الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[تعدد الزوجات، والطلاق بين الإسلام والنصرانية]
قال:" فرأيناه قد ذكر في سورة النساء:
…
فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ
…
(3) إلى قوله: .. أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
…
«1» فأجاز نكاح أربع نسوة والتسري بملك اليمين إلى غير عدد محصور: على أي دين كن من الأديان وأن يطلق الرجل ما شاء ويستبدل ما شاء كذلك ما عاش".
قلت:/ هذا نقل صحيح عن دين الإسلام. إلا قوله في ملك «2» اليمين:
" على أي دين كن من الأديان" فليس بجيد، بل إنما تباح الكتابية دون الوثنية والمجوسية ونحوهما. وإن كان قد ذهب إلى ذلك أحد من المسلمين فليس معتقدنا «3» .
(1) سورة النساء، آية:3.
(2)
هكذا العبارة عند المؤلف والأولى أن يقال:" إلا قوله في غير ملك اليمين" لأن ملك اليمين يباح التسري بها ولو كانت وثنية أو غير ذلك.
(3)
اتفق علماء الأمة على تحريم نكاح سائر النساء الكوافر، ما عدا الكتابيات، وخالف بعضهم في المجوسيات فقط. فقال عامة العلماء بتحريم الزواج بهن وخالف في ذلك أبو ثور فقال باباحة الزواج من المجوسيات لأنهن من قوم يقرون بالجزية فأشبهوا أهل الكتاب. ولأنه يروى أن حذيفة تزوج مجوسية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:؛ سنوا بهم سنة أهل الكتاب". والراجح عدم جواز التزوج منهن كسائر المشركات والأصح أن حذيفة تزوج يهودية لا مجوسية، وقيل: نصرانية، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان في أمر الجزية والقتل.
[انظر المغني لابن قدامة 6/ 591 - 592، وموطأ مالك كتاب الزكاة باب جزية أهل الكتاب والمجوس].
قال:" ونبين بطلان هذا بحجج كثيرة:
أولها: أن الله تعالى لم يعط آدم إلا زوجة واحدة وهي التي خلقها من الضلع ليتبين بذلك تأييد الصحبة والمحبة «1» بينهما كتأبيد المحبة بين أعضاء الجسد، ولهذا «2» حكي عن آدم في التوراة أنه قال:" هذه عظم من عظامي ولحم من لحمي سميت امرأة لأنها أخذت من المرء، فلذلك يترك الإنسان أباه وأمه ويلزم زوجته"«3» .
وبهذا يتبين أنه بحسب الفطرة تكون واحدة لواحد، إذ لو كان في كثرة الزوجات فضيلة لكان/ آدم أولى بها، لأنه كان واحدا في العالم ليكثر نسله".
قلت: أما كون آدم لم تكن له إلا زوجة واحدة،/ فلا يدل ذلك على وجوب الاقتصار على الواحدة.
قوله:" لو كان في كثرة النساء فضيلة لكان أولى بها إذ كان مفردا وليكثر نسله". قلنا: أما من نسله، فما كان يجوز له أن ينكح لو عاش «4» إلى يوم القيامة لأنهن بناته وإن سفلن، ونكاح البنات حرام فيما علمناه، ولم نعلم نبيا وطئ بنته إلا ما حكي في التوراة عن لوط أنه أحبل ابنتيه وهو سكران «5» . فعلى من قال هذا «6» أو صدقه لعنة الله.
(1) كلمة:" والمحبة" مكررة في: (أ).
(2)
في (ش): وهذا.
(3)
انظر سفر التكوين الأصحاح الثاني.
(4)
في (ش): ولو عاش، وفي (أ):" أن ينكح ولو كان عاش إلى يوم القيامة".
(5)
انظر سفر التكوين الأصحاح التاسع عشر.
(6)
قال هذا: مكررة في: (أ).
وأما من غير نسله بأن يخلق الله له مثل حواء فلجواز أن حواء كانت تكفيه فلم يحتج إلى غيرها، لأنها خلقت في الجنة. وقد ملأ الله من نسلهما الدنيا مفردين فلو كان له غيرها لما وسعتهم الأرض.
فإن قيل: كيف تمنعون آدم من نكاح بناته وقد زوجه الله حواء، وهي/ خلقت من ذاته من ضلعه.
