ‌(50) باب صلاة الخسوف

- ‌(51) باب في سجود الشكر

- ‌(52) باب الاستسقاء

- ‌(53) باب في الرياح

- ‌ كتاب الجنائز

- ‌(1) باب عيادة المريض وثواب المرض

- ‌(2) باب تمني الموت وذكره

- ‌(3) باب ما يقال عند من حضره الموت

- ‌(4) باب غسل الميت وتكفينه

- ‌(5) باب المشي بالجنازة والصلاة عليها

- ‌(6) باب دفن الميت

- ‌(7) باب البكاء علي الميت

- ‌(8) باب زيارة القبور

الفصل: ‌(2) باب تمني الموت وذكره

(2) باب تمني الموت وذكره

الفصل الأول

1598 -

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنى أحدكم الموت، إما محسنًا فلعله أن يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله أن يستعتب)) رواه البخاري.

ــ

في ارتكاب الكبيرة، قال تعالي:{يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} والزحف: الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف، أي يدب دبيبًا، من زحف الصبي إذا دب علي استه قليلاً قليلاً، سمي بالمصدر.

باب تمني الموت وذكره

الفصل الأول

الحديث الأول عن أبي هريرة: قوله: ((يتمنى أحدكم)) ((تو)): الياء في قوله: ((لا يتمنى)) مثبتة في رسم الخط ويحتمل أن بعض الرواة أثبتها في كتب الحديث، فلعله نهي ورد علي صيغة الخبر، والمراد منه لا يتمن، فأجرى مجرى الصحيح، ويحتمل أن بعض الرواة أثبتها في الخط، فروى علي ذلك. ((قض)):((لا يتمنى)): نهي أخرج في صورة النفي للتأكيد. أقول: هذا أولي، ونظيره قوله تعالي:{الزإني لا ينكح إلا زإنية} الكشاف: عن عمرو بن عبيد: لا ينكح بالجزم علي النهي، والمرفوع أيضًا فيه معنى النهي، ولكن أبلغ وأوكد، كما أن رحمك الله ويرحمك أبلغ من ليرحمك الله.

أقول: وإنما كان أبلغ؛ لأنه قدر أن المنهي حين ورد النهي عليه انتهي عن المنهي عنه، وهو يخبر عن انتهائه، ولو ترك علي النفي والإخبار المحض لكان أبلغ، كأنه يقول: لا ينبغي للمؤمن المتزود للآخرة، والساعي في ازدياد ما يثاب عليه من العمل الصالح أن يتمنى ما يمنعه عن البر والسلوك لطريق الله، وعليه ما ورد:((خياركم من طال عمره، وحسن عمله))؛ لأن من شأنه الازدياء، والترقي من حال إلي حال، ومن مقام إلي مقام، حتى ينتهي إلي مقام القرب، كيف يطلب القطع عن مطلوبه؟

((تو)): والنهي عن تمني الموت وإن أطلق، لكن المراد منه المقيد، لما في حديث أنس رضي الله عنه ((لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه))، وقوله صلى الله عليه وسلم: (وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا

ص: 1361

1599 -

وعنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه؛ إنه إذا مات انقطع أمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا)) رواه مسلم.

1600 -

وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)) متفق عليه.

1601 -

وعن عبادة بن الصامت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لقاء

ــ

لي))، فعلي هذا يكره تمني الموت من ضر أصابه في نفسه أو ماله؛ لأنه في معنى التبرم عن قضاء الله في أمر يضره في دنياه وينفعه في آخرته. ولا يكره التمني لخوف في دينه من فساد.

قوله: ((إما محسنًا)) قال المالكي: تقديره: إما أن يكون محسنًا، وإما مسيئًا، فحذف (يكون) مع اسمها مرتين، وأبقى الخبر، وأكثر ما يكون ذلك بعد ((إن)) و ((لو)) كقول الشاعر:

انطق بحق وإن مستخرجًا إحنا فإذا ذا الحق غلاب وإن غلبا

وكقوله:

علمتك منانًا فلست بآمل نداك ولو ظمآن غرثان عاريا

و ((لعل)) في هذين الموضعين للرجاء المجرد عن التعليل، وأكثر مجيئها في الرجاء إذا كان معه تعليل، نحو قوله تعالي:{واتقوا الله لعلكم تفلحون} .

