الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَشِيَّةَ يَدْخُلُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ
…
عَلَى مُتَوَكِّلٍ أَوْفَى وَطَابَا
خَلِيلُ مُحَمِّدٍ وَوَزِيرُ صِدْقٍ
…
وَرَابِعُ خَيْرِ مَنْ وَطِئِ التُّرَابَا
[كَيْفِيَّةُ قَتْلِ عُثْمَانَ بِالْمَدِينَةِ وَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ]
فَصْلٌ (كَيْفِيَّةُ قَتْلِ عُثْمَانَ بِالْمَدِينَةِ وَبِهَا جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ)
إِنْ قَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ وَقَعَ قَتْلُ عُثْمَانَ، رضي الله عنه، بِالْمَدِينَةِ وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، رضي الله عنهم؟ فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا، أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ أَوْ كُلُّهُمْ، لَمْ يَكُنْ يَظُنُّ أَنَّهُ يَبْلُغُ الْأَمْرُ إِلَى قَتْلِهِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَكُونُوا يُحَاوِلُونَ قَتْلَهُ عَيْنًا، بَلْ طَلَبُوا مِنْهُ أَحَدَ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ ; إِمَّا أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ، أَوْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ، أَوْ يَقْتُلُوهُ، فَكَانُوا يَرْجُونَ أَنْ يُسَلِّمَ إِلَى النَّاسِ مَرْوَانَ، أَوْ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ وَيَسْتَرِيحَ مِنْ هَذِهِ الضَّائِقَةِ الشَّدِيدَةِ. وَأَمَّا الْقَتْلُ فَمَا كَانَ يَظُنُّ أَحَدٌ أَنَّهُ يَقَعُ، وَلَا أَنَّ هَؤُلَاءِ يَجْتَرِئُونَ عَلَيْهِ إِلَى مَا هَذَا حَدُّهُ، حَتَّى وَقَعَ مَا وَقَعَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِي، أَنَّ الصَّحَابَةَ مَانَعُوا دُونَهُ أَشَدَّ الْمُمَانَعَةِ، وَلَكِنْ لَمَّا وَقَعَ التَّضْيِيقُ الشَّدِيدُ عَزَمَ عُثْمَانُ عَلَى النَّاسِ أَنَّ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ وَيُغْمِدُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَفَعَلُوا، فَتَمَكَّنَ أُولَئِكَ مِمَّا أَرَادُوا، وَمَعَ هَذَا مَا ظَنَّ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِالْكُلِّيَّةِ.
الثَّالِثُ، أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجَ لَمَّا اغْتَنَمُوا غَيْبَةَ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ، وَلَمْ تَقْدِمِ الْجُيُوشُ مِنَ الْآفَاقِ لِلنُّصْرَةِ، بَلْ لَمَّا اقْتَرَبَ مَجِيئُهُمْ، انْتَهَزُوا فُرْصَتَهُمْ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ، وَصَنَعُوا مَا صَنَعُوا مِنَ الْأَمْرِ الْعَظِيمِ.
الرَّابِعُ، أَنَّ هَؤُلَاءِ الْخَوَارِجُ كَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَلْفَيْ مُقَاتِلٍ مِنَ الْأَبْطَالِ، وَرُبَّمَا لَمْ
يَكُنْ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ هَذِهِ الْعِدَّةُ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ ; لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا فِي الثُّغُورِ وَفِي الْأَقَالِيمِ فِي كُلِّ جِهَةٍ وَفِي الْحَجِّ.
وَمَعَ هَذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قَدِ اعْتَزَلَ هَذِهِ الْفِتْنَةَ وَلَزِمُوا بُيُوتَهُمْ، وَمَنْ كَانَ يَحْضُرُ مِنْهُمُ الْمَسْجِدَ لَا يَجِيءُ إِلَّا وَمَعَهُ السَّيْفُ يَضَعُهُ عَلَى حَبْوَتِهِ إِذَا احْتَبَى، وَالْخَوَارِجُ مُحْدِقُونَ بِدَارِ عُثْمَانَ، رضي الله عنه. وَرُبَّمَا لَوْ أَرَادُوا صَرْفَهُمْ عَنِ الدَّارِ لَمَا أَمْكَنَ ذَلِكَ.
وَلَكِنَّ كِبَارَ الصَّحَابَةِ قَدْ بَعَثُوا أَوْلَادَهُمْ إِلَى الدَّارِ يُجَاحِفُونَ عَنْ عُثْمَانَ، رضي الله عنه، لِكَيْ تَقْدَمَ الْجُيُوشُ مِنَ الْأَمْصَارِ لِنُصْرَتِهِ، فَمَا فَجَأَ النَّاسَ إِلَّا وَقَدْ ظَفِرَ أُولَئِكَ بِالدَّارِ مِنْ خَارِجِهَا، وَأَحْرَقُوا بَابَهَا، وَتَسَوَّرُوا عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ.
وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ أَسْلَمَهُ وَرَضِيَ بِقَتْلِهِ، فَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ رَضِيَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ، رضي الله عنه، بَلْ كُلُّهُمْ كَرِهَهُ، وَمَقَتَهُ، وَسَبَّ مَنْ فَعَلَهُ، وَلَكِنَّ بَعْضَهُمْ كَانَ يَوَدُّ لَوْ خَلَعَ نَفْسَهُ مِنَ الْأَمْرِ ; كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَعَمْرِو بْنِ الْحَمِقِ وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: دَفَنُوا عُثْمَانَ، رضي الله عنه بِحَشِّ كَوْكَبٍ، وَكَانَ قَدِ اشْتَرَاهُ وَزَادَهُ فِي الْبَقِيعِ.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ بَعْضُ السَّلَفِ حَيْثُ يَقُولُ وَقَدْ سُئِلَ عَنْ عُثْمَانَ: هُوَ أَمِيرُ الْبَرَرَةِ، وَقَتِيلُ الْفَجَرَةِ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ.
وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ فِي آخِرِ تَرْجَمَةِ عُثْمَانَ وَفَضَائِلِهِ، بَعْدَ حِكَايَتِهِ هَذَا الْكَلَامَ: قُلْتُ: الَّذِينَ قَتَلُوهُ أَوْ أَلَّبُوا عَلَيْهِ قَتَلُوا إِلَى عَفْوِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، وَالَّذِينَ خَذَلُوهُ خَذَلُوا وَتَنَغَّصَ عَيْشُهُمْ، وَكَانَ الْمُلْكُ بَعْدَهُ فِي نَائِبِهِ مُعَاوِيَةَ وَابْنَيْهِ، ثُمَّ فِي وَزِيرِهِ مَرْوَانَ وَثَمَانِيَةٍ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، اسْتَطَالُوا حَيَاتَهُ وَمَلُّوهُ مَعَ فَضْلِهِ وَسَوَابِقِهِ، فَتَمَلَّكَ عَلَيْهِمْ مَنْ هُوَ مِنْ بَنِي عَمِّهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ سَنَةً، فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. وَهَذَا لَفْظُهُ بِحُرُوفِهِ.