الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[جسمية الشيطان والرد على النصراني في انكار ذلك]
قال:" حديث يكذبه النظر، والخبر:" إن الشمس تطلع على قرني شيطان فلا تصلوا لطلوعها «1» " فجعلوا للشيطان قرونا تبلغ «2» إلى السماء وجعلوا الشمس التي هي مثل الأرض مرات تجري بين قرنيه، وهم مع هذا يزعمون أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فهو في هذه الحال ألطف من كل شيء وفي تلك الحال أعظم من كل شيء، وجعلوا علة ترك الصلاة، في وقت طلوع الشمس طلوعها من بين قرنيه، وما على المصلي لله إذا/ خرجت الشمس بين قرني الشيطان؟ وما في هذا مما يمنع من الصلاة لله؟.
قلت: الجواب عن هذا الحديث قد سبق «3» ، لكنه لم يوجه السؤال منه هناك كما وجهه هاهنا فيحتاج أن نعيده فنقول: الجواب من وجوه:
أحدها: ما ذكر عن" إبراهيم الحربي «4» " وحسبك به إماما في معرفة
(1) انظر تخريجه في هامش ص: 688 من هذا الكتاب.
(2)
فى (أ): فبلغ.
(3)
انظر ص: 689 من هذا الكتاب.
(4)
أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق بن بشير الحربي، سمي بذلك لأنه جاوز قنطرة العتيقة من الحربية، وهو من تلاميذ الإمام أحمد، كان إماما في العلوم، زاهدا في الدنيا، كان يقول: من لم يجر مع القدر لم يتهن بعيشه ويقول: ما شكوت لأحد قط حمّى، وكان برأسي شقيقة خمسا وأربعين سنة ما أخبرت بها أحدا قط، لي عشر سنين أبصر بفرد عين ما أخبرت به أحدا، توفي سنة خمس وثمانين ومائتين للهجرة ببغداد، وكان قبره ظاهرا يتبرك به الناس وهذا من ضلال القبوريين.
[انظر صفة الصفوة 2/ 405 - 410، وسير أعلام النبلاء 13/ 356 - 372].
الحديث ومعانيه- قال:" هذا تمثيل أي حينئذ يتحرك/ الشيطان ويتسلط، يعني حيث يرى الكفار قد أشركوا/ بالله وسجدوا للشمس في الشرق والغرب، وهم المراد بقرنيه" قال:" كذلك الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، أي يتسلط عليه، فيوسوس له، لا أنه يدخل جوفه"«1» .
الوجه الثاني: جواب مفصل:
قوله:" جعلوا للشيطان قرونا تبلغ إلى السماء".
أما جعل القرون له فمبني على جسميته وقد أثبتناها قبل هذا، وإن كانت مادته لطيفة. وعندكم «2» أن الملائكة منهم على صور البقر وعلى صور الأسد، وعلى صور النسور وعلى صور الناس. وإذا جاز هذا في الملائكة كان في الشياطين أجوز، لأن الجميع مشترك في التجرد عن المادة عند الفلاسفة «3» وفي لطافتها عندنا. وأما كون قرونه تبلغ إلى السماء فلم نقل به، ولا هو لازم لقولنا، بل يجوز في رأي العين أن تخرج الشمس بين جبلين، بل أكمتين، بل جدارين صغيرين بل انسانين بل من بين قرني ثور متباعدين قليلا، كما تقرر في قوله «4»:
تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ
…
(86)«5» .
(1) لم أجد هذا القول في كتاب الحربي: غريب الحديث، فلعله من أقواله التي سمعت منه ولم يذكرها في كتابه، أو فيما لم يطبع منه أو أنه ليس من قول الحربي، لأن المؤلف ليس جاز ما في نسبته له. وقد ذكر الخطابي نحوه في غريب الحديث (1/ 725 - 726).
(2)
في (ش)، (م): وعندنا.
(3)
انظر هامش ص 411، وص 439 من هذا الكتاب.
(4)
انظر ص: 360 - 364 من هذا الكتاب.
(5)
في (ش)، (أ):" حامية" والآية في سورة الكهف: 86.
قوله:" وهم مع ذلك يزعمون: أنه يجري من ابن آدم مجرى الدم".
قلنا: نعم ولذلك توجيهان:
أحدهما:/ أن الشياطين كثيرة فالذي يجري من ابن آدم مجرى الدم هو قرينه الملازم له، كما سبق في قوله- عليه السلام:" ما منكم أحد إلا معه شيطان «1» ".
