الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التَّحْكِيمِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَمِعَ أَهْلُ مِصْرَ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَاجْتَرَءُوا عَلَيْهِ وَبَارَزُوهُ بِالْعَدَاوَةِ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا سَنَذْكُرُهُ. وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ قَدْ بَايَعَ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْقِيَامِ بِطَلَبِ دَمِ عُثْمَانَ وَكَانَ قَدْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ حِينَ أَرَادُوا حَصْرَهُ ; لِئَلَّا يَشْهَدَ مَهْلِكَهُ، مَعَ أَنَّهُ كَانَ مُتَعَتِّبًا عَلَى عُثْمَانَ بِسَبَبِ عَزْلِهِ لَهُ عَنْ دِيَارِ مِصْرَ وَهُوَ الَّذِي فَتَحَهَا، وَتَوْلِيَتِهِ بَدَلَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي سَرْحٍ، فَخَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى تَغَضُّبٍ وَغَيْظٍ، فَنَزَلَ قَرِيبًا مِنَ الْأُرْدُنِّ، فَلَمَّا قُتِلَ عُثْمَانُ، رضي الله عنه، صَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَبَايَعَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْقِيَامِ بِدَمِ عُثْمَانَ.
[فِي ذِكْرِ وَقْعَةِ صِفِّينَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَبَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ]
فَصَلٌ فِي ذِكْرِ وَقْعَةِ صِفِّينَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَبَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاوِيَةَ
قَدْ تَقَدَّمَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ قَالَ: هَاجَتِ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، عَشَرَاتُ أُلُوفٍ فَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْهُمْ مِائَةٌ، بَلْ لَمْ يَبْلُغُوا ثَلَاثِينَ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ لِشُعْبَةَ: إِنَّ أَبَا شَيْبَةَ رَوَى عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: شَهِدَ صِفِّينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ سَبْعُونَ رَجُلًا. فَقَالَ: كَذَبَ أَبُو شَيْبَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ ذَاكَرْنَا الْحَكَمَ فِي ذَلِكَ، فَمَا وَجَدْنَاهُ شَهِدَ صِفِّينَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ غَيْرَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ شَهِدَهَا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَكَذَا أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ. قَالَهُ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي كِتَابِ " الرَّدِّ عَلَى الرَّافِضَةِ ". وَرَوَى ابْنُ بَطَّةَ بِإِسْنَادِهِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَشَجِّ أَنَّهُ قَالَ: أَمَا إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ لَزِمُوا بُيُوتَهُمْ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ فَلَمْ يَخْرُجُوا إِلَّا إِلَى قُبُورِهِمْ.
وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رضي الله عنه، فَإِنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ وَدَخَلَ الْبَصْرَةَ وَشَيَّعَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ لَمَّا أَرَادَتِ الرُّجُوعَ إِلَى مَكَّةَ، سَارَ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى الْكُوفَةِ، قَالَ ابْنُ أَبِي الْكَنُودِ عُبَيْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُبَيْدٍ: فَدَخَلَهَا عَلِيٌّ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، فَقِيلَ لَهُ: انْزِلْ بِالْقَصْرِ الْأَبْيَضِ. فَقَالَ: لَا، إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَكْرَهُ نُزُولَهُ، فَأَنَا أَكْرَهُهُ لِذَلِكَ. فَنَزَلَ فِي الرَّحْبَةِ وَصَلَّى فِي الْجَامِعِ الْأَعْظَمِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ فَحَثَّهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَنَهَاهُمْ عَنِ الشَّرِّ، وَمَدَحَ أَهْلَ الْكُوفَةِ فِي خُطْبَتِهِ هَذِهِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - وَكَانَ عَلَى هَمَذَانَ مِنْ زَمَانِ عُثْمَانَ - وَإِلَى الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ - وَهُوَ