قلنا: لأن بناته منه على جهة الولادة، وحواء ليست على جهة الولادة وقد فرقتم أنتم بين آدم وحواء والمسيح بهذا بعينه، فقلتم: المسيح خرج من رحم فكان ابن الله، بخلاف حواء وآدم «1» .
قوله:" خلقت من ضلعه ليتبين بذلك تأبيد الصحبة «2» بينهما كتأبيدها بين أعضاء الجسد".
قلنا: ليس ذلك لهذه العلة بل لما ذكر في القرآن من قوله تعالى: ومِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً ورَحْمَةً
…
(21)«3» وهذا لا يقتضي تأبيد الصحبة، وترك الرجل أباه وأمه، ولزوم زوجته لا يقتضي أيضا ذلك، بل سببه المودة والرحمة بينهما، وذلك مشترك بين المرأة الواحدة والزوجات «4» .
(1)" بخلاف حواء وآدم" ليست في (م)، (ش).
(2)
في (أ): الضحية.
(3)
سورة الروم، آية:21.
(4)
قلت: والمودة والرحمة قد لا تدوم بين الزوج وزوجته أو زوجاته. وعند ذلك تسوء معيشتهما فلا يطيقا الاستمرار في حياتهما الزوجية. وهذا متفق عليه بين العقلاء. وهذا يرد قول النصراني بتأبيد الصحبة بين الزوجين.
وأما إنكاره جواز الطلاق حيث شاء «1» الإنسان، فإنما استفادوه مما حكوه عن المسيح في الإنجيل في الفصل الأربعين «2» من إنجيل متى: أن الفريسين قالوا للمسيح ليجربوه:" هل يحل للإنسان يطلق «3» امرأته لأجل كل علة؟ فقال لهم:
أما قرأتم: أن الذي خلق في البدء خلقهما ذكرا وأنثى؟.
ومن أجل ذلك يترك الإنسان أباه وأمه، ويلصق «4» بامرأته، ويكونا كلاهما جسدا واحدا؟ وما جمعه الله لا يفرقه الإنسان. قالوا له: لماذا موسى أوصى أن تعطى كتاب طلاق وتخلّى؟ «5» قال: لأن موسى علم قساوة قلوبكم فأوصاكم «6» / أن تطلقوا نساءكم، ومن البدء لم يكن هذا، وأقول لكم من طلق امرأته من غير زنا فقد ألجأها إلى الزنا، ومن تزوج مطلقة فقد زنا" اهـ.
لكن الجواب عنه من وجوه:
أحدها: الجواب العام، وهو عدم الوثوق بالإنجيل.
الثاني: بتقدير الاحتجاج بالإنجيل. لكن هذا الكلام بعينه متهافت/ بين التهافت «7» فلا تليق نسبته إلى المسيح، وسنبين وجه تهافته.
(1) شاء: سقطت من (أ).
(2)
في التراجم الحديثة: الأصحاح" الفصل" التاسع عشر.
(3)
في التراجم الحديثة:" أن يطلق".
(4)
في التراجم الحديثة:" ويلتصق".
(5)
في التراجم الحديثة: فتطلق.
(6)
في التراجم الحديثة: فأذن لكم.
(7)
بين التهافت: ساقطة من (أ).
الثالث: الجواب من حيث التفصيل.
أما كونه خلقهما ذكرا وأنثى، وأن الإنسان شديد الألفة بامرأته، فلا يقتضي عدم جواز الطلاق ولا يناسبه، وأما قوله:" ما جمعه الله لا يفرقه الإنسان" فنقول:
أولا: الجمع بين الزوجين ليس حقيقيا كاجتماع بدن الإنسان ونحوه، وإن سلمناه فهو عام مخصوص بصور كثيرة كتفريق أعضاء البدن لمصلحة العقوبة وغيرها، وأما قوله:" لم يكن هذا في البدء" فلا يدل على ذلك أيضا لجواز النسخ.
وأما اعتذاره عن تجويز موسى الطلاق بعلمه بقساوة قلوبهم. إلى آخره فالمناقشة عليه من وجوه:
أحدها: أن قساوة قلوبهم/ إن كانت مقتضية لجواز الطلاق، فلم لم يجزه المسيح أيضا لذلك، ولعل محمدا- عليه السلام أجاز الطلاق توسيعا على قساة «1» القلوب من أمته.
