الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الناس خصما لكذبكم وافترائكم عليه واتخاذه إلها،/ ومخالفتكم لوصاياه من بعده.
ثم يلزمه من هذا الكلام تناقض آخر: وهو أنه قد سبق منه انكار النعيم الحسي في الآخرة من الأكل والشرب والنكاح «1» .
ثم قد/ أثبت هاهنا جهنم، وذكرت في الإنجيل في مواضع كثيرة، تارة بلفظها وتارة بمعناها، فيقول:" هنالك تكون الظلمة، وصرير الأسنان «2» " وهذا عذاب حسي. فالحكمة تقتضي اتحاد جنس الثواب والعذاب. فإما أن يكونا حسيين، وهو نقض لما سبق منه من إنكار النعيم الحسي، وإما عقليين، كما احتج عليه في طرف «3» النعيم بقول" ابن سينا" في" الإشارات" فيلزمه أن يكون العذاب عقليا، كما قرره الفلاسفة. وفي ذلك ترك ما صرح به الإنجيل من العذاب الحسي.
[المعجزة الخالدة، والرد على النصراني في إنكاره إعجاز القرآن وبلاغته]
قال:" وإذ فرغنا من الكلام في أنه لم يتحل بمعجزة قدمها بين يدي دعواه/ ولا أظهرها بعد ذلك، فلا متمسك لمنازع إلا أن يقول: القرآن معجزة لفصاحته".
قال:" ولا حجة في ذلك، لأن الفصاحة هي التقرب من البغية، والتباعد من حشو الكلام. وقيل: دلالة اللفظ على المعنى بشرط إيضاح وجه المعنى «4» ونظامه،
(1) انظر ص: 501 من هذا الكتاب.
(2)
انظر الأصحاح الخامس والعشرين من انجيل متى.
(3)
هكذا في النسخ الثلاث:" طرف" ولعل الأصح:" طرفي" أي الحسي والعقلي.
(4)
في (أ): المعني.
وقلة «1» الألفاظ واختصارها، وإذا تأملت جميع القرآن وجدت أكثر عباراته لا توضح وجه المعنى، ولا تتأتى معانيه على نظام مناسب «2» والدليل على ذلك:
أن المفسرين مع كثرة عددهم يفنون أعمارهم في الاختلاف في تأويله ويصنفون فيه التصانيف الطويلة، ويقع بينهم الشر والمخالفات، ولا ينفصلون عن معارك النزاع والتضاد في تفسيره، ويتفرقون فرقا ملقبة كالعلوية «3» والبكرية «4» ،
(1) في (أ): وقبله.
(2)
مناسب: ليست في (أ).
(3)
العلوية: كل من كان من نسل علي بن أبي طالب- رضي الله عنه يقال له علوي، وهم كثيرون، إلى عصرنا هذا، وباسمهم قامت الدولة العلوية نسبة إلى مؤسسها الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل الحسني العلوي المتوفى سنة خمسين ومائتين من الهجرة في طبرستان وكان آخر رجالها الحسن بن قاسم العلوي الذي قتل سنة 316 هـ. ولكن توسع في إطلاق اسم" العلويين" على كل من ناصر دولتهم من الشيعة عموما. وهؤلاء يؤلهون عليا- رضي الله عنه ويقولون بالحلول والتناسخ في أئمتهم وهم أكفر من اليهود والنصارى كما ذكر ابن تيمية- رحمه الله وغيره من علماء المسلمين، لا يصلون ولا يصومون. وهم ينتسبون إلى رئيسهم محمد بن نصير. ومن كفرهم أنهم إذا سمعوا المؤذن في مساجد المسلمين يقولون:" لا تنهق علفك يأتيك". [انظر الكامل في التاريخ 6/ 316، والأعلام 2/ 191، 210، ورحلة ابن بطوطة 1/ 96 - 97، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين ص 61، والملل والنحل 1/ 188 - 189، والجزء الأول من الجواب الصحيح- رسالة دكتوراه- للدكتور علي بن حسن العسيري ص 177].
(4)
البكرية: أصحاب بكر بن أخت عبد الواحد بن يزيد، ويقال له: بكر بن زياد الباهلي. الدجال الوضاع. من مذهبه أن الكبائر من أهل القبلة نفاق، ومرتكبها عابد للشيطان مكذب لله منافق، وهو مع ذلك مسلم مؤمن والقاتل لا توبة له وقتال علي وطلحة بن الزبير كفر وشرك لكن مغفور لهم. وأن الله يرى يوم القيامة في صورة يخلقها ويكلم عباده منها. [انظر مقالات الإسلاميين ص 286 - 287، والفرق بين الفرق ص 212].
والمعتزلة «1» ، والأشعرية «2» ، وغيرهم من طوائف عديدة، يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا ويقبح قوم مذهب قوم ولا يقعون على تفسير يتفق أهل الملة بجملتهم عليه ولا شطرها ويكفيك في ذلك شهادة القرآن لما قلناه./ حيث يقول:" وما يعلم تأويله إلا الله «3» ".
قلت: قد بينا: أن محمدا صلى الله عليه وسلم تحلى بالمعجزات. وأما القرآن فهو معجز عظيم لفصاحته، واشتماله على الأخبار بالغيوب، وإفحامه العرب العاربة «4»:
أهل الفصاحة.
وأما ما ذكره من حد الفصاحة أولا، فهو جيد، وهو موجود في القرآن فإن معانيه إلى الفهم تسبق ألفاظه إلى السمع.
وأما ما ذكره ثانيا ففاسد. لأنه لا خلاف عند أحد من العالم أن العرب كانوا فصحاء في نثرهم ونظامهم./ مع أن في كلامهم الفصيح ما هو مجمل لا يتضح فيه وجه المعنى.
(1) تقدم التعريف بهم في الدراسة ص: 84.
(2)
تقدم التعريف بها في قسم الدراسة ص: 85.
(3)
سورة آل عمران، آية:7.
(4)
العرب العاربة: العرب جيل من الناس معروف، خلاف العجم. والعرب العاربة هم الخلص منهم وأخذ من لفظه فأكد به، كقولك: ليل لائل، وتقول: عرب عاربة وعرباء: أي صرحاء، ومتعربة ومستعربة: دخلاء ليسوا بخلص. والنبي صلى الله عليه وسلم بعث في قريش وهم من العرب الخلص الفصحاء فكان القرآن معجزة من جنس ما برعوا فيه. [انظر لسان العرب 1/ 586، وسيرة ابن هشام المجلد الأول ص 7 - 12].
ثم إنك أنت نصراني علج، أقلف اللسان، ما لك وللفصاحة، والبلاغة «1» لها قوم تكلموا فيها.
فقالوا: الفصاحة: خلوص اللفظ من التعقيد، الموجب لقرب فهمه، ولذاذة «2» استماعه. وذلك باشتماله على صفات ذكرت في مواضعها «3» ، والبلاغة: كون الكلام الفصيح موصلا للمتكلم إلى أقصى مراده «4» ، وقال أمير المؤمنين علي- عليه السلام: البلاغة: ما رضيته الخاصة، وفهمته العامة" «5» .
وقال في لفظ آخر: البلاغة: أن تقول فلا تبطىء، وتصيب فلا تخطئ «6» وهذا «7» كله موجود في القرآن.
وقوله:" عبارة القرآن لا توضح وجه المعنى، ولا تأتي على نظام مناسب.
سوء فهم وقصور في النظر «8» ، ويكفي في بطلان قوله أن عامة الناس وخاصتهم يفهمونه إذا سمعوه «9» .
(1) الفصاحة لغة: البيان. نقول: رجل فصيح وكلام فصيح: أي بليغ. والبلاغة: الفصاحة. [انظر لسان العرب 2/ 544، 8/ 420].
(2)
في (م): وإرادة.
(3)
الإكسير في علم التفسير، للمؤلف ص 107 ط مكتبة الآداب.
(4)
الإكسير في علم التفسير ص 107 ط السابقة.
(5)
لم أجدها في نهج البلاغة المنسوب إلى علي رضي الله عنه.
(6)
لم أجدها في نهج البلاغة المنسوب إلى علي رضي الله عنه.
(7)
في (أ): ولهذا.
(8)
في (أ): اللنظر.
(9)
يكفي في الرد على النصراني في هذا قصة النجاشي- رحمه الله وأساقفة النصارى في مملكته حين قرأ جعفر بن أبي طالب- رضي الله عنه أول سورة مريم فبكوا حتى أخضلوا لحاهم. وذكر أن نصرانيا لما سمع قوله تعالى: ومَنْ يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَخْشَ اللَّهَ ويَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ [سورة النور، آية: 52] قال:" جمعت هذه الآية ما أنزل على عيسى من أمر الدنيا والآخرة".