عَلَى نِيَابَةِ أَذْرَبِيجَانَ مِنْ أَيَّامِ عُثْمَانَ - يَأْمُرُهُمَا أَنْ يَأْخُذَا الْبَيْعَةَ لَهُ عَلَى مَنْ هُنَالِكَ ثُمَّ يُقْبِلَا إِلَيْهِ، فَفَعَلَا ذَلِكَ. فَلَمَّا أَرَادَ عَلِيٌّ، رضي الله عنه، أَنْ يَبْعَثَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، رضي الله عنه، يَدْعُوهُ إِلَى بَيْعَتِهِ، قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وُدًّا، فَآخُذُ لَكَ الْبَيْعَةَ مِنْهُ. فَقَالَ الْأَشْتَرُ: لَا تَبْعَثْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ هَوَاهُ مَعَهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: دَعْهُ. فَبَعَثَهُ وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى مُعَاوِيَةَ يُعْلِمُهُ بِاجْتِمَاعِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَى بَيْعَتِهِ، وَيُخْبِرُهُ بِمَا كَانَ فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ، وَيَدْعُوهُ إِلَى الدُّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَعْطَاهُ الْكِتَابَ. وَطَلَبَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وَرُءُوسَ أَهْلِ الشَّامِ فَاسْتَشَارَهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُبَايِعُوا حَتَّى يَقْتُلَ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، أَوْ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ قَتَلَةَ عُثْمَانَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قَاتَلُوهُ وَلَمْ يُبَايِعُوهُ حَتَّى يَقْتُلَهُمْ عَنْ آخِرِهِمْ. فَرَجَعَ جَرِيرٌ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالُوا، فَقَالَ الْأَشْتَرُ: أَلَمْ أَنْهَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَبْعَثَ جَرِيرًا؟ فَلَوْ كُنْتَ بَعَثْتَنِي لَمَا فَتَحَ مُعَاوِيَةُ بَابًا إِلَّا أَغْلَقْتُهُ. فَقَالَ لَهُ جَرِيرٌ لَوْ كُنْتَ ثَمَّ لَقَتَلُوكَ بِدَمِ عُثْمَانَ. فَقَالَ الْأَشْتَرُ: وَاللَّهِ لَوْ بَعَثَنِي لَمْ يُعْيِنِي جَوَابُ مُعَاوِيَةَ وَلَأُعْجِلَنَّهُ عَنِ الْفِكْرَةِ، وَلَوْ أَطَاعَنِي فِيكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، لَحَبَسَكَ وَأَمْثَالَكَ حَتَّى يَسْتَقِيمَ أَمْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَقَامَ جَرِيرٌ مُغْضَبًا فَأَقَامَ بِقَرْقِيسِياءَ، وَكَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُهُ بِمَا قَالَ وَمَا قِيلَ لَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ يَأْمُرُهُ بِالْقُدُومِ عَلَيْهِ.
وَخَرَجَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ مِنَ الْكُوفَةِ عَازِمًا عَلَى الدُّخُولِ إِلَى الشَّامِ، فَعَسْكَرَ بِالنُّخَيْلَةِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْكُوفَةِ أَبَا مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنَ عَمْرٍو الْبَدْرِيَّ الْأَنْصَارِيَّ، وَكَانَ قَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ بِأَنْ يُقِيمَ بِالْكُوفَةِ وَيَبْعَثَ الْجُنُودَ، وَأَشَارَ آخَرُونَ عَلَيْهِ بِالْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ. وَبَلَغَ مُعَاوِيَةَ أَنَّ عَلِيًّا قَدْ خَرَجَ إِلَيْهِ بِنَفْسِهِ فَاسْتَشَارَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ إِلَيْهِ أَيْضًا أَنْتَ بِنَفْسِكَ. وَقَامَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي النَّاسِ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ صَنَادِيدَ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ قَدْ تَفَانَوْا يَوْمَ الْجَمَلِ، وَلَمْ يَبْقَ مَعَ عَلِيٍّ إِلَّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِمَّنْ قَتَلَ الْخَلِيفَةَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، فَاللَّهَ اللَّهَ فِي حَقِّكُمْ أَنْ تُضَيِّعُوهُ، وَفِي دَمِ عُثْمَانَ خَلِيفَةِ اللَّهِ فَلَا تُطِلُّوهُ. وَكَتَبَ إِلَى أَجْنَادِ الشَّامِ فَحَضَرُوا، وَعُقِدَتِ الْأَلْوِيَةُ وَالرَّايَاتُ لِلْأُمَرَاءِ، وَتَهَيَّأَ أَهْلُ الشَّامِ وَتَأَهَّبُوا، وَخَرَجُوا أَيْضًا إِلَى نَحْوِ الْفُرَاتِ مِنْ نَاحِيَةِ صِفِّينَ - حَيْثُ يَكُونُ مَقْدَمُ عَلِيٍّ - وَسَارَ عَلِيٌّ، رضي الله عنه، بِمَنْ مَعَهُ مِنَ النُّخَيْلَةِ قَاصِدًا أَرْضَ الشَّامِ.