فإن قلتم: نسخ ذلك في دين المسيح.
قلنا: ونسخ ما في دين المسيح في دين محمد.
وإن لم تكن مقتضية لجواز الطلاق لزم أن يكون موسى شرع غير الحق لغير موجب.
(1) في (ش)، (م):" قساوة.
الثاني: أن ما جاز أن يكون حقا في دين موسى فما المانع أن يكون حقا في دين محمد؟.
الثالث: أن قوله: «من طلق امرأته من غير زنا فقد ألجأها إلى الزنا" كلام مستدرك بأن ذلك غير لازم من طلاقها. لأنا إذا ألجأناها أن تتزوج بغيره لم يحصل من طلاقه لها الالجاء إلى الزنا، ثم إن مفهومه جواز طلاقها إذا زنت، وعموم قوله:" من تزوج مطلقة فقد زنا" يقتضي أن أحدا لا يتزوج مطلقة سواء طلقت لكونها زنت أو مع عدم الزنا، وذلك يلزم منه إلجاؤها إلى/ الزنا- أعني جواز طلاقها- إذا زنت. والمنع من تزوج المطلقة مطلقا على ظاهر هذا العموم. لأنها حينئذ تبقى مطلقة بطالة فتحملها البطالة على التشاغل بالزنا، كما حكي في التوراة عن كنة «1» ." يهوذا" لما مات/ زوجها أحوجتها البطالة إلى أن تعرضت ليهوذا على الطريق حتى زنا بها «2» ، ونحن نتبرأ إلى الله من هذا.
وبهذا بان ما في هذا الكلام من التهافت، وعدم التناسب، بحيث يجب تبرئة السيد المسيح عن مثله. والله أعلم «3» .
قال:" وأيضا. فإن الطبيعة لا تجمع إلا اثنين في فعل التناسل. فينبغي أن لا يكون للرجل إلا زوجة واحدة".
(1) زوجة ابنه.
(2)
انظر الأصحاح الثامن والثلاثين من سفر التكوين.
(3)
والله أعلم: ليست في (أ).
قلت: هذا خلف من الكلام. فإنه إن أراد أنها لا تجمع إلا اثنين في حالة واحدة فهو مسلم. لكن لا يقتضي ذلك الاقتصار على واحدة، وإن أراد في وقتين فصاعدا فممنوع، وحينئذ يجوز أن يطوف الإنسان في ساعة على جماعة من النساء واحدة بعد واحدة.
قال:" وأيضا. فإن كثيرا من الحيوانات ليس للذكر منها إلا أنثى واحدة كالأسد والدب وغيرهما من البهائم، وكأكثر الطيور فالإنسان لخصيصة عقله أولى بذلك قمعا للشهوة".
قلت: جواب هذا من وجهين:
أحدهما: أنه معارض بما يتخذ من الحيوانات عدة إناث، فلم كان التأسي بأحد القبيلين أولى من التأسي بالآخر؟.
الثاني: أن اقتصار هذه الحيوانات على أنثى واحدة هل هو على جهة قمع الشهوة، أو على جهة الحيوانية والطبيعة، وعدم الشعور بحقائق الأمور؟ فإن كان الأول لزم أن تكون هذه الحيوانات عقلاء كاملي العقل/ حتى قمعت شهوتها بعقلها، وأن الدب «1» أعقل من" إبراهيم" حيث كان في فراشه" سارة" و" هاجر"، ومن" يعقوب" حيث جمع بين ابنتي خاله" ليا" و" راحيل" وجاريتهما في فراش واحد، فضلا عن أن تكون هذه الحيوانات أعقل من بقية عقلاء الآدميين. وإن كان الثاني لم تصح الأولوية ولا القياس. والتنظير بم يكون؟
قد اجتمعتم أنتم وبعض الحيوان البهيم على رأي. ونحن وبقية العالم على رأي،
(1) في (م): وأن الدواب.
وموافقة الأكثر أولى من موافقة شرذمة قليلة، تقلد في دينها ودنياها ومعاشها ومعادها حيوانا بهيما، خصوصا السّبع والدّب اللذين هما من أدمغ الحيوانات وأبلده «1» .
ولعل هذا من جملة الأسباب الموجبة لاطباق الحمى على الأسد، لأن طبيعته في الأصل حارة، وباقتصاره على أنثى واحدة يقل نزوه، فتحتقن الحرارة في بدنه، فيبثها القلب/ إلى سائر نواحيه. وهذه حقيقة الحمى.
وقد بينا في أول الكتاب: أن منافع النكاح تخفيف البدن وتنشيطه.
فإن قلت: فالأسد في الشجاعة والنشاط على الغاية بخلاف سائر الحيوان/ وما ذكرته يقتضي تثبطه لثقل بدنه.
قلت: وما يدريك لعله لو أكثر «2» من النزو بحسب ما تقتضيه حاله، كان يكون أشجع وأنشط.
قال:" وأيضا فإن فائدة آلة التناسل في الزوجين: الذرية لا اللذة ثم اللذة وإن كانت تصحبها تبعا، لا بالقصد الوضعي، لكن استعمال الآلة للذة فقط استعمال سوء «3» مائل عن الاستعمال المستقيم. ولذلك هو ذنب".
قلت: هذا ممنوع، بل المقصود من آلة التناسل الذرية واللذة جميعا بالقصد/ الأول. أما الذرية فبالاتفاق، وأما اللذة فلأن الباري- سبحانه- ابتلى خلقه بتركيب الشهوات فيهم خصوصا هذه الشهوة فإنها أشدها.
(1) هكذا في النسخ الثلاث. ولعل الأصح:" وأبلدها".
(2)
في (أ): أو أكثر.
(3)
في (ش)، (أ): سور.
فلو لم يجعل إلى قضائها طريقا مباحا للزم منه تكليف ما لا يطاق، إذ كان يكون مثال «1» الشخص في الدنيا «2» مع كثرة نسائها مثل شخص حبس في دار مملوءة حيات بحيث لا يطأ إلا على جماعة منهن. ثم يقال له: إياك أن تطأ منهن شيئا، واحترس أن يلدغنك.
ثم قد أجمع الناس على جواز نكاح العاقر والصغيرة التي لا تلد، ومن ارتفع حيضها ونحوهن، فلو لم تكن اللذة مقصودا أصليا، لما جاز ذلك.
وأما «3» قوله:" إنه ذنب".
فجوابه: أن يقال: هو ذنب إذا كان حراما أو مطلقا؟ الأول مسلم، والثاني ممنوع، ولو كان كذلك لم يفعله الأنبياء. وأيضا لو كان استعمال الآلة للذة فقط ذنبا واستعمال سوء، مع أن حصول الذرية منه غير مقطوع به لكان في تجويزه لأجل الذرية إقدام على ذنب محقق «4» لتحصيل فائدة غير محققة وذلك ينافي «5» السياسة العقلية.
قال:" وأيضا لذة اللحم ليس شأنها اجتلاب فائدة، بل تدفع الفوائد الروحانية وهي في نفسها خسيسة ردية مهلكة، فإنها كالخمر تسكر الذهن الإنساني وتذهب قوته، وكالضباب يصيّر العيون مظلمة".
(1) في (ش): مال.
(2)
العبارة في (م):" اذ كان يكون ماءل الشخص في النساء مع
…
".
(3)
في (أ): فأما.
(4)
في (أ): لعقق.
(5)
في (ش): لما في.
قلت: قد بينا فوائد هذه الحاسة أول الكتاب «1» ، ونص عليها الأطباء وعلى مضار تركها. ولو صح ما قاله من دفعها الفوائد الروحانية،/ لوجب أن تكون مخاييس النصارى وغيرهم الذين لم ينكحوا قط، أفضل من الأنبياء كإبراهيم وموسى وهارون/ ويوشع بن نون، والأنبياء الاثني عشر، وأشعياء ودانيال، وأكثر «2» روحانية منهم.
ولقد حيرني هذا العلج في أمري بتلونه، فإنه تارة نصراني مثلث أو غيره وتارة فيلسوف معطل، وتارة عامي جلف، فنعود بالله من التلون.
قوله:" هي في نفسها خسيسة ردية مهلكة" إن «3» أراد بخستها قبح صورتها طبعا، ورد عليه حالة البول والتغوط، بل حالة الأكل لأنها سببها. لا يقال هذه الأحوال ضرورية طبعا، لأنا نقول مثله هناك، إذ النكاح ضروري من حيث الطبيعة والشهوة، يتأذى بتركه الدين والبدن كما سبق.
