الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[متى يباح الكذب وتنزيه الأنبياء منه]
مناقض لما في الفصل السادس والخمسين «1» منه حيث يقول:" من حلف بالسماء فهو يحلف بكرسي الله والجالس عليه" فإنه يقتضي صحة الحلف بالسماء/ وجوازه «2» ، وأن الحالف بها حالف بالله سبحانه.
فانظر أيها العاقل إلى هؤلاء الذين يقدحون في دين الإسلام بهذا الكلام المتناقض المتهافت.
وذكر حديث قتل كعب بن الأشرف «3» ، وأن محمد بن مسلمة «4» خدعه
(1) في التراجم الحديثة: الأصحاح" الفصل" الثالث والعشرين.
(2)
قلت: لا يجوز الحلف بغير الله لأن حلف المخلوق بغيره سبحانه يقتضي تعظيم المخلوق به ولا أعظم منه سبحانه. ومن النهي عن الحلف بغيره (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)[أخرجه الترمذي في النذور، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله، وأحمد في المسند (2/ 125) وقال الترمذي:" هو حديث حسن"]. قلت: ودين الأنبياء جميعهم لا يجيز تعظيم غير الله ولا الحلف به، لأن ملتهم التوحيد، والنصارى يفترون على الله ورسله، والمسيح بريء من هذا القول الذي وضعوه في أناجيلهم.
(3)
كعب بن الأشرف الطائي من بني نبهان، وهم بطن من طيئ، كان أبوه أصاب دما في الجاهلية فأتى المدينة فحالف بني النضير فشرف فيهم، وتزوج عقيلة بنت أبي الحقيق، فولدت له كعبا، وكان طويلا جسيما ذا بطن وهامة، وهجا المسلمين بعد وقعة بدر، وخرج إلى قريش بمكة وحالفهم عند أستار الكعبة على قتال المسلمين
…
ثم رجع إلى المدينة، وتشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، وأكثر من هجو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستعلن بعداوة دين الله، والنبي صلى الله عليه وسلم فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، فانطلق إليه خمسة من المسلمين منهم محمد بن مسلمة فقتلوه في ظاهر حصنه الذي كان يقيم فيه قرب المدينة سنة ثلاث من الهجرة. [انظر فتح الباري 7/ 337 - 338، والأعلام 5/ 225].
(4)
أبو عبد الرحمن محمد بن مسلمة بن خالد بن عدي بن مجدعة الأوسي الأنصاري شهد-
حتى استمكن منه فقتله، وذلك بإذن النبي- عليه السلام «1» .
قلت: ووجه السؤال منه: أنهم خدعوه بإذن محمد حتى أمن وسلم نفسه إليهم ثم قتلوه وهذا غدر.
قلت: وجوابه من وجهين:
أحدهما: أن هذا من باب الخديعة في الحرب، وهو جائز في دين الإسلام وقد قال النبي- عليه السلام (الحرب خدعة) «2» وغاية ما في الباب: أنه كذب.
- بدرا وما بعدها إلا تبوك فيقال إن النبي- صلى الله عليه وسلم استخلفه على المدينة، كان ممن سارعوا بمالهم في العسرة، ورغّب الصحابة في ذلك، بعثه النبي- صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير ليتحدث معهم في أمر جلائهم، له قصص تدل على قوته في الحق وزهده في الدنيا، وله قصص مع عمر بن الخطاب.
حمد الله على أن جعل في رعيته من هو مثل محمد. ضرب بسيفه الحجر حتى كسره أيام الفتنة تنفيذا لوصية النبي- صلى الله عليه وسلم له بذلك، ولزم المدينة حتى مات في صفر سنة ثلاث وأربعين للهجرة.
[انظر حياة الصحابة 1/ 391، 403، 404، 421، 2/ 75، 81، 404، وشذرات الذهب 1/ 53، وسير أعلام النبلاء 2/ 369 - 373].
(1)
أخرجه البخاري عن جابر في كتاب الرهن، باب رهن السلاح، وفي كتاب الجهاد، باب الكذب في الحرب، وفي كتاب المغازي، باب قتل كعب بن الأشرف. وأخرجه مسلم في كتاب الجهاد، باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود، وأبو داود في كتاب الجهاد، باب في العدو يؤتى على غرة ويتشبه بهم.
(2)
أخرجه البخاري في الجهاد، باب الحرب خدعة، عن أبي هريرة وعن جابر، وأخرجه مسلم في الجهاد، باب جواز الخداع في الحرب، عنهما حديث 17، 18، وأبو داود في الجهاد، باب المكر في الحرب، عن جابر وكعب بن مالك. وأخرجه الترمذي في الجهاد، باب الرخصة في الكذب والخديعة في الحرب، عن جابر، وقال:" وفي الباب عن علي وزيد بن ثابت وعائشة وابن عباس وأبي هريرة وأسماء بنت يزيد بن السكن، وكعب بن مالك وأنس، وهذا حديث حسن صحيح". وأخرجه ابن ماجه في الجهاد، باب الخديعة في الحرب عن عائشة، وأخرجه أحمد في المسند في عدة مواضع منها:(1/ 81، 90).
لكن الكذب ليس قبيحا لذاته عندنا بل «1» لما فيه من المفسدة. فإذا تضمن مصلحة راجحة على مفسدته تعينت. وكان من قبيل اعتبار المصالح. ولا شك أن قتل كعب ابن الأشرف تضمن مصلحة دينية، وهو أنه كان يهجو النبي- عليه السلام والمسلمين ويقذف نساءهم في شعره، ويأخذ أعراضهم، وهو يهودى ملعون من أعداء المسيح وقتلته/- على زعمك «2» - وبعض هذا يوجب قتله وقتل كل يهودي على وجه الأرض.
وأجمع «3» العقلاء على أن الكذب واجب على من رأى ظالما يتبع نبينا أو وليا أو مظلوما بالجملة ليقتله. إذا سأله فليصده عنه «4» بالكذب، ولو صدق حتى قتل ذلك المظلوم لأثم بالصدق.
قال العلماء: الكذب: واجب، ومندوب، ومباح، وحرام.
فالواجب: كالصورة المذكورة آنفا. والمندوب: الكذب للإصلاح «5» بين
(1) بل: سقطت من (م).
(2)
في (م) على زعمكم. قلت: قال الله تعالى: وبِكُفْرِهِمْ وقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وما قَتَلُوهُ وما صَلَبُوهُ ولكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158). [سورة النساء: 155 - 158].
(3)
في (أ): واجمعوا.
(4)
في (ش)، (م): إذا سأله عنه فليصده عنه بالكذب.
(5)
في (أ): الإصلاح.
المؤمنين. وفي الحديث الصحيح: (ليس بالكاذب من أصلح بين اثنين فقال خيرا، أو نمى «1» خيرا «2» والمباح: كذب الرجل لامرأته في الوعد والتأميل «3» ، ليكف شرها عنه أو لا تكدر «4» عليه. والحرام: ما سوى ذلك وهو كل كذب لم يتضمن مصلحة راجحة على مفسدته «5» .
(1) من نميت الحديث أنميه إذا بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير. فإذا بلغته على وجه الإفساد والنميمة قلت نميّته بالتشديد. [انظر فتح الباري 5/ 299].
(2)
أخرجه البخاري عن أم كلثوم بنت عقبة في الصلح، باب ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس.
ومسلم في البر، باب تحريم الكذب وبيان المباح منه، حديث 101، وزاد:" ولم أسمع يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: الحرب والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها" وأخرجه أبو داود في الأدب، باب في إصلاح ذات البين. والترمذي في البر، باب في اصلاح ذات البين، وأحمد في المسند (6/ 403، 404) وهذا لفظ أبو داود والترمذي.
(3)
من أملته تأميلا: والأمل رجاء حصول المطلوب. [انظر المصباح المنير 1/ 30، ومختار الصحاح ص 25].
(4)
من الكدر: وهو ضد الصفو. [انظر مختار الصحاح ص 564، والمصباح المنير 2/ 637].
(5)
قال الإمام النووي في رياض الصالحين، باب بيان ما يجوز من الكذب:" اعلم أن الكذب وإن كان أصله محرما، فيجوز في بعض الأحوال بشروط
…
ومختصر ذلك: أن الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن تحصيله بغير الكذب: يحرم الكذب فيه وإن لم يكن تحصيله إلا بالكذب جاز الكذب. ثم إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا كان الكذب مباحا، وإن كان واجبا كان الكذب واجبا: فإذا اختفى مسلم من ظالم يريد قتله أو أخذ ماله، وأخفى ماله وسئل إنسان عنه، وجب الكذب بإخفائه
…
والأحوط في هذا كله أن يورّى
…
ولو ترك التورية وأطلق عبارة الكذب فليس بحرام في هذا الحال، واستدل العلماء بجواز الكذب في هذا الحال بحديث أم كلثوم- رضي الله عنها" اهـ.
وقد صرحت التوراة بأن إبراهيم وإسحاق جميعا قال كل منهما عن زوجته:
إنها أخته «1» حين خشي عليها من" أبيمالخ" ملك الأردن وفلسطين، ولما تضمن ذلك مصلحة لم يقبح منهما. فهذا مثله سواء، لأن محمدا وأصحابه كانوا مظلومين مع كعب في هجائه لهم وقذفه لنسائهم، كما كان إبراهيم مظلوما بتغلب" أبيمالخ" ملك الأردن «2» على زوجته، لولا عصمة الله لها منه.
الوجه الثاني: أن عظيم ساليم قرية «3» سجيم لما فضح «4» بنت يعقوب وأراد أن يتزوجها صعب على بني يعقوب ذلك. فقالوا له: إن من ديننا الختان، فإن اختتنت أنت وأهل قريتك زوجناك. فلما اختتنوا جميعا دخلوا عليهم، وهم في ألم الختان لا يستطيعون الدفع عن أنفسهم فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، وهذا غدر صريح، والجواب عنه مشترك لأن/ الجميع أنبياء، وقد نصت التوراة على هذه الحكاية «5» .
وذكر حديث: أعطيت/ خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل
(1) قصة إبراهيم في سفر التكوين الأصحاح العشرين، أما قصة اسحاق فلم أجدها في التراجم الحديثة كما سبق. [انظر ص: 339 من هذا الكتاب]. وهذا من الأدلة على تأثر التوراة بالترجمة من لغة إلى لغة والتحريف فيها من قبل اليهود والنصارى، فوجود هذا النص في التوراة في التراجم التي نقل منها الطوفي وعدم وجوده في التراجم التي بأيديهم الآن دليل على تحريفهم لها. والله أعلم.
(2)
ملك الأردن: ليست في (م)، (ش).
(3)
في (ش): هوبة.
(4)
في التراجم الحديثة:" أن عظيم قرية شكيم واسمه شكيم لما فضح
…
"
(5)
انظر سفر التكوين: الأصحاح الرابع والثلاثين.