الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوجه الثالث: ما سبق من قول الخطابي «1» : أن قوله:" بين قرني الشيطان" من ألفاظ الشرع التي أكثرها ينفرد بمعانيها، ويجب علينا التصديق بها، والوقوف عند الإقرار بأحكامها، والعمل بها يعني التسليم المحض والتقليد الصرف/- بناء على ما سبق «2» من قول" أرسطو" وغيره «3»:" إن عقولنا عند أحكام المبادي الأولى «4» كالخفاش عند شعاع الشمس".
قوله:" جعلوا علة ترك الصلاة لله: طلوع/ الشمس بين قرني الشيطان وليس مناسب".
[النهي عن مشابهة النصارى غيرهم في أوقات الصلوات]
قلنا: قد سبق جواب هذا بأن من أصول شريعة الإسلام المبالغة في خلاف الكفار، فيما لم يرد شرعنا بوقفه، حتى في «5» التشبه بهم ولو أدنى مشابهة ولا شك أن عند طلوع الشمس يسجد لها الكفار فتكون في الصلاة حينئذ مشابهة لهم.
قلت: وهذا سؤال يورده المسلمون على هذا الحديث ومع التحقيق لا جواب عنه إلا بنسبه إلى التعبد المتلقى بالقبول. وذلك لأنا لا نجد سببا ظاهرا نعلل به منع الصلاة عند طلوع الشمس إلا ما ذكرناه من مشابهة الكفار لكنه يعارض بأن في الصلاة حينئذ مخالفة للشيطان وحزبه ومراغمة لهم أشد من التشبه بهم.
(1) انظر ص: 687 - 689 من هذا الكتاب.
(2)
انظر ص: 237 - 239 من هذا الكتاب.
(3)
في (أ): أو غيره.
(4)
في (أ): الأول.
(5)
في (أ): حتى مات في التشبه بهم.
وقد حكي في مناقب" معروف الكرخي «1» " أنه كان يمر عليه اليهود، يوم السبت إلى" الكنيسة" فقال في نفسه: إن هؤلاء يكفرون بالله في هذا اليوم كفرا عظيما، فلأخالفنهم بأن أقطع هذا اليوم بالصلاة والصوم فجازاه الله على ذلك بأن جعل زيارته يوم السبت، فيهرع إلى ضريحه خلق عظيم فيه على الخصوص «2» .
ولأن وفاق الكفار بالصلاة عند طلوع الشمس بالصورة الفعلية وخلافهم بالقصد والنية لأنهم يعبدون الشمس ونحن نعبد الله وقد قال الله تعالى «3» :
(1) أبو محفوظ: معروف بن فيروز الكرخي الزاهد المتصوف، من موالي علي بن موسى الرضي الكاظم. ولد في كرخ ببغداد، ونشأ بها، وكان أبواه نصرانيين، فأسلماه إلى مؤدبهم فكان المؤدب يقول: قل إن الله ثالث ثلاثة. فيقول معروف: بل هو الواحد، فيضربه المؤدب ضربا شديدا ويصيح معروف: أحد أحد. حتى ضربه يوما ضربا عظيما فهرب على وجهه. فكانت أمه تبكي وتقول: لئن رد الله عليّ ابني معروفا لأتبعنه على أي دين كان. فقدم معروف بعد سنين فسألته أمه عن دينه فقال: الإسلام. فأسلمت وأسلم أبوه وإخوته. توفي- رحمه الله ببغداد سنة مائتين وقيل غير ذلك.
[انظر تاريخ بغداد 13/ 199، وسير أعلام النبلاء 9/ 339، وصفة الصفوة 2/ 318، وشذرات الذهب 1/ 360].
(2)
لم أعثر على هذه المنقبة فيما بين يدي من المراجع، لكن لعل الطوفي نقلها مما كتبه ابن الجوزي في مناقب معروف فقد كتب في ذلك أربع كراريس. [انظر سير أعلام النبلاء 9/ 343].
قلت: زيارة قبر معروف يوم السبت ليست منقبة له لأن زيارة قبور الصالحين للتبرك بها غير جائزة وهي فعل مذموم إلا إذا كانت الزيارة للاتعاظ والاعتبار وتذكر الموت وتذكر جهاد الصالحين منهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده والسلام عليهم والدعاء لهم. أما قصد القبور لغير ذلك فلا يجوز. والله أعلم.
(3)
عبارة:" لأنهم يعبدون
…
قال الله تعالى" كررها الناسخ بعد قوله تعالى" ولا للقمر".
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ والنَّهارُ والشَّمْسُ والْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ ولا لِلْقَمَرِ واسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)«1» .
فالاعتبار هنا «2» بالقصد والنية، لا بالمشابهة الصورية «3» .
فإن قيل: لما تعارض عندنا مفسدة المشابهة، ومصلحة المراغمة غلب الشارع جانب مفسدة المشابهة لأن الخطاب كان في صدر الإسلام والقوم «4» قريبو عهد بالجاهلية. فمنعهم من الصلاة حينئذ تنفيرا عن المشابهة، مبالغة في تكريه الكفر
(1) سورة فصلت، آية:37.
(2)
فى (م): ها.
(3)
قلت: الأولى الجمع بين الأمرين: القصد والنية، والمشابهة الصورية والجمع بين الحكمة التعبدية وعدم مشابهة الكفار لما في قول النبي- صلى الله عليه وسلم:" صل صلاة الصبح ثم اقصر عن الصلاة حتى طلوع الشمس حتى ترتفع. فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان. وحينئذ يسجد لها الكفار. ثم صل. فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى يستقل الظل بالرمح. ثم اقصر عن الصلاة. فإن حينئذ تسجر جهنم. فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر. ثم اقصر عن الصلاة حين تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار".
[أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين باب إسلام عمرو بن عبسة، حديث 294، وأخرجه أبو داود في كتاب الصلاة" التطوع" باب من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة، حديث رقم 1277، والنسائي في كتاب المواقيت باب النهي عن الصلاة بعد العصر، وأحمد في المسند (4/ 111، 112، 385]. وهذا لفظ مسلم.
(4)
فى (أ): والقوة.
وشعاره إليهم، ثم صار «1» ذلك سنة متبعة، كالرمل «2» زالت حكمته السببية وبقيت صورته السنية.
قلنا: جوابه من وجهين:
أحدهما: أن تنفيرهم من الكفر وتكريهه إليهم/ بأمرهم بمراغمته ومناقضة أهله بعبادة الله «3» عبادة أبلغ.
الثاني: أن ذلك منقوض بصلاة الفرض. فإنه أجازها لهم، وهي جائزة بالاجماع في تلك الأوقات المنهي عن التطوع فيها. مع أن مشابهة الكفار الصورية موجودة «4» / فإن قيل: الفرض واجب فلا يترك حق لباطل «5» قلنا: والتطوع مندوب فلا يترك حق لباطل، وخصيصة الوجوب لا تصلح فارقا فبان بهذا البحث والتقرير: أن هذا الحكم وأمثاله مما يتلقى عن الشرع بالقبول ولا يصادم بتصرفات العقول، ولا شك أن دين الإسلام مشتمل على الأحكام التعبدية والمعقولة «6» العلية كما قررته في" القواعد الصغرى" وبنيت الحكمة فيه على الوجه الأجل.
(1) فى (م):" وشعاره، لكنهم بمرصاد ذلك
…
".
(2)
الرمل: إسراع المشي مع تقارب الخطا دون الوثوب والعدو، وهو الخبب.
[انظر تهذيب الأسماء واللغات 3/ 128].
(3)
في (ش)، (م):" بعبادة الله حين عبادة غيره أبلغ".
(4)
في (م): موجودية، وفي (ش): لموجودة.
(5)
في (أ): الباطل.
(6)
في (ش): المعقولية.