((قض)): معنى قوله: ((ولعله أن يستعتب)) يطلب العتبي، وهو الإرضاء، وكذا الإعتاب، والمراد منه أن يطلب رضي الله تعالي بالتوبة، ورد المظالم، وتدارك الفائت.

الحديث الثاني عن أبي هريرة: قوله: ((انقطع أمله)) بالهمز في الحميدي وجامع الأصول، وفي شرح السنة بالعين، ولعل من لم يمعن النظر يرجح العين علي الهمزة، ويزعم أن الأمل مذموم كله، لكن بعض الأمل مطلوب. قال:

وأكذب النفس إذا حدثتها إن صدق النفس يزرى بالأمل

والمعنى: لا تحدث نفسك بأنك لا تظفر بمرامك، ولم تفز بمطلوبك، فإن ذلك يثبطك عن كثير من الكمالات ومعالي الأمور، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم:((لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا)).

ص: 1362

الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه)). فقالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت. قال: ((ليس ذلك؛ ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه. وإن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه)). متفق عليه.

1602 -

وفي رواية عائشة: ((والموت قبل لقاء الله)).

1603 -

وعن أبي قتادة، أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر عليه بجنازة، فقال:((مستريح، أو مستراح منه)). فقالوا: يا رسول الله! ما المستريح، والمستراح منه؟ فقال:((العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلي رحمة الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد، والبلاد، والشجر، والدواب)) متفق عليه.

ــ

الحديث الثالث والرابع عن عبادة: قوله: ((من أحب لقاء الله)) ((نه)): المراد باللقاء المصير إلي الدار الآخرة، وطلب ما عند الله، وليس الغرض به الموت؛ لأن كلا يكرهه، فمن ترك الدنيا وأبغضها، أحب لقاء الله ومن آثرها وركن إليها، كره لقاء الله؛ لأنه إنما يصل إليه بالموت.

وقوله: ((والموت دون لقاء الله)) تبين أن الموت غير اللقاء، ولكنه معترض دون الغرض المطلوب، فيجب أن يصبر عليه، ويحتمل مشاقه حتى يصل إلي الفوز باللقاء. يريد أن قول عائشة رضي الله عنها:((إنا لنكره الموت)) يوهم أن المراد من لقاء الله في قوله:

((من كره لقاء الله)) الموت، وليس بذلك؛ لأن لقاء الله غير الموت، بدليل قوله:((والموت قبل لقاء الله)) فلما كان الموت وسيلة إلي لقاء الله، عبر عنه بلقاء الله. وعن بعضهم: قوله: ((الموت قبل لقاء الله)) يدل علي أن الله تعالي لا يرى في الدنيا في اليقظة، لا عند الموت ولا قبل الموت. وروى الإمام في تفسيره: أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت – وقد جاء يقبض روحه -: ((هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله إليه: هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله؟ فقال: يا ملك الموت، أما الآن فاقبض)). قد ذهب الشيخ الأشرف إلي أن صاحب النهاية مال إلي مذهب الاعتزال في تفسيره السابق، وليس في كلامه السابق ما يوهم نفي الرؤية فضلاً عن الإنكار، بل قوله:((طلب ما عند الله)) شامل لكل ما يحصل للمكلف من المراتب العلية، والمباغي السنية. ولا مبتغي ولا مطلوب أعلي وأسنى من رؤية الله تعالي. رزقنا الله بفضله وكرمه.

الحديث الخامس عن أبي قتادة: قوله: ((مستريح)) ((نه)): يقال: أراح الرجل واستراح، إذا

ص: 1363

1604 -

وعن عبد الله بن عمر، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال:((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك. رواه البخاري.

ــ

رجعت نفسه إليه بعد الإعياء. أقول: ((أو)) في قوله: ((أو مستراح)) تنويعية، أي لا يخلو ابن آدم من هذين المعنيين، فلا يختص بصاحب الجنازة. و ((إلي)) في ((إلي رحمة)) حال، أي ذاهبًا إلي رحمة الله تعالي.