والذي تطلع الشمس بين قرينه شيطان آخر أكبر منه، فإن جنود إبليس كثيرون على أنواع وصفات مختلفة بينهم في أشغاله ومهامه، ولا يمتنع أنه يبعث بعض سحرة الشياطين العظيمي الخلقة أو غيرهم، فيقارن الشمس ويزينها في أعين الكفار بزينة صنم أو آلهة على جهة الشعبذة والتخييل فيسجدون لها لزينتها في أعينهم فإنا قد علمنا في بني آدم من يأتي من التخييلات بما لا يشك الرائي في ثبوته في الأعيان، وهو سيماء «2» وتخييل، لا حقيقة له في الخارج، وإنما هي خيالات ذهنية تغلب وتقوى وتستولي حتى تغلب الأحكام الخارجية، فيبقى الإنسان كأنه نائم يقظان، وقد علم هذا بفعل سحرة فرعون حيث خيلوا أن حبالهم حيات تسعى.
الوجه الثاني: أن مادة الشيطان لطيفة، وقد جعل له من القابلية، والقوة ما أنه/ يتشكل في أشكال مختلفة ويتصور في صور متباينة، فإن سلمنا أن الشيطان المقارن للشمس هو الجاري من ابن آدم مجرى الدم وأنه كبير عظيم هائل الخلقة،
(1) سبق تخريجه في هامش ص: 432 من هذا الكتاب.
(2)
السيماء أو السيمياء مثل الكيمياء وهو علم ظني معروف [لسان العرب 12/ 530].
فلا يمتنع أن يكون يتشكل عند مقارنتها بشكل عظيم وعند جريانه من ابن آدم بشكل صغير كما قرره" ابن الأشل" مطران" حمص"- وهو من فضلاء النصارى- في أن خالق السموات والأرض ظهر لإبراهيم في صورة كبش، ولإسرائيل في صورة رجل صارعه إلى الصبح ولموسى في صورة نار في عليقة «1» وظهر للناس في صورة/ المسيح فهذا- وإن كنا ننكره عليكم- لكنه يلزمكم لتجويزكم إياه أو بعضكم ممن هو موافق لكم على مقالتكم أو بعضها، فما ذكرناه في الشيطان أولى بالجواز، وأما الملائكة، فثبت ذلك فيهم في دين الإسلام فملك الموت: الدنيا بين عينيه كدارة درهم «2» ، ثم إنه جاء إلى موسى في صورة رجل فأراد قبض روحه،
(1) العليق: نبات يتعلق بالشجر ويلتوي عليه. وقيل: شجر من شجر الشوك لا يعظم، وإذا نشب فيه شيء لم يكد يتخلص من كثرة شوكه وشوكه حجز شداد. ولذلك سمي عليقا. وزعم بعض الناس أنها الشجرة التي آنس الله موسى عليه السلام فيها النار وليس مع أحد دليل قاطع بذلك والله أعلم. [انظر تهذيب الأسماء واللغات 4/ 38، ولسان العرب 10/ 265، ومختار الصحاح ص: 450].
(2)
لم أجد هذا الأثر فيما اطلعت عليه من كتب السنة، ولكن وجدت عند السيوطي في كتابه الحبائك في أخبار الملائك ص 42 - 43، عددا من الأخبار قريبة المعنى بهذا ومنها ما أخرجه عن ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ في العظمة، وفيه:"
…
فقال يا ملك الموت ما تصنع إذا كانت نفس بالمشرق ونفس بالمغرب ووقع الوباء بأرض والتقى الزحفان فكيف تصنع قال أدعو الأرواح بإذن الله فتكون بين إصبعي هاتين. قال: ودحيت له الأرض فتركت مثل الطست يتناول منها حيث يشاء" والذي يظهر أنه وكل الآثار في ذلك من الإسرائيليات المردودة. والله أعلم.
ففقأ موسى عينه «1» ، وجبريل تراءى للنبي- صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، قد ملأ ما بين المشرق والمغرب «2» . ثم كان يأتيه بعد ذلك في صورة دحية الكلبي «3» - رجل أعرابي-/ وجاءه مرة في صورة شاب أبيض الثياب، يسأله عن معالم الدين
(1) أخرج مسلم في كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى- عليه السلام حديث 157، عن أبي هريرة- رضي الله عنه قال:" أرسل الله ملك الموت إلى موسى- عليه السلام، فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت. قال فرد الله إليه عينه وقال: ارجع إليه فقل له: يضع يده على متن ثور، فله بما غطت يده بكل شعرة سنة قال أي رب! ثم مه؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية الحجر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فلو كنت ثمّ لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر).