[انظر منحة القريب المجيب ص 185].
وأما اختلاف المفسرين في بعضه فليس لما «1» ذكر، بل تارة للخلاف في أسبابه، وتارة لاختلاف مذاهبهم، فيطلبون تأويله عليها، وتارة لإجمال في ألفاظه/ وذلك من وجوه إعجازه حيث كان فصيحا، بالنسبة إلى كل قوم يفهمون منه ما يدعونه، وليس من شرط الفصاحة النصوصية على المراد ألا ترى إلى شعر امرئ القيس «2» ونحوه من الشعراء الجاهلين، لا خلاف في فصاحته مع كثرة احتمالاته واجمالاته «3» .
وأما تكفير بعض الطوائف بعضا «4» فليس سببه اشتباه القرآن، بل ذلك لمواد عقلية وفلسفية دخيلة على الإسلام، كما عرف من مذهب المعتزلة ونحوهم.
وأما قوله:" لم يتفقوا على تفسير شيء منه" فباطل. بل قد اتفقوا على كثير منه، والخلاف فيما اختلفوا فيه منه، ليس لأمر عائد إلى لفظه ولا بدّ بل وإلى أمور خارجة.
(1) في (ش): كما.
(2)
امرؤ القيس بن حجر بن الحارث الكندي، من بني أكل المرار، أشهر شعراء العرب في الجاهلية.
يماني الأصل. قيل: ولد بنجد، وقيل: باليمن. اشتهر بلقبه:" امرئ القيس" واختلف في اسمه: فقيل: حندج وقيل: مليكة، وقيل: عدي. أبوه ملك أسد وغطفان، وأمه أخت المهلهل الشاعر المشهور. كان امرؤ القيس من الغارقين في اللهو والمجون يشبب بالنساء، ويشرب الخمر، وشعره يشهد بذلك. مات قبل الهجرة بنحو ثمانين عاما.
[انظر الأعلام 2/ 11 - 12].
(3)
«واجمالاته» : ليست في (ش).
(4)
بعضا: ليست في (أ).
وبالجملة فإن توقف الأمر معك على ثبوت فصاحة القرآن، استرحنا لأن الفصاحة يرجع فيها إلى أهلها. وقد اتفقوا على فصاحته./
وقوله:" وما يعلم تأويله إلا الله" ليس في جميع القرآن. كيف؟ وقد ادعى أن الناس صنفوا في تأويله التصانيف الكثيرة. وهل يصنف أحد فيما لا يعلمه؟
وإنما ذلك في ما تشابه منه حيث قال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
…
(7)«1» .
يعنى تأويل المتشابه «2» . اتفق العلماء على أن هذا مراده.
(1) سورة آل عمران، آية:7.
(2)
اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات:" فقال بعضهم: المحكمات ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره. والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل فما استأثر الله تعالى بعلمه" مثل وقت قيام الساعة ونحو ذلك ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور. وهذا أحسن ما قيل في ذلك وليس المجال مجال تعدادها. والقرآن الكريم يحتوي على المحكم والمتشابه. والمتشابه منه يحمل على المحكم. وأهل العلم الراسخون فيه يعلمون المحكمات التي في غاية البيان والصراحة ويردون إليها المشتبهات التي تحصل فيها الحيرة لناقص العلم والمعرفة. ومعنى قوله تعالى: وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ إن أريد بالتأويل معرفة عاقبة الأمور، وما تنتهي إليه، فإن العالم بذلك إنما هو الله تعالى. وإن أريد بالتأويل التفسير ومعنى الكلام على ما يفهم من كلام العرب كان العالم بذلك الله تعالى والعلماء الراسخون في العلم. أما المتشابه بغير اضافته إلى المحكم ومعرفة ما يؤول إليه الأمر فيه فاتفق العلماء على أن الله هو الذي يعلمه دون غيره كما ذكر المؤلف- رحمه الله. [انظر تفسير الطبري 3/ 182 - 184، وتفسير القرطبي 4/ 9 وما بعدها وتفسير ابن كثير 1/ 344 - 348، وتفسير السعدي 1/ 357 - 358].
ثم إن ما ذكره في القرآن والمسلمين لازم عليه في الإنجيل والنصارى. فإن في الإنجيل إجمالات كثيرة تتوجه إليها الاحتمالات،/ ولذلك اختلفت النصارى حتى كانوا يعقوبية «1» ، وملكانية «2» ونسطورية «3» ، وغير ذلك، يكفر بعضهم بعضا.
(1) اليعقوبية: أتباع يعقوب البراذعي الذي ظهر في وسط القرن السادس الميلادي. ويقولون إن المسيح طبيعة واحدة، وقد امتزج فيه عنصر الإله بعنصر الإنسان، وتكوّن من الاتحاد طبيعة واحدة جامعة بين اللاهوت والناسوت. فصار المسيح هو الله، وأن الله مات وصلب وقتل.
فبقي العالم ثلاثة أيام بلا مدبر، ثم قام ورجع حادثا وعاد قديما. [انظر الملل والنحل 1/ 225 - 228، والفصل 1/ 111]، قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ الآية: 17 من سورة المائدة، والآية: 72 أيضا.
(2)
الملكانية: قيل: نسبة إلى" ملكا" الذي ظهر بأرض الروم واستولى عليها، وقيل: سموا بذلك لوقوفهم في صف الملك الذي أعلن أن عيسى طبيعة واحدة فلقبهم مخالفوهم بذلك ازدراء.
وهم القائلون: إن الله عبارة عن ثلاثة أشياء: أب وابن وروح القدس. وإن عيسى إله تام كله، وإنسان تام كله، ليس أحدهما غير الآخر. وإن الإنسان منه هو الذي صلب وقتل، والإله منه لم ينله شيء من ذلك، وأن مريم ولدت الإله والإنسان، وأنهما شيء واحد. [انظر الفصل 1/ 110 - 111، والموسوعة العربية الميسرة ص 1742]. قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ الآية 73 من سورة المائدة.
(3)
النسطورية: أتباع نسطور الذي كان بطريركا على القسطنطينية في أوائل القرن الثاني الميلادي، وقد زعم أن المسيح إله تام وإنسان تام ليس أحدهما غير الآخر غير أن مريم ولدت الإنسان وأن الله لم يلد الإنسان إنما ولد الإله، فالإله ليس مولودا لمريم. [انظر الفصل 1/ 111] قال الله تعالى: وقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ورُهْبانَهُمْ -
قال:" ووجدت أيضا ألفاظه قليلة الاختصار، كثيرة التكرار في إيراده القصص وغير ذلك كسورة قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1)، وسورة الرَّحْمنُ فإنك تجد فيها ما يعنيك وتقمع به معاديك".
قلت: هذا كلام من لا يعلم، وهو جدير أن يتعلم ثم يتكلم «1» .
أما تكرار القصص فله فائدتان:
إحداهما: أن القرآن كان ينزل شيئا فشيئا «2» ، ويحتاج أن يحمل إلى أقطار الأرض لينتفع الناس بما فيه من أمر ونهي، ووعد ووعيد، ووعظ وأخبار ونحوه وكان المهم دعاءهم إلى الإسلام، وذلك بترهيبهم مما جرى لمخالفين من الأمم قبلهم وترغيبهم فيما فاز به المؤمنون، فكررت القصص وكانت مختلفة الألفاظ ليتفرق في البلاد كذلك، فيسمعها الناس في الأقطار وتكون باختلاف ألفاظها ادعى إلى القبول، لأن النفوس مشغوفة بمعاداة المعادات، كما قد أنكرت أنت التكرار.
- أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ والْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة التوبة: 30 - 31].
(1)
قلت: وقريش وهم من العرب الخلص أهل الفصاحة والبلاغة والعناد للنبي صلى الله عليه وسلم، قد كانوا يلتمسون أي مطعن في القرآن ويسلكون كل طريق لرده، ولو وجدوا زورا لقالوه، ومع ذلك لم يطعنوا في القرآن بما طعن به هذا الأعجمي وهذا دليل على جهله، ووقوف أهل الفصاحة والبلاغة أمامه مشدوهين وخاصة أمام قصصه التي كلما سمعوها في أسلوب غير الأول بهروا وخرسوا أمامه لأن ذلك زاد القرآن فصاحة وبلاغة وإعجازا.
(2)
أي ينزل منجما يقول الله تعالى: وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ورَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) ولا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وأَحْسَنَ تَفْسِيراً [سورة الفرقان: 32 - 33].