قَالَ أَبُو إِسْرَائِيلَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ: وَكَانَ فِي جَيْشِ عَلِيٍّ ثَمَانُونَ بَدْرِيًّا، وَمِائَةٌ وَخَمْسُونَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. رَوَاهُ ابْنُ دِيزِيلَ. وَقَدِ اجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ بِرَاهِبٍ، فَكَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ فِي كِتَابِهِ، فِيمَا رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْكَرَابِيسِيِّ، عَنْ نَصْرِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنْ
عُمَرَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي مُسْلِمٌ الْأَعْوَرُ، عَنْ حَبَّةَ الْعُرَنِيِّ قَالَ: لَمَّا أَتَى عَلِيٌّ الرَّقَّةَ، نَزَلَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْبَلِيخُ. عَلَى جَانِبِ الْفُرَاتِ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ رَاهِبٌ مِنْ صَوْمَعَتِهِ، فَقَالَ لِعَلِيٍّ: إِنَّ عِنْدَنَا كِتَابًا تَوَارَثْنَاهُ عَنْ آبَائِنَا، كَتَبَهُ أَصْحَابُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ، عليهما السلام، أَعْرِضُهُ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: نَعَمْ. فَقَرَأَ الرَّاهِبُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الَّذِي قَضَى فِيمَا قَضَى، وَسَطَّرَ فِيمَا سَطَّرَ، وَكَتَبَ فِيمَا كَتَبَ أَنَّهُ بَاعِثٌ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، وَيَدُلُّهُمْ عَلَى سَبِيلِ اللَّهِ، لَا فَظٌّ وَلَا غَلِيظٌ وَلَا صَخَّابٌ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، أُمَّتُهُ الْحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ، وَفِي كُلِّ صُعُودٍ وَهُبُوطٍ تَذِلُّ أَلْسِنَتُهُمْ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ، وَيَنْصُرُهُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ مَنْ نَاوَأَهُ، فَإِذَا تَوَفَّاهُ اللَّهُ اخْتَلَفَتْ أُمَّتُهُ ثُمَّ اجْتَمَعَتْ فَلَبِثَتْ بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ، ثُمَّ يَمُرُّ رَجُلٌ مِنْ أُمَّتِهِ بِشَاطِئِ هَذَا الْفُرَاتِ، يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَقْضِي بِالْحَقِّ، وَلَا يُنَكِّسُ الْحُكْمُ، الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنَ الرَّمَادِ - أَوْ قَالَ: التُّرَابِ - فِي يَوْمٍ عَصَفَتْ فِيهِ الرِّيحُ، وَالْمَوْتُ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ، يَخَافُ اللَّهَ فِي السِّرِّ، وَيَنْصَحُ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَلَا يَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ النَّبِيَّ مِنْ أَهْلِ الْبِلَادِ فَآمَنَ بِهِ، كَانَ ثَوَابُهُ رِضْوَانِي وَالْجَنَّةَ، وَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الْعَبْدَ الصَّالِحَ فَلْيَنْصُرْهُ، فَإِنَّ الْقَتْلَ مَعَهُ شَهَادَةٌ. ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ:
فَأَنَا أُصَاحِبُكَ فَلَا أُفَارِقُكَ حَتَّى يُصِيبَنِي مَا أَصَابَكَ. فَبَكَى عَلِيٌّ ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْنِي عِنْدَهُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَكَرَنِي عِنْدَهُ فِي كُتُبِ الْأَبْرَارِ. فَمَضَى الرَّاهِبُ مَعَهُ وَأَسْلَمَ، فَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ حَتَّى أُصِيبَ يَوْمَ صِفِّينَ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّاسُ يَدْفِنُونَ قَتْلَاهُمْ قَالَ عَلِيٌّ: اطْلُبُوا الرَّاهِبَ. فَلَمَّا وَجَدُوهُ صَلَّى عَلَيْهِ وَدَفَنَهُ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ.
