الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ]
[الْأَحْدَاثُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا]
فَمِمَّا كَانَ فِيهَا مِنَ الْأَحْدَاثِ مَخْرَجُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ بِالْمَدِينَةِ وَأَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ بِالْبَصْرَةِ، عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَمَّا مُحَمَّدٌ فَإِنَّهُ خَرَجَ عَلَى إِثْرِ ذَهَابِ أَبِي جَعْفَرٍ الْمَنْصُورِ بِبَنِي حَسَنٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْعِرَاقِ عَلَى الصِّفَةِ وَالنَّعْتِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَسَجَنَهُمْ فِي مَكَانٍ سَاءَ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، لَا يَسْمَعُونَ فِيهِ التَّأْذِينَ وَلَا يَعْرِفُونَ دُخُولَ أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ إِلَّا بِالْأَذْكَارِ وَالتِّلَاوَاتِ. وَقَدْ مَاتَ أَكْثَرُ أَكَابِرِهِمْ هُنَالِكَ، رحمهم الله. هَذَا كُلُّهُ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ مُخْتَفٍ بِالْمَدِينَةِ، حَتَّى إِنَّهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ اخْتَفَى فِي بِئْرٍ; نَزَلَ فِيهَا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ سِوَى رَأْسِهِ، وَبَاقِيهِ مَغْمُورٌ بِالْمَاءِ، وَقَدْ تَوَاعَدَ هُوَ وَأَخُوهُ وَقْتًا مُعَيَّنًا يَظْهَرَانِ فِيهِ، هَذَا بِالْمَدِينَةِ وَإِبْرَاهِيمُ بِالْبَصْرَةِ، وَلَمْ يَزَلِ النَّاسُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يُؤَنِّبُونَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي اخْتِفَائِهِ وَعَدَمِ ظُهُورِهِ حَتَّى عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ، وَذَلِكَ لَمَّا أَضَرَّ بِهِ شِدَّةُ الِاخْتِفَاءِ مِنْ كَثْرَةِ إِلْحَاحِ رِيَاحٍ نَائِبِ الْمَدِينَةِ فِي طَلَبِهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْأَمْرُ وَضَاقَ الْحَالُ، وَاعَدَ مُحَمَّدٌ أَصْحَابَهُ عَلَى الظُّهُورِ فِي اللَّيْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ جَاءَ بَعْضُ الْوُشَاةِ إِلَى مُتَوَلِّي الْمَدِينَةِ فَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ فَضَاقَ ذَرْعًا بِذَلِكَ وَانْزَعَجَ انْزِعَاجًا شَدِيدًا، وَرَكِبَ فِي جَحَافِلَ، فَطَافَ الْمَدِينَةَ وَحَوْلَهَا لِيَسْتَعْلِمَ مَكَانَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ
فَأَعْيَاهُ ذَلِكَ، وَقَدْ مَرَّ فِي رُجُوعِهِ عَلَى دَارِ مَرْوَانَ وَهُمْ بِهَا مُجْتَمِعُونَ، فَلَمْ يَشْعُرْ بِهِمْ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ بَعَثَ إِلَى بَنِي حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ، فَجَمَعَهُمْ وَمَعَهُمْ رُءُوسٌ مِنْ سَادَاتِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، فَوَعَظَهُمْ وَأَنَّبَهُمْ، وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَتَطَلَّبُ هَذَا الرَّجُلَ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَهُوَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، ثُمَّ مَا كَفَاكُمْ كِتْمَانُهُ حَتَّى بَايَعْتُمُوهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ؟ وَاللَّهِ لَا يَبْلُغُنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَهُ إِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَهُ. فَأَنْكَرَ الَّذِينَ هُمْ هُنَالِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ أَوْ شُعُورٌ بِشَيْءٍ مِمَّا وَقَعَ مِمَّا يَقُولُهُ، وَقَالُوا: نَحْنُ نَأْتِيكَ بِرِجَالٍ مُتَسَلِّحِينَ يُقَاتِلُونَ دُونَكَ إِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. وَنَهَضُوا فَجَاءُوهُ بِجَمَاعَةٍ مُتَسَلِّحِينَ، فَاسْتَأْذَنُوهُ فِي دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: لَا إِذَنْ لَهُمْ، إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خَدِيعَةً. فَجَلَسَ أُولَئِكَ عَلَى الْبَابِ، وَمَكَثَ النَّاسُ جُلُوسًا حَوْلَ الْأَمِيرِ وَهُوَ وَاجِمٌ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا قَلِيلًا، حَتَّى ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنَ اللَّيْلِ، ثُمَّ مَا فُجِئَ النَّاسُ إِلَّا وَأَصْحَابُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ ظَهَرُوا وَأَعْلَنُوا بِالتَّكْبِيرِ، فَانْزَعَجَ النَّاسُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَشَارَ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ عَلَى الْأَمِيرِ بِضَرْبِ أَعْنَاقِ بَنِي الْحُسَيْنِ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: عَلَامَ وَنَحْنُ مُقِرُّونَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ؟ وَاشْتَغَلَ الْأَمِيرُ عَنْهُمْ بِمَا فَجَأَهُ مِنَ الْأَمْرِ، فَاغْتَنَمُوا الْغَفْلَةَ، وَنَهَضُوا سِرَاعًا فَتَسَوَّرُوا جِدَارَ الدَّارِ، وَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ عَلَى كُنَاسَةٍ هُنَالِكَ.
وَأَقْبَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَارِسًا، فَأَقْبَلَ بِمَنْ مَعَهُ، فَمَرَّ بِالسِّجْنِ فَأَخْرَجَ مَنْ فِيهِ، وَجَاءَ دَارَ الْإِمَارَةِ، فَحَاصَرَهَا فَافْتَتَحَهَا، وَأَمْسَكَ عَلَى رِيَاحِ بْنِ عُثْمَانَ نَائِبِ الْمَدِينَةِ فَسَجَنَهُ فِي دَارِ مَرْوَانَ، وَسَجَنَ مَعَهُ
ابْنَ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ بِقَتْلِ بَنِي حُسَيْنٍ فِي أَوَّلِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ، فَنَجَوْا وَأُحِيطَ بِهِ، فَأَصْبَحَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ وَقَدِ اسْتَظْهَرَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَدَانَ لَهُ أَهْلُهَا، فَصَلَّى بِالنَّاسِ الصُّبْحَ، وَقَرَأَ فِيهَا:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] . وَأَسْفَرَتْ هَذِهِ اللَّيْلَةُ عَنْ مُسْتَهَلِّ رَجَبٍ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ. وَقَدْ خَطَبَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ أَهْلَ الْمَدِينَةِ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَتَكَلَّمَ فِي بَنِي الْعَبَّاسِ، وَذَكَرَ عَنْهُمْ أَشْيَاءَ ذَمَّهُمْ بِهَا، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَلَدًا مِنَ الْبُلْدَانِ إِلَّا وَقَدْ دَخَلَهَا، وَأَنَّهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَبَايَعَهُ أَهْلُ الْمَدِينَةِ كُلُّهُمْ إِلَّا الْقَلِيلَ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ أَنَّهُ أَفْتَى بِمُبَايَعَتِهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ فِي أَعْنَاقِنَا بَيْعَةَ الْمَنْصُورِ. فَقَالَ: إِنَّمَا كُنْتُمْ مُكْرَهِينَ وَلَيْسَ لِمُكْرَهٍ بَيْعَةٌ. فَبَايَعَهُ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَلَزِمَ مَالِكٌ بَيْتَهُ.
وَقَدْ قَالَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ حِينَ دَعَاهُ إِلَى بَيْعَتِهِ: يَا ابْنَ أَخِي إِنَّكَ مَقْتُولٌ. فَارْتَدَعَ بَعْضُ النَّاسِ عَنْهُ، وَاسْتَمَرَّ جُمْهُورُهُمْ مَعَهُ، فَاسْتَنَابَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَعَلَى قَضَائِهَا عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمَخْزُومِيَّ، وَعَلَى شُرْطَتِهَا عُثْمَانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَعَلَى دِيوَانِ الْعَطَاءِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ.
وَتَلَقَّبَ بِالْمَهْدِيِّ; طَمَعًا أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَوْعُودَ بِهِ فِي الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَنُورِدُهَا
فِي الْفِتَنِ وَالْمَلَاحِمِ، فَلَمْ يَكُنْ إِيَّاهُ، وَلَا تَمَّ لَهُ مَا تَمَنَّاهُ.
وَقَدِ ارْتَحَلَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَيْلَةَ دَخَلَهَا ابْنُ حَسَنٍ، فَطَوَى الْمَرَاحِلَ الْبَعِيدَةَ إِلَى الْمَنْصُورِ فِي سَبْعِ لَيَالٍ، فَوَرَدَ عَلَيْهِ، فَوَجَدَهُ نَائِمًا فِي اللَّيْلِ، فَقَالَ لِلرَّبِيعِ الْحَاجِبِ: اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى الْخَلِيفَةِ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَا يُوقَظُ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ. فَأَخْبَرَ الْخَلِيفَةَ، فَخَرَجَ فَقَالَ: وَيْحَكَ! مَا وَرَاءَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ خَرَجَ ابْنُ حَسَنٍ بِالْمَدِينَةِ. فَلَمْ يُظْهِرْ لِذَلِكَ اكْتِرَاثًا وَلَا انْزِعَاجًا، بَلْ قَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: هَلَكَ وَاللَّهِ، وَأَهْلَكَ مَنِ اتَّبَعَهُ. ثُمَّ أَمَرَ بِالرَّجُلِ فَسُجِنَ، ثُمَّ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ وَتَوَاتَرَتْ، فَأَطْلَقَهُ الْمَنْصُورُ، وَأَطْلَقَ لَهُ عَنْ كُلِّ لَيْلَةٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ سَبْعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ.