الفائدة الثانية: أن إعادة القصة الطويلة في مواضع مع اتحاد معناها، واختلاف لفظها طولا وقصرا، أدل على الإعجاز وقدرة المتكلم على الكلام. وأما ما ذكر من التكرار في بقية السور، فالقول المفصل فيه قد ذكرته في" الاكسير" مستوفى «1» ، وذكره الناس كثيرا، فلا يخف علي ذكره «2» هنا.
ولكن أذكر فيه قولا مجملا، وهو أن التكرار كما يستغنى عنه في بعض المواطن قد يحتاج إليه في بعضها للتأكيد والتقرير والتنبيه على الاهتمام بالأمر،/ فيكون تركه، حيث ينبغي كذكره حيث لا ينبغي. والله أعلم.
قال:" ونجده أيضا غير خارج على نظام متناسب كقوله في سورة النساء:
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباعَ
…
(3)«3» .
قال:" ولا مناسبة بين العدل في اليتامى «4»، وبين نكاح النساء، ولهذا وغيره يتبين أنه كلام منثور، لا نظام له، ولا تأليف".
(1) تحدث- رحمه الله في الاكسير ص 245 - 258، عن التكرير في القرآن وهو ذكر الشيء مرتين فصاعدا وبين فائدة ذلك سواء تكرار اللفظ والمعنى جميعا أو تكرار المعنى دون اللفظ وما يفيد كل منهما. وشمل حديثه التكرار في المواضيع كالقصة وغيرها أو التكرار في السور كسورة الكافرون، وسورة الرحمن وغيرهما.
(2)
في (م): ذكرها.
(3)
سورة النساء، آية:3.
(4)
عبارة: (أ):" قال: ولا مناسبة بين العدل في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم
…
ورباع" قال ولا مناسبة بين العدل
…
الخ".
قلت: هذا الخصم معذور في استشكاله هذا الكلام، لأنه من/ المشكلات التي تخفى على كثير من علماء الإسلام، لكنه ملوم في إيراده طعنا على القرآن قبل أن يبحث هل له محمل على الصواب أم لا؟ ولا شك أن العلماء ذكروا لارتباط بعض هذا الكلام ببعض وجوها صحيحة مناسبة:
أحدها: ما روي عن عائشة أنها قالت: نزلت هذه الآية في اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها فينكحها بدون صداق مثلها، فنهوا أن ينكحوهن حتى يقسطوا في الصداق، وأمروا أن ينكحوا من شاءوا من النساء غيرهن" «1» .
الثاني: ما روي عن ابن عباس قال: كان الرجل في الجاهلية/ يتزوج العشر من النساء فما زاد، فإذا أعدم مال على مال اليتيم فأنفقه، فأمروا بالاقتصار على العدد الخاص لئلا يحتاجوا إلى الميل على مال اليتيم «2» .
الثالث: ما روي عن سعيد بن جبير «3» أنه قال: كانوا يخافون ألا يقسطوا
(1) أخرجه البخاري في عدة مواضع من صحيحه منها: كتاب الشركة، باب شركة اليتيم وأهل الميراث، وفي تفسير سورة النساء. وأخرجه مسلم في كتاب التفسير الحديث السادس، وأبو داود في كتاب النكاح، باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء، والنسائي في كتاب النكاح، باب القسط في الأصدقة، وقد أورده المؤلف هنا بمعناه، ولم يلتزم أحد ألفاظ هؤلاء المحدثين.
(2)
هذا القول مروى عن عكرمة، [انظر زاد المسير 2/ 6، وتفسير ابن عطية 4/ 14، وتفسير الطبري 4/ 233).
(3)
أبو محمد ويقال: أبو عبد الله سعيد بن جبير بن هشام الأسدي الوالبي الحافظ المقرئ المفسر-
في اليتامى، ويتحرجون من ذلك، فنزلت الآية ومعناها: خافوا من عدم القسط في/ النساء ما خفتم منه في اليتامى «1» .
قلت: هو من باب قوله:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله «2»
…
...
…
- الشهيد، أصله حبشي، كان أعلم التابعين على الاطلاق، عابدا خاشعا لله لا تأخذه في الله لومة لائم، أخذ العلم عن حبر الأمة ابن عباس وابن عمر، ومع ذلك يقول ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه: أتسألونني وفيكم ابن دهماء؟ يعني سعيدا. قتله الحجاج سنة خمس وتسعين للهجرة.
[انظر سير أعلام النبلاء 4/ 321 - 342، وتهذيب التهذيب 4/ 11 - 14 وطبقات ابن سعد 6/ 256 - 267].
(1)
وهذا مروي عن ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي، ومقاتل.
[انظر تفسير الطبري 4/ 233، 234، وتفسير ابن عطية 4/ 14، وزاد المسير 2/ 6].
(2)
يقال إنه للمتوكل بن عبد الله بن نهشل الليثي الكناني أبو جهمة من شعراء الحماسة، كان على عهد معاوية بن أبي سفيان، ونزل الكوفة. وقبل هذا البيت يقول:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك تعدل إن وعظت ويقتدى بالقول منك ويقبل التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم [انظر المستقصي في أمثال العرب 2/ 260، والأعلام 5/ 275، وهامش ص 446 من هذا الكتاب].
أي لا تتحرجوا من الجور على اليتامى، وتجورون على النساء، فهو كما تقول لصاحبك: إن كنت تخشى الله في ظلم زيد، فلا تظلم عمرا. وإن تحرجت من أخذ أموال الناس، فلا تأخذ أعراضهم. كذلك هذا.
الرابع: ما ذكره الحسن البصري، وهو أن معنى الكلام: إن تحرجتم من الميل على اليتامى فتحرجوا من الزنا بنكاح ما أحل الله لكم من امرأة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع، لتقمعوا داعية الزنا الحرام بالنكاح الحلال «1» .
قلت: والمعنى، لا تتحرجوا عن معصية، وتواقعوا أخرى، فتكونوا كالذي تسامح في الزنا، وتحرج من العزل، أو ترك الغسل.
فهذه أربعة أوجه محتملة احتمالا ظاهرا مناسبة «2» مناسبة صحيحة معقولة فالمبادهة بإنكار ما له هذا التوجيه، قبل استيفاء النظر فيه إما جهل أو عناد، والله أعلم.
وقد استقريت الأناجيل الأربعة، وأوردت عليها من الأسئلة ما لا أظن أن على وجه الأرض نصرانيا يقدر على أن يجيب عن شيء منها بمثل هذه
(1) لم أجده بهذا اللفظ عن الحسن فيما بين يدي من مراجع ولكن أخرج الطبري في تفسيره (4/ 235) عن الربيع وعن مجاهد نحوه. وأخرج السيوطي في الدر المنثور (2/ 118) عن مجاهد نحوه وهو ما أخرجه ابن جرير عنه. والمذكور عن الحسن قول آخر وهو" وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في نكاحهن، وحذرتم سوء الصحبة لهن، وقلة الرغبة فيهن، فانكحوا غيرهن" اهـ. وآخر:"
…
وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن فانكحوهن، ولا تزيدوا على أربع لتعدلوا، فإن خفتم أن لا تعدلوا فيهن فواحدة" اهـ. [زاد المسير 2/ 7].
(2)
مناسبة: ليست في (أ).
الأجوبة «1» عن آية النساء، فضلا عن أوضح منها. فإن لزم بذلك الطعن على القرآن فهو على الإنجيل ألزم.
قال:" ثم هو متناقض. ينقض بعضه بعضا، ولكن مع وقوفك على هذا الإلماع «2» تقول:/ أي جهل أعظم من جهل من ادعى أن إعجاز هذا الكتاب في إثبات النبوة كانقلاب الجماد حيوانا «3»، والبحر يبسا «4»، والحجر الصلد عينا لموسى «5» وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص للمسيح «6». إن هذا لجاهل مائق".
قلت:/ أما دعواه التناقض في القرآن، فوهم، وقد أورد الزنادقة صورا كثيرة ظنوها تناقضا، فأجيبوا عنها.
(1) في كتابه تعاليق على الأناجيل.
(2)
من ألمع. أي أشار. [انظر لسان العرب 8/ 324].
(3)
قال الله تعالى: وما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي ولِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [طه:
17 -
20] [سورة طه، آية: 17 - 20].
(4)
قال الله تعالى: ولَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً ولا تَخْشى [سورة طه، آية: 77].
(5)
قال الله تعالى: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً
…
الآية [سورة البقرة، آية: 60].
(6)
قال الله تعالى: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ إلى قوله تعالى: ورَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ والْأَبْرَصَ وأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [سورة آل عمران، آية: 45 - 49].
