الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حكم الحنث فى اليمين وجمعة بين تعظيم الله ورفع الحرج عن المكلفين]
قال: وفي حديث أبي موسى «1» حيث جاء يستحمله «2» فقال:" والله لا أحملكم" ثم حملهم. فسألوه فقال:/ ما أنا حملتكم، بل الله حملكم، وأنا والله- إن شاء الله- لا أحلف على يمين فأرى غيرها أحسن منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير «3» ".
قلت: وجه سؤاله من هذا: أن الحنث في اليمين استخفاف بحق الله، وتهوين بعظمته، بناء على ما عندهم في الإنجيل عن المسيح أنه قال:" سمعتم ما قيل للأولين: لا تحنث في يمينك، وأوف الرب قسمك «4» وأنا أقول لكم:
لا تحلفوا البتة لا بالسماء فإنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه ولا
(1) عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار الأشعري التميمي الفقيه المقرئ قال النبي- صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه وأدخله يوم القيامة مدخلا كريما» [أخرجاه في الصحيحين] كان ممن هاجر إلى الحبشة تولى عدة إمارات، وكان أحد القضاة من الصحابة توفي سنة 44 هـ على الصحيح. [انظر سير أعلام النبلاء 2/ 380 - 402، والاستيعاب 3/ 979].
(2)
يستحمله: أى يطلب منه ابلا تحمله، وذلك في غزوة تبوك.
(3)
الحديث أخرجه البخاري في عشرة مواضع من صحيحه منها: في كتاب الخمس، باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين
…
، وأخرجه مسلم بألفاظ في كتاب الأيمان، باب ندب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها.
(4)
في (أ): وسمك.
ببروشليم «1» فإنها مدينة الملك العظيم، ولا برأسك تحلف ولتكن كلمتكم: نعم.
نعم. ولا. لا. وما زاد على ذلك فهو من الشرير «2» ".
والجواب: أن دين الإسلام مبني على رفع الحرج والضيق بناء على أن الغرض من تكليف الخلق تعظيم الله والانقياد له، لا لحوق «3» المشقة لهم بذلك فمتى أمكن الجمع بين تعظيمه تعالى ورفع الحرج عن المكلفين كان ذلك حسنا جائزا، وتعظيم الله سبحانه في باب الأيمان يحصل إما بالتزام العقد معه بأن لا يحنث فيها، مثل أن يحلف أن يفعل فيفعل أو لا يفعل فلا يفعل، أو بالتكفير إن خالف ما حلف «4» عليه «5» ، لأن في التزام التكفير بجزء من المال المحبوب طبعا، أو بالتعبد بإلحاق المشقة بالصوم للبدن تعظيما لله سبحانه ولا بدّ، وقد نص عليه
(1) في التراجم الحديثة: ولا بأورشليم. وسبق التعريف بها في هامش ص: 317 من هذا الكتاب.
(2)
انظر انجيل متى: الأصحاح الخامس.
(3)
في (م): في لحوق.
(4)
حلف: سقطت من (أ).
(5)
قلت: هذا إذا لم يكن حلف على أن يفعل طاعة، فعليه أن يفعلها ولا يحنث في ذلك لقوله- صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري في الأيمان، باب النذر في الطاعة:" من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصيه" ثم إن قوله" فأرى غيرها أحسن منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير" وأحاديث أخرى بهذا المعنى تدل على وجوب الإبرار بالقسم في غير معصية أو مخالفة للسنة كما في قصة من نذر من الصحابة أن يصوم الدهر والآخر أن لا يتزوج النساء والثالث ألا ينام الليل فإن ذلك مخالفة لسنة النبي- صلى الله عليه وسلم فيجب الحنث في ذلك
…
والله أعلم.
القرآن «1» ، ولعل التعظيم بذلك أشد من التعظيم بالتزام ما حلف عليه، إذ قد يحلف أن لا يأكل هذه اللقمة فتركها عليه يسير غالبا، فإذا أكلها لمصلحة دينية وأعتق عوض ذلك رقبة «2» أو أطعم أو كسى عشرة مساكين أو صام ثلاثة أيام متتابعة «3» / كان ذلك لا شك أبلغ في تعظيم الله- جل جلاله وتبارك اسمه-.
وأما ما ذكروه عن المسيح من قوله:" لا تحلفوا بالسماء فإنها كرسي الله" فكلام متهافت لا تليق نسبته إلى المسيح. وبيان تهافته: أنه فاسد الاعتبار، إذ النهي عن الحلف بالسماء يقتضي عدم تعظيمها، وكونها كرسي الله يقتضي تعظيمها، وجواز الحلف بها، ثم إن هذا الكلام في الفصل الخامس من إنجيل متى، وهو
(1) قال الله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ولكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ واحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة 89].
(2)
مؤمنة إلا عند أبي حنيفة ورواية لأحمد فتجزئ الذمية. استدلالا بالآية المتقدمة أما الجمهور فاستدلوا بآية سورة النساء (92): فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وهي مقيدة لآية المائدة المتقدمة، وهو الراجح والله أعلم (انظر الإفصاح لابن هبيرة 2/ 334، والمغني لابن قدامة 8/ 743، وتفسير القرطبي 6/ 280 - 281).
(3)
كفارة اليمين، ثلاث خصال على التخيير: العتق، أو الإطعام، أو الكسوة. فإن عجز عن الثلاث فالصيام. فيكون الترتيب في هذه الحالة. فإن عجز عن الصيام بقيت في ذمته. [انظر نيل المرام شرح عمدة الأحكام 2/ 188] وذكر ابن هبيرة في الإفصاح 2/ 334: الاتفاق على ذلك. أما تتابع الصيام فيجب عند أبي حنيفة وأحمد، وعند مالك لا يجب وعن الشافعي قولان الجديد منهما: لا يجب. والأولى التتابع لقراءة ابن مسعود: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ إلا لعذر مرضى أو حيض أو نحوهما فلا يجب. والله أعلم. [انظر حاشية المقنع 4/ 209].