الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَهُمَا فِي ذَلِكَ فَقَالَا: كَيْفَ نُقَاتِلُ مَعَ رَجُلٍ لَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُحَكِّمَهُ؟ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدٍ فَنَهَاهُمَا أَشَدَّ النَّهْيِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي لَا أَدْرِي مَا يُوَافِقُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لِعَاقَبْتُكُمَا وَحَبَسْتُكُمَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فُتِحَتْ أَرْمِينِيَةُ عَلَى يَدَيْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ. وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ كِسْرَى مَلِكُ الْفُرْسِ.
[كَيْفِيَّةُ قَتْلِ كِسْرَى مِلِكِ الْفُرْسِ وَهُوَ يَزْدَجِرْدُ]
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هَرَبَ يَزْدَجِرْدُ مِنْ كِرْمَانَ فِي جَمَاعَةٍ يَسِيرَةٍ إِلَى مَرْوَ، فَسَأَلَ مِنْ بَعْضِ أَهْلِهَا مَالًا فَمَنَعُوهُ وَخَافُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَبَعَثُوا إِلَى التُّرْكِ يَسْتَنْصِرُونَهُمْ عَلَيْهِ، فَأَتَوْهُ فَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ وَهَرَبَ هُوَ حَتَّى أَتَى مَنْزِلَ رَجُلٍ يَنْقُرُ الْأَرْحِيَةَ عَلَى شَطٍّ، فَأَوَى إِلَيْهِ لَيْلًا فَلَمَّا نَامَ قَتَلَهُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: لَمَّا هَرَبَ بَعْدَ قَتْلِ أَصْحَابِهِ انْطَلَقَ مَاشِيًا وَعَلَيْهِ تَاجُهُ وَمِنْطَقَتُهُ وَسَيْفُهُ، فَانْتَهَى إِلَى مَنْزِلِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَنْقُرُ الْأَرْحِيَةَ فَجَلَسَ عِنْدَهُ، فَاسْتَغْفَلَهُ وَقَتَلَهُ وَأَخَذَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَجَاءَتِ التُّرْكُ فِي طَلَبِهِ فَوَجَدُوهُ قَدْ قَتَلَهُ وَأَخَذَ حَاصِلَهُ، فَقَتَلُوا ذَلِكَ الرَّجُلَ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَأَخَذُوا مَا كَانَ مَعَ كِسْرَى، وَوَضَعُوا
كِسْرَى فِي تَابُوتٍ وَحَمَلُوهُ إِلَى إِصْطَخْرَ، وَقَدْ كَانَ يَزْدَجِرْدُ وَطِئَ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ مَرْوَ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ، فَحَمَلَتْ مِنْهُ، وَوَضَعَتْ بَعْدَ قَتْلِهِ غُلَامًا ذَاهِبَ الشِّقِّ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ الْغُلَامُ الْمُخَدَّجُ، وَكَانَ لَهُ نَسْلٌ وَعَقِبٌ فِي خُرَاسَانَ، وَقَدْ سَبَى قُتَيْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ بِتِلْكَ الْبِلَادِ جَارِيَتَيْنِ مَنْ نَسْلِهِ، فَبَعَثَ بِإِحْدَاهُمَا إِلَى الْحَجَّاجِ، فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ يَزِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، الْمُلَقَّبَ بِالنَّاقِصِ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ: إِنَّ يَزْدَجِرْدَ لَمَّا انْهَزَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ عَقَرَ جَوَادَهُ، وَذَهَبَ مَاشِيًا حَتَّى دَخَلَ رَحًى عَلَى شَطِّ نَهْرٍ يُقَالُ لَهُ: الْمَرْغَابُ، فَمَكَثَ فِيهِ لَيْلَتَيْنِ وَالْعَدُوُّ فِي طَلَبِهِ فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ هُوَ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُ الرَّحَى فَرَأَى كِسْرَى وَعَلَيْهِ أُبَّهَتُهُ، فَقَالَ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ إِنْسِيٌّ أَمْ جِنِّيٌّ؟ قَالَ: إِنْسِيٌّ، فَهَلْ عِنْدَكَ طَعَامٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَتَاهُ بِطَعَامٍ فَقَالَ: إِنِّي مُزَمْزِمٌ فَأْتِنِي بِمَا أُزَمْزِمُ بِهِ. قَالَ: فَذَهَبَ الطَّحَّانُ إِلَى أُسْوَارٍ مِنَ الْأَسَاوِرَةِ فَطَلَبَ مِنْهُ مَا يُزَمْزِمُ بِهِ. قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: عِنْدِي رَجُلٌ لَمْ أَرَ مَثَلَهُ قَطُّ وَقَدْ طَلَبَ مِنِّي هَذَا. فَذَهَبَ بِهِ الْأُسْوَارُ إِلَى مَلِكِ الْبَلَدِ - مَرْوَ - وَاسْمُهُ مَاهَوَيْهِ بْنُ بَابَاهُ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ، فَقَالَ: هُوَ يَزْدَجِرْدُ، اذْهَبُوا فَجِيئُونِي بِرَأْسِهِ. فَذَهَبُوا مَعَ الطَّحَّانِ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ دَارِ الرَّحَى هَابُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ وَتَدَافَعُوا، وَقَالُوا لِلطَّحَّانِ: ادْخُلْ أَنْتَ فَاقْتُلْهُ، فَدَخَلَ فَوَجَدَهُ نَائِمًا، فَأَخَذَ حَجَرًا فَشَدَخَ بِهِ رَأْسَهُ، ثُمَّ احْتَزَّهُ، فَدَفَعَهُ إِلَيْهِمْ، وَأَلْقَى جَسَدَهُ فِي النَّهْرِ،
فَخَرَجَتِ الْعَامَّةُ إِلَى الطَّحَّانِ فَقَتَلُوهُ، وَخَرَجَ أُسْقُفٌ فَأَخَذَ جَسَدَهُ مِنَ النَّهْرِ وَجَعَلَهُ فِي تَابُوتٍ وَحَمَلَهُ إِلَى إِصْطَخْرَ فَوَضَعَهُ فِي نَاوُوسٍ.
وَيُرْوَى أَنَّهُ مَكَثَ فِي مَنْزِلِ ذَلِكَ الطَّحَّانِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَأْكُلُ حَتَّى رَقَّ لَهُ وَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ يَا مِسْكِينُ أَلَا تَأْكُلُ؟ وَأَتَاهُ بِطَعَامٍ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آكُلَ إِلَّا بِزَمْزَمَةٍ. فَقَالَ لَهُ: كُلْ وَأَنَا أُزَمْزِمُ لَكَ. فَسَأَلَ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمُزَمْزِمٍ، فَلَمَّا ذَهَبَ يَطْلُبُ لَهُ مِنْ بَعْضِ الْأَسَاوِرَةِ شَمُّوا رَائِحَةَ الْمِسْكِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ، فَأَنْكَرُوا رَائِحَةَ الْمِسْكِ مِنْهُ، فَسَأَلُوهُ، فَأَخْبَرَهُمْ، فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي رَجُلًا مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ. فَعَرَفُوهُ وَقَصَدُوهُ مَعَ الطَّحَّانِ، وَتَقَدَّمَ الطَّحَّانُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَهَمَّ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ، فَعَرَفَ يَزْدَجِرْدُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: وَيْحَكَ خُذْ خَاتَمِي وَسِوَارِي وَمِنْطَقَتِي وَدَعْنِي أَذْهَبُ مِنْ هَاهُنَا. فَقَالَ: لَا، أَعْطِنِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَأَنَا أُطْلِقُكَ. فَزَادَهُ إِحْدَى قُرْطَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ حَتَّى يُعْطِيَهُ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، فَهُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ دَهَمَهُمُ الْجُنْدُ، فَلَمَّا أَحَاطُوا بِهِ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ قَالَ: وَيْحَكُمْ لَا تَقْتُلُونِي فَإِنَّا نَجِدُ فِي كُتُبِنَا أَنَّ مَنِ اجْتَرَأَ عَلَى قَتْلِ الْمُلُوكِ عَاقَبَهُ اللَّهُ بِالْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا هُوَ قَادِمٌ عَلَيْهِ، فَلَا تَقْتُلُونِي وَاذْهَبُوا بِي إِلَى الْمَلِكِ أَوْ إِلَى الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ يَسْتَحْيُونَ مِنْ قَتْلِ الْمُلُوكِ. فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ فَسَلَبُوهُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُلِيِّ، فَجَعَلُوهُ فِي جِرَابٍ وَخَنَقُوهُ بِوَتَرٍ وَأَلْقَوْهُ فِي النَّهْرِ، فَتَعَلَّقَ بِعُودٍ فَأَخَذَهُ أُسْقُفٌ - وَاسْمُهُ إِيلِيَا - فَحَنَّ عَلَيْهِ؛ لِمَا كَانَ مِنْ أَسْلَافِهِ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَى النَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا بِبِلَادِهِمْ، فَوَضَعَهُ فِي تَابُوتٍ وَدَفَنَهُ
فِي نَاوُوسٍ. ثُمَّ حَمَلَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُلِيِّ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَفُقِدَ قُرْطٌ مِنْ حُلِيِّهِ، فَبَعَثَ إِلَى دِهْقَانِ تِلْكَ الْبِلَادِ فَأَغْرَمَهُ ذَلِكَ.
وَكَانَ مُلْكُ يَزْدَجِرْدَ عِشْرِينَ سَنَةً؛ مِنْهَا أَرْبَعُ سِنِينَ فِي دَعَةٍ وَبَاقِي ذَلِكَ هَارِبًا مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ خَوْفًا مِنَ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ. وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ الْفُرْسِ فِي الدُّنْيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم:«إِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بَعْدَهُ وَإِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ كِتَابُ النَّبِيِّ، صلى الله عليه وسلم، مَزَّقَهُ فَدَعَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ، صلى الله عليه وسلم، أَنْ يُمَزَّقَ كُلَّ مُمَزَّقٍ فَوَقَعَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ فَتَحَ ابْنُ عَامِرٍ فُتُوحَاتٍ كَثِيرَةً كَانَ قَدْ نَقَضَ أَهْلُهَا مَا كَانَ لَهُمْ مِنَ الصُّلْحِ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا فَتَحَ عَنْوَةً، وَمِنْ ذَلِكَ مَا فَتَحَ صُلْحًا، فَكَانَ فِي جُمْلَةِ مَا صَالَحَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمَدَائِنِ - وَهِيَ مَرْوُ - عَلَى أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ، وَقِيلَ: عَلَى سِتَّةِ آلَافِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ حَجَّ بِالنَّاسِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رضي الله عنه.