صنف في ذلك الإمام أحمد وغيره «1» ، فمن جملتها:
قوله «2» :
…
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)«3» مع قوله: وأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)«4» .
قالوا: هذا تناقض، وذلك جهل منهم لأنه يقال في لغة العرب: أقسط فهو مقسط إذا عدل، وقسط فهو قاسط إذا جار، وهذا يكفي في السخرية بهم «5» .
وأما هذا الخصم فما أورد شيئا من التناقض حتى نجيبه عليه.
وأما قوله:" إن إعجاز هذا الكتاب لا يساوي إعجاز بقية المعجزات لموسى وعيسى".
فنقول له: قد بينا لك أول الكتاب: أن المعجز هو الأمر الممكن الخارق للعادة، المقرون بالتحدي، الخالي عن المعارضة «6» ، والقرآن يشارك جميع
(1) صنف الإمام أحمد في ذلك كتابه:" الرد على الجهمية والزنادقة" وأبو عبد الله محمد بن إسحاق ابن محمد بن يحيى بن منده المتوفى سنة خمس وتسعين وثلاثمائة للهجرة في كتابه الرد على الجهمية.
والإمام عثمان بن سعيد الدارمي المتوفى سنة ثمانين ومائتين للهجرة في كتابه الرد على الجهمية.
والإمام ابن تيمية المعاصر للطوفي المتوفى سنة ثمان وعشرين وسبعمائة للهجرة. وغير هؤلاء.
(2)
«قوله» ليست في (ش).
(3)
سورة المائدة: 42، وسورة الحجرات: 9، وسورة الممتحنة:8.
(4)
سورة الجن، آية:15.
(5)
انظر الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد ص: 98.
(6)
تقدم تعريف المعجزة في ص: 286، 552 من هذا الكتاب. ولها عدة تعريفات عند السلف وأهل الكلام منها:" انها ما خرق العادة من قول أو فعل إذا وافق دعوى الرسالة وقارنها وطابقها على جهة التحدي ابتداء بحيث لا يقدر أحد على مثلها، ولا على ما يقاربها".
[لوامع الأنوار البهية 2/ 290].
المعجزات في هذا، لأنه كما عجز فرعون عن قلب عصا حية حتى عدل إلى تجييش الجيوش وإيقاد الحرب، كذلك العرب عجزت عن معارضة القرآن بعد أن تحداهم بمثله «1» ، ثم خفف عنهم فتحداهم بعشر سور مثله «2» ، ثم خفف عنهم فقال بسورة من مثله «3» وينزل معهم هذا التنزيل، فعدلت إلى الحرب، والتحام الطعن، والضرب، وزاد القرآن على ما ذكرتم/ من المعجزات بوجهين:
أحدهما: أنه صفة قديمة من صفات الله تعالى «4» ، وتلك المعجزات محدثة بلا خلاف ولو لم يكن إلا وقوع الخلاف في قدم القرآن وحدوثه بين المسلمين لكان له مزية على سائر المعجزات.
(1) قال الله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ والْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء، آية: 88]. وقال سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [سورة الطور: 33 - 34].
(2)
قال سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13)[سورة هود، آية: 13].
(3)
في (أ): بسورة مثله. قال- عز وجل: وإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ والْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [سورة البقرة: 23 - 24]، وقال سبحانه:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)[سورة يونس، آية: 38].
(4)
سبق أن قلنا: إن نوع كلام الله قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديما، أي أنه قديم النوع حادث الآحاد. فالقرآن ليس قديما كقدم التوراة مثلا أو الإنجيل فقد تكلم الله بالتوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السابقة قبل القرآن.
الثاني: أنه كلام بريء من «1» أن ينسب إلى أنه سحر، لأنا لم نعلم أن السحر كلام قط. نعم يكون بالكلام،/ فلا يلتبس عليك، وإنما عرفنا السحر أفعالا محسوسة، فتطرق نسبة السحر إلى ما أتى به موسى وعيسى أقرب من تطرقها إلى ما أتى به محمد، ولهذا قال فرعون:" إن هذا لساحر عليم"«2» وفي موضع: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ «3» وفي موضع: قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا
…
(48)«4»
يعني موسى وهارون «5» وقالوا للسحرة حين اعترفوا بالغلبة: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ «6» وكان أكثر السحرة من بني إسرائيل فنسبوهم/ إلى مواطأته،
(1)«من» ليست في (ش).
(2)
في سورة الأعراف: 109: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ [الأعراف: 109] يقصد موسى. وفى سورة الشعراء: 34: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يقصد موسى أيضا.
(3)
سورة طه، آية:63.
(4)
سورة القصص: 48 - 49: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَولَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49).
(5)
اختلف المفسرون في الضمير في قوله تعالى: سِحْرانِ تَظاهَرا على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن المراد بهما موسى ومحمد عليهما السلام. وهذا على أن القول من مشركي العرب.
وثانيها: المراد بهما موسى وهارون عليهما السلام. وهذا قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة
…
وثالثهما-: أنهما عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهذا قول اليهود فيما بعد عصر النبي صلى الله عليه وسلم وهذا على قراءة ساحران" وقوى ابن كثير ما ذكره الطوفي- رحمهما الله- أما على قراءة" سحران" فقيل المراد التوراة والقرآن، وقيل المراد التوراة والإنجيل. وقيل المراد القرآن والإنجيل واختار ابن جرير أن المراد: التوراة والإنجيل ومال ابن كثير إلى أن المراد التوراة والإنجيل. (انظر تفسير ابن جرير 20/ 83 - 86، وتفسير القرطبي 13/ 294، وتفسير ابن كثير 3/ 392).
(6)
سورة طه، آية:71.
لكونه منهم، وإنما يظهر الفرق بين القرآن وغيره من المعجزات «1» من حيث أنه مسموع وهي مبصرة على حسب «2» التفاوت بين المسموعات والمبصرات، وذلك لا تأثير له في حقيقة الإعجاز «3» .
والسبب الموجب لهذا التفاوت:
هو أن الله- سبحانه- أرسل كلا من رسله، بما كان غالبا على قومه تحقيقا لإعجازهم، فبعث موسى إلى قوم مهروا في السحر، فأعجزهم بالعصا ونحوها، والمسيح إلى قوم أهل كهانة وطب وحكمة فأعجزهم بما أيده به، وصالحا إلى قوم أهل إبل فأعجزهم بناقة خرجت من جبل «4» . فكذلك لما أرسل محمدا إلى قوم أهل فصاحة يعدون الفصاحة والخطابة من أكبر مآثرهم، ويتنافسون فيها، وكانت الفصاحة بعيدة عن نسبة السحر، بعثه بالقرآن الفصيح، ويكفي الطاعن في فصاحة القرآن بعد عجز العرب عن معارضته: أن" الوليد بن المغيرة" حكيم قريش وفيلسوفها «5» لما سمعه أنصت له ثم استعاده فأعيد عليه.
(1) من المعجزات: ليست في: (أ).
(2)
في (ش): حيث.
(3)
في (ش): الأصحار.
(4)
انظر تفسير القرطبي 7/ 238، وهامش ص: 472 من هذا الكتاب.
(5)
الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، يكنى أبا عبد شمس وهو العدل- على زعمهم- أو أنه يسمى العدل لأنه كان عدل قريش كلها. فقد كان يكسو الكعبة وحده وتكسوها قريش جميعا. هلك بعد الهجرة بثلاثة أشهر. [انظر الكامل لابن الأثير 2/ 48، والأعلام 8/ 122].
ثم قال: والله ما هو بسحر، ولا شعر، ولا كهانة، ولقد سمعنا ذلك كله وما هو بشيء منه، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وما هو بقول بشر، ثم قال له الكفار: فما ترى أن تقول فيه؟ قال: قولوا: إنه ساحر.
فأنزل الله- سبحانه- «1» : ذَرْنِي ومَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) إلى قوله: إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)«2» .
قال:" وإن بقي التباس في هذا على مسكين ناقص الفطرة. قلنا له: تعال نفرض أن القرآن فصيح. لا تكرار فيه ولا تناقض، وأنه جار على نظام واحد في معانيه، ونجعل ذلك إعجازا له، أليس من شرط المعجز أن يكون من غير جنس الأفعال المعتادة؟ إذ هو كلام لا يفضل جميع الكلام، وإنما يختلف بالأقل والأكثر، وتقع فيه المماثلة والمفاضلة فهو جنس واحد، وبحسب التفاضل بينه وبين كلام سائر الخطباء والبلغاء من العرب والمجيدين تتوزع النبوة على كل فصيح بليغ بمرتبة من الفصاحة فينال من النبوة ما تستوجبه فصاحته.