وَقَدْ بَعَثَ عَلِىٌّ بَيْنَ يَدَيْهِ زِيَادَ بْنَ النَّضْرِ الْحَارِثِيَّ طَلِيعَةً فِي ثَمَانِيَةِ آلَافٍ، وَمَعَهُ شُرَيْحُ بْنُ هَانِئٍ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فَسَارُوا فِي طَرِيقٍ بَيْنَ يَدَيْهِ غَيْرِ طَرِيقِهِ، وَجَاءَ عَلِيٌّ فَقَطَعَ دِجْلَةَ مِنْ جِسْرِ مَنْبِجٍ، وَسَارَتِ الْمُقَدِّمَتَانِ، فَبَلَغَهُمْ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَكِبَ فِي أَهْلِ الشَّامِ ; لِيَلْقَى عَلِيًّا، فَهَمُّوا بِلِقَائِهِ، فَخَافُوا مِنْ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَعَدَلُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ وَجَاءُوا لِيَعْبُرُوا مِنْ عَانَاتَ، فَمَنَعَهُمْ أَهْلُ عَانَاتَ، فَسَارُوا فَعَبَرُوا مِنْ هِيتَ، ثُمَّ لَحِقُوا عَلِيًّا - وَقَدْ سَبَقَهُمْ - فَقَالَ عَلِيٌّ: مُقَدِّمَتِي تَأْتِي مِنْ وَرَائِي! فَاعْتَذَرُوا إِلَيْهِ بِمَا جَرَى لَهُمْ، فَعَذَرَهُمْ ثُمَّ قَدَّمَهُمْ أَمَامَهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بَعْدَ أَنْ عَبَرَ الْفُرَاتَ، فَتَلَقَّاهُمْ أَبُو الْأَعْوَرِ عَمْرُو بْنُ سُفْيَانَ السُّلَمِىُّ فِي مُقَدِّمَةِ أَهْلِ الشَّامِ، فَتَوَاقَفُوا، وَدَعَاهُمْ زِيَادُ بْنُ النَّضْرِ أَمِيرُ مُقَدِّمَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ إِلَى بَيْعَةِ عَلِيٍّ فَلَمْ يُجِيبُوهُ بِشَيْءٍ، فَكَتَبَ إِلَى عَلِيٍّ بِذَلِكَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ أَمِيرًا، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ زِيَادُ بْنُ النَّضْرِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ شُرَيْحٌ، وَأَمَرَهُ أَنْ
لَا يَتَقَدَّمَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ بِقِتَالٍ حَتَّى يَبْدَأُوهُ أَوَّلًا بِالْقِتَالِ، وَلَكِنْ لِيَدْعُهُمْ إِلَى الْبَيْعَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، فَإِنِ امْتَنَعُوا فَلَا يُقَاتِلْهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوهُ، وَلَا يَقْرَبْ مِنْهُمْ قُرْبَ مَنْ يُرِيدُ الْحَرْبَ، وَلَا يُبْعُدْ مِنْهُمْ إِبْعَادَ مَنْ يَهَابُ الرِّجَالَ، وَلَكِنْ صَابِرْهُمْ حَتَّى آتِيَكَ، فَأَنَا حَثِيثُ السَّيْرِ وَرَاءَكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَبَعَثَ مَعَهُ بِكِتَابِ الْإِمَارَةِ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ مَعَ الْحَارِثِ بْنِ جُمْهَانَ الْجُعْفِيِّ.