وقوله:" مهلكة «4» " إن أراد هلاك «5» الدين بالتتابع فيها فذاك إنما هو في الحرام والحلال وإن أراد هلاك البدن بإضعافه فذلك يتقدر بحسب اختلاف المروءات والعقول «6» والمحمود منه: القدر المتوسط، الذي لا ينهك البدن بكثرته ولا يفضي إلى إنهاك الدين بالإقلال منه.
(1) انظر ص: 281 - 283 من هذا الكتاب.
(2)
وأكثر: سقطت من (أ).
(3)
«إن» : ليست في (ش).
(4)
مهلكة: سقطت من (أ).
(5)
في (أ): اهلاك.
(6)
في (أ): والعقود وفي (ش): للعقول.
ويحكى:" أن أبا مسلم الخراساني «1» كان لا يأتي النساء في/ السنة أكثر من مرة. ويقول: هذا جنون. فأكثر من مرة لا يكون «2» ".
قلت: ويغلب على ظني أنه قد كان به علة مانعة، أو فكرة شاغلة.
فإن قيل: فمحمد كان أولى بهذا التماسك من أبي مسلم لفضيلة منصب النبوة وفكرته في الجهاد، وإقامة الدين، وكمال معرفته بأحكام الآخرة.
قلنا: كذلك كان، ولهذا قالت عائشة: كان أملككم لإربه «3» " لكنه لو بالغ في التماسك عن هذه الشهوة لشق على أمته التأسي به. فإنه كان يطيق ما لا يطيقون
(1) اختلف في اسمه ونسبه، ويقال: إنه سمى نفسه عبد الرحمن، واشتهر بعبد الرحمن بن مسلم الخرساني وهو صاحب الدعوة للعباسيين، ابتدأ دعوته من مرو، وكان يدعو إلى رجل من بني هاشم غير معين ثم أظهرها
…
وخطب باسم السفاح العباسي عند ما استولى على نيسابور، ثم سير جيشا لمقاتلة مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية
…
فانهزمت جيوش مروان فصفا الجو للسفاح حتى مات، وخلفه أخوه المنصور فرأى من أبي مسلم ما أخافه أن يطمع في الملك، وكانت بينهما ضغينة فقتله سنة سبع وثلاثين ومائة. [انظر تاريخ بغداد 10/ 207 - 211، وشذرات الذهب 1/ 179 - 181].
(2)
انظر وفيات الأعيان 3/ 148.
(3)
أخرجه البخاري في كتاب الصيام، باب المباشرة للصائم، ومسلم في الصيام باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة
…
، حديث 66، 68، والترمذي في الصوم، باب ما جاء في مباشرة الصائم، وابن ماجه في الصيام، باب ما جاء في المباشرة للصائم (20)، ومالك في الموطأ كتاب الصيام، باب ما جاء في الرخصة في القبلة للصائم، وأحمد في عدة مواضع في المسند منها (6/ 40، 42، 113). ومعنى أملككم لاربه: أي حاجته أو عضوه. [انظر فتح الباري 4/ 151، وغريب الحديث للخطابي 2/ 270، 484].
فكان يلزمهم الحرج وذلك ينافي نصوص الشريعة برفع الحرج فأكثر منه رفعا/ للحرج عن أمته، وأيضا فإنه كان مشرعا معلما كما قال:" إنما بعثت معلما «1» " وعلم أن في صورة هذا الفعل ما تحتشمه النفوس وتنجبه منه فجرأهم عليه بإكثاره منه فعلا وقولا لئلا يتقاصروا عنه حياء «2» أو يقدموا عليه على وهم وانحاش «3» فيحرجوا بذلك، فأراد أن يوسع عليهم المجال في الحلال ويخالف أهل الزور والمحال والنصارى الضّلال./.
قوله:" إنها كالخمر تسكر الذهن الإنساني وتذهب قوته".
قلنا: إن صح هذا فهو الإكثار «4» منها لا مطلقها، على أن الإنسان إذا داوم تركه بعد اعتياده يجد لذلك ثقل بدن وكرب وانقباض يورثه بلادة ووسواسا ويحصل له بفعله انشراح وانبساط، ولذلك هو أكبر دواء العشاق كما ذكره الأطباء.