قلت: الجواب عن هذا:
أما أولا: فإنه ناقض في كلامه. لأنه طلب شرط الإعجاز على تقدير ثبوت الإعجاز، والمشروط لا يثبت إلا بعد تكامل شروطه. فمن هذه الحيثية يلزم وجود
(1) أخرج القصة ابن جرير الطبري في تفسيره (29/ 156) والقرطبي في تفسيره (19/ 47، 10/ 165)، وابن كثير في تفسيره 4/ 442، والبيهقي في دلائل النبوة (2/ 198 - 200) من طريقين، والحاكم في المستدرك (2/ 506) وقال:" هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري ولم يخرجاه" اهـ.
(2)
سورة المدثر: 11 - 26.
شرطه، ومن حيث طلب شرطه. يلزم/ أن شرطه لم يوجد، وذلك تناقض لا محالة.
لكن لا يستبعد مثل هذا ممن يقول: إن الله هو المسيح، وأنه في السماء/ حالة كونه في الأرض.
وأما ثانيا: فقوله:" شرط المعجز أن يكون من غير جنس الأفعال المعتادة" فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنا نقول: من شرط هذا الشرط؟ ومن سلمه لك؟ أنت شرطته وبحثته مع نفسك تقريرا لعنادك وهواك، وفساد دعواك. ونحن قد بينا آنفا وفي مقدمة الكتاب، حيث ذكرت أن الذي اتفق عليه/ المحققون في المعجز: أنه الأمر الممكن الخارق للعادة المقرون بالتحدي، الخالي عن المعارض. وبينا ما فيه من القيود والاحترازات وبينا أنه موجود في القرآن.
الثاني: أن الإعجاز بالمعتاد أبلغ من الإعجاز بغير المعتاد بالضرورة لأنه إذا عجز عما هو من عادته، وهو متدرب فيه عارف بأصوله وقواعده، فهو عمالا أنسة له به أعجز «1» ، وذلك كما إذا قيل للنجار: اعمل مثل هذا الباب. فلم يقدر.
(1) يقول القاضي عياض- رحمه الله عن وجوه إعجاز القرآن:" فأولها حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن وفرسان الكلام قد خصوا من البلاغة والحكم ما لم يخص به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة اللسان ما لم يؤت إنسان ومن فصل الخطاب ما يقيد الألباب، جعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة وفيهم غريزة وقوة يأتون منه على البديهة بالعجب ويدلون به إلى كل سبب
…
" ثم بين أنهم كانوا على مقدرة بلاغية وفصاحة بيانية لم يصل إليها أحد فقال:" منهم البدوي ذو اللفظ الجزل والقول الفصل، والكلام الفخم والطبع الجوهري والمنزع القوي. ومنهم الحضري ذو البلاغة-
فإنا نعلم بالضرورة أنه عن صناعة الزركش «1» ، وخياطة الثياب الرفيعة، ونسخ الخط المحرر، إذا لم يكن ذلك من صناعته أعجز، وأعجز.
ولهذا لما تحداهم بسورة منه فعجزوا. دل على أنهم عن معارضة سورتين فأكثر أعجز.
وأما ثالثا: فقوله:" هو كلام لا يفضل جميع الكلام فهو جنس واحد"
قلنا: الجواب من وجهين:
أحدهما: لا نسلم أنه لا يفضل جميع الكلام، بل يفضله بخصيصة الإعجاز كما بينا وذلك مدرك بالحس والاستدلال. أما الحس فإن كل من سمعه يحس من نفسه إدراك أنه ليس بكلام «2» آدمي، وأما الاستدلال فبعجز «3» العرب عن معارضته.
- البارعة والألفاظ الناصعة والكلمات الجامعة والطبع السهل والتصرف في القول القليل الكلفة الكثير الرونق الرقيق الحاشية وكلا البابين فلهما في البلاغة الحجة البالغة والقوة الدامغة لا يشكون أن الكلام طوع مرادهم والبلاغة ملك قيادهم قد حووا فنونها واستنبطوا عيونها ودخلوا كل باب من أبوابها وعلوا صرحا لبلوغ أسبابها
…
فما راعهم إلا رسول كريم بكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، أحكمت آياته وفصلت كلماته وبهرت بلاغته العقول وفصاحته على كل مقول
…
".
[الشفاء 1/ 166 - 167]: قلت: فهذا كما قال الطوفي إعجاز بمعتاد عندهم كان أبلغ مما لو أعجزهم بغير المعتاد عندهم.
(1)
الزركشة: كلمة فارسية مركبة من" زر" أي الذهب و" كش" أى: ذو. والمقصود بها نسج الحرير بالذهب.
[معنى لا إله إلا الله، لمحمد بن عبد الله الزركشي المتوفى سنة 794 هـ هامش ص: 19 بتحقيق علي محي الدين القره داغي].
(2)
فى (م): كلام.
(3)
في (ش): فعجز.
الوجه الثاني: إن سلمنا أنه مع الكلام جنس واحد. فكذلك قلب العصا، وإحياء الموتى مع جنس الفعل جنس واحد، وإنما اختصا «1» عليه بخصيصة الإعجاز كذلك القرآن. والله أعلم.
وأما رابعا: فقوله:" تتوزع النبوة على كل فصيح بليغ بمرتبته من الفصاحة فينال من النبوة ما يستوجبه".
جوابه من وجوه:
أحدها: أنا لا نسلم إيجاد الجنس في القرآن وسائر الكلام/ لأن هذا صفة الإله القديم «2» وذاك صفة المخلوق المحدث،/ وإنما يطلق عليها كلام، وكلام.
كما يطلق على الباري- سبحانه- وما سواه «3» موجود وموجود، وحينئذ لا يلزم التماثل فلا يلزم التوزيع.
(1) فى (أ): اختصنا.
(2)
القديم في اللغة: هو المتقدم على غيره. فيقال: هذا قديم للعتيق وهذا حديث للجديد. وهذا الاسم يستعمل في المتقدم على غيره. كما قال تعالى: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [سورة يس: 39] والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول قديم، قال تعالى: وإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ [سورة الأحقاف:
11] أي متقدم في الزمان ويأتي على صيغة المبالغة:" الأقدم" كما في سورة الشعراء: 76:
أَنْتُمْ وآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ وهذا الاسم ليس من أسماء الله الحسنى لأنه مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها. وقد جاء الشرع بما أحسن منه وهو اسم الأول. والأول هو الذي ليس قبله شيء. وقد كره بعض السلف اطلاق لفظ القديم على الله لما ذكر هنا. ولكن إذا استعمل بمعنى أنه المتقدم على المخلوقات والحوادث كلها فلا حرج في ذلك وإن لم يكن من الأسماء الحسنى. والله أعلم. [انظر شرح العقيدة الطحاوية ص 114 - 115].
(3)
«وما سواه» ليست في (ش).
الثاني: أن المسيح عندكم إله، أو ابن الإله، وأجمعنا على أن الأنبياء شاركوه «1» في جنس الخارق فلزمكم على «2» هذا المساق أن توزعوا الإلهية أو البنوة عليه وعليهم فيحصل لكل نبي قسط من الإلهية، أو بنوة الإله في مقابلة قسط من ظهور الخارق على يديه.
الثالث: أن آدم شارك المسيح في أنه ليس من بشر ذكر، وسائر بني آدم شاركوه في أنهم من أم. فيجب أن توزع الإلهية أو البنوة بينهم فيحصل لكل من بني آدم منها بحسب ما شاركه فيه.
الرابع: أن إعجاز القرآن ليس بمجموع مفهوم الفصاحة، ولا بالقدر المشترك منها بينه وبين سائر الكلام وإنما إعجازه بفصاحته/ الخاصة به، وهي القدر الزائد على نهاية فصاحة البشر، وذلك ليس مشتركا بينه وبين غيره حتى يتجه التوزيع في النبوة بحسبه، وهذا كما تقولون أنتم: إن خصوصية المسيح على سائر الأنبياء هو اتحاد كلمة الله به أو ظهور اللاهوت في ناسوته، وليس ذلك لأحد غيره «3» .
(1) فى (أ): ساكوه.
(2)
على: سقطت من (أ).
(3)
قلت: ذكر القاضي عياض رحمه الله أربعة أوجه لإعجاز القرآن تتلخص فيما يلي:
الأول: حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب. وأشرت إليه فيما سبق.
