الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَمَانٍ وَثَلَاثِينَ]
[مَا وَقَعَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ]
فِيهَا بَعَثَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ لِيَأْخُذَهَا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَاسْتَنَابَ مُعَاوِيَةُ عَمْرًا عَلَيْهَا، وَذَلِكَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ. وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ، رضي الله عنه، اسْتَنَابَ عَلَيْهَا قَيْسَ بْنَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَانْتَزَعَهَا مِنْ يَدِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حُذَيْفَةَ، وَقَدْ كَانَ أَخَذَهَا مِنَ ابْنِ أَبِي سَرْحٍ نَائِبِ عُثْمَانَ عَلَيْهَا، وَكَانَ عُثْمَانُ قَدْ عَزَلَ عَنْهَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَكَانَ عَمْرٌو هُوَ الَّذِي افْتَتَحَهَا، كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ، ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا عَزَلَ عَنْهَا قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ، وَوَلَّى عَلَيْهَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ قَيْسٌ كُفْئًا لِمُعَاوِيَةَ وَعَمْرٍو، فَلَمَّا وُلِّيَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قُوَّةٌ تُعَادِلُ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرًا، وَحِينَ عُزِلَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَنْهَا رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ سَارَ إِلَى عَلِيٍّ بِالْعِرَاقِ فَكَانَ مَعَهُ. وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عِنْدَ عَلِيٍّ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ تَكُونُ مَعَهُ بَدَلَهُ. فَلَمَّا فَرَغَ عَلِيٌّ مِنْ صِفِّينَ، وَبَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ مِصْرَ قَدِ اسْتَخَفُّوا بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ; لِكَوْنِهِ شَابًّا ابْنَ سِتٍّ وَعِشْرِينَ سَنَةً، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ عَزَمَ عَلِيٌّ عَلَى رَدِّ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ
إِلَيْهَا، وَكَانَ عَلِيٌّ قَدْ جَعَلَهُ عَلَى شُرَطَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ اسْتَمَرَّ بِقَيْسٍ عِنْدَهُ، وَوَلَّى الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ مِصْرَ، وَقَدْ كَانَ نَائِبَهُ عَلَى الْمَوْصِلِ وَنَصِيبِينَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ فَاسْتَقْدَمَهُ عَلَيْهِ، وَوَلَّاهُ مِصْرَ. فَلَمَّا بَلَغَ مُعَاوِيَةَ تَوْلِيَةُ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ مِصْرَ بَدَلَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَلِمَ أَنَّ الْأَشْتَرَ سَيَمْنَعُهَا مِنْهُ ; لِجُرْأَتِهِ وَشَجَاعَتِهِ، فَسَارَ الْأَشْتَرُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ الْقُلْزُمَ اسْتَقْبَلَهُ الْجَايْسَارُ، وَهُوَ مُقَدَّمُ عَلِيٍّ عَلَى الْخَرَاجِ، فَقَدَّمَ إِلَيْهِ طَعَامًا، وَسَقَاهُ شَرَابًا مِنْ عَسَلٍ فَمَاتَ مِنْهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ وَعَمْرًا وَأَهْلَ الشَّامِ قَالُوا: إِنَّ لِلَّهِ لَجُنُودًا مِنْ عَسَلٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَارِيخِهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فِي أَنْ يَحْتَالَ عَلَى الْأَشْتَرِ ; فَيَقْتُلَهُ، وَوَعَدَهُ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ. وَفِي هَذَا نَظَرٌ، وَبِتَقْدِيرِ صِحَّتِهِ فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ يَسْتَجِيزُ قَتْلَ الْأَشْتَرِ ; لِأَنَّهُ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، رضي الله عنه. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ وَأَهْلَ الشَّامِ فَرِحُوا فَرَحًا شَدِيدًا بِمَوْتِ الْأَشْتَرِ النَّخَعِيِّ
وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا تَأَسَّفَ عَلَى شَجَاعَتِهِ وَغَنَائِهِ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ بِاسْتِقْرَارِهِ وَاسْتِمْرَارِهِ بِدِيَارِ مِصْرَ، وَلَكِنَّهُ ضَعُفَ جَأْشُهُ مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ
الْخِلَافِ عَلَيْهِ مِنَ الْعُثْمَانِيَّةِ الَّذِينَ بِبَلَدِ خِرِبْتَا، وَقَدْ كَانُوا اسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ حِينَ انْصَرَفَ عَلِيٌّ مِنْ صِفِّينَ وَكَانَ مِنْ أَمْرِ التَّحْكِيمِ مَا كَانَ، وَحِينَ نَكَلَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَنْ قِتَالِ أَهْلِ الشَّامِ مَعَهُ. وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الشَّامِ لَمَّا انْقَضَتِ الْحُكُومَةُ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ سَلَّمُوا عَلَى مُعَاوِيَةَ بِالْخِلَافَةِ، وَقَوِيَ أَمْرُهُمْ جِدًّا.