(1) أخرجه ابن ماجه في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم وقال في الزوائد:" إسناده ضعيف. داود وبكر وعبد الرحمن كلهم ضعفاء" أي رجال السند وأخرجه أحمد في المسند (3/ 328) ومسلم في الطلاق حديث 29 من حديث جابر في سبب نزول قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا
…
[الأحزاب: 28] الآية [سورة الأحزاب: 28] بلفظ:"
…
ولكن بعثني معلما ميسرا".
(2)
في (أ): حيانا.
(3)
انحاش: أي نفر، والحواشة: ما يستحيا منه. [انظر لسان العرب 6/ 290].
(4)
في (م): للإكثار.
قال:" ولأنها مضادة لأنواع السرور الروحانية العلية، فهي تصرف النفس بالكلية عنها، إذ يفسد ذوق القلب، فلا يستطيب شيئا من الخير، كما في العكس، وهو أن الذين يستطيبون الأمور الروحانية الأزلية لا يستطيبون اللذات الجسدانية بل يكرهونها ويهربون عنها".
قلت: أما قوله:" إنها مضادة للروحانيات" فباطل بالأنبياء، إذ هم أعظم البشر روحانية، وكانوا يستعملون هذه اللذة، وكل ما ذكره في هذا الفصل باطل والحق خلافه، بل هذه اللذة إذا استعملت على الوجه الحلال قصدا لا إفراط «1» ولا تفريط، وقصد بها اعفاف الدين وتحصين الدّين والفرج والتفرغ من قلق الشبق، لطاعة الباري في النهار والغسق «2» ، كانت أفضل من عبادات كثيرة.
ولهذا قال بعض علماء المسلمين:" إن التشاغل" بالنكاح أفضل من التخلي/ لنوافل العبادة، حسما لمادة فساد الدين بالزنا ونحوه «3» ".
وأما ترجيح الروحانيات عند أصحابها، فلأنهم لا يحصلونها إلا بعد قهر
(1) في (أ): لافراط.
(2)
الغسق: الليل المظلم، يقال: غسق الليل يغسق: أي أظلم.
[انظر تفسير القرطبي 20/ 256، والمفردات في غريب القرآن ص 360].
(3)
هذا مذهب أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي وبعض أصحاب مالك. [انظر شرح صحيح مسلم للإمام النووي 9/ 174].
الطبيعة برياضة البدن وكسر شرته «1» ، وإضعاف قوته بصيام الهواجر «2» ، وقيام الدياجر «3» ، حتى تقوى قوى النفس على البدن، وحينئذ يصير تركهم له «4» لضعفهم عنه لا لما أراد.
ولو كان ما ذكر صحيحا لوجب حين استعلن «5» الله لإبراهيم وإسحاق ويعقوب وتجلى لموسى وناجاه، أن كانوا يطلقون نساءهم، ثم لا يجتمعون بهن أبدا.
قال:" فقد بان بأن اللذة اللحمية ينبغى أن تبقى بحسب استطاعة الطبيعة وإذا كان الواجب أن تبقى، فأولى أن لا تعمل شيئا لاجتلابها،/ فينبغى أن تعدل وتقمع حيث لا يستطاع أن تبقى على كل حال".
قلت: المسلم له من هذا وجوب إبقاء الحرام، وما ينهك البدن أما غيره فلا،
(1) الشره: النشاط والرغبة. [انظر لسان العرب 4/ 401].
(2)
من الهاجرة: وهو اشتداد الحر في النهار. [انظر مختار الصحاح ص 199، والمصباح المنير 2/ 779].
(3)
الدياجر: جمع ديجور، وهو الظلام. [انظر مختار الصحاح ص 199، ولسان العرب 4/ 278].
(4)
له: سقطت من (أ).
(5)
استعلن: ظهر. كما في التراجم الحديث للتوراة التي بأيدي النصارى. قال عن إبراهيم:" وظهر له الرب عند بلوط"[سفر التكوين الأصحاح الثامن] وقال عن إسحاق:" وظهر له الرب وقال لا تنزل إلى مصر
…
" [التكوين الأصحاح السادس والعشرين] وقال عن يعقوب:" واصنع هناك مذبحا لله الذي ظهر حين هربت من وجه عيسو أخيك
…
".
وهذا كلام في الريح.
قال:" فينبغي أن لا يكثر الزوجات والجواري، بل يقتصر على واحدة ويكون قصده تحصيل/ الروحانيات".
قلت: هذا حاصل ما ذكره بعد ما سبق في كلام مخبط متهافت.
واعلم: أن النكاح بالغا ما بلغ منه الإنسان لا يشغل عن الروحانيات لمن له نية صادقة، ونفس صافية وهمة عالية.
قال:" ويقال أيضا: الشهوة اللحمية إما أن يقال: ينبغي أن تقمع، أو لا يقال؟ فإن قيل لا ينبغي أن تقمع، لزم أن تبقى الطبيعة الإنسانية ذاهبة في كل نجاسة ولواط وبهيمية. وإن قيل: ينبغي أن تقمع لكن لاستعمال النساء والجواري الكثيرة كما قال محمد، فهو مردود بوجوه:
الأول: أن الشهوة مشتركة بين القبيلين، فينبغي أن يكون للمرأة أزواج/ كما للرجل زوجات، ولم يقل به أحد.
الثاني: أن المرأة إلى الزنا أقرب إلى الرجل لوفور شهوتها ونقصان عقلها فمن احتاط للرجل بكثرة النساء بحيث إن كانت واحدة مريضة أو عاقرا لا تحمل، وجد الأخرى صحيحة تحمل، لزمه أن يجعل للمرأة أزواجا بحيث إن كان أحدهم مريضا أو غائبا وجدت الآخر يصونها عن الزنا.
الثالث: أن في الباب الثاني «1» من كتاب أيوب:" سل البهائم تعلمك وطيور السماء تريك".
(1) في التراجم الحديثة: الأصحاح الثاني عشر.
قال:" والبهائم وطيور السماء تتبع عادة آباءها، فينبغى لنا أن نتبع عادة أبينا ولم يكن له إلا زوجة واحدة".
الرابع: أن تكثير الزوجات والجواري موجب لتحاسدهن، وتشتيت قلوبهن «1» ، والغضب والقطيعة وذلك شر، والله خير محض، فلا يفعل الشر، ولا يأمر به".
قلت: الجواب عن هذا بأنا نقول: يجب قمع هذه الشهوة بالطريق الشرعي وهو النكاح والتسري أو الصوم لمن لا يقدر على ذلك.
قوله:" الشهوة مشتركة بين القبيلين" قلنا: نعم.
قوله:" ينبغى أن يكون للمرأة أزواج كما للرجل زوجات".
قلنا: هذا قد كان مقتضى العدل، لكن منع منه مانع أقوى منه وهو اختلاط المياه واشتباه الأنساب، ونحن شرعنا مبني على مراعاة المصالح والمفاسد، فإذا تحررت «2» المصلحة حصلناها، أو المفسدة نفيناها. وإن تعارضتا فإن ترجحت المصلحة حصلت، أو المفسدة نفيت. وإن تساوتا تخيرنا وهاهنا تعارضت مصلحة العدل في النساء بتسويتهن بالرجال في تعدد الأزواج ومفسدة/ اختلاط الأنساب/ لكن ترجحت هذه المفسدة فنفاها الشرع وحفظ المرأة.
وتحصينها من الزنا يحصل باحتجابها في البيت على حسب الإمكان على
(1) في (أ): قلوبهم.
(2)
في (ش)، (م): تجردت.
أنها لو كان لها أزواج لما تركت الزنا بالكلية، كما أن الرجل على ما هو مشاهد- وإن كان له زوجات لا يتركه بالكلية، بل يطمح إلى غيرها من ذكر وأنثى لواطا وزنا.
لكن غاية ما يقال على تقدير «1» كثرة أزواجها كأن يكون داعيها إلى الزنا أضعف فيكون وقوعه منها أقل لكن يعارضه مفسدة اختلاط النسب وتغاير الرجال الذين نفوسهم أقوى، وهممهم أعلى من همم النساء، ثم أنتم لم تقولوا بذلك في جانب الرجل «2» .؟
وهذا سؤال قد أحكمت الجواب عنه في أوائل" الفوائد" وما ظننت أن أحدا أورده. لكن فرضته/ وأجبت عنه. وبهذا حصل الجواب عن سؤاله الثاني.
أما الثالث: فقوله في كتاب أيوب على تقدير الوثوق بصحته، فليس المراد به: أن الطيور تعلمه أمر دينه والأحكام الشرعية.
(1) في (ش)، (م): أن على.
(2)
ويزاد على ذلك أن التوراة تبيح ذلك ولم ينسخ ذلك المسيح وهم يعملون بشرع التوراة فيلزمهم القول بالتعدد. وقد ذكر لي من أثق به وسافر إلى أمريكا وأقام بها أن فرقة من النصارى هناك تبيح التعدد بل تبيح الجمع بين أكثر من أربع زوجات. وتسمى هذه الطائفة" المورمن" وقد كانت إلى وقت قريب محاربة من بقية الطوائف. حتى أظهرت هذه الطائفة التنازل عن بعض معتقداتها ومنها تعدد الزوجات وذلك علنا، ليكون لها من الحقوق ما لبقية النصارى أما في السر فهم متمسكون بما عندهم من معتقدات وشرائع.
ثم هو مطلق لا عموم له. فلم قلت: إن سؤالها يتعين أن يكون عين «1» هذا الحكم؟ بل لعله التوكل من حيث أنها لصدق توكلها" تغدو «2» خماصا، وتروح بطانا «3» فيأمره أن يكون في التوكل مثلها أو غير ذلك. فقد قال الله تعالى في القرآن: وما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ولا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ
…
(38)«4» .
وأما قوله:" ينبغى أن نتبع عادة أبينا في الاقتصار على واحدة" فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن نقول له: هات لنا مثل حواء حتى نقتصر عليها.
الثاني: أن شرعنا أمرنا بمتابعة/ الحق بالحجة، ونهانا عن تقليد الآباء بقوله
…
قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا
…
(21)«5» في آيات كثيرة.
وأما السؤال الرابع: فإن تكثير النساء وإن كان موجبا للتغاير بينهن وتقاطعهن. لكن هذه مفسدة عارضتها مصلحة أرجح منها، وهو تحصين فروج
(1) عين: ساقطة من (أ).
(2)
في (أ): بعد خماصا.
(3)
أخرجه الترمذي في كتاب الزهد، باب في التوكل على الله. عن عمر قال قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:" لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا" وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب التوكل واليقين. بنحو لفظ الترمذي عن عمر، وأحمد في المسند (1/ 30، 52).
(4)
سورة الأنعام، آية:38.
(5)
سورة لقمان، آية:21.
الرجال وأديانهم، ولم يعارض هذه المصلحة مانع اختلاط النسب كما عارضها «1» في حق النساء، فحصلت هذه المصلحة الراجحة لما قررناه من مراعاة شرعنا للمصالح.
وأعلم أننا بحمد الله أهل صدق وعدل وانصاف، وعلى ذلك تأسيس دين الإسلام، ولا شك/ أنا نرى غالب الناس من المسلمين وغيرهم مع إباحة التزوج والتسري لهم قد استحوذ عليهم الشيطان، حتى يترك أحدهم ما يحل له من ذلك وإن كثر ويعدل إلى الزنا بالنسوان، واللواط بالغلمان. فلو حصروا في واحدة كما أشار به هذا الخصم، لعمري لقد كانوا يدبون على الشيوخ والكهول والشباب والبهائم في البر والحيتان في البحر، فكان فيما جاء به دين الإسلام من تكثير مجال النكاح عليهم تقليل لهذه المفسدة.
ولعل هذا النصراني غره احتباس رهبانه في البيع «2» والديارات «3» فيظن أن ذلك يمنعهم عن الفجور، ولو علم أنهم يدبون على
(1) في (م): عارضتها.
(2)
جمع بيعة. وهي كنيسة النصارى، وقيل كنيسة اليهود. [انظر لسان العرب 8/ 26].
(3)
ديارات: جمعها: أديار، ومفرد: دير. وهو خان النصارى. ومكان عبّادهم. قال النووي- رحمه الله:" قول الشافعي- رضي الله عنه في الجزية وأصحاب الديارات. وقد أنكره جماعة وقالوا: إن أرادوا جمع دير فصوابه: ديور كعين وعيون، قال البيهقي: قال أبو منصور الخمشادي:
هي لغة صحيحة تستعمل في نواحي الشام وبلاد الروم وهي جمع الجمع يقال: دار وديار، وديارات كجمل وجمالات. وروى البيهقي بإسناده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات» . [تهذيب الأسماء واللغات 3/ 108، وانظر لسان العرب 4/ 300 - 301].