الثاني: صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب
…
فلم يوجد قبله ولا بعده نظير له ولا استطاع أحد مماثلة شيء منه بل حارت فيه عقولهم
…
وقصة الوليد ابن المغيرة وعتبة بن ربيعة تدلان على هذا الوجه.-
قال:" فإن «1» قلت: إعجازه من جهة أنه لم يعارضه أحد من الناس ولم يأت بسورة من مثله. قلنا: إن محمدا لم يقل للناس في قرآنه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ والْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ
…
(88)«2» وقوله: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
…
(23)«3» : إلا بعد أن تأسست رئاسته، وظهر سلطانه فمن كان يقدم على معارضته وأسيافه تقطر دما؟ ولذلك لما شرع النضر بن الحرث في معارضته أنهض إليه علي بن/ أبي طالب فقتله شر قتلة «4» .
وأما بعد موته فالحماية عنه بسيوف ملوك المسلمين عظيمة لا يقدم أحد معها
- الثالث: ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات وما لم يكن ولم يقع فوجد كما ورد على الوجه الذي أخبر به. كقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ
…
الآية [سورة الفتح: 27] وغير هذا كثير.
الرابع: ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع المنسوخة مما كان لا يعلم منه الفذ من أحبار أهل الكتاب
…
فيورده على وجهه ويأتي به على نصه فيتعرف العالم بذلك بصحته وصدقه وأن مثله لم ينله بتعليم. [انظر الشفاء 1/ 166 - 177، وفتح الباري 9/ 7].
(1)
في (ش): وإن.
(2)
سورة الإسراء، آية:88.
(3)
سورة البقرة، آية:23.
(4)
انظر طبقات ابن سعد 5/ 448. وانظر ص: 555 - 556 من هذا الكتاب.
على ذلك، وقد عارضه أبو العلاء المعري «1» ، والعنسي «2» بعد موته عارضه ومن معارضته له:" إنا أعطيناك الجماهر، فصل لربك وهاجر، ولا تطع كل كافر وساحر" ولأجل ذلك صلب على العود. وقيل له، وهو/ في الصلب:" إنا أعطيناك العمود، فصل لربك على العود، وأنا ضامن عنك أن لا تعود"«3» .
(1) أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري الفيلسوف الشاعر المشهور.
أصابه الجدري في صغره فعمي في الرابعة من عمره، وقال الشعر وهو ابن إحدى عشرة سنة.
اتهم بالزندقة ومما يؤخذ عليه ويدل على كفره ما ينسب إليه:
أتى عيسى فأبطل شرع موسى وجاء محمد بصلاة خمس وقالوا لا نبي بعد هذا فضل القوم بين غد وأمس ومهما عشت من دنياك هذي فما تخليك من قمر وشمس وأما كتابه الذي عارض به القرآن فهو:" الفصول والغايات في محاذاة السور والآيات" وقد طبع فسماه محققه: محمود حسن زناتي:" الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ".
[انظر سير أعلام النبلاء وهامشة 18/ 23 - 39، والبداية والنهاية 12/ 72 - 76، والأعلام 1/ 157].
(2)
عبهلة بن كعب بن عوف العنسي المذحجي، ذو الخمار. متنبئ مشعوذ من اليمن كان باطشا جبارا، أسلم لما أسلمت اليمن، وارتد في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وكان أول مرتد في الإسلام، كان له شيطان يخبره بالمغيبات فضل به كثير من الناس، وكان بين ظهوره وقتله نحو أربعة أشهر، ولكن استطارت فتنته استطارة النار، وتطابقت عليه اليمن والسواحل وعدن وامتد إلى الطائف، وبلغ جيشه سبعمائة فارس. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتاله فقتل غيلة زمن مرض موت النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل المسلمون الخبر من اليمن إليه بالمدينة فجاءه خبر السماء ليلة قتل الأسود، ووصلت البشارة أبا بكر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وذلك سنة إحدى عشرة من الهجرة.
[انظر الكامل في التاريخ 2/ 227 - 231، شذرات الذهب 1/ 13 - 14، وفتح الباري 8/ 93].
(3)
فى (م):" ألا تتعود" ولم أجد هذه النصوص فيما استطعت مراجعته من المراجع.
قلت: الجواب عن هذا:
أما قوله:" إن محمدا لم يتحد الناس بالقرآن إلا بعد تأسيس رئاسته فلم يقدم أحد على معارضته" فهو كذب وافتراء، بل هذه سورة البقرة من أوائل ما نزل من القرآن، وفي أولها «1»: وإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ
…
(23) إلى قوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا ولَنْ تَفْعَلُوا
…
(24)«2» وتلا حم السجدة على" عتبة بن ربيعة"«3» حتى بلغ قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمُودَ (13)«4» فقال له «5» : حسبك يا ابن أخي. نشدتك الله والرحم إلا سكت، ثم رجع إلى أصحابه، وكانوا بعثوه إليه. ليستنزله عما يقول، فقالوا: نقسم بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي فارقكم به، وكان ذلك
(1) فى (أ):" وفي ألها".
(2)
سورة البقرة، آية: 23 - 24.
(3)
عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، أبو الوليد. كبير قريش وأحد سادتها في الجاهلية خطيبا نافذ القول. أول ما عرف بذلك عند ما توسط للصلح في حرب الفجار بين هوزان وكنانة. فرضي الفريقان بحكمه، وانقضت الحرب على يديه، أدرك الإسلام فطغى وتكبر عن الدخول فيه، وكان من عتاة المحاربين للنبي صلى الله عليه وسلم بارزه عبيدة- رضي الله عنه في بدر فاختلفا ضربتين أصيب عبيدة بضربة مات منها بعد الغزوة فمال علي وحمزة- رضي الله عنهما على عتبة فقتلاه.
[انظر فتح الباري 7/ 297، والأعلام 4/ 200].
(4)
سورة فصلت (حم، السجدة) الآية: 13.
(5)
له: سقطت من (م).
انبهارا منه بالقرآن، وخشية أن تأخذه الصاعقة «1» .
وسمعه الوليد بن المغيرة يقرأ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والْإِحْسانِ «2» الآية فقال فيه ما قدمنا ذكره «3» . وقال: وما هو قول بشر، وكلهم كانوا يعرفون عجزهم عن مثله. وهو بينهم وحيد مستضعف، حتى إنهم أخرجوه إلى الطائف، ثم عاد فاستجار بالمطعم بن عدي «4» ، حتى بلّغ القرآن، وكان يقول:" من يمنعني/ من قريش. فإنهم قد منعوني أن أبلغ كلام ربي"؟ «5» .
(1) انظر القصة في دلائل النبوة للبيهقى بثلاث طرق (2/ 202 - 206)، وأوردها ابن كثير في تفسيره (4/ 90 - 91) عن عبد بن حمي، د وأبو يعلي في مسنده، والبزار، وابن اسحاق في السيرة، والبغوي في التفسير، وانظر سيرة ابن هشام المجلد الأول ص 292.
(2)
سورة النحل، آية:9.
(3)
انظر ص: 601 من هذا الكتاب. وقد خرجت القصة هناك.
(4)
المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، رئيس بني نوفل في الجاهلية وقائدهم في حرب الفجار، أجار النبي صلى الله عليه وسلم لما انصرف من الطائف إلى مكة لما طلب منه النبي ذلك فتسلح المطعم وأهل بيته وخرج بهم حتى أتوا المسجد الحرام وأرسل على النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل فدخل وطاف بالبيت وصلى عنده، ثم انصرف إلى منزله آمنا، وكان أحد الذين مزقوا الصحفية، عمي في كبره ومات قبل وقعة بدر، رثاه حسان بن ثابت وفيه الحديث الذي أخرجه البخاري في" فرض الخمس، باب ما منّ النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى
…
":؛ لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء- يعني أسارى بدر- لتركتهم له"، وقصة جواره للنبي صلى الله عليه وسلم أخرجها ابن اسحاق وابن هشام في السيرة (المجلد الأول ص 381) وابن سعد في الطبقات الكبرى (1/ 211 - 212) وانظر فتح الباري 7/ 324، والبداية والنهاية 3/ 137 - 138.
(5)
أخرج أبو داود في كتاب السنة، باب في القرآن، عن جابر- رضي الله عنه قال:" كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس في الموقف فقال:" ألا رجل يحملني إلى قومه فإن قريشا-
فلو أمكنهم معارضته لما كان لهم منه مانع. ثم سلمنا أنه لم يتحدّ به إلا بعد ظهور سلطانه فقد كانت طوائف العرب كثيرة، وأكاسرة «1» الفرس وقياصرة الروم «2» موجودين. فقد كان لمن له قوة المعارضة أن يأوى إلى منعه منهم، ثم يعارضه فإذا أتى بمثله بطل كونه معجزا، ثم كان من تابعه يتخلى عنه، ومن خالفه يشتد عليه حتى يؤول أمره إلى الانحلال والاضمحلال كما آل أمر" مسيلمة الكذاب" و" الأسود العنسي" و" طليحة الأسدي"«3» والأنبياء الكذبة من بني إسرائيل وما رأينا الأمر كذلك. بل لم يزل الناس يدخلون في دينه حتى طبق المشرق والمغرب.