فَعِنْدَ ذَلِكَ جَمَعَ مُعَاوِيَةُ أُمَرَاءَهُ ; عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَشُرَحْبِيلَ بْنَ السِّمْطِ، وَحَبِيبَ بْنَ مَسْلَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَالضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ، وَبُسْرَ بْنَ أَبِي أَرْطَاةَ، وَأَبَا الْأَعْوَرِ السُّلَمِيَّ، وَحَمْزَةَ بْنَ سِنَانٍ الْهَمْدَانِيَّ، وَغَيْرَهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ فِي الْمَسِيرِ إِلَى مِصْرَ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، وَقَالُوا: سِرْ حَيْثُ شِئْتَ فَنَحْنُ مَعَكَ.
وَعَيَّنَ مُعَاوِيَةُ نِيَابَتَهَا لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إِذَا فَتَحَهَا، فَفَرِحَ بِذَلِكَ عَمْرٌو، ثُمَّ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: أَرَى أَنْ تَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَجُلًا مَعَهُ جُنْدٌ مَأْمُونٌ عَارِفٌ بِالْحَرْبِ، فَإِنَّ بِهَا جَمَاعَةً مِمَّنْ يُوَالِي عُثْمَانَ فَيُسَاعِدُونَهُ عَلَى حَرْبِ مَنْ خَالَفَهُمْ،
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَكِنْ أَرَى أَنْ أَبْعَثَ إِلَى شِيعَتِنَا مِمَّنْ هُنَالِكَ كِتَابًا نُعْلِمُهُمْ بِقُدُومِنَا عَلَيْهِمْ، وَنَبْعَثُ إِلَى مُخَالِفِينَا كِتَابًا نَدْعُوهُمْ فِيهِ إِلَى الصُّلْحِ. وَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: إِنَّكَ يَا عَمْرُو رَجُلٌ بُورِكَ لَكَ فِي الْعَجَلَةِ، وَإِنِّي امْرُؤٌ بُورِكَ لِي فِي التُّؤَدَةِ. فَقَالَ عَمْرٌو: اعْمَلْ مَا أَرَاكَ اللَّهُ، وَمَا أَرَى أَمْرَكَ وَأَمْرَهُمْ إِلَّا سَيَصِيرُ إِلَى الْحَرْبِ الْعَوَانِ.
فَكَتَبَ عِنْدَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَإِلَى مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ السَّكُونِيِّ - وَهُمَا رَئِيسَا الْعُثْمَانِيَّةِ بِبِلَادِ مِصْرَ وَكَانَا مِمَّنْ لَمْ يُبَايِعُ عَلِيًّا، وَلَمْ يَأْتَمِرْ بِأَمْرِ نُوَّابِهِ بِمِصْرَ فِي نَحْوٍ مَنْ عَشَرَةَ آلَافٍ - يُخْبِرُهُمْ بِقُدُومِ الْجَيْشِ إِلَيْهِمْ سَرِيعًا، وَبَعَثَ بِهِ مَعَ مَوْلًى لَهُ يُقَالُ لَهُ: سُبَيْعٌ. فَلَمَّا وَصَلَ الْكِتَابُ إِلَى مَسْلَمَةَ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ فَرِحَا بِهِ وَرَدَّا جَوَابَهُ بِالِاسْتِبْشَارِ وَالْمُعَاوَنَةِ وَالْمُنَاصَرَةِ لَهُ، وَلِمَنْ يَبْعَثُهُ مِنَ الْجَيْشِ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ جَهَّزَ مُعَاوِيَةُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي سِتَّةِ آلَافٍ، وَخَرَجَ مَعَهُ مُوَدِّعًا وَأَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالرِّفْقِ وَالْمَهْلِ وَالتُّؤَدَةِ، وَأَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَاتَلَ وَيَعْفُوَ عَمَّنْ أَدْبَرَ، وَأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى الصُّلْحِ وَالْجَمَاعَةِ، فَإِذَا أَنْتَ ظَهَرْتَ فَلْيَكُنْ أَنْصَارُكَ آثَرَ
النَّاسِ عِنْدَكَ.