فَلَمَّا قَدِمَ الْأَشْتَرُ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ، امْتَثَلَ مَا أَمَرَهُ بِهِ عَلِيٌّ، فَتَوَاقَفَ هُوَ وَمُقَدِّمَةُ مُعَاوِيَةَ وَعَلَيْهَا أَبُو الْأَعْوَرِ، فَلَمْ يَزَالُوا مُتَوَاقِفِينَ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ النَّهَارِ حَمَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ فَثَبَتُوا لَهُ، وَاضْطَرَبُوا سَاعَةً، ثُمَّ انْصَرَفَ أَهْلُ الشَّامِ عِنْدَ الْمَسَاءِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ تَوَاقَفُوا أَيْضًا وَتَصَابَرُوا، فَحَمَلَ الْأَشْتَرُ فَقَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْمُنْذِرِ التَّنُوخِيَّ - وَكَانَ مِنْ فُرْسَانِ أَهْلِ الشَّامِ - قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ يُقَالُ لَهُ: ظَبْيَانُ بْنُ عُمَارَةَ التَّمِيمِيُّ. فَعِنْدَ ذَلِكَ حَمَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو الْأَعْوَرِ بِمَنْ مَعَهُ، فَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِمْ، وَطَلَبَ الْأَشْتَرُ مِنْ أَبِي الْأَعْوَرِ أَنْ يُبَارِزَهُ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَبُو الْأَعْوَرِ إِلَى ذَلِكَ، وَكَأَنَّهُ رَآهُ غَيْرَ كُفْءٍ لَهُ فِي ذَلِكَ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - ثُمَّ تَحَاجَزَ الْقَوْمُ عَنِ الْقِتَالِ عِنْدَ إِقْبَالِ اللَّيْلِ مِنَ الْيَوْمِ الثَّانِي.
فَلَمَّا كَانَ صَبَاحُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَقْبَلَ عَلِيٌّ، رضي الله عنه، فِي جُيُوشِهِ وَجَاءَ مُعَاوِيَةُ، رضي الله عنه، فِي جُنُودِهِ فَتَوَاجَهَ الْفَرِيقَانِ، وَتَقَابَلَ الْجَمْعَانِ - وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ - فَتَوَاقَفُوا طَوِيلًا، وَذَلِكَ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: صِفِّينَ. وَذَلِكَ فِي أَوَائِلِ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ عَدَلَ عَلِيٌّ، رضي الله عنه، فَارْتَادَ لِجَيْشِهِ مَنْزِلًا، وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ سَبَقَ بِجَيْشِهِ فَنَزَلُوا عَلَى مَشْرَعَةِ الْمَاءَ فِي أَسْهَلِ مَوْضِعٍ وَأَفْيَحِهِ، فَلَمَّا جَاءَ عَلِيٌّ نَزَلَ بَعِيدًا مِنَ الْمَاءِ، وَجَاءَ سَرَعَانُ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِيَرِدُوا مِنَ الْمَاءِ، فَمَنَعَهُمْ أَهْلُ الشَّامِ فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ مُقَاتَلَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ وَكَّلَ عَلَى الشَّرِيعَةِ أَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَشْرَعَةٌ سِوَاهَا، فَعَطِشَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ عَطَشًا شَدِيدًا، فَبَعَثَ عَلِيٌّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ الْكِنْدِيَّ فِي جَمَاعَةٍ لِيَصِلُوا إِلَى الْمَاءِ، فَمَنَعَهُمْ أُولَئِكَ وَقَالُوا: مُوتُوا عَطَشًا كَمَا مَنَعْتُمْ عُثْمَانَ الْمَاءَ. فَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ سَاعَةً، ثُمَّ تَطَاعَنُوا بِالرِّمَاحِ أُخْرَى، ثُمَّ تَقَاتَلُوا بِالسُّيُوفِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَأَمَدَّ كُلَّ طَائِفَةٍ أَصْحَابُهَا، حَتَّى جَاءَ الْأَشْتَرُ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَجَاءَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِيِّينَ، فَاشْتَدَّتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ، وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ - وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَوْفِ بْنِ الْأَحْمَرِ الْأَزْدِيُّ - وَهُوَ يُقَاتِلُ:
خَلُّوا لَنَا مَاءَ الْفُرَاتِ الْجَارِي
…
أَوِ اثْبُتُوا لِجَحْفَلٍ جَرَّارِ
لِكُلِّ قَرْمٍ مُسْتَمِيتٍ شَارِ
…
مُطَاعِنٍ بِرُمْحِهِ كَرَّارِ
ضَرَّابِ هَامَاتِ الْعِدَا مِغْوَارِ
ثُمَّ مَا زَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ يَكْشِفُونَ الشَّامِيِّينَ عَنِ الْمَاءِ حَتَّى أَزَاحُوهُمْ عَنْهُ وَخَلَّوْا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى الْوُرُودِ حَتَّى صَارُوا يَزْدَحِمُونَ فِي تِلْكَ الشَّرِيعَةِ لَا يُكَلِّمُ أَحَدٌ أَحَدًا، وَلَا يُؤْذِي إِنْسَانٌ مِنْهُمْ إِنْسَانًا.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا أَمَرَ أَبَا الْأَعْوَرِ بِحِفْظِ الشَّرِيعَةِ وَقَفَ دُونَهَا بِرِمَاحٍ مُشْرَعَةٍ، وَسُيُوفٍ مُسَلَّلَةٍ، وَسِهَامٍ مُفَوَّقَةٍ، وَقِسِيٍّ مُوَتَّرَةٍ، فَجَاءَ أَصْحَابُ عَلِيٍّ عَلِيًّا فَشَكَوْا إِلَيْهِ ذَلِكَ، فَبَعَثَ صَعْصَعَةَ بْنَ صُوحَانَ إِلَى مُعَاوِيَةَ يَقُولُ لَهُ: إِنَّا جِئْنَا كَافِّينَ عَنْ قِتَالِكُمْ حَتَّى نُقِيمَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ، فَبَعَثْتَ إِلَيْنَا مُقَدَّمَتَكَ فَقَاتَلَتْنَا قَبْلَ أَنْ نَبْدَأَكُمْ بِالْقِتَالِ، ثُمَّ هَذِهِ أُخْرَى قَدْ مَنَعْتُمُونَا الْمَاءَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِلْقَوْمِ: مَاذَا تَرَوْنَ؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ خَلِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَلَيْسَ مِنَ النَّصَفِ أَنْ نَكُونَ رَيَّانِينَ وَهُمْ عِطَاشٌ. وَقَالَ الْوَلِيدُ: دَعْهُمْ يَذُوقُوا مِنَ الْعَطَشِ مَا أَذَاقُوا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ حِينَ حَصَرُوهُ فِي دَارِهِ وَمَنَعُوهُ طَيِّبَ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ: امْنَعْهُمُ الْمَاءَ إِلَى اللَّيْلِ فَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى بِلَادِهِمْ. فَسَكَتَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ لَهُ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ: مَاذَا جَوَابُكَ؟ فَقَالَ: سَيَأْتِيكُمْ رَأْيِي بَعْدَ هَذَا. فَلَمَّا رَجَعَ صَعْصَعَةُ فَأَخْبَرَ الْخَبَرَ، رَكِبَتِ الْخَيْلُ وَالرِّجَالُ فَمَا زَالُوا حَتَّى أَزَاحُوهُمْ عَنِ الْمَاءِ وَوَرَدُوهُ قَهْرًا، ثُمَّ اصْطَلَحُوا عَلَى وُرُودِهِ، وَلَا يَمْنَعُ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْهُ.
وَأَقَامَ عَلِيٌّ يَوْمَيْنِ لَا يُكَاتِبُ مُعَاوِيَةَ وَلَا يُكَاتِبُهُ مُعَاوِيَةُ، ثُمَّ دَعَا عَلِيٌّ بَشِيرَ بْنَ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيَّ، وَسَعِيدَ بْنَ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَشَبَثَ بْنَ رِبْعِيٍّ التَّمِيمِيَّ فَقَالَ: ائْتُوا هَذَا الرَّجُلَ فَادْعُوهُ إِلَى الطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَاسْمَعُوا مَا يَقُولُ لَكُمْ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ عَمْرٍو: يَا مُعَاوِيَةُ إِنَّ الدُّنْيَا عَنْكَ زَائِلَةٌ، وَإِنَّكَ رَاجِعٌ إِلَى الْآخِرَةِ، وَاللَّهُ مُحَاسِبُكُ بِعَمَلِكَ، وَمُجَازِيكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، وَإِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تَفَرِّقَ جَمَاعَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَهَا بَيْنَهَا. فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: هَلَّا أَوْصَيْتَ بِذَلِكَ صَاحِبَكُمْ؟ ! فَقَالَ لَهُ: إِنَّ صَاحِبِي أَحَقُّ هَذِهِ الْبَرِيَّةِ بِالْأَمْرِ فِي فَضْلِهِ وَدِينِهِ وَسَابِقَتِهِ وَقَرَابَتِهِ، وَإِنَّهُ يَدْعُوكَ إِلَى مُبَايَعَتِهِ، فَإِنَّهُ أَسْلَمُ لَكَ فِي دُنْيَاكَ، وَخَيْرٌ لَكَ فِي أُخْرَاكَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَيُطَلُّ دَمُ عُثْمَانَ؟ لَا وَاللَّهِ لَا
أَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَدًا. ثُمَّ أَرَادَ سَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ الْهَمْدَانِيُّ أَنْ يَتَكَلَّمَ، فَبَدَرَهُ شَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ فَتَكَلَّمَ قَبْلَهُ بِكَلَامٍ فِيهِ غِلْظَةٌ وَجَفَاءٌ فِي حَقِّ مُعَاوِيَةَ، فَزَجَرَهُ مُعَاوِيَةُ وَزَبَرَهُ فِي افْتِيَاتِهِ عَلَى مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَأَشْرَفُ، وَفِي كَلَامِهِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ، فَأُخْرِجُوا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَصَمَّمَ عَلَى الْقِيَامِ بِطَلَبِ دَمِ عُثْمَانَ الَّذِي قُتِلَ مَظْلُومًا.
فَعِنْدَ ذَلِكَ نَشِبَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَأَمَرَ عَلِيٌّ بِالطَّلَائِعِ وَالْأُمَرَاءِ أَنْ يَتَقَدَّمُوا لِلْحَرْبِ، وَجَعَلَ عَلِيٌّ يُؤَمِّرُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى الْحَرْبِ أَمِيرًا، فَمِنْ أُمَرَائِهِ عَلَى الْحَرْبِ ; الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ - وَهُوَ أَكْبَرُ مَنْ كَانَ يَخْرُجُ لِلْحَرْبِ - وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ، وَشَبَثُ بْنُ رِبْعِيٍّ، وَخَالِدُ بْنُ الْمُعَمَّرِ، وَزِيَادُ بْنُ النَّضْرِ، وَزِيَادُ بْنُ خَصَفَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ قَيْسٍ، وَمَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ. وَكَذَلِكَ فَعَلَ مُعَاوِيَةُ ; كَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَبْعَثُ عَلَى الْحَرْبِ أَمِيرًا، فَمِنْ أُمَرَائِهِ ; عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، وَحَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَذُو الْكَلَاعِ الْحِمْيَرِيُّ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رضي الله عنه، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ السِّمْطِ، وَحَمْزَةُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيُّ.
وَرُبَّمَا اقْتَتَلَ النَّاسُ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِكَمَالِهِ. وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَنْ أَمْرِ عَلِيٍّ لَهُ بِذَلِكَ.
فَلَمَّا انْسَلَخَ ذُو الْحِجَّةِ وَدَخَلَ الْمُحَرَّمُ تَدَاعَى النَّاسُ لِلْمُتَارَكَةِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَمْرٍ يَكُونُ فِيهِ حَقْنُ دِمَائِهِمْ، فَكَانَ مَا سَنَذْكُرُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.