((حس)): قال مسروق: ما غبطت شيئًا بشيء كمؤمن في لحد، أمن من عذاب الله، واستراح من الدنيا. قال أبو الدرداء: أحب الموت اشتياقًا إلي ربي، وأحب المرض تكفيرًا لخطيئتي، وأحب الفقر تواضعًا لربي. وأما استراحة البلاد، والأشجار؛ فإن الله تعالي بقدره يرسل السماء عليكم مدرارًا، ويحيى به الأرض والشجر والدواب، بعد ما حبس بشؤم ذنوبه الأمطار. وفي الحديث ((إن الحبارى لتموت هزلاً بذنب ابن آدم)) وخص الحبارى؛ لأنه أبعد الطير نجعة، فربما يذبح بالبصرة، ويوجد في حوصلتها الحبة الخضراء، وبين البصرة وبين منابتها مسيرة أيام.

الحديث السادس عن عبد الله: قوله: ((أو عابر سبيل)) ((أو)) فيه يجوز أن يكون للتخيير والإباحة، والأحسن أن يكون بمعنى ((بل)) كما في قول الشاعر:

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أو أنت في العين أملح

قال الجوهري: يريد بل أنت، شبه الناسك السالك أولاً بالغريب الذي ليس له مسكن يؤويه، ولا سكن يسليه، ثم ترقى وأضرب عنه بقوله:((أو عابر سبيل))؛ لأن الغريب قد يسكن في بلاد الغربة، ويقيم فيها، بخلاف عابر السبيل القاصد للبلد الشاسع، وبينه وبينها أودية مردية، ومفاوز مهلكة، وهو بمرصد من قطاع طريقه، فهل له أن يقيم لحظة، أو يسكن لمحة؟ لا؛ ومن ثم عقبه ابن عمر في باب الأمل بقوله:((وعد نفسك في أهل القبور))، وقال هنا:((إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء)) أي سر دائمًا، ولا تفتر عن السير ساعة، فإنك إن قصرت في السير انقطعت عن المقصود، وهلكت في تلك الأودية. هذا معنى المشبه به، والمشبه هو قوله:((وخذ من صحتك لمرضك)) يعني عمرك لا يخلو من الصحة والمرض فإذا كنت صحيحًا سر سيرك القصد بل لا تقنع به وزد عليه ما عسى أن يحصل لك الفتور بسبب المرض. وفي قوله: ((ومن حياتك لموتك)) إشارة إلي أخذ نصيب الموت، وما يحصل فيه من الفتور من السقم، يعني لا تقعد في المرض من السير كل القعود، بل ما أمكنك منه فاجتهد فيه، حتى تنتهي إلي لقاء الله وما عنده من الفلاح والنجاح، وإلا خبت وخسرت.

انظر أيها المتأمل في كل هذا الكلام الجامع، وانتهز الفرصة كيلا تندم. ونعم ما قال من قال:

ص: 1364

1605 -

وعن جابر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: ((لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله)) رواه مسلم.

الفصل الثاني

1606 -

عن معاذ بن جبل [رضي الله عنه] قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن شئتم أنبأتكم: ما أول ما يقول الله للمؤمنين يوم القيامة؟ وما أول ما يقولون له؟)). قلنا: نعم يا رسول الله! قال: ((إن الله يقول للمؤمنين: هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا! فيقول: لم؟ فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك. فيقول: قد وجبت لكم مغفرتي)). رواه في ((شرح السنة))، وأبو نعيم في ((الحلية)). [1606]

ــ

إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون

إذا ظفرت يداك فلا تقصر فإن الدهر عادته يخون

قال الله تعالي: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا} .

الحديث السابع عن جابر: قوله: ((لا يموتن أحدكم)) نهي عن أن يموتوا علي غير حالة حسن الظن، وذلك ليس بمقدورهم، بل المراد الأمر بتحسين الأعمال، أي أحسنوا أعمالكم الآن حتى يحسن بالله ظنكم عند الموت، فإن من ساء عمله قبل الموت، يسوء ظنه عند الموت. ((شف)): قيل: الخوف والرجاء كالجناحين للسائرين إلي الله تعالي ولا يمكن السير بأحد الجناحين بل بهما، لكن يغلب أحدهما الآخر، فينبغي أن يغلب الخوف علي الرجاء في الصحة؛ ليتدرج به فيها إلي تكثير الأعمال الصالحة. فإذا جاء الموت وانقطع العمل، فينبغي أن يغلب الرجاء، وحسن الظن بالله؛ لأن الوفاة حينئذ إلي ملك كريم، ورب رؤوف رحيم. هذا معنى جواب المؤمنين في الحديث الآتي ((رجونا عفوك ومغفرتك)) عن قوله تعالي:((هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا، فيقول: ((لم)).

الفصل الثاني

الحديث الأول والثاني عن أبي هريرة: قوله: ((هاذم اللذات الموت)) ((مظ)): ((الموت)) بالجر

ص: 1365

1607 -

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت)) راه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. [1607]

1608 -

وعن ابن مسعود، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه:((استحيوا من الله حق الحياء)). قالوا: إنا نستحيي من الله يا نبي الله! والحمد لله قال: ((ليس ذلك؛ ولكن م استحيى من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلي، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء)) رواه أحمد، والترمذي، وقال: هذا حديث غريب. [1608]

ــ

عطف بيان، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب علي تقدير أعني. أقول: شبه اللذات الفإنية والشهوات العاجلة ثم زوالها ببناء مرتفع ينهدم بصدمات هائلة، ثم أمر المنهمك فيها بذكر الهاذم لئلا يستمر علي الركون إليها، ويشتغل عما يجب عليه من التزد إلي دار القرار. وأنشد زين العابدين رضي الله عنه:

فيا عامر الدنيا، ويا ساعياً لها ويا آمناً من أن تدور الدوائر

علي خطر تمشي، وتصبح لاهيا أتدري بماذا لو عقلت تخاطر

تخرب ما يبقى وتعمر فإنياً فلا ذاك موفور، ولا ذاك عامر

الحديث الثالث عن ابن مسعود: قوله: ((ذات يوم)) ((تو)): هو من ظروف الزمان التي لا تتمكن، تقول: لقيته ذات يوم، وذات ليلة، وذات غداة، وذات عشاء، وذات مرة، وحمل التإنيث فيها علي الحالة، أو علي لقيته لقية ذات يوم. والحياء حالة تعترض الإنسان من خوف ما يعاب ويذم، فيحمله علي أن يتركه ويعرض عنه.

قوله: ((ليس ذلك)) ((قض)): أي ليس حق الحياء من الله ما تحسبونه، بل أن يحفظ نفسه بجميع جوارحه، وقوله عما لا يرضاه، فليحفظ رأسه وما وعاه من الحواس الظاهرة والباطنة، من السمع والبصر واللسان، حتى لا يستعملها إلا فيما يحل، ((والبطن وما حوى)) أي لا يجمع فيه إلا الحلال، ولا يأكل إلا الطيب. وقيل: أراد بالجوف البطن والفرج. كما جاء في حديث آخر ((أكثر ما تدخل أمتي النار الأجوفان))، وقيل: أراد به القلب وما وعى من معرفة الله تعالي والعلم بالحلال والحرام.

ص: 1366

ــ

أقول: قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس ذلك)) رد لحملهم الحياء علي ما تعورف مطلقاً لما ضم إليه من التقييد بقوله: ((حق الحياء)) ولذلك أعادها مقيدة في الجواب، يعني حق الحياء أن يترك شيئاً منها وما يتصل بها وما يتفرع عليها إلا أن يتحرى ويقام به، كما قال تعالي:{اتقوا الله حق تقاته} ((الكشاف)) أي واجب تقواه وما يحق منها، وهو القيام بالواجب، واجتناب المحارم، ونحو ((فاتقوا الله ما استطعتم)) يريد بالغوا في التقوى حتى لا تتركوا من المستطاع منها شيئاَ، ولهذا السر فسره صلوات الله عليه بكلام جامع حاو لمعان لا تكاد تدخل تحت الإحصاء، فينبغي للشارح المتقن أن يراعي هذا فيما فسره صلوات الله عليه، فنقول- وبالله التوفيق-: وذلك أنه صلى الله عليه وسلم جعل الرأس وعاء وظرفاً لكل ما لا ينبغي من رذائل الأخلاق، كالفم والعين، والأذن وما يتصل بها، وأمر أن يصونها، كأنه قيل: كف عنك لسانك، فلا تنطق به إلا خيراً، ولعمري إنه شطر الإنسان، قال:

لسان الفتى نصف، ونصف فؤاده فلم تبق إلا صورة اللحم والدم

ولهذا ورد ((من صمت نجا)). وإنما لم يصرح بذكر اللسان، ليشمل ما يتعلق بالفم من أكل الحرام والشبهات، وكأنه قيل: وسد سمعك أيضاً عن الإصغاء إلي ما لا يعنيك من الأباطيل والشواغل، واغضض عينك عن المحرمات والمشتهيات، ولا تمدن عينيك إلي ما متعنا به الكفار من زهرة الحياة الدنيا، فكيف لا، وهو رائد القلب الذي هو سلطان الجسد، ومضغة ((إن صلحت صلح الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله)).

وهنا نكتة، وهي عطف ((ما وعى)) علي الرأس، فحفظ الرأس مجملاً عبارة عن التنزه عن الشرك، فلا يضع رأسه لغير الله ساجداً متواضعاً، وعن الاستكبار، فلا يرفعه متكبراً علي عباد الله وجعل البطن قطباً يدور علي سرته الأعضاء من القلب، والفرج، واليدين، والرجلين؛ ولهذا ورد (من وكل إلي ما بين فكيه ورجليه وكلت له الجنة)). وفي عطف ((وما حوى)) علي البطن إشارة إلي حفظه من الحرام والاحتراز من أن يملأ من المباح، وفذلكة ذلك كله، قوله:((ويذكر الموت والبلي))، كقوله صلى الله عليه وسلم:((أكثروا ذكر هاذم اللذات))؛ لأن من ذكر أن عظامه ستصير بالية، وأعضاؤه متمزقة، هان عليه ما فاته من اللذات العاجلة، وأهمه ما يجب عليه من طلب الآجلة. وهذا معنى قوله:((ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا))، فيكون كالتذييل للكلام السابق.

ص: 1367

1609 -

وعن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تحفة المؤمن الموت)) رواه البيهقي في ((شعب الإيمان)). [1609]

1601 -

وعن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن يموت بعرق الجبين)). رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه [1610]

ــ

وذلك أن من أحسن الأدب بين يدي مولاه وتحرى رضاه أحب قربه وكره بعده، ومن أساء يكره قربه ويحب بعده، والبعد من الله تعالي هو الركون إلي الدنيا وزخارفها، والقرب إلي الله تعالي هو طلب الآخرة بالاجتهاد في طاعته.

قوله: ((فمن فعل ذلك)) المشار إليه جميع ما سبق، فمن أهمل من ذلك شيئاً لم يخرج من عهدة الاستحياء، وظهر من هذا أن جملة الإنسان وخلقته من رأسه إلي قدمه، ظاهره وباطنه معدن العيب، ومكان المخازي، وأن الله سبحانه وتعالي هو العالم بها والواقف علي ما ينشأ منها من المقابح؛ فحق الحياء أن يستحيي منه ويصونها عما يعاب فيها. وربما وقفت علي هذا المعنى في أول الكتاب عند قوله صلى الله عليه وسلم:((الحياء شعبة من الإيمان)) فلا تنكر التكرار، فإنه مقبول إذا ورد فيما يهتم بشأنه؛ إيقاظاً، وتنبيهاً علي تنبيه. والله أعلم.

الحديث الرابع عن عبد الله: قوله: ((تحفة المؤمن الموت)) اعلم أن الموت ذريعة إلي وصول السعادة الكبرى، ووسيلة إلي نيل الدرجة العليا، وهو أحد الأسباب الموصلة للإنسان إلي النعيم الأبدي، وهو انتقال من دار إلي دار، فهو وإن كان في الظاهر فناء واضمحلال، ولكن في الحقيقة ولادة ثإنية، وهو باب من أبواب الجنة، منه يتوصل إليها، ولو لم يكن الموت لم تكن الجنة. ((تو)): التحفة طرفة الفاكهة، وقد تفتح الحاء والجمع: التحف، ثم يستعمل في غير الفاكهة ن الألطاف، قال الأزهري: أصلها وحفة، فأبدلت الواو تاء، يريد به ما له عند الله تعالي من الخير الذي لا يصل إليه إلا بالموت.

الحديث الخامس عن بريدة: قوله: ((بعرق الجبين)) ((تو)): فيه وجهان: أحدهما هو ما يكابده من شدة السياق التي يعرق دونها الجبين. وفي الحديث ابن مسعود رضي الله عنه ((موت المؤمن بعرق الجبين، يبقى عليه البقية من الذنوب فيجازف بها عند الموت)) أي يشدد عليه ليمحص عنه ذنوبه. قال الهروي: يجازف: أي يقايس، فيكون كفارة لذنوبه، والمجازفة المقايسة بالمخراف، وهو الميل الذي تسير به الجراحات. وثإنيهما أنه كناية عن كد المؤمن في طلب الحلال، وتضييقه علي النفس بالصوم والصلاة، حتى يلقى الله. والأول أظهر.

ص: 1368

1611 -

وعن عبيد الله بن خالد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((موت الفجاءة أخذة الأسف)). رواه أبو داود، وزاد البيهقي في ((شعب الإيمان)). ورزين في كتابه:((أخذة الأسف للكافر ورحمة للمؤمن)) [1611]

1612 -

وعن أنس، قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم علي شاب وهو في الموت، فقال:((كيف تجدك؟)) قال: أرجو الله يا رسول الله! وإني أخاف ذنوبي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن؛ إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف)) رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث غريب [1612]

ــ

الحديث السادس عن عبيد الله: قوله: ((موت الفجاءة)) الفجاءة بالمد والقصر مصدر، فجئه الأمر إذا جاء بغتة، وقد جاء منه فعل بالفتح. قوله:((أخذة الأسف)) ((فا)): أي أخذة سخط من قوله تعالي: ((فلما آسفونا انتقمنا))؛ لأن العصيان لا يخلو من حزن ولهف. فقيل له أسف حتى كثر، ثم استعمل في موضع لا مجال للحزن فيه، وهذه الإضافة بمعنى ((من)) كخاتم فضة. قالوا: روي ((الأسف)) في الحديث بكسر السين وفتحها، الكسر العصيان، والفتح الغضب، أي موت الفجأة من آثار غضب الله تعالي، فإنه أخذه بغتة، ولم يتركه لأن يستعد لمعادة بالتوبة. أخذه من مضى من العصاة المردة، كما قال تعالي:{فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون} وهو مخصوص بالكفار بدليل قوله: ((أخذة أسف للكافر، ورحمة للمؤمنين)). الحديث السابع عن أنس: قوله: ((كيف تجدك)) تجد من أفعال القلوب، ولذلك اتحد فيه الفاعل والمفعول، و ((كيف)) سؤال عن الحال، أي علي أي حال تجد نفسك، ولذلك أجاب بقوله: أرجو الله، أي أجد نفسي راجياً رحمة الله خائفاً عقابه، فأبرز الجملة الأولي في معرف الفعلية، والثانية بالاسمية، وصدرها بـ ((إن)) التحقيقية تنبيهاً علي أن خوفه كان محققاً مستمراً، ورجاؤه حدث عند سياق الموت. وأيضاً راعى في نسبة الرجاء إلي الله، والخوف إلي الذنب أدباً حسناً؛ وكذلك ينبغي للمؤمن أن يحسن الظن بالله، ويرجح جانب الرجاء علي الخوف، كما سبق. وقوله:((يا رسول الله)) اعترض في غاية من الحسن كأنه يحقق رجاءه وزوال خوفه مستشفعاً بمكانة من اسمه رسول الله. وقوله: ((لا يجتمعان)) خبر مبتدأ محذوف، أي هاتان الخصلتان لا تجتمعان. ((فا)): مثل)) زائدة، والمراد بـ ((المواطن)) سياق الموت. والموطن: يحتمل أن يكون اسم مكان، أي في مثل هذا المكان، واسم زمان كمقتل حسين رضي الله عنه.

ص: 1369

الفصل الثالث

1613 -

عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تمنوا الموت فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله عز وجل الإنابة)) رواه أحمد. [1613]

1614 -

وعن أبي أمامة، قال: جلسنا إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا ورققنا، فبكى سعد بن أبي وقاص، فأكثر البكاء، فقال: يا ليتني مت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((يا سعد! أعندي تتمنى الموت؟!)) فردد ذلك ثلاث مرات، ثم قال:((يا سعد! إن كنت خلقت للجنة فما طال عمرك وحسن من عملك؛ فهو خير لك)) رواه أحمد. [1614]

ــ

الفصل الثالث

الحديث الأول عن جابر: قوله: ((هول المطلع)) ((نه)): المطلع مكان الاطلاع من موضع عال، يقال: مطلع هذا الجبل من موضع كذا، أي مأتاه ومصعده، يريد به ما يشرف عليه من سكرات الموت وشدائده، فشبهه بالمطلع الذي يشرف عليه من موضع عال.

أقول: علل النهي عن تمني الموت أولاً بشدة المطلع؛ لأنه إنما يتمناه من قلة صبر وضجر، فإذا جاء متمناه يزداد ضجراً علي ضجر، فيستحق مزيد سخط علي سخط، وثإنياً بحصول السعادة في طول العمر؛ لأن الإنسان إنما خلق لاكتساب السعادة الأبدية، ورأس ماله العمر، هل رأيت تاجراً يضيع رأس ماله؟ فإذا بماذا يربح إذا ضيعه؟ {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} .

الحديث الثاني عن أبي أمامة: قوله: (ورققنا)) أي رقق أفئدتنا بالتذكير والموعظة وهذا حد الوعظ؛ لأنه هو الكلام الذي يلين القلوب القاسية، ويرغب الأفئدة النافرة، ترهيباً من عقاب الله، وترغيباً في رحمته. فإن قلت: كيف جيء بـ ((إن)) المشكوك وقوع شرطها، وسعد من العشرة المبشرة بالجنة قطعاً؟ قلت:((إن)) فيه كما في قوله تعالي: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين} فهي وإن كانت صورتها صورة الشرطية، لكن معناها التعليل، تعني كيف تتمنى الموت عندي وأنا بشرتك بالجنة، أي لا تتمن؛ لأنك من أهل الجنة، وكلما

ص: 1370

1615 -

وعن حارثة بن مضرب، قال: دخلت علي خباب وقد اكتوى سبعاً، فقال: لولا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا يتمنين أحدكم الموت)) لتمنيته، ولقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أملك درهماً، وإن في جانب بيتي الآن لأربعين ألف درهم،

ــ

طال عمرك زادت درجتك وقربك إلي الله تعالي. ((فما)) في قوله: ((فما طال عمرك)) مصدرية، والوقت مقدر. ويجوز أن تكون موصولة، والمضاف محذوف، أي الزمان الذي طال عمرك فيه، والفاء في ((فهو خير لك)) داخلة علي الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط، والجملة جزاء كقوله:((إن كنت خلقت))، و ((من)) في قوله:((من عملك)) زائدة علي مذهب الأخفش، ويجوز أن تكون تبعيضية، أي حسن بعض عملك؛ لأنه طلب الموت، فقيل له: الشهادة خير لك مما طلبت، وهي إنما تحصل بالجهاد. ويعضده ما ورد في المتفق عليه عن سعد أنه قال:((أخف بعد أصحابي؟ قال صلى الله عليه وسلم: ((إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة. ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويضر بك آخرون)).

الحديث الثالث عن حارثه: قوله: ((اكتوى)) ((نه)): الكي بالنار من العلاج المعروف في كثير من الأمراض، وقد جاء في أحاديث كثيرة النهي عن الكي. فقيل: النهي إنما كان لتعظيمهم أمره، ويرون أنه لا يحصل الشفاء إلا به. وأما إذا اعتقد أنه سبب للشفاء، وأن الله هو الشافي، فلا بأس به. ويجوز أن يكون النهي عنه من قبيل التوكل، كقوله:((هم الذي لا يسترقون ولا يكتوون، وعلي ربهم يتوكلون)). والتوكل درجة أخرى غير الجواز.

كقوله: ((ولقد رأيتني)) الواو قسمية، واللام جواب القسم، كأنه بين ما به اضطر إلي تمني الموت من ضر أصابه، إما مرض اكتوى بسببه، أو غنى خاف منه، والظاهر الثاني حيث عقب التمني بالجملة القسمية، وبين فيه تغير حالته: حالة صحبته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالته يومئذ، ثم قاس حاله في جودة الكفن علي حال عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنو أبيه مع تكفينه.

قوله: ((وإن في جانب بيتي)) ((إن)) مشددة، واللام دخلت في اسم ((إن)) كما في قوله تعالي:((إن في خلق السموات والأرض – إلي قوله – لآيات لأولي الألباب}. فإن قلت: ((لكن)) تستدعي المخالفة بالنفي والإثبات بين الكلامين لفظاً أو معنى، فأين المخالفة هاهنا؟ قلت: المعنى إني تركت متابعة أولئك السادة الكرام، وما اقتفيت أثرهم حيث هيأت لكفني مثل هذا الثوب النفيس، لكن حمزة سار بسيرهم، فما وجد ما يواريه حيث جعل علي قدميه الإذخر.

ص: 1371