فَسَارَ عَمْرٌو فَلَمَّا دَخَلَ مِصْرَ، اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْعُثْمَانِيَّةُ فَقَادَهُمْ، وَكَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَتَنَحَّ عَنِّي بِدَمِكَ، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ يُصِيبَكَ مِنِّي ظُفُرٌ ; فَإِنَّ النَّاسَ قَدِ اجْتَمَعُوا بِهَذِهِ الْبِلَادِ عَلَى خِلَافِكَ وَرَفْضِ أَمْرِكَ، وَنَدِمُوا عَلَى اتِّبَاعِكَ، فَهُمْ مُسْلِمُوكَ لَوْ قَدِ الْتَقَتْ حَلْقَتَا الْبِطَانِ، فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنِّي لَكَ لَمِنَ النَّاصِحِينَ وَالسَّلَامُ. وَبَعَثَ إِلَيْهِ عَمْرٌو أَيْضًا بِكِتَابِ مُعَاوِيَةَ إِلَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ غِبَّ الْبَغْيِ وَالظُّلْمِ عَظِيمُ الْوَبَالِ، وَإِنَّ سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ لَا يَسْلَمُ فَاعِلُهُ مِنَ النِّقْمَةِ فِي الدُّنْيَا، وَالتَّبِعَةِ الْمُوبِقَةِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّا لَا نَعْلَمُ أَحَدًا كَانَ أَشَدَّ خِلَافًا عَلَى عُثْمَانَ مِنْكَ حِينَ تَطْعَنُ بِمَشَاقِصِكَ بَيْنَ حُشَاشَتِهِ وَأَوْدَاجِهِ، ثُمَّ أَنْتَ تَظُنُّ أَنِّي عَنْكَ نَائِمٌ أَوْ لِفِعْلِكَ نَاسٍ، حَتَّى تَأْتِيَ فَتَتَأَمَّرَ عَلَى بِلَادٍ أَنْتِ بِهَا جَارِي، وَجُلُّ أَهْلِهَا أَنْصَارِي، وَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِجُيُوشٍ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ بِجِهَادِكَ، وَلَنْ يُسَلِّمَكَ اللَّهُ مِنَ الْقَصَّاصِ أَيْنَمَا كُنْتَ، وَالسَّلَامُ.
قَالَ: فَطَوَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْكِتَابَيْنِ، وَبَعَثَ بِهِمَا إِلَى عَلِيٍّ وَأَعْلَمَهُ بِقُدُومِ عَمْرٍو إِلَى مِصْرَ فِي جَيْشٍ مِنْ قِبَلِ مُعَاوِيَةَ ; فَإِنْ كَانَتْ لَكَ بِأَرْضِ مِصْرَ حَاجَةٌ فَابْعَثْ إِلَيَّ بِأَمْوَالٍ وَرِجَالٍ، وَالسَّلَامُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ يَأْمُرُهُ
بِالصَّبْرِ وَبِمُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ، وَأَنَّهُ سَيَبْعَثُ إِلَيْهِ الرِّجَالَ وَالْأَمْوَالَ، وَيَمُدُّهُ بِالْجُيُوشِ. وَكَتَبَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إِلَى مُعَاوِيَةَ كِتَابًا فِي جَوَابِ مَا قَالَ وَفِيهِ غِلْظَةٌ. وَكَذَلِكَ كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ كِتَابًا فِيهِ كَلَامٌ غَلِيظٌ. وَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي النَّاسِ فَخَطَبَهُمْ وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَمُنَاجَزَةِ مَنْ قَصَدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ.
وَتَقَدَّمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مِصْرَ فِي جُيُوشِهِ، وَمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنَ الْعُثْمَانِيَّةِ، وَالْجَمِيعُ فِي قَرِيبٍ مِنْ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا. وَرَكِبَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي قَرِيبٍ مِنْ أَلْفَيْ فَارِسٍ وَهُمُ الَّذِينَ انْتَدَبُوا مَعَهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ جَيْشِهِ كِنَانَةَ بْنَ بِشْرٍ، فَجَعَلَ لَا يَلْقَى أَحَدًا مِنَ الشَّامِيِّينَ إِلَّا قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُلْحِقَهُمْ مَغْلُوبِينَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَبَعَثَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةَ بْنَ حُدَيْجٍ، فَجَاءَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ الشَّامِيُّونَ حَتَّى أَحَاطُوا بِهِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ; فَتَرَجَّلَ عِنْدَ ذَلِكَ كِنَانَةُ وَهُوَ يَقُولُ:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} [آل عمران: 145] الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 145] . ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْهُ، وَرَجَعَ يَمْشِي فَرَأَى خَرِبَةً فَأَوَى إِلَيْهَا، وَدَخَلَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فُسْطَاطَ مِصْرَ، وَذَهَبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ فِي طَلَبِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، فَمَرَّ بِعُلُوجٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ لَهُمْ: هَلْ مَرَّ بِكُمْ أَحَدٌ تَسْتَنْكِرُونَهُ؟ قَالُوا: لَا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلًا جَالِسًا فِي هَذِهِ الْخَرِبَةِ. فَقَالَ: هُوَ هُوَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ.
فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَاسْتَخْرَجُوهُ مِنْهَا - وَقَدْ كَادَ يَمُوتُ عَطَشًا - فَانْطَلَقَ أَخُوهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَكَانَ قَدْ قَدِمَ مَعَهُ إِلَى مِصْرَ، فَقَالَ: أَيُقْتَلُ أَخِي صَبْرًا؟ فَبَعَثَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ أَنْ يَأْتِيَهُ بِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَلَا يَقْتُلَهُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَلَّا وَاللَّهِ، أَيَقْتُلُونَ كِنَانَةَ بْنَ بِشْرٍ وَأَتْرُكُ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَقَدْ كَانَ فِي مَنْ قَتَلَ عُثْمَانَ، وَقَدْ سَأَلَهُمْ عُثْمَانُ الْمَاءَ فَلَمْ يَسْقُوهُ؟ وَقَدْ سَأَلَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَسْقُوهُ شَرْبَةً مِنَ الْمَاءِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَا سَقَانِي اللَّهُ إِنْ سَقَيْتُكَ قَطْرَةً مِنَ الْمَاءِ أَبَدًا ; إِنَّكُمْ مَنَعْتُمْ عُثْمَانَ أَنْ يَشْرَبَ الْمَاءَ حَتَّى قَتَلْتُمُوهُ صَائِمًا مُحْرِمًا، فَتَلَقَّاهُ اللَّهُ بِالرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ نَالَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ هَذَا وَشَتَمَهُ، وَمِنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَمِنْ مُعَاوِيَةَ وَمِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَيْضًا ; فَعِنْدَ ذَلِكَ غَضِبَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ، فَقَدَّمَهُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ جَعَلَهُ فِي جِيفَةِ حِمَارٍ فَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ جَزِعَتْ عَلَيْهِ جَزَعًا شَدِيدًا، وَضَمَّتْ عِيَالَهُ إِلَيْهَا، وَكَانَ فِيهِمُ ابْنُهُ الْقَاسِمُ، وَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ قَدِمَ مِصْرَ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ، فِيهِمْ أَبُو الْأَعْوَرِ السُّلَمِيُّ، فَالْتَقَوْا مَعَ الْمِصْرِيِّينَ بِالْمُسَنَّاةِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا حَتَّى
قُتِلَ كِنَانَةُ بْنُ بِشْرِ بْنِ غَيَّاثِ التُّجِيبِيُّ، فَهَرَبَ عِنْدَ ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَاخْتَبَأَ عِنْدَ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ: جَبَلَةُ بْنُ مَسْرُوقٍ. فَدَلَّ عَلَيْهِ فَجَاءَ مُعَاوِيَةُ بْنُ حُدَيْجٍ وَأَصْحَابُهُ فَأَحَاطُوا بِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ ذَلِكَ فِي صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَلَمَّا قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بَعَثَ عَلِيٌّ الْأَشْتَرَ النَّخَعِيَّ إِلَى مِصْرَ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ: وَكَانَتْ أَذْرُحُ فِي شَعْبَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا، فَلَمَّا قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، كَتَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ يُخْبِرُهُ بِمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ، وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ فَتَحَ عَلَيْهِ بِلَادَ مِصْرَ وَرَجَعُوا إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. وَقَدْ زَعَمَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ مُسِكَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعْدَ مَقْتَلِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ - وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَرِّضِينَ عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ - فَبَعَثَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى مُعَاوِيَةَ وَلَمْ يُبَادِرْ إِلَى قَتْلِهِ ; لِأَنَّهُ ابْنُ خَالِ مُعَاوِيَةَ، فَحَبَسَهُ مُعَاوِيَةُ بِفِلَسْطِينَ فَهَرَبَ مِنَ السِّجْنِ - وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يُحِبُّ نَجَاتَهُ فِيمَا يَرَوْنَ - فَلَحِقَهُ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ ظَلَامٍ - وَكَانَ عُثْمَانِيًّا شُجَاعًا - بِأَرْضِ الْبَلْقَاءِ مِنْ بِلَادِ حَوْرَانَ، فَاخْتَفَى مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي غَارٍ، فَجَاءَتْ حُمُرُ وَحْشٍ لِتَأْوِيَ إِلَى ذَلِكَ الْغَارِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ فِيهِ نَفَرَتْ فَتَعَجَّبَ
مِنْ نَفْرَتِهَا جَمَاعَةُ الْحَصَّادِينَ الَّذِينَ هُنَالِكَ، فَذَهَبُوا إِلَى الْغَارِ، فَوَجَدُوا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ، فَخَشِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ظَلَامٍ أَنْ يَرُدَّهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ فَيَعْفُوَ عَنْهُ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ هُنَالِكَ. ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْكَلْبِيِّ. وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ قُتِلَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ، كَمَا قَدَّمْنَا. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دِيزِيلَ فِي كِتَابِهِ: ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ اسْتَحَلَّ مَالَ قِبْطِيٍّ مِنْ قِبْطِ مِصْرَ ; لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَانَ يُظْهِرُ الرُّومَ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ - يَكْتُبُ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ - فَاسْتَخْرَجَ مِنْ مَالِهِ بِضْعًا وَخَمْسِينَ إِرْدَبًّا دَنَانِيرَ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: وَالْإِرْدَبُّ سِتُّ وَيْبَاتٍ، وَالْوَيْبَةُ مِثْلُ الْقَفِيزِ، وَاعْتَبَرْنَا الْوَيْبَةَ فَوَجَدْنَاهَا تِسْعًا وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ. قُلْتُ: فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَبْلَغُ مَا أَخَذَ مِنْهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَلْفَ أَلْفِ دِينَارٍ.
قَالَ أَبُو مِخْنَفٍ بِإِسْنَادِهِ: وَلَمَّا بَلَغَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مَقْتَلُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَمَا كَانَ مِنَ الْأَمْرِ، وَتَمَلُّكُ عَمْرٍو مِصْرَ، وَاجْتِمَاعُ النَّاسِ عَلَيْهِ وَعَلَى مُعَاوِيَةَ، قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا، فَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَالصَّبْرِ وَالْمَسِيرِ إِلَى أَعْدَائِهِمْ
مِنَ الشَّامِيِّينَ وَالْمِصْرِيِّينَ، وَوَاعَدَهُمُ الْجَرَعَةَ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ خَرَجَ يَمْشِي إِلَيْهَا حَتَّى نَزَلَهَا فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ بَعَثَ إِلَى أَشْرَافِهِمْ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ حَزِينٌ كَئِيبٌ، فَقَامَ فِيهِمْ خَطِيبًا فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا قَضَى مِنْ أَمْرٍ، وَقَدَّرَ مِنْ فِعْلٍ، وَابْتَلَانِي بِكُمْ، وَبِمَنْ لَا يُطِيعُ إِذَا أَمَرْتُ، وَلَا يُجِيبُ إِذَا دَعَوْتُ، أَوَلَيْسَ عَجَبًا أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ فَيَتَّبِعُونَهُ بِغَيْرِ عَطَاءٍ وَلَا مَعُونَةٍ وَيُجِيبُونَهُ فِي السَّنَةِ الْمَرَّتَيْنِ وَالثَّلَاثَ إِلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ، وَأَنَا أَدْعُوكُمْ - وَأَنْتُمْ أُولُو النُّهَى وَبَقِيَّةُ النَّاسِ - عَلَى الْمَعُونَةِ وَالْعَطَاءِ فَتَتَفَرَّقُونَ وَتَنْفِرُونَ عَنِّي وَتَعْصُونِي وَتَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ؟ فَقَامَ إِلَيْهِ مَالِكُ بْنُ كَعْبٍ الْهَمْدَانِيُّ، ثُمَّ الْأَرْحَبِيُّ، فَنَدَبَ النَّاسَ إِلَى امْتِثَالِ أَمْرِ عَلِيٍّ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لَهُ، فَانْتَدَبَ أَلْفَانِ، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ مَالِكَ بْنَ كَعْبٍ هَذَا، فَسَارَ بِهِمْ خَمْسًا ثُمَّ قَدِمَ عَلَى عَلِيٍّ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ كَانَ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، بِمِصْرَ فَأَخْبَرُوهُ كَيْفَ وَقَعَ الْأَمْرُ، وَكَيْفَ قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَكَيْفَ اسْتَقَرَّ أَمْرُ عَمْرٍو بِهَا. فَبَعَثَ إِلَى مَالِكِ بْنِ كَعْبٍ فَرَدَّهُ مِنَ الطَّرِيقِ ; وَذَلِكَ أَنَّهُ خَشِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ قَبْلَ وُصُولِهِمْ إِلَى مِصْرَ.