- منعوني أن أبلغ كلام ربي" وأخرجه الترمذي في كتاب فضائل القرآن، باب حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تبليغ القرآن. بلفظ أبي داود. وقال الترمذي:" هذا حديث غريب صحيح" وأخرجه ابن ماجه في المقدمة باب فيما أنكرت الجهمية، بلفظهما، وأحمد في المسند (3/ 390) وفي آخره زيادة عنده.
(1)
أكاسرة: جمع كسرى: اسم ملك الفرس، معرب وهو بالفارسية: خسرو أي: واسع الملك، فعربته العرب فقالت: كسرى. وورد في الحديث كثيرا.
[انظر لسان العرب 5/ 142].
(2)
قياصرة: جمع قيصر: اسم ملك الروم يسمى به كل من ملكهم.
[انظر لسان العرب 5/ 104].
(3)
طليحة بن خويلد بن نوفل بن نضلة بن الأشتر الأسدي الفقعسي. أسلم، في وفد بني أسد سنة تسع للهجرة، ولما رجعوا ارتد طليحة وادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إليه ضرار بن الأوزر فضربه بالسيف فشاع بين الناس أن السلاح لا يؤثر فيه، وبعث إليه أبو بكر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في جيش فانهزم طليحة وفر إلى الشام وبقي حتى أسلمت أسد وغطفان فأسلم ووفد على عمر بالمدينة فبايعه وأبلى في الفتوح بلاء حسنا واستشهد في نهاوند. [انظر الإصابة 2/ 234 (ت: 4290)، والأعلام 3/ 230].
وأما قوله:" قتل النضر بن الحرث، حيث شرع في معارضته"/ فليس بصحيح أيضا، بل إنما قتله بعد أن أسره يوم بدر في جملة الكفار «1» ، ولا شك أنه كان يرد على الفرس في بلادهم فحفظ شيئا من أخبار رستم «2» "/ و" اسفنديار" «3» فكان يقول لقريش أنا أحدثكم كما يحدثكم به محمد «4» ، ويحدثهم بذلك، وهو في عزة ومنعة من أهله بمكة قبل بدر بحين، ومحمد بينهم مستضعف فلو كان ما عنده مما يصلح معارضا لاستفاض واشتهر، وملأ البدو والحضر، ومع هذا فإنه أساء إلى النبي- عليه السلام غير ذلك كثيرا «5» ، ثم لما
(1) قتل في معركة بدر مع أبي جهل كما قال المؤلف سابقا أو مات بعدها من أثر ضربة فيها.
[انظر ص 555 - 556 من هذا الكتاب].
(2)
رستم الشديد أو السنديد بن داستان بن زيمان بن جوذنك بن كرشاسب صاحب العلوم والآداب الفارسية، كان رقيقا وأعتق وأعطي ولاية بعض بلاد فارس. من قبل الفرس في وقته.
[انظر سيرة ابن هشام المجلد الأول ص 358، الكامل في التاريخ 1/ 137].
(3)
اسفنديار أخو رستم المتقدم وأحد قادة الفرس ضد المسلمين وله قتال معهم في الفتوح أيام عمر- رضي الله عنه وأسر في فتح أذربيجان.
[انظر الكامل في التاريخ 3/ 10، 13].
(4)
انظر سيرة ابن هشام المجلد الأول ص 300 - 358، وتفسير الطبري 18/ 182، عن ابن عباس بسند ضعيف.
(5)
انظر مغازي الواقدي 1/ 106.
قتله وسمع ما قالت أخته" قتيلة بنت الحرث"«1» في مرثيته واستعطاف النبي عليه. قال:" لو سمعت شعرها قبل أن أقتله لما قتلته"«2» .
وأما حماية ملوك المسلمين عنه، فلا تمنع من معارضته المعارضين لجواز أن يعارضوه سرا، ثم يموتوا فتظهر معارضتهم كما ظهرت معارضات/ المعري والمتنبي" «3» وغيرهم من الزنادقة، بل هذا الخصم بعينه صنف هذا الكتاب في
(1) قتيلة بنت الحارث. هكذا ذكر بعض المؤرخين. وقيل: بنته قتيلة بنت النضر بن الحارث شاعرة كانت زوجة عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر.
قيل: إنها أسلمت. وقيل: لم تسلم لله وهي التي جذبت رداء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يطوف وأنشدت الأبيات التي أشار إليها الطوفي ولم يذكرها ومنها:
أمحمد يا خير ضنء كريمة في قومها والفحل فحل معرق ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق أو كنت قابل فدية فلينفق بأعز ما يغلو به ما ينفق [انظر الإصابة 4/ 490 ت: 889، والأعلام 5/ 190، والروض الأنف 3/ 134، والبداية والنهاية 3/ 306، وديوان الحماسة 1/ 477، وسيرة ابن هشام المجلد الثانى ص 42].
(2)
ذكر هذا ابن حجر في الإصابة الموضع السابق نقلا عن الواقدي. وقال ابن هشام في الموضع السابق أيضا ص 43:؛ فيقال والله أعلم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه هذا الشعر قال: لو بلغني هذا قبل قتله لمننت عليه"، اهـ. فهذا وصيغة نقل ابن حجر أيضا وفى قول الزبير فيما نقله عن ابن حجر:" سمعت بعض أهل العلم يغمز هذه الأبيات ويقول إنها مصنوعة"- ما يدل على ضعفها وأن ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم من بكاء وندم على قتل النضر غير صحيح. وأنه قول باطل.
وإلا لكان منقولا نقلا موثوقا ومشهورا. والله أعلم.
(3)
أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكوفي الكندي، الشاعر الحكيم المتنبّئ لقب بذلك لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة- أرض بحيال الكوفة مما يلي الشام- ولما-
الطعن على الإسلام مستخفيا، ثم إنه على طول الأيام ظهر ونوقض، وليس عند أحد من رؤساء الإسلام منه خبر حتى الآن.
وهذا الكلام يحققه قول المسيح في الإنجيل:" ما من مكتوم إلا سيظهر ولا خفي إلا سيعلن"«1» .
وأما معارضة المعري وأضرابه من الزنادقة، فهي ركيكة تشبه لحاهم. ولو كانت مساوية للقرآن في صفاته لظهر لها عصابة من المسلمين ينصرونها ثم اختلفت كلمة الإسلام.
كما أن مناقب أبي بكر وعلي لما كانا متساويين أو متقاربين اختلفت الأمة فيهما على قولين: أيهما أفضل؟ «2» وفضائل
- فشا أمره خرج إليه لؤلؤ أمير حمص نائب الإخشيد فاعتقله زمانا ثم استتابه وأطلقه. وله شهرة واسعة في الشعر والحكم والأدب واللغة مدح كثيرا من الأمراء من أجل الولاية وهجا بعضهم لأنه لم يوله. مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
[انظر ترجمته في تاريخ بغداد 4/ 102 - 105، مقدمة ديوانه بشرح اليازجي].
(1)
انظر إنجيل متى الأصحاح العاشر.
(2)
القولان هما: قول أهل السنة والجماعة وقول الشيعة: فالشيعة يفضلون عليا على أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما يقولون: إنه أحق بالإمامة منهما. والشيعة أيضا مختلفون في شأن علي- رضي الله عنه فمنهم من يرى أنه إله، ومنهم من يرى أن الإله حل فيه، ومنهم من يقول إن عليا رفع إلى السماء وسينزل ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا وظلما
…
إلى غير ذلك مما ذهب إليه الشيعة من الباطل. أما القول الثاني: فهو قول أهل السنة والجماعة أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الصحابة وأحق بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهذا هو الحق. أخرج البخاري- رحمه الله في كتاب فضائل الصحابة، باب فضل أبي بكر- رضي الله عنه: عن محمد ابن الحنيفية قال:
قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر.-
مروان بن الحكم «1» ومعاوية «2» وعمرو بن العاص، بل سلمان «3» ، وعمار «4» ،
- وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثم أنت. قال: وما أنا إلا رجل من المسلمين وهذا تواضع منه رضي الله عنه ومعرفة بالفضل لأهله. ولكن التفاضل بين الصحابة- رضي الله عنهم ليس من باب العصبية والحمية. وقد فضل أبو بكر على الصحابة لسبقه للإسلام وزيادة تقواه وإيمانه. والله أعلم.
(1)
أبو الحكم وأبو عبد الملك وأبو القاسم: مروان بن الحكم بن أبي العاصي ابن أمية بن شمس بن عبد مناف القرشي الأموي. صحابي عند طائفة كثيرة لأنه ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه في صلح الحديبية، كان كاتب عثمان بن عفان أيام خلافته، وعده ابن سعد والواقدي من التابعين لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وعمر مروان ثماني سنين. عايش مروان فتنة مقتل عثمان وكان له دور فيها، وقاتل في وقعة الجمل، وانهزم هو وأصحابه ثم سار إلى معاوية فقاتل معه في صفين ثم أمنه عليّ- رضي الله عنه فبايعه وانصرف إلى المدينة فأقام بها حتى خلافة معاوية فولاه المدينة.
كان يكثر السؤال عنه الإمام علي يوم الجمل، ويقال له: سيد شباب قريش. قيل لمعاوية: من تركت لهذا الأمر بعدك فقال:" أما القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، الشديد في حدود الله، مروان بن الحكم" وأثنى عليه الإمام أحمد ومالك. وقيل روي عن أحمد ضد هذا.
ويروى أن مروان لعن عليا عند توليه المدينة في عهد معاوية- والله أعلم- وهو أول خلفاء بني أمية بعد معاوية بن يزيد، مات بدمشق سنة خمس وستين للهجرة.
[انظر البداية والنهاية 8/ 257 - 260، والإصابة 3/ 477 - 478، ت: 8318].
(2)
تقدمت ترجمته في ص: 99 من قسم الدراسة.
(3)
تقدمت ترجمته في هامش ص: 549.
(4)
عمار بن ياسر بن مالك بن كنانة بن قيس العنسي المذحجي، يكنى أبا اليقظان، كان من السابقين للإسلام وممن عذب في الله، هاجر إلى الحبشة وصلى القبلتين. وشهد بدرا والمشاهد كلها، وشهد اليمامة فأبلى فيها، وفيها قطعت أذنه. وكان يقول فيها وهو على صخرة:" يا معشر المسلمين أمن الجنة تفرون، أنا عمار بن ياسر هلموا إليّ" وقد تذبذبت أذنه وهو يقاتل أشد القتال. قتل في صفين سنة سبع وثلاثين، ودفنه علي- رضي الله عنه.
[انظر الاستيعاب 3/ 1135 - 1140، وصفة الصفوة 1/ 442 - 446].
بل غالب الصحابة. لما لم تقارب مناقب هذين الرجلين لم تختلف الأمة فيهم «1» فكما أنه ليس كل فضيلة توجب النزاع في صاحبها وغيره. كذلك كل معارض لا يصلح أن يكون معارضا مفرقا للناس.
وأيضا: فإن كل من عارض القرآن إنما سرق بعض ألفاظه، وتابع أسلوبه فلم يلحق به لأنه مادته، كما أن التلاميذ لما كانت مادتهم في التأبيد من جهة المسيح لم يفضلهم أحد عليه، ولم يسوهم به.
وأما" العنسي" الذي صلب على العود فلا أحقق لفظه لأنه مشتبه الصورة في الكتاب الذي نقلت منه.
فإن أراد الأسود العنسي- بعين مهملة ونون وسين مهملة- فذاك قتل غيلة «2» ، ولم/ نعلم أنه صلب، وإن أراد القيسي أو غيره من الألفاظ فلا نعلم من هو إلا أن «3» يكون مسيلمة الكذاب، ولم نعلم أنه صلب أيضا، ومن قرآنه «4»:" ضفدع بنت «5» ضفدعين/. نقي كم «6» تنقين. أعلاك في الماء
(1) قال الله تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ورِضْواناً ويَنْصُرُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ
…
إلى قوله: رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة الحشر، آية: 8 - 10].
(2)
خبر مقتل الأسود العنسي في صحيح البخاري (كتاب المغازي، باب قصة الأسود العنسي) وهل كان مقتله في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما سبق في ترجمته ص: 608، أم بعد وفاته؟ الأرجح أن قتله كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أتاه خبره وهو في مرض موته الذي مات فيه- والله أعلم-.
[انظر فتح الباري 8/ 93، والاستيعاب 3/ 1265، والبداية والنهاية 6/ 310].
(3)
في (ش): من هو الآن يكون.
(4)
فى (أ):" ومن قراءة".
(5)
في تاريخ الطبرى:" ابنة".
(6)
في تاريخ الطبري:" ما".
وأسفلك في الطين" «1»." والزارعات زرعا، فالحاصدات حصدا،
…
فالطاحنات طحنا، فالخابزات خبزا، فالآكلات أكلا، فاللاقمات لقما، إهالة وسمنا، لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم لا يعدلون" «2» .
وهذا مع كونه منسوجا على أسلوب سورة" والمرسلات عرفا" فهو ضحكة مثل قائله.
وكذا قول القائل:" إنا أعطيناك الجماهر" وقول بعضهم:" إنا أعطيناك اللقلق، فصل لربك وازعق، إن شانئك هو الأبلق" فإن هذا منسوج على منوال:
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1).
ولقد عدم أهله من يضحك عليهم، فضحكوا على أنفسهم ولعمري إن قول القائل:" إنا أعطيناك العمود" إلخ خير وأفصح وأرشق من هذا كله وشعر الشعراء المجيدين كجرير «3»
(1) انظر تاريخ الطبري 3/ 284، ومقامع هامات الصلبان" بين الإسلام والمسيحية" ص 232، على اختلاف بين المصادر في الألفاظ المنسوبة إلى مسيلمة الكذاب.
(2)
انظر تاريخ الطبري 3/ 284، ومقامع هامات الصلبان ص 232، وألفاظ النص مختلفة عندهما.
(3)
أبو حرزة جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي بن بدر التميمى البصري من فحول الشعراء، وهو أشعر أهل عصره، ولد باليمامة، وكانت بينه وبين الفرزدق مهجاة ونقائض ففاق عليه جرير، وهجا الأخطل النصراني أيضا. توفي باليمامة سنة إحدى عشرة ومائة وعمره نيف وثمانون سنة [انظر وفيات الأعيان 1/ 321 - 327، وسير أعلام النبلاء 4/ 590 - 591، والبداية والنهاية 9/ 260].
والفرزدق «1» وذي الرمة «2» ، ومن المحدثين أبو تمام «3» والبحتري «4» والمتنبّئ خير من هذه المعارضات/ بما لا يتناهى، وهي دون القرآن بما لا يتناهى، والله أعلم.
(1) أبو فراس همام بن صعصعة بن ناحية بن عقال التميمي البصري المعروف بالفرزدق الشاعر المشهور، صاحب جرير، من شعراء الدولة الأموية ولشعره أثر في حفظ اللغة، حتى قيل: لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث اللغة. قلت: وهذه مبالغة فقد حفظها الله بحفظ هذا القرآن والسنة المطهرة. توفي بالبصرة سنة عشر ومائة وقد قارب المائة عام.
[انظر سير أعلام النبلاء 4/ 590، ووفيات الأعيان 6/ 86 - 100، وشذرات الذهب 1/ 141 - 144].
(2)
ذو الرمة: غيلان بن عقبة بن مسعود أو نهيس بن الحارث بن عمرو المضري. والرمة: الحبل.
من فحول الشعراء في عصر بني أمية، كان يشبب النساء مقلدا في ذلك الشعراء الجاهلين. توفي سنة سبع عشرة ومائة.
[انظر سير أعلام النبلاء 5/ 267، والبداية والنهاية 9/ 319، والأعلام 5/ 124].
(3)
أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، ولد في أيام الرشيد في قرية جاسم من قرى الشام كان نصرانيا ثم أسلم، وكان شعره متميزا عن غيره، تصدر شعراء عصره وأصبحت له الزعامة بينهم، وكان لا يتكسب بشعر يخافه الشعراء أن يتكسبوا بشعرهم حتى مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين على الأرجح.
[انظر تاريخ بغداد 8/ 248، وسير أعلام النبلاء 11/ 63 - 68، والنجوم الزاهرة 2/ 261].
(4)
الوليد بن عبيد بن يحيى الطائي أبو عبادة البحتري، شاعر كبير يقال لشعره:" سلاسل الذهب" وهو أحد الثلاثة الذين كانوا أشعر أبناء عصرهم. المتنبئ، وأبو تمام، والبحتري. اتصل بالمتوكل العباسي في بغداد ثم عاد إلى الشام. توفي سنة أربع وقيل خمس وثمانين ومائتين للهجرة.
[انظر تاريخ بغداد 13/ 476 - 481، وسير أعلام النبلاء 13/ 386 - 387، وشذرات الذهب 2/ 186 - 190].