وَلَمَّا تَحَقَّقَ الْمَنْصُورُ الْأَمْرَ مِنْ خُرُوجِهِ ضَاقَ ذَرْعًا بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْمُنَجِّمِينَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا عَلَيْكَ مِنْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ مَلَكَ الْأَرْضَ بِحَذَافِيرِهَا فَإِنَّهُ لَا يُقِيمُ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ يَوْمًا.
ثُمَّ أَمَرَ الْخَلِيفَةُ جَمِيعَ رُءُوسِ الْأُمَرَاءِ أَنْ يَذْهَبُوا إِلَى السِّجْنِ، فَيَجْتَمِعُوا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، فَيُخْبِرُوهُ بِمَا وَقَعَ وَبِخُرُوجِ مُحَمَّدٍ، وَيَسْمَعُوا مَا يَقُولُ لَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ ابْنَ سَلَامَةَ فَاعِلًا؟ - يَعْنِي الْمَنْصُورَ - قَالُوا: لَا نَدْرِي. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَتَلَ صَاحِبَكُمُ الْبُخْلُ، يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُنْفِقَ الْأَمْوَالَ، وَيَسْتَخْدِمَ الرِّجَالَ، فَإِنْ ظَهَرَ فَاسْتِرْجَاعُ مَا أَنْفَقَ مِنَ الْأَمْوَالِ عَلَيْهِ سَهْلٌ،
وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِكُمْ شَيْءٌ فِي الْخَزَائِنِ، فَرَجَعُوا إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ.
وَأَشَارَ النَّاسُ عَلَى الْخَلِيفَةِ بِمُنَاجَزَتِهِ، وَاسْتَدْعَى عِيسَى بْنَ مُوسَى، فَنَدَبَهُ إِلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي سَأَكْتُبُ إِلَيْهِ كِتَابًا أُنْذِرُهُ بِهِ قَبْلَ قِتَالِهِ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33]
[الْمَائِدَةِ: 33، 34] . ثُمَّ قَالَ: فَلَكَ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ وَذِمَّتُهُ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، لَئِنْ أَقْلَعْتَ وَرَجَعْتَ إِلَى الطَّاعَةِ لَأُؤَمِّنَنَّكَ وَمَنِ اتَّبَعَكَ، وَلَأُعْطِيَنَّكَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَأَدَعَنَّكَ تُقِيمُ فِي أَحَبِّ الْبِلَادِ إِلَيْكَ، وَلَأَقْضِيَنَّ جَمِيعَ حَوَائِجِكَ. فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ:
مِنْ عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ: {طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص: 1]
[الْقِصَصِ: 1 - 5] . ثُمَّ قَالَ: وَإِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْكَ مِنَ الْأَمَانِ مِثْلَ مَا عَرَضْتَ عَلَيَّ، فَأَنَا أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْكُمْ، وَأَنْتُمْ إِنَّمَا وَصَلْتُمْ إِلَيْهِ بِنَا، فَإِنَّ عَلِيًّا كَانَ الْوَصِيَّ، وَكَانَ الْإِمَامَ، فَكَيْفَ وَرَثْتُمْ وِلَايَتَهُ وَوَلَدُهُ أَحْيَاءٌ؟ وَنَحْنُ أَشْرَفُ أَهْلِ الْأَرْضِ نَسَبًا، فَرَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرُ النَّاسِ، وَهُوَ جَدُّنَا، وَجَدَّتُنَا خَدِيجَةُ، وَهِيَ أَفْضَلُ زَوْجَاتِهِ، وَفَاطِمَةُ أُمُّنَا، وَهِيَ أَكْرَمُ بَنَاتِهِ، وَإِنَّ هَاشِمًا وَلَدَ عَلِيًّا مَرَّتَيْنِ، وَإِنَّ حَسَنًا وَلَدَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مَرَّتَيْنِ، وَهُوَ وَأَخُوهُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَدَنِي مَرَّتَيْنِ، فَإِنِّي أَوْسَطُ بَنِي هَاشِمٍ نَسَبًا، وَأَصْرَحُهُمْ نَسَبًا، فَأَنَا ابْنُ أَرْفَعِ النَّاسِ دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ، وَأَخَفِّهِمْ عَذَابًا فِي النَّارِ، فَأَنَا أَوْلَى بِالْأَمْرِ مِنْكَ، وَأَوْفَى بِالْعَهْدِ، فَإِنَّكَ أَعْطَيْتَ ابْنَ هُبَيْرَةَ الْعَهْدَ وَنَكَثْتَهُ، وَكَذَلِكَ بِعَمِّكَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ، وَبِأَبِي مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ.
فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ جَوَابَ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ طَوِيلٍ، حَاصِلُهُ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي كَلَامُكَ، وَقَرَأْتُ كِتَابَكَ، فَإِذَا جَلَّ فَخْرُكَ بِقَرَابَةِ النِّسَاءِ لِتُضِلَّ بِهِ الْجُفَاةَ وَالْغَوْغَاءَ، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ النِّسَاءَ كَالْعُمُومَةِ وَالْآبَاءِ، وَلَا كَالْعَصْبَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] . وَكَانَ لَهُ حِينَئِذٍ أَرْبَعَةُ أَعْمَامٍ، فَاسْتَجَابَ لَهُ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا أَبِي وَكَفَرَ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا أَبُوكَ فَقَطَعَ اللَّهُ وِلَايَتَهُمَا مِنْهُ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُمَا إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ، عز وجل، فِي عَدَمِ إِسْلَامِ أَبِي طَالِبٍ:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] . وَقَدْ فَخَرْتَ بِهِ; لِأَنَّهُ أَخَفُّ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا، وَلَيْسَ فِي الشَّرِّ خِيَارٌ، وَلَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ الْفَخْرُ بِأَهْلِ النَّارِ، وَفَخَرْتَ بِأَنَّ عَلِيًّا وَلَدَهُ هَاشِمٌ مَرَّتَيْنِ، وَأَنَّ حَسَنًا وَلَدَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ مَرَّتَيْنِ، فَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، إِنَّمَا
وَلَدَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهَاشِمٌ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَقَوْلُكَ: إِنَّكَ لَمْ تَلِدْكَ أُمَّهَاتُ الْأَوْلَادِ. فَهَذَا إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَارِيَةَ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ، وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَكَذَلِكَ ابْنُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَدَّتُهُمَا أُمُّ وَلَدٍ، وَهُمَا خَيْرٌ مِنْكَ، وَأَمَّا قَوْلُكَ: إِنَّكُمْ بَنُو رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] . وَقَدْ جَاءَتِ السُّنَّةُ الَّتِي لَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْجَدَّ أَبَا الْأُمِّ وَالْخَالَ وَالْخَالَةَ لَا يُوَرَّثُونَ، وَلَمْ يَكُنْ لِفَاطِمَةَ مِيرَاثٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَصِّ الْحَدِيثِ، وَقَدْ مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُوكَ حَاضِرٌ، فَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالصَّلَاةِ بِالنَّاسِ، بَلْ أَمَرَ غَيْرَهُ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَعْدِلِ النَّاسُ بِأَبِي بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ; ثُمَّ قَدَّمُوا عَلَيْهِ عُثْمَانَ فِي الشُّورَى; ثُمَّ وَلَّوْهُ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ، وَاتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ بِهِ، وَقَاتَلَهُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ، وَامْتَنَعَ سَعْدٌ مِنْ مُبَايَعَتِهِ، ثُمَّ بَايَعَ بَعْدَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ طَلَبَهَا أَبُوكَ، وَقَاتَلَ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، ثُمَّ اتَّفَقَ عَلَى التَّحْكِيمِ، فَلَمْ يَفِ بِهِ، ثُمَّ صَارَتْ إِلَى الْحَسَنِ فَبَاعَهَا بِخِرَقٍ وَدَرَاهِمَ، وَأَقَامَ بِالْحِجَازِ يَأْخُذُ مَالًا مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَسَلَّمَ الْأَمْرَ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ، وَتَرَكَ شِيعَتَهُ فِي أَيْدِي مُعَاوِيَةَ، فَإِنْ كَانَتْ لَكُمْ فَقَدْ تَرَكْتُمُوهَا وَبِعْتُمُوهَا بِثَمَنِهَا، ثُمَّ خَرَجَ عَمُّكَ حُسَيْنٌ عَلَى ابْنِ مَرْجَانَةَ، فَكَانَ النَّاسُ مَعَهُ عَلَيْهِ حَتَّى قَتَلُوهُ، وَأَتَوْا بِرَأْسِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ خَرَجْتُمْ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ، فَقَتَّلُوكُمْ وَصَلَّبُوكُمْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَحَرَّقُوكُمْ بِالنِّيرَانِ وَحَمَلُوا نِسَاءَكُمْ عَلَى الْإِبِلِ كَالسَّبَايَا إِلَى الشَّامِ، حَتَّى خَرَجْنَا عَلَيْهِمْ، فَأَخَذْنَا بِثَأْرِكُمْ، وَأَدْرَكْنَا بِدِمَائِكُمْ، وَأَوْرَثْنَاكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