وَاسْتَقَرَّ أَمْرُ الْعِرَاقِيِّينَ عَلَى مُخَالَفَةِ عَلِيٍّ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ، وَالْخُرُوجِ عَلَيْهِ، وَانْتِقَادِ أَحْكَامِهِ، وَرَدِّ أَقْوَالِهِ، وَحَلِّ إِبْرَامِهِ ; لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عَقْلِهِمْ وَجَفَائِهِمْ وَغِلْظَتِهِمْ وَفُجُورِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ. وَلَمَّا جَاءَ عَلِيًّا الْخَبَرُ عَنْ مِصْرَ وَمَا حَلَّ بِهَا، وَقَتْلُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، حَزِنَ عَلَى مُحَمَّدٍ حُزْنًا كَثِيرًا، وَتَرَحَّمَ وَرُئِيَ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ عَلَيْهِ، مَعَ مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ: إِنِّي وَاللَّهِ بِمَوَاضِعِ الْحَرْبِ لَجَدِيرٌ خَبِيرٌ، وَإِنِّي لَأَعْرِفُ وَجْهَ الْحَزْمِ، وَأَقُومُ فِيكُمْ بِالرَّأْيِ الْمُصِيبِ فَأَسْتَصْرِخُكُمْ مُعْلِنًا، وَأُنَادِيكُمْ نِدَاءَ الْمُسْتَغِيثِ، وَلَا أَرَى فِيكُمْ مُغِيثًا، وَلَا تَسْمَعُونَ لِي قَوْلًا، وَلَا تُطِيعُونَ لِي أَمْرًا حَتَّى تَصِيرَ بِيَ الْأُمُورُ إِلَى عَوَاقِبِ الْمَسَاءَةِ، فَأَنْتُمْ وَاللَّهِ الْقَوْمُ لَا يُدْرَكُ بِكُمْ ثَأْرٌ، دَعَوْتُكُمْ إِلَى غِيَاثِ إِخْوَانِكُمْ مُنْذُ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَتَجَرْجَرْتُمْ جَرْجَرَةَ الْجَمَلِ الْأَشْدَقِ، وَتَثَاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ تَثَاقُلَ مَنْ لَيْسَتْ لَهُ نِيَّةٌ فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ وَلَا اكْتِسَابِ الْأَجْرِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ مِنْكُمْ مَرَايِبُ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَأُفٍّ لَكُمْ.
ثُمَّ كَتَبَ عَلِيٌّ عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - وَهُوَ نَائِبُهُ عَلَى الْبَصْرَةِ - يَشْكُو إِلَيْهِ مَا يَلْقَاهُ مِنَ النَّاسِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ وَيَقُولُ: إِنِّي دَعَوْتُهُمْ إِلَى غَوْثِ إِخْوَانِهِمْ ; فَمِنْهُمْ مَنْ أَتَى كَارِهًا، وَمِنْهُمُ الْمُعْتَذِرُ كَاذِبًا، أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ لِي مِنْهُمْ فَرَجًا
وَمَخْرَجًا وَأَنْ يُرِيحَنِي مِنْهُمْ عَاجِلًا، وَلَوْلَا مَا أُحَاوِلُ مِنَ الشَّهَادَةِ لَأَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَبْقَى مَعَ هَؤُلَاءِ يَوْمًا وَاحِدًا، عَزْمُ اللَّهِ لَنَا وَلَكُمْ عَلَى تَقْوَاهُ وَهُدَاهُ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَالسَّلَامُ. فَرَدَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ يُسَلِّيهِ عَنِ النَّاسِ، وَيُعَزِّيهِ فِي مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَيَحُثُّهُ عَلَى مُلَاطَفَةِ النَّاسِ وَالصَّبْرِ عَلَى مُسِيئِهِمْ، فَإِنَّ ثَوَابَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وَقَالَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ رُبَّمَا تَثَاقَلُوا ثُمَّ نَشَطُوا، فَارْفُقْ بِهِمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ رَكِبَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الْبَصْرَةِ إِلَى عَلِيٍّ، وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، وَاسْتَخْلَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَلَى الْبَصْرَةِ زِيَادًا. وَفِي هَذَا الْعَامِ بَعَثَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ كِتَابًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو الْحَضْرَمِيِّ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِقْرَارِ بِمَا حَكَمَ لَهُ بِهِ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَلَمَّا قَدِمَهَا نَزَلَ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ فَأَجَارُوهُ، فَنَهَضَ إِلَيْهِ زِيَادٌ وَبَعَثَ إِلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَعْيَنَ بْنَ ضُبَيْعَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَثَارُوا إِلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا فَقُتِلَ أَعْيَنُ بْنُ ضُبَيْعَةَ أَمِيرُ السَّرِيَّةِ الَّتِي بَعَثَهَا عَلِيٌّ، فَكَتَبَ نَائِبُ ابْنِ عَبَّاسٍ زِيَادٌ إِلَى عَلِيٍّ يُعْلِمُهُ بِمَا وَقَعَ بِالْبَصْرَةِ مِنَ الْمُخَالَفَةِ بَعْدَ خُرُوجِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْهَا، فَبَعَثَ عِنْدَ ذَلِكَ عَلِيٌّ جَارِيَةَ بْنَ قُدَامَةَ التَّمِيمِيَّ فِي خَمْسِينَ رَجُلًا إِلَى قَوْمِهِ بَنِي
تَمِيمٍ، وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَيْهِمْ، فَرَجَعَ أَكْثَرُهُمْ عَنِ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَصَدَهُ جَارِيَةُ فَحَصَرَهَ فِي دَارٍ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مَعَهُ - قِيلَ: كَانَ عَدَدُهُمْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا. وَقِيلَ: سَبْعِينَ - فَحَرَّقَهُمْ بِالنَّارِ، بَعْدَ أَنْ أَعْذَرَ إِلَيْهِمْ وَأَنْذَرَهُمْ ; فَلَمْ يَقْبَلُوا وَلَمْ يَرْجِعُوا عَمَّا جَاءُوا لَهُ مِنْ جِهَةِ مُعَاوِيَةَ.
فَصْلٌ (قِتَالُ عَلِيٍّ بَنِي نَاجِيَةَ مِنَ الْخَوَارِجِ)
وَقَدْ صَحَّحَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ قِتَالَ عَلِيٍّ لِأَهْلِ النَّهْرَوَانِ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، وَكَذَلِكَ خُرُوجُ الْخِرِّيتِ بْنِ رَاشِدٍ النَّاجِيِّ كَانَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا، وَكَانَ مَعَ الْخِرِّيتِ ثَلَاثُمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ بَنِي نَاجِيَةَ - وَكَانَ مَعَ عَلِيٍّ بِالْكُوفَةِ - فَجَاءَ إِلَى عَلِيٍّ فَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ: وَاللَّهِ يَا عَلِيُّ لَا أُطِيعُ أَمْرَكَ وَلَا أُصَلِّي خَلْفَكَ إِنِّي لَكَ غَدًا لَمُفَارِقٌ. فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، إِذًا تَعْصِي رَبَّكَ، وَتَنْقُضُ عَهْدَكَ، وَلَا تَضُرُّ إِلَّا نَفْسَكَ، وَلِمَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّكَ حَكَّمْتَ فِي الْكِتَابِ، وَضَعُفْتَ عَنْ قِيَامِ الْحَقِّ إِذْ جَدَّ الْجِدُّ، وَرَكَنْتَ إِلَى الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، فَأَنَا عَلَيْكَ زَارٍ وَعَلَيْكَ نَاقِمٌ، وَإِنَّا لَكُمْ جَمِيعًا مُبَايِنُونَ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَسَارَ بِهِمْ نَحْوَ بِلَادِ الْبَصْرَةِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ عَلِيٌّ مَعْقِلَ بْنَ قَيْسٍ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِخَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ
الطَّائِيِّ - وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالدِّينِ وَالْبَأْسِ وَالنَّجْدَةِ - وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْمَعَ لَهُ وَيُطِيعَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا صَارُوا جَيْشًا وَاحِدًا، ثُمَّ خَرَجُوا فِي آثَارِ الْخِرِّيتِ وَأَصْحَابِهِ فَلَحِقُوهُمْ، وَقَدْ أَخَذُوا فِي جِبَالِ رَامَهُرْمُزَ قَالَ: فَصَفَفْنَا لَهُمْ ثُمَّ أَقْبَلْنَا إِلَيْهِمْ، فَجَعَلَ مَعْقِلٌ عَلَى مَيْمَنَتِهِ يَزِيدَ بْنَ مَعْقِلَ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ مِنْجَابَ بْنَ رَاشِدٍ الضَّبِّيَّ، وَوَقَفَ الْخِرِّيتُ فِي مَنْ مَعَهُ مِنَ الْعَرَبِ فَكَانُوا مَيْمَنَةً، وَجَعَلَ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْأَكْرَادِ وَالْعُلُوجِ مَيْسَرَةً. قَالَ: وَسَارَ فِينَا مَعْقِلُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: عِبَادَ اللَّهِ لَا تَبْدَأُوا الْقَوْمَ وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَأَقِلُّوا الْكَلَامَ، وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ، وَأَبْشِرُوا فِي قِتَالِهِمْ بِالْأَجْرِ، إِنَّمَا تُقَاتِلُونَ مَارِقَةً مَرَقَتْ مِنَ الدِّينِ، وَعُلُوجًا كَسَرُوا الْخَرَاجَ، وَلُصُوصًا وَأَكْرَادًا، فَإِذَا حَمَلْتُ فَشُدُّوا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. ثُمَّ تَقَدَّمَ فَحَرَّكَ دَابَّتَهُ تَحْرِيكَتَيْنِ، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِمْ فِي الثَّالِثَةِ وَحَمَلْنَا مَعَهُ جَمِيعًا، فَوَاللَّهِ مَا صَبَرُوا لَنَا سَاعَةً وَاحِدَةً حَتَّى وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ، وَقَتَلْنَا مِنَ الْعُلُوجِ وَالْأَكْرَادِ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِمِائَةٍ، وَفَرَّ الْخِرِّيتُ مُنْهَزِمًا حَتَّى لَحِقَ بِأَسْيَافَ - وَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ قَوْمِهِ كَثِيرَةٌ - فَاتَّبَعُوهُ فَقَتَلُوهُ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ
أَصْحَابِهِ بِسَيْفِ الْبَحْرِ، قَتَلَهُ النُّعْمَانُ بْنُ صُهْبَانَ، وَقُتِلَ مَعَهُ فِي الْمَعْرَكَةِ مِائَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا. ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ وَقَعَاتٍ كَثِيرَةً كَانَتْ فِيهَا بَيْنَ أَصْحَابِ عَلِيٍّ وَالْخَوَارِجِ.
ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، ثَنَا أَبُو الْحَسَنِ - يَعْنِي الْمَدَائِنِيَّ - عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ، عَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ، قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَمَّا قَتَلَ عَلِيٌّ أَهْلَ النَّهْرَوَانِ، خَالَفَهُ قَوْمٌ كَثِيرُونَ، وَانْتَقَضَتْ أَطْرَافُهُ وَخَالَفَهُ بَنُو نَاجِيَةَ، وَقَدِمَ ابْنُ الْحَضْرَمِيِّ إِلَى الْبَصْرَةِ، وَانْتَقَضَ أَهْلُ الْجِبَالِ، وَطَمِعَ أَهْلُ الْخَرَاجِ فِي كَسْرِهِ، وَأَخْرَجُوا سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ مِنْ فَارِسَ - وَكَانَ عَامِلًا عَلَيْهَا لِعَلِيٍّ - فَأَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِزِيَادِ بْنِ أَبِيهِ أَنْ يُوَلِّيَهُ إِيَّاهَا فَوَلَّاهُ إِيَّاهَا، فَسَارَ إِلَيْهَا فِي السَّنَةِ الْآتِيَةِ فِي جَمْعٍ كَثِيرٍ، فَوَطِئَهُمْ حَتَّى أَدَّوُا الْخَرَاجَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ قُثَمُ بْنُ الْعَبَّاسِ، نَائِبُ عَلِيٍّ عَلَى مَكَّةَ، وَكَانَ أَخُوهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ نَائِبَ الْيَمَنِ، وَأَخُوهُمَا