الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ]
قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: فِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ الصَّوَارِي. وَالصَّحِيحُ فِي قَوْلِ غَيْرِهِ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ تَكَاتَبَ الْمُنْحَرِفُونَ عَنْ طَاعَةِ عُثْمَانَ، رضي الله عنه، وَكَانَ جُمْهُورُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ - وَهُمْ فِي مُعَامَلَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بِحِمْصَ مَنْفِيُّونَ عَنِ الْكُوفَةِ - وَثَارُوا عَلَى سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَمِيرِ الْكُوفَةِ، وَتَأَلَّبُوا عَلَيْهِ وَنَالُوا مِنْهُ وَمِنْ عُثْمَانَ، وَبَعَثُوا إِلَى عُثْمَانَ مَنْ يُنَاظِرُهُ فِيمَا فَعَلَ، وَفِيمَا اعْتَمَدَ مَنْ عَزْلِ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَتَوْلِيَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ، وَأَغْلَظُوا لَهُ فِي الْقَوْلِ، وَطَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَعْزِلَ عُمَّالَهُ وَيَسْتَبْدِلَ بِهِمْ غَيْرَهُمْ مِنَ السَّابِقَيْنَ وَمِنَ الصَّحَابَةِ، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ جِدًّا وَبَعَثَ إِلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ، فَأَحْضَرَهُمْ عِنْدَهُ لِيَسْتَشِيرَهُمْ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ أَمِيرُ الشَّامِ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَمِيرُ مِصْرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَمِيرُ الْمَغْرِبِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ أَمِيرُ الْكُوفَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ، فَاسْتَشَارَهُمْ فِيمَا حَدَثَ مِنَ الْأَمْرِ وَافْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ، فَأَشَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَامِرٍ أَنْ يَشْغَلَهُمْ بِالْغَزْوِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الشَّرِّ فَلَا يَكُونَ هَمُّ أَحَدِهِمْ إِلَّا نَفْسَهُ وَمَا هُوَ فِيهِ مِنْ دَبَرَةِ دَابَّتِهِ، وَقَمْلِ
فَرْوَتِهِ، فَإِنَّ غَوْغَاءَ النَّاسِ إِذَا تَفَرَّغُوا وَبَطِلُوا، اشْتَغَلُوا بِمَا لَا يُغْنِي، وَتَكَلَّمُوا فِيمَا لَا يُرْضِي، وَإِذَا تَفَرَّقُوا نَفَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَغَيْرَهُمْ. وَأَشَارَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ بِأَنْ يَسْتَأْصِلَ شَأْفَةَ الْمُفْسِدِينَ، وَيَقْطَعَ دَابِرَهُمْ. وَأَشَارَ مُعَاوِيَةُ بِأَنْ يَرُدَّ عُمَّالَهُ إِلَى أَقَالِيمِهِمْ، وَأَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَا تَأَلَّبُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، فَإِنَّهُمْ أَقَلُّ وَأَضْعَفُ جُنْدًا. وَأَشَارَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ بِأَنْ يَتَأَلَّفَهُمْ بِالْمَالِ فَيُعْطِيَهِمْ مِنْهُ مَا يَكُفُّ بِهِ شَرَّهُمْ، وَيَأْمَنُ غَائِلَتَهُمْ، وَيَعْطِفُ بِهِ قُلُوبَهُمْ إِلَيْهِ. وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَامَ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عُثْمَانُ، فَإِنَّكَ قَدْ رَكَّبْتَ النَّاسَ مَا يَكْرَهُونَ، فَإِمَّا أَنْ تَعْزِلَ عَنْهُمْ مَا يَكْرَهُونَ، وَإِمَّا أَنْ تَقَدَّمَ فَتُنْزِلَ عُمَّالَكَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ لَهُ كَلَامًا فِيهِ غِلْظَةٌ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فِي السِّرِّ بِأَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ هَذَا لِيُبَلِّغَ عَنْهُ مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ النَّاسِ إِلَيْهِمْ لِيَرْضَوْا مِنْ عُثْمَانَ بِهَذَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَرَّرَ عُثْمَانُ عُمَّالَهُ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَتَأَلَّفَ قُلُوبَ أُولَئِكَ بِالْمَالِ، وَأَمَرَ بِأَنْ يُبْعَثُوا فِي الْغَزْوِ إِلَى الثُّغُورِ، فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَصَالِحِ كُلِّهَا، وَلَمَّا رَجَعَتِ الْعُمَّالُ إِلَى أَقَالِيمِهَا امْتَنَعَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَلَبِسُوا السِّلَاحَ وَحَلَفُوا أَنْ لَا يُمَكِّنُوهُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَعْزِلَهُ عُثْمَانُ وَيُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، وَكَانَ اجْتِمَاعُهُمْ بِمَكَانٍ يُقَالُ لَهُ: الْجَرَعَةُ. وَقَدْ قَالَ يَوْمَئِذٍ الْأَشْتَرُ النَّخَعِيُّ وَاللَّهِ لَا يُدْخِلُهَا عَلَيْنَا مَا حَمَلْنَا سُيُوفَنَا. وَتَوَاقَفَ النَّاسُ بِالْجَرَعَةِ، وَأَحْجَمَ سَعِيدٌ عَنْ قِتَالِهِمْ وَصَمَّمُوا
عَلَى مَنْعِهِ. وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ حُذَيْفَةُ، وَأَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، فَجَعَلَ أَبُو مَسْعُودٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَا يَرْجِعُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ حَتَّى يَكُونَ دِمَاءٌ. فَجَعَلَ حُذَيْفَةُ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَيَرْجِعَنَّ وَلَا يَكُونُ فِيهَا مِحْجَمَةٌ مِنْ دَمٍ، وَمَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ عَلِمْتُهُ وَمُحَمَّدٌ، صلى الله عليه وسلم، حَيٌّ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ كَرَّ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَسَرَ الْفِتْنَةَ، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَكَتَبُوا إِلَى عُثْمَانَ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَيْهِمْ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، فَأَجَابَهُمْ عُثْمَانُ إِلَى مَا سَأَلُوا؛ إِزَاحَةً لِعُذْرِهِمْ، وَإِزَالَةً لِشُبَهِهِمْ، وَقَطْعًا لِعِلَلِهِمْ.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ سَبَبَ تَأَلُّبِ الْأَحْزَابِ عَلَى عُثْمَانَ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ. كَانَ يَهُودِيًّا فَأَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَصَارَ إِلَى مِصْرَ، فَأَوْحَى إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ النَّاسِ كَلَامًا اخْتَرَعَهُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ مَضْمُونُهُ أَنَّهُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: أَلَيْسَ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ سَيَعُودُ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ الرَّجُلُ: بَلَى! فَيَقُولُ لَهُ: فَرَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، أَفْضَلُ مِنْهُ فَمَا تُنْكِرُ أَنْ يَعُودَ إِلَى هَذِهِ الدُّنْيَا وَهُوَ أَشْرَفُ مِنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام! ثُمَّ يَقُولُ: وَقَدْ كَانَ أَوْصَى إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ فَمُحَمَّدٌ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَعَلِيٌّ خَاتَمُ الْأَوْصِيَاءِ. ثُمَّ يَقُولُ: فَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِمْرَةِ مِنْ عُثْمَانَ، وَعُثْمَانُ مُعْتَدٍ فِي وِلَايَتِهِ مَا لَيْسَ لَهُ. فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ وَأَظْهَرُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ. فَافْتُتِنَ بِهِ بَشَرٌ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، وَكَتَبُوا إِلَى جَمَاعَاتٍ مِنْ عَوَامِّ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ؛ فَتَمَالَئُوا عَلَى ذَلِكَ، وَتَكَاتَبُوا فِيهِ، وَتَوَاعَدُوا أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْإِنْكَارِ عَلَى عُثْمَانَ، وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ مَنْ يُنَاظِرُهُ وَيَذْكُرُ لَهُ
مَا يَنْقِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ تَوْلِيَتِهِ أَقْرِبَاءَهُ وَذَوِي رَحِمِهِ وَعَزْلِهِ كِبَارَ الصَّحَابَةِ. فَدَخَلَ هَذَا فِي قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فَجَمَعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ نُوَّابَهُ مِنَ الْأَمْصَارِ، فَاسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارُوا عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِيمَا رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَتْ سَنَةُ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ كَثُرَ النَّاسُ عَلَى عُثْمَانَ، وَنَالُوا مِنْهُ أَقْبَحَ مَا نِيلَ مِنْ أَحَدٍ، فَكَلَّمَ النَّاسُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى عُثْمَانَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ وَرَائِي وَقَدْ كَلَّمُونِي فِيكَ، وَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ وَمَا أَعْرِفُ شَيْئًا تَجْهَلُهُ وَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لَا تَعْرِفُهُ، إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْءٍ فَنُخْبِرُكَ عَنْهُ، وَلَا خَلَوْنَا بِشَيْءٍ فَنُبَلِّغُكَهُ، وَمَا خُصِصْنَا بِأُمُورٍ عَنْكَ، وَقَدْ رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ وَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَنِلْتَ صِهْرَهُ وَمَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ بِأَوْلَى بِعَمَلِ أَلْحَقِّ مِنْكَ، وَلَا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ مِنْكَ، وَإِنَّكَ أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، رَحِمًا، وَلَقَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، مَا لَمْ يَنَالَا، وَلَا سَبَقَاكَ إِلَى شَيْءٍ، فَاللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ، فَإِنَّكَ وَاللَّهِ مَا تُبْصِرُ مِنْ عَمَى، وَلَا تَعْلَمُ مِنْ جَهْلٍ، وَإِنَّ الطَّرِيقَ لِوَاضِحٌ بَيِّنٌ، وَإِنَّ أَعْلَامَ الدِّينِ لِقَائِمَةٌ، تَعْلَمُ يَا عُثْمَانُ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ، هُدِيَ وَهَدَى، فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً، وَأَمَاتَ بِدْعَةً مَعْلُومَةً، فَوَاللَّهِ إِنَّ كُلًّا لَبَيِّنٌ، وَإِنَّ السُّنَنَ لَقَائِمَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ، وَإِنَّ الْبِدَعَ
لَقَائِمَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ، وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ، ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ، فَأَمَاتَ سُنَّةً مَعْلُومَةً، وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ:«يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْإِمَامِ الْجَائِرِ وَلَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَلَا عَاذِرٌ، فَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَا ثُمَّ يَرْتَطِمُ فِي غَمْرَةِ جَهَنَّمَ» . وَإِنِّي أُحَذِّرُكَ اللَّهَ وَأُحَذِّرُكَ سَطْوَتَهُ وَنِقْمَتَهُ، فَإِنَّ عَذَابَهُ شَدِيدٌ أَلِيمٌ، وَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَقْتُولَ، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ: يُقْتَلُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِمَامٌ فَيُفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَتُلَبَّسُ أُمُورُهَا عَلَيْهَا، وَيُتْرَكُونَ شِيَعًا لَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجًا، وَيَمْرَجُونَ فِيهَا مَرَجًا. فَقَالَ عُثْمَانُ: قَدْ وَاللَّهِ عَلِمْتُ لَتَقُولَنَّ الَّذِي قُلْتَ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنْتَ مَكَانِي مَا عَنَّفْتُكَ وَلَا أَسْلَمْتُكَ، وَلَا عِبْتُ عَلَيْكَ، وَلَا جِئْتُ مُنْكِرًا أَنْ وَصَلْتُ رَحِمًا، وَسَدَدْتُ خَلَّةً، وَأَوَيْتُ ضَائِعًا، وَوَلَّيْتُ شَبِيهًا بِمَنْ كَانَ عُمَرُ يُوَلِّي، أَنْشُدُكَ اللَّهَ يَا عَلِيُّ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ لَيْسَ هُنَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَتَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ وَلَّاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَلِمَ تَلُومُنِي أَنْ وَلَّيْتُ ابْنَ عَامِرٍ فِي رَحِمِهِ وَقَرَابَتِهِ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: سَأُخْبِرُكَ، إِنَّ عُمَرَ كَانَ كُلُّ مَنْ وَلَّى فَإِنَّمَا يَطَأُ عَلَى صِمَاخَيْهِ، وَإِنْ بَلَغَهُ عَنْهُ حَرْفٌ، جَاءَ بِهِ، ثُمَّ بَلَغَ بِهِ أَقْصَى الْغَايَةِ فِي الْعُقُوبَةِ،
وَأَنْتَ لَا تَفْعَلُ، ضَعُفْتَ وَرَفُقْتَ عَلَى أَقْرِبَائِكَ. فَقَالَ عُثْمَانُ: هُمْ أَقْرِبَاؤُكَ أَيْضًا. فَقَالَ عَلِيٌّ: لَعَمْرِي إِنَّ رَحِمَهُمْ مِنِّي لِقَرِيبَةٌ، وَلَكِنَّ الْفَضْلَ فِي غَيْرِهِمْ. قَالَ عُثْمَانُ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ عُمَرَ وَلَّى مُعَاوِيَةَ خِلَافَتَهُ كُلَّهَا؟ فَقَدَ وَلَّيْتُهُ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَانَ أَخْوَفَ مِنْ عُمَرَ مِنْ يَرْفَأَ غُلَامِ عُمَرَ مِنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ عَلِيٌّ: فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ يَقْطَعُ الْأُمُورَ دُونَكَ وَأَنْتَ تَعْلَمُهَا، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ: هَذَا أَمْرُ عُثْمَانَ. فَيَبْلُغُكَ وَلَا تُغَيِّرُ عَلَى مُعَاوِيَةَ. ثُمَّ خَرَجَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ، وَخَرَجَ عُثْمَانُ عَلَى إِثْرِهِ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَوَعَظَ، وَحَذَّرَ وَأَنْذَرَ، وَتَهَدَّدَ وَتَوَعَّدَ، وَأَبْرَقَ وَأَرْعَدَ، فَكَانَ فِيمَا قَالَ: أَلَا فَقَدَ وَاللَّهِ عِبْتُمْ عَلَيَّ بِمَا أَقْرَرْتُمْ بِهِ لِابْنِ الْخَطَّابِ، وَلَكِنَّهُ وَطِئَكُمْ بِرِجْلِهِ، وَضَرَبَكُمْ بِيَدِهِ، وَقَمَعَكُمْ بِلِسَانِهِ، فَدِنْتُمْ لَهُ عَلَى مَا أَحْبَبْتُمْ أَوْ كَرِهْتُمْ، وَلِنْتُ لَكُمْ وَأَوْطَأْتُ لَكُمْ كَتِفِي، وَكَفَفْتُ يَدِي وَلِسَانِي عَنْكُمْ، فَاجْتَرَأْتُمْ عَلَيَّ، أَمَا وَاللَّهِ لَأَنَا أَعَزُّ نَفَرًا، وَأَقْرَبُ نَاصِرًا، وَأَكْثَرُ عَدَدًا، وَأَقْمَنُ إِنْ قُلْتُ: هَلُمَّ. أُتِيَ إِلَيَّ، وَلَقَدْ أَعْدَدْتُ لَكُمْ أَقْرَانَكُمْ، وَأَفْضَلْتُ عَلَيْكُمْ فُضُولًا، وَكَشَرْتُ لَكُمْ عَنْ نَابِي، فَأَخْرَجْتُمْ مِنِّي خُلُقًا لَمْ أَكُنْ أُحْسِنُهُ، وَمَنْطِقًا لَمْ أَنْطِقْ بِهِ، فَكُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ وَطَعْنَكُمْ وَعَيْبَكُمْ عَلَى وُلَاتِكُمْ، فَإِنِّي قَدْ كَفَفْتُ عَنْكُمْ مِنْ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَلِيكُمْ لَرَضِيتُمْ مِنْهُ بِدُونِ مَنْطِقِي هَذَا، أَلَا فَمَا تَفْقِدُونَ مِنْ حَقِّكُمْ؟ فَوَاللَّهِ مَا
قَصَّرْتُ فِي بُلُوغِ مَا كَانَ يَبْلُغُ مَنْ كَانَ قَبْلِي. ثُمَّ اعْتَذَرَ عَمَّا كَانَ يُعْطِي أَقَارِبَهُ بِأَنَّهُ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ. فَقَامَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمْ وَاللَّهِ حَكَّمْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ السَّيْفَ، نَحْنُ وَاللَّهَ وَأَنْتُمْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَرَشْنَا لَكُمْ أَعْرَاضَنَا فَنَبَتْ بِكُمْ
…
مَعَارِسُكُمْ تَبْنُونَ فِي دِمَنِ الثَّرَى
فَقَالَ عُثْمَانُ: اسْكُتْ لَا سَكَتَّ، دَعْنِي وَأَصْحَابِي، مَا مَنْطِقُكَ فِي هَذَا! أَلَمْ أَتَقَدَّمْ إِلَيْكَ أَنْ لَا تَنْطِقَ! فَسَكَتَ مَرْوَانُ وَنَزَلَ عُثْمَانُ، رضي الله عنه.
وَذَكَرَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَمَّا وَدَّعَ عُثْمَانَ حِينَ عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ إِلَى الشَّامِ، عَرَضَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْحَلَ مَعَهُ إِلَى الشَّامِ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ كَثِيرَةٌ طَاعَتُهُمْ لِلْأُمَرَاءِ. فَقَالَ: لَا أَخْتَارُ بِجِوَارِ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، سِوَاهُ. فَقَالَ: أُجَهِّزُ لَكَ جَيْشًا مِنَ الشَّامِ يَكُونُونَ عِنْدَكَ يَنْصُرُونَكَ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ أُضَيِّقَ بِهِمْ بَلَدَ رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، عَلَى أَصْحَابِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَوَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَتُغْتَالَنَّ - أَوْ قَالَ: لَتُغْزَيَنَّ - فَقَالَ عُثْمَانُ: حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. ثُمَّ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ السَّيْفَ، وَقَوْسُهُ فِي يَدِهِ، فَمَرَّ عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ؛ فِيهِمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ وَاتَّكَأَ عَلَى قَوْسِهِ، وَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ يَشْتَمِلُ عَلَى الْوَصَاةِ بِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ إِسْلَامِهِ إِلَى أَعْدَائِهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ ذَاهِبًا. فَقَالَ الزُّبَيْرُ: مَا
رَأَيْتُهُ أَهْيَبَ فِي عَيْنِي مِنْ يَوْمِهِ هَذَا.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ مُعَاوِيَةَ اسْتَشْعَرَ الْأَمْرَ لِنَفْسِهِ مَنْ قَدْمَتِهِ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَمِعَ حَادِيًا يَرْتَجِزُ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فِي هَذَا الْعَامِ وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ ضَوَامِرُ الْمَطِيِّ
…
وَضُمَّرَاتُ عُوَّجِ الْقِسِيِّ
أَنَّ الْأَمِيرَ بَعْدَهُ عَلِيُّ
…
وَفِي الزُّبَيْرِ خَلَفٌ رَضِيُّ
وَطَلْحَةُ الْحَامِي لَهَا وَلِيُّ
فَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ - وَهُوَ يَسِيرُ خَلْفَ عُثْمَانَ: وَاللَّهِ إِنَّ الْأَمِيرَ بَعْدَهُ صَاحِبُ الْبَغْلَةِ الشَّهْبَاءِ. وَأَشَارَ إِلَى مُعَاوِيَةَ.
فَلَمَّا سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ لَمْ يَزَلْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ حَتَّى كَانَ مَا كَانَ، عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَبِهِ الثِّقَةُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ مَاتَ أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ بَدْرِيٌّ.
وَمَاتَ أَيْضًا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَعَاقِلُ بْنُ الْبُكَيْرِ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ.