الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[صِفَةُ قَتْلِهِ رضي الله عنه]
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، ثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَنْبَأَنِي وَثَّابٌ قَالَ: بَعَثَنِي عُثْمَانُ فَدَعَوْتُ لَهُ الْأَشْتَرَ فَقَالَ: مَا يُرِيدُ النَّاسُ؟ قَالَ: ثَلَاثٌ لَيْسَ مِنْ إِحْدَاهُنَّ بُدٌّ. قَالَ: مَا هُنَّ؟ قَالَ: يُخَيِّرُونَكَ بَيْنَ أَنْ تَخْلَعَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ فَتَقُولَ: هَذَا أَمْرُكُمْ فَاخْتَارُوا مَنْ شِئْتُمْ، وَبَيْنَ أَنْ تُقِصَّ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ الْقَوْمَ قَاتِلُوكَ. فَقَالَ: أَمَّا أَنْ أَخْلَعَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ فَمَا كُنْتُ لِأَخْلَعَ سِرْبَالًا سَرْبَلَنِيهِ اللَّهُ، وَأَمَّا أَنْ أُقِصَّ لَهُمْ مِنْ نَفْسِي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ صَاحِبَيَّ بَيْنَ يَدَيَّ قَدْ كَانَا يُعَاقِبَانِ، وَمَا يَقُومُ بَدَنِي بِالْقِصَاصِ، وَأَمَّا أَنْ يَقْتُلُونِي، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُونِي لَا تَحَابُّونَ بَعْدِي أَبَدًا، وَلَا تُصَلُّونَ بَعْدِي جَمِيعًا أَبَدًا،
وَلَا تُقَاتِلُونَ بَعْدِي عَدُوًّا جَمِيعًا أَبَدًا. قَالَ: وَجَاءَ رُوَيْجِلٌ كَأَنَّهُ ذِئْبٌ فَاطَّلَعَ مِنْ بَابٍ وَرَجَعَ، وَجَاءَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَقَالَ بِهَا حَتَّى سَمِعْتُ وَقْعَ أَضْرَاسِهِ، فَقَالَ: مَا أَغْنَى عَنْكَ مُعَاوِيَةُ، وَمَا أَغْنَى عَنْكَ ابْنُ عَامِرٍ، وَمَا أَغْنَتْ عَنْكَ كُتُبُكَ. قَالَ: أَرْسِلْ لِحْيَتِي يَا ابْنَ أَخِي. قَالَ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ اسْتَعْدَى رَجُلًا مِنَ الْقَوْمِ بِعَيْنِهِ - يَعْنِي أَشَارَ إِلَيْهِ - فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ فَوَجَأَ بِهِ رَأْسَهُ. قُلْتُ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ تَعَاوَرُوا عَلَيْهِ وَاللَّهِ حَتَّى قَتَلُوهُ.
وَقَالَ سَيْفُ بْنُ عُمَرَ التَّمِيمِيُّ، رحمه الله، عَنِ الْغُصْنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ خَنْسَاءَ مَوْلَاةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - وَكَانَتْ تَكُونُ مَعَ نَائِلَةَ بِنْتِ الْفَرَافِصَةِ امْرَأَةِ عُثْمَانَ - أَنَّهَا كَانَتْ فِي الدَّارِ، وَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَأَهْوَى بِمَشَاقِصَ مَعَهُ لِيَجَأَ بِهَا فِي حَلْقِهِ، فَقَالَ: مَهْلًا يَا ابْنَ أَخِي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتَ مَأْخَذًا مَا كَانَ أَبُوكَ لِيَأْخُذَ بِهِ. فَتَرَكَهُ وَانْصَرَفَ مُسْتَحْيِيًا نَادِمًا، فَاسْتَقْبَلَهُ الْقَوْمُ عَلَى بَابِ الصُّفَّةِ، فَرَدَّهُمْ طَوِيلًا حَتَّى غَلَبُوهُ فَدَخَلُوا، وَخَرَجَ مُحَمَّدٌ رَاجِعًا، فَأَتَاهُ رَجُلٌ بِيَدِهِ جَرِيدَةٌ يُقَدِّمُهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَى عُثْمَانَ، فَضَرَبَ بِهَا رَأْسَهُ فَشَجَّهُ،
فَقَطَرَ دَمُهُ عَلَى الْمُصْحَفِ حَتَّى لَطَّخَهُ، ثُمَّ تَغَاوَوْا عَلَيْهِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَضَرَبَهُ عَلَى الثَّدْيِ بِالسَّيْفِ، وَوَثَبَتْ نَائِلَةُ بِنْتُ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةُ فَصَاحَتْ وَأَلْقَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: يَا بِنْتَ شَيْبَةَ أَيُقْتَلُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ! وَأَخَذَتِ السَّيْفَ فَقَطَعَ الرَّجُلُ يَدَهَا، وَانْتَهَبُوا مَتَاعَ الدَّارِ، وَمَرَّ رَجُلٌ عَلَى عُثْمَانَ وَرَأْسُهُ مَعَ الْمُصْحَفِ، فَضَرَبَ رَأَسَهُ بِرِجْلِهِ وَنَحَّاهُ عَنِ الْمُصْحَفِ وَقَالَ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ وَجْهَ كَافِرٍ أَحْسَنَ، وَلَا مَضْجَعَ كَافِرٍ أَكْرَمَ. فَلَا وَاللَّهِ مَا تَرَكُوا فِي دَارِهِ شَيْئًا حَتَّى الْأَقْدَاحَ إِلَّا ذَهَبُوا بِهِ.
وَرَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّ عُثْمَانَ لَمَّا عَزَمَ عَلَى أَهْلِ الدَّارِ فِي الِانْصِرَافِ، وَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ سِوَى أَهْلِهِ تَسَوَّرُوا عَلَيْهِ الدَّارَ، وَأَحْرَقُوا الْبَابَ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِيهِمْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَا أَبْنَائِهِمْ إِلَّا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَسَبَقَهُ بَعْضُهُمْ فَضَرَبُوهُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ وَصَاحَ النِّسْوَةُ فَانْذَعَرُوا وَخَرَجُوا، وَدَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ قُتِلَ، فَلَمَّا رَآهُ قَدْ أَفَاقَ قَالَ: عَلَى أَيِّ دِينٍ أَنْتَ يَا نَعْثَلُ؟ قَالَ: عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، وَلَسْتُ بِنَعْثَلٍ، وَلَكِنِّي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: غَيَّرْتَ كِتَابَ اللَّهِ. فَقَالَ: كِتَابُ اللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ. فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ وَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَقَالَ: إِنَّا لَا يُقْبَلُ مِنَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ نَقُولَ:
{رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67] . وَشَحَطَهُ بِيَدِهِ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى بَابِ الدَّارِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا ابْنَ أَخِي مَا كَانَ أَبُوكَ لِيَأْخُذَ بِلِحْيَتِي. وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ - يُلَقَّبُ حِمَارًا وَيُكَنَّى، بِأَبِي رُومَانَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْمُهُ رُومَانُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانَ أَزْرَقَ أَشْقَرَ. وَقِيلَ: كَانَ اسْمُهُ سُودَانَ بْنَ رُومَانَ الْمُرَادِيَّ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَ اسْمُ الَّذِي قَتَلَ عُثْمَانَ أَسْوَدُ بْنُ حُمْرَانَ ضَرَبَهُ بِحَرْبَةٍ - وَبِيَدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا فَقَالَ: أَفْرِجُوا. ثُمَّ جَاءَ فَضَرَبَهُ بِهِ فِي صَدْرِهِ حَتَّى أَقْعَصَهُ، ثُمَّ وَضَعَ ذُبَابَ السَّيْفِ فِي بَطْنِهِ وَاتَّكَأَ عَلَيْهِ وَتَحَامَلَ حَتَّى قَتَلَهُ، وَقَامَتْ نَائِلَةُ دُونَهُ فَقَطَعَ السَّيْفُ أَصَابِعَهَا، رضي الله عنها.
وَيُرْوَى أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ طَعْنَهُ بِمَشَاقِصَ فِي أُذُنِهِ حَتَّى دَخَلَتْ حَلْقَهُ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ اسْتَحْيَى وَرَجَعَ حِينَ قَالَ لَهُ عُثْمَانُ: لَقَدْ أَخَذْتَ بِلِحْيَةٍ كَانَ أَبُوكَ يُكْرِمُهَا. فَتَذَمَّمَ مِنْ ذَلِكَ وَغَطَّى وَجْهَهُ وَرَجَعَ وَجَاحَفَ دُونَهُ فَلَمْ يُفِدْ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا وَكَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، أَنَّ كِنَانَةَ بْنَ بِشْرٍ ضَرَبَ جَبِينَهُ وَمُقَدَّمَ رَأْسِهِ بِعَمُودٍ حَدِيدٍ، فَخَرَّ لِجَنْبِهِ، وَضَرَبَهُ سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ الْمُرَادِيُّ بَعْدَ مَا خَرَّ لِجَنْبِهِ فَقَتَلَهُ، وَأَمَّا عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ فَوَثَبَ عَلَى عُثْمَانَ فَجَلَسَ عَلَى صَدْرِهِ وَبِهِ رَمَقٌ، فَطَعَنَهُ تِسْعَ طَعَنَاتٍ وَقَالَ: أَمَّا ثَلَاثٌ مِنْهُنَّ فَلِلَّهِ، وَسِتٌّ لِمَا كَانَ فِي صَدْرِي عَلَيْهِ.
وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَدَقَةَ الْبَغْدَادِيُّ وَإِسْحَاقُ بْنُ دَاوُدَ الصَّوَّافُ التُّسْتَرِيُّ، قَالَا: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ خِدَاشٍ، ثَنَا سَلْمُ بْنُ قُتَيْبَةَ، ثَنَا مُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنِي سَيَّافُ عُثْمَانَ أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: ارْجِعْ يَا ابْنَ أَخِي فَلَسْتَ بِقَاتِلِي. قَالَ: وَكَيْفَ عَلِمْتَ ذَاكَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أُتِيَ بِكَ النَّبِيُّ، صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ سَابِعِكَ فَحَنَّكَكَ وَدَعَا لَكَ بِالْبَرَكَةِ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ سَوَاءً. ثُمَّ دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَنْتَ قَاتِلِي. قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ يَا نَعْثَلُ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أُتِيَ بِكَ رَسُولُ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ سَابِعِكَ لِيُحَنِّكَكَ وَيَدْعُوَ لَكَ بِالْبَرَكَةِ، فَخَرِيتَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَوَثَبَ عَلَى صَدْرِهِ وَقَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، وَوَجَأَهُ بِمَشَاقِصَ كَانَتْ فِي يَدِهِ. هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا وَفِيهِ نَكَارَةٌ.
وَثَبَتَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ أَوَّلَ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهِ سَقَطَتْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] . وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ قَدْ وَصَلَ إِلَيْهَا فِي التِّلَاوَةِ أَيْضًا حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ. وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ وَضَعَ الْمُصْحَفَ يَقْرَأُ فِيهِ الْقُرْآنَ.
وَرَوَى ابْنُ عَسَاكِرَ أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ فَلَمَّا قَطَرَ الدَّمُ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي " تَارِيخِهِ " بِأَسَانِيدِهِ أَنَّ الْمِصْرِيِّينَ لَمَّا وَجَدُوا ذَلِكَ الْكِتَابَ مَعَ الْبَرِيدِ إِلَى أَمِيرِ مِصْرَ، فِيهِ الْأَمْرُ بِقَتْلِ بَعْضِهِمْ، وَصَلْبِ بَعْضِهِمْ، وَبِقَطْعِ أَيْدِي بَعْضِهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ، وَكَانَ قَدْ كَتَبَهُ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ عَلَى لِسَانِ عُثْمَانَ مُتَأَوِّلًا قَوْلَهُ تَعَالَى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] . وَعِنْدَهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، رضي الله عنه، مِنْ جُمْلَةِ الْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْتَاتَ عَلَى عُثْمَانَ وَيَكْتُبَ عَلَى لِسَانِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، وَيُزَوِّرَ عَلَى خَطِّهِ وَخَاتَمِهِ، وَيَبْعَثَ غُلَامَهُ عَلَى بَعِيرِهِ بَعْدَ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَ عُثْمَانَ وَبَيْنَ الْمِصْرِيِّينَ عَلَى تَأْمِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى مِصْرَ، بِخِلَافِ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِهَذَا لَمَّا
وَجَدُوا هَذَا الْكِتَابَ عَلَى خِلَافِ مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ، وَظَنُّوا أَنَّهُ مِنْ عُثْمَانَ، أَعْظَمُوا ذَلِكَ، مَعَ مَا هُمْ مُشْتَمَلُونَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ، فَرَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَطَافُوا بِهِ عَلَى رُءُوسِ الصَّحَابَةِ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْمٌ آخَرُونَ، حَتَّى ظَنَّ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّ هَذَا عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ، رضي الله عنه، فَلَمَّا قِيلَ لِعُثْمَانَ، رضي الله عنه، فِي أَمْرِ هَذَا الْكِتَابِ بِحَضْرَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الصَّحَابَةِ وَجُمْهُورِ الْمِصْرِيِّينَ، حَلَفَ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْبَارُّ الرَّاشِدُ - أَنَّهُ لَمْ يَكْتُبْ هَذَا الْكِتَابَ وَلَا أَمَلَاهُ عَلَى مَنْ كَتَبَهُ، وَلَا عِلْمَ بِهِ فَقَالُوا لَهُ: فَإِنَّ عَلَيْهِ خَاتَمَكَ. فَقَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُزَوَّرُ عَلَى خَطِّهِ وَخَاتَمِهِ. قَالُوا: فَإِنَّهُ مَعَ غُلَامِكَ وَعَلَى جَمَلِكَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَقَالُوا لَهُ بَعْدَ كُلِّ مَقَالِهِ: إِنْ كُنْتَ قَدْ كَتَبْتَهُ فَقَدْ خُنْتَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَدْ كَتَبْتَهُ بَلْ كُتِبَ عَلَى لِسَانِكَ وَأَنْتَ لَا تَعْلَمُ فَقَدْ عَجَزْتَ، وَمِثْلُكَ لَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ ; إِمَّا لِخِيَانَتِكَ، وَإِمَّا لِعَجْزِكَ.
وَهَذَا الَّذِي قَالُوا بَاطِلٌ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَإِنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ كَتَبَ الْكِتَابَ - وَهُوَ لَمْ يَكْتُبْهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ - لَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ رَأَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً لِلْأُمَّةِ فِي إِزَالَةِ شَوْكَةِ هَؤُلَاءِ الْبُغَاةِ الْخَارِجِينَ عَلَى الْإِمَامِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ عَلِمَ بِهِ فَأَيُّ عَجْزٍ يُنْسَبُ إِلَيْهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ وَزُوِّرَ عَلَى لِسَانِهِ؟ ! وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْصُومٍ بَلِ الْخَطَأُ وَالْغَفْلَةُ جَائِزَانِ عَلَيْهِ، رضي الله عنه، وَإِنَّمَا هَؤُلَاءِ الْجَهَلَةُ الْبُغَاةُ مُتَعَنِّتُونَ خَوَنَةٌ ظَلَمَةٌ مُفْتَرُونَ، وَلِهَذَا صَمَّمُوا بَعْدَ هَذَا عَلَى حَصْرِهِ وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ حَتَّى مَنَعُوهُ الْمِيرَةَ وَالْمَاءَ وَالْخُرُوجَ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَتَهَدَّدُوهُ بِالْقَتْلِ، وَلِهَذَا خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَهُمْ بِهِ مِنْ تَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مُنِعَ مِنْهُ، وَمِنْ وَقْفِهِ بِئْرَ رُومَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ مُنِعَ مَاءَهَا، وَمِنْ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، يَقُولُ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ ; النَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالثَّيِّبُ
الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ» وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْ نَفَسًا، وَلَا ارْتَدَّ بَعْدَ إِيمَانِهِ، وَلَا زَنَى فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، بَلْ وَلَا مَسَّ فَرْجَهُ بِيَمِينِهِ بَعْدَ أَنْ بَايَعَ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم. وَفِي رِوَايَةٍ بَعْدَ أَنْ كَتَبَ بِهَا الْمُفَصَّلَ. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمْ مِنْ فَضَائِلِهِ وَمَنَاقِبِهِ مَا لَعَلَّهُ يَنْجَعُ فِيهِمْ بِالْكَفِّ عَنْهُ وَالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، فَأَبَوْا إِلَّا الِاسْتِمْرَارَ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. وَمَنَعُوا النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْهِ وَالْخُرُوجِ مِنْ عِنْدِهِ، حَتَّى اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحَالُ، وَضَاقَ الْمَجَالُ، وَنَفَدَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَاءِ، فَاسْتَغَاثَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ فَرَكِبَ عَلِيٌّ بِنَفْسِهِ وَحَمَلَ مَعَهُ قِرَبًا مِنَ الْمَاءِ فَبِالْجَهْدِ حَتَّى أَوْصَلَهَا إِلَيْهِ بَعْدَ مَا نَالَهُ مِنْ جَهَلَةِ أُولَئِكَ كَلَامٌ غَلِيظٌ، وَتَنْفِيرٌ لِدَابَّتِهِ، وَإِخْرَاقٌ عَظِيمٌ بَلِيغٌ، وَكَانَ قَدْ زَجَرَهُمْ أَتَمَّ الزَّجْرِ، حَتَّى قَالَ لَهُمْ فِيمَا قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ لَا يَفْعَلُونَ كَفِعْلِكُمْ هَذَا بِهَذَا الرَّجُلِ، وَاللَّهِ إِنَّهُمْ لِيَأْسِرُونِ فَيُطْعِمُونَ وَيَسْقُونَ. فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ حَتَّى رَمَى بِعِمَامَتِهِ فِي وَسَطِ الدَّارِ، وَجَاءَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَاكِبَةً بَغْلَةً وَحَوْلَهَا حَشَمُهَا وَخَدَمُهَا، فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِكِ؟ فَقَالَتْ: إِنْ عِنْدَهُ وَصَايَا بَنِي أُمَيَّةَ لِأَيْتَامٍ وَأَرَامِلَ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُذَكِّرَهُ بِهَا. فَكَذَّبُوهَا فِي ذَلِكَ، وَنَالَهَا مِنْهُمْ شِدَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَقَطَعُوا حِزَامَ الْبَغْلَةِ وَنَدَّتْ بِهَا، وَكَادَتْ أَوْ سَقَطَتْ عَنْهَا، وَكَادَتْ تُقْتَلُ لَوْلَا تَلَاحَقَ بِهَا النَّاسُ فَأَمْسَكُوا بِدَابَّتِهَا، وَوَقَعَ أَمْرٌ كَبِيرٌ جِدًّا، وَلَمْ يَبْقَ يَحْصُلُ لِعُثْمَانَ وَأَهْلِهِ مِنَ الْمَاءِ إِلَّا مَا يُوصِلُهُ إِلَيْهِمْ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الْخُفْيَةِ لَيْلًا، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَمَّا وَقَعَ هَذَا أَعْظَمَهُ النَّاسُ جِدًّا، وَلَزِمَ أَكْثَرُ النَّاسِ بُيُوتَهُمْ، وَجَاءَ وَقْتُ الْحَجِّ فَخَرَجَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَقِيلَ لَهَا: إِنَّكِ لَوْ أَقَمْتِ كَانَ أَصْلَحَ، لَعَلَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَهَابُونَكِ. فَقَالَتْ: إِنِّي أَخْشَى أَنْ أُشِيرَ عَلَيْهِمْ بِرَأْيٍ فَيَنَالَنِي مِنْهُمْ مِنَ الْأَذِيَّةِ مَا نَالَ أُمَّ حَبِيبَةَ. فَعَزَمَتْ عَلَى الْخُرُوجِ.
وَاسْتَخْلَفَ عُثْمَانُ، رضي الله عنه، فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى الْحَجِّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ مُقَامِي عَلَى بَابِكَ أُجَاحِفُ عَنْكَ أَفْضَلُ مِنَ الْحَجِّ. فَعَزَمَ عَلَيْهِ فَخَرَجَ بِالنَّاسِ إِلَى الْحَجِّ، وَاسْتَمَرَّ الْحِصَارُ بِالدَّارِ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَرَجَعَ الْبَشِيرُ مِنَ الْحَجِّ، فَأَخْبَرَ بِسَلَامَةِ النَّاسِ، وَأَخْبَرَ أُولَئِكَ بِأَنَّ أَهْلَ الْمَوْسِمِ عَازِمُونَ عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْمَدِينَةِ لِيَكُفُّوكُمْ عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَبَلَغَهُمْ أَيْضًا أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَدْ بَعَثَ جَيْشًا مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ قَدْ نَفَّذَ آخَرَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ حُدَيْجٍ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ قَدْ بَعَثُوا الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو فِي جَيْشٍ، وَأَنَّ أَهْلَ الْبَصْرَةِ بَعَثُوا مُجَاشِعًا فِي جَيْشٍ، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَمَّمُوا عَلَى أَمْرِهِمْ وَبَالَغُوا فِيهِ وَانْتَهَزُوا الْفُرْصَةَ بِقِلَّةِ النَّاسِ وَغَيْبَتِهِمْ فِي الْحَجِّ، وَأَحَاطُوا بِالدَّارِ، وَجَدُّوا فِي الْحِصَارِ، وَأَحْرَقُوا الْبَابَ، وَتَسَوَّرُوا مِنَ الدَّارِ الْمُتَاخِمَةِ لِلدَّارِ ; كَدَارِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرِهَا، وَجَاحَفَ النَّاسُ عَنْ عُثْمَانَ أَشَدَّ الْمُجَاحَفَةِ، وَاقْتَتَلُوا عَلَى الْبَابِ قِتَالًا شَدِيدًا، وَتَبَارَزُوا وَتَرَاجَزُوا بِالشِّعْرِ فِي مُبَارَزَتِهِمْ، وَجَعَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: هَذَا يَوْمٌ طَابَ امْضِرَابُ. وَقُتِلَ طَائِفَةٌ مِنْ
أَهْلِ الدَّارِ، وَآخَرُونَ مِنْ أُولَئِكَ الْفُجَّارِ، وَجُرِحَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ جِرَاحَاتٍ كَثِيرَةً، وَكَذَلِكَ جُرِحَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ فَقُطِعَ إِحْدَى عِلْبَاوَيْهِ، فَعَاشَ أَوْقَصَ حَتَّى مَاتَ.
وَمِنْ أَعْيَانِ مَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ عُثْمَانَ، زِيَادُ بْنُ نُعَيْمٍ الْفِهْرِيُّ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، وَنِيَارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسْلَمِيُّ، فِي أُنَاسٍ وَقْتَ الْمَعْرَكَةِ.
وَيُقَالُ: إِنَّهُ انْهَزَمَ أَصْحَابُ عُثْمَانَ ثُمَّ تَرَاجَعُوا. وَلَمَّا رَأَى عُثْمَانُ ذَلِكَ عَزَمَ عَلَى النَّاسِ لِيَنْصَرِفُوا إِلَى بُيُوتِهِمْ، فَانْصَرَفُوا - كَمَا تَقَدَّمَ - فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ أَحَدٌ سِوَى أَهْلِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ وَمِنَ الْجُدْرَانِ، وَفَزِعَ عُثْمَانُ إِلَى الصَّلَاةِ وَافْتَتَحَ سُورَةَ طه - وَكَانَ سَرِيعَ الْقِرَاءَةِ - فَقَرَأَهَا وَالنَّاسُ فِي غَلَبَةٍ عَظِيمَةٍ، قَدِ احْتَرَقَ الْبَابُ وَالسَّقِيفَةُ الَّتِي عِنْدَهُ، وَخَافُوا أَنْ يَصِلَ الْحَرِيقُ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ فَرَغَ عُثْمَانُ مِنْ صِلَاتِهِ وَجَلَسَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ الْمُصْحَفُ، وَجَعَلَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ
رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: الْمَوْتُ الْأَسْوَدُ. فَخَنَقَهُ خَنْقًا شَدِيدًا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، وَجَعَلَتْ نَفْسُهُ تَتَرَدَّدُ فِي حَلْقِهِ، فَتَرَكَهُ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ، ثُمَّ دَخَلَ ابْنُ أَبِي بَكْرٍ فَمَسَكَ بِلِحْيَتِهِ، ثُمَّ نَدِمَ وَخَرَجَ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِ آخَرُ وَمَعَهُ سَيْفٌ فَضَرَبَهُ بِهِ فَاتَّقَاهُ بِيَدِهِ فَقَطَعَهَا. فَقِيلَ: إِنَّهُ أَبَانَهَا. وَقِيلَ: بَلْ قَطَعَهَا وَلَمْ يُبِنْهَا. إِلَّا أَنَّ عُثْمَانَ قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّهَا لَأَوَّلُ يَدٍ كَتَبَتِ الْمُفَصَّلَ. فَكَانَ أَوَّلُ قَطْرَةِ دَمٍ مِنْهَا سَقَطَتْ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] . ثُمَّ جَاءَ آخَرُ شَاهِرًا سَيْفَهُ، فَاسْتَقْبَلَتْهُ نَائِلَةُ بِنْتُ الْفَرَافِصَةِ لِتَمْنَعَهُ مِنْهُ، وَأَخَذَتِ السَّيْفَ فَانْتَزَعَهُ مِنْهَا فَقَطَعَ أَصَابِعَهَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ، فَوَضَعَ السَّيْفَ فِي بَطْنِهِ فَتَحَامَلَ عَلَيْهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْ عُثْمَانَ وَأَرْضَاهُ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ الْغَافِقِيَّ بْنَ حَرْبٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ بَعْدَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَضَرَبَهُ بِحَدِيدَةٍ فِي يَدِهِ، وَرَفَسَ الْمُصْحَفَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ بِرِجْلِهِ، فَاسْتَدَارَ الْمُصْحَفُ ثُمَّ اسْتَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْ عُثْمَانَ، رضي الله عنه، وَسَالَتْ عَلَيْهِ الدِّمَاءُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ سُودَانُ بْنُ حُمْرَانَ بِالسَّيْفِ فَمَانَعَتْهُ نَائِلَةُ، فَقَطَعَ أَصَابِعَهَا، فَوَلَّتْ فَضَرَبَ عَجِيزَتَهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لِكَبِيرَةُ الْعَجِيزَةِ. وَضَرَبَ عُثْمَانَ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَ غُلَامُ عُثْمَانَ فَضَرَبَ
سُودَانَ فَقَتَلَهُ، فَضَرَبَ الْغُلَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: قُتَيْرَةُ. فَقَتَلَهُ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُمْ أَرَادُوا حَزَّ رَأْسِهِ بَعْدَ قَتْلِهِ، فَصَاحَ النِّسَاءُ وَضَرَبْنَ وُجُوهَهُنَّ ; فِيهِنَّ امْرَأَتَاهُ نَائِلَةُ وَأُمُّ الْبَنِينَ وَبَنَاتُهُ، فَقَالَ ابْنُ عُدَيْسٍ: اتْرُكُوهُ! فَتَرَكُوهُ. ثُمَّ مَالَ هَؤُلَاءِ الْفَجَرَةُ عَلَى مَا فِي الْبَيْتِ فَنَهَبُوهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ نَادَى مُنَادِيهِمْ: أَيَحِلُّ لَنَا دَمُهُ وَلَا يَحِلُّ لَنَا مَالُهُ! فَانْتَهَبُوهُ، ثُمَّ خَرَجُوا فَأَغْلَقُوا الْبَابَ عَلَى عُثْمَانَ وَقَتِيلَيْنِ مَعَهُ، فَلَمَّا خَرَجُوا إِلَى صَحْنِ الدَّارِ وَثَبَ غُلَامٌ لِعُثْمَانَ عَلَى قُتَيْرَةَ فَقَتَلَهُ، وَجَعَلُوا لَا يَمُرُّونَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا أَخَذُوهُ، حَتَّى اسْتَلَبَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: كُلْثُومٌ التُّجِيبِيُّ، مُلَاءَةَ نَائِلَةَ، فَضَرَبَهُ غُلَامٌ لِعُثْمَانَ فَقَتَلَهُ، وَقُتِلَ الْغُلَامُ أَيْضًا، ثُمَّ تَنَادَى الْقَوْمُ: أَنْ أَدْرِكُوا بَيْتَ الْمَالِ لَا تَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ. فَسَمِعَهُمْ حَفَظَةُ بَيْتِ الْمَالِ فَقَالُوا: يَا قَوْمُ النَّجَاءَ النَّجَاءَ! فَإِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَمْ يَصْدُقُوا فِيمَا قَالُوا مِنْ أَنَّ قَصْدَهُمْ قِيَامُ الْحَقِّ وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا ادَّعَوْا أَنَّهُمْ إِنَّمَا قَامُوا لِأَجْلِهِ، وَكَذَبُوا إِنَّمَا قَصْدُهُمُ الدُّنْيَا. فَانْهَزَمُوا وَجَاءَ الْخَوَارِجُ فَأَخَذُوا مَالَ بَيْتِ الْمَالِ وَكَانَ فِيهِ شَيْءٌ كَثِيرٌ جِدًّا.
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ سَهْمِ بْنِ خَنْبَسٍ أَبِي خَنْبَشٍ أَوْ خُنَيْسٍ الْأَزْدِيِّ - وَكَانَ قَدْ شَهِدَ الدَّارَ - وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ الرَّحْبِيِّ، عَنْهُ وَكَانَ قَدِ اسْتَدْعَاهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى دَيْرِ سَمْعَانَ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، فَذَكَرَ مَا مُلَخَّصُهُ أَنَّ وَفْدَ الْأَشْقِيَاءِ وَهُمْ وَفْدُ مِصْرَ كَانُوا قَدْ قَدِمُوا عَلَى عُثْمَانَ فَأَجَازَهُمْ وَأَرْضَاهُمْ، فَانْصَرَفُوا رَاجِعِينَ، ثُمَّ كَرُّوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَافَقُوا عُثْمَانَ قَدْ خَرَجَ لِصَلَاةِ الْغَدَاةِ أَوِ الظُّهْرِ، فَحَصَبُوهُ بِالْحَصَا وَالنِّعَالِ وَالْخِفَافِ، فَانْصَرَفَ إِلَى الدَّارِ وَمَعَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالزُّبَيْرُ وَابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ وَطَلْحَةُ وَمَرْوَانُ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ الْأَخْنَسِ فِي أُنَاسٍ، وَأَطَافَ وَفْدُ مِصْرَ بِدَارِهِ، فَاسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنِّي أُشِيرُ بِإِحْدَى ثَلَاثِ خِصَالٍ ; إِمَّا أَنْ تُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ فَتَحْرُمَ عَلَيْهِمْ دِمَاؤُنَا، وَإِمَّا أَنْ نَرْكَبَ مَعَكَ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، وَإِمَّا أَنْ نَخْرُجَ فَنَضْرِبَ بِالسَّيْفِ إِلَى أَنْ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَإِنَّا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ. فَقَالَ عُثْمَانُ: أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنَ الْإِحْرَامِ بِعُمْرَةٍ فَتَحْرُمُ دِمَاؤُنَا فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَا حَلَالًا الْآنَ وَحَالَ الْإِحْرَامِ وَبَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَأَمَّا الذَّهَابُ إِلَى الشَّامِ فَإِنِّي أَسْتَحْيِي أَنْ أَخْرُجَ مِنْ بَيْنِهِمْ خَائِفًا فَيَرَانِي أَهْلُ الشَّامِ وَتَسْمَعُ الْأَعْدَاءُ مِنَ الْكُفَّارِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْقِتَالُ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ يُهَرَاقُ بِسَبَبِي مِحْجَمَةُ دَمٍ. قَالَ: ثُمَّ صَلَّيْنَا مَعَهُ صَلَاةَ الصُّبْحِ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ أَتَيَانِي اللَّيْلَةَ
فَقَالَا لِي: صُمْ يَا عُثْمَانُ فَإِنَّكَ تُفْطِرُ عِنْدَنَا. وَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا، وَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَى مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدَّارِ سَالِمًا مَسْلُومًا مِنْهُ. فَقُلْنَا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ خَرَجْنَا لَمْ نَأْمَنْ مِنْهُمْ عَلَيْنَا، فَائْذَنْ لَنَا أَنْ نَكُونَ فِي بَيْتٍ مِنَ الدَّارِ تَكُونُ لَنَا فِيهِ جَمَاعَةٌ وَمَنَعَةٌ. ثُمَّ أَمَرَ بِبَابِ الدَّارِ فَفُتِحَ، وَدَعَا بِالْمُصْحَفِ فَأَكَبَّ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ امْرَأَتَاهُ بِنْتُ الْفَرَافِصَةِ الْكَلْبِيَّةُ وَابْنَةُ شَيْبَةَ، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ: دَعْهَا يَا ابْنَ أَخِي فَوَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ أَبُوكَ يَتَلَهَّفُ لَهَا بِأَدْنَى مِنْ هَذَا. فَاسْتَحْيَى فَخَرَجَ فَقَالَ لِلْقَوْمِ: قَدْ أَشْعَرْتُهُ لَكُمْ. وَأَخَذَ عُثْمَانُ مَا امْتُعِطَ مِنْ لِحْيَتِهِ فَأَعْطَاهُ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ، ثُمَّ دَخَلَ رُومَانُ بْنُ سُودَانَ، رَجُلٌ أَزْرَقُ قَصِيرٌ مُخَدَّدٌ، عِدَادُهُ مِنْ مُرَادٍ مَعَهُ جُرْزٌ مِنْ حَدِيدٍ، فَاسْتَقْبَلَهُ فَقَالَ: عَلَى أَيِّ مِلَّةٍ أَنْتَ يَا نَعْثَلُ؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: لَسْتُ بِنَعْثَلٍ وَلَكِنِّي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأَنَا عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَقَالَ: كَذَبْتَ. وَضَرَبَهُ بِالْجُرْزِ عَلَى صُدْغِهِ الْأَيْسَرِ فَقَتَلَهُ فَخَرَّ، فَأَدْخَلَتْهُ بِنْتُ الْفَرَافِصَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ثِيَابِهَا - وَكَانَتِ امْرَأَةً جَسِيمَةً ضَلِيعَةً - فَأَلْقَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ، وَأَلْقَتْ بِنْتَ شَيْبَةَ نَفْسَهَا عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