وأخرجه كذلك البخاري في كتاب الجنائز، باب من أحب أن يدفن في الأرض المقدسة أو نحوها، وفي الأنبياء، باب وفاة موسى وذكره بعد، وأخرجه النسائي في آخر الجنائز. وأحمد في المسند (2/ 315، 351، 355).
(2)
أخرج البخاري في كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم" آمين" والملائكة في السماء
…
، عن عائشة- رضي الله عنها قالت:" من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم، ولكن قد رأى جبريل في صورته وخلقه سادا ما بين الأفق" وأخرجه مسلم بنحوه في الأيمان، باب معنى قول الله:
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى
…
[النجم: 13]، حديث 287، 290، والترمذي في تفسير سورة النجم، بألفاظ متعددة. وأحمد في المسند (1/ 395) ولفظه:" رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق
…
" وفي (1/ 407) بمعنى ألفاظ البخاري ومسلم والترمذي، وفي الموضوع أحاديث كثيرة غير هذه.
(3)
ترجمته في هامش ص 529، وقصة مجيء جبريل بصورته في صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء
…
، حديث 271، عن جابر:"
…
ورأيت جبريل عليه السلام. فإذا أقرب من رأيت به شبها دحية، وفي رواية:" حبة بن خليفة" وفي مسند أحمد (3/ 334) بلفظ مسلم وفي (2/ 107) عن ابن عمر بلفظ:"
…
وكان جبريل يأتي النبي- صلى الله عليه وسلم في صورة دحية".
ليتعلمها المسلمون «1» .
ثم هذا مما لا يمتنع عقلا أن تكون المادة منطبعة لطيفة تقبل توارد الأشكال عليها، كبندقة شمع «2» ، إن شئت صورتها فرسا أو فيلا أو خنزيرا أو شجرة، كبيرا ذلك أو صغيرا، وكالنور والماء إذا وجدا محلا فسيحا انبسطا فيه كشعاع الشمس في الفضاء، والماء في البحار، وإذا اكتنفتهما الأجرام الكثيفة انقبضا كالنور في كوة البيت «3» ، يرى دقيقا ضئيلا، والماء في ساقية الدولاب «4» ، وأنبوب القصب «5» ونحوه يرى دقيقا قليلا. فهذا أنهى ما تصل إليه عقول البشر «6» في هذا من التقريب والتمثيل ووراء ذلك أمر لا يرام جليل.
(1) تمثل جبريل- عليه السلام بصورة رجل أعرابي أو في صورة رجل من المسلمين، أو في صورة شاب أبيض الثياب. جاء في أحاديث متعددة منها: ما أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل للنبي- صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، وعلم الساعة
…
، ومسلم في كتاب الإيمان، الحديث الأول والخامس والسابع منه، والترمذي في كتاب الإيمان، باب ما جاء في وصف جبريل- عليه السلام للنبي- صلى الله عليه وسلم الإيمان والإسلام، والنسائي في كتاب الإيمان وشرائعه، باب صفة الإيمان والإسلام، وابن ماجه في المقدمة، باب الإيمان، وأحمد في المسند (1/ 27، 51، 52) وفي (2/ 426) وفي (4/ 129، 164).
(2)
بندق شمع: البندق الذي يرمى به، والشمع: الّذي يستصبح به، أو المزاح واللعب. [انظر لسان العرب 10/ 29، 8/ 186، والمصباح المنير 1/ 382].
(3)
الكوة: الثقب والفتحة في حائط البيت. [انظر المصباح المنير 2/ 660 ومختار الصحاح ص: 585].
(4)
الدولاب: المنجنون التي تديرها الدابة، ويستقى به الماء، وهي فارسية معربة.
[انظر المصباح 1/ 236، وتهذيب الأسماء واللغات 3/ 106].
(5)
القصب: كل نبات يكون ساقه أنابيب وكعوبا. وكل عظم أجوف فيه مخ، وأنابيب من جوهر.
[انظر المصباح المنير 2/ 608، ومنال الطالب ص 207، ومختار الصحاح ص 536].
(6)
في (ش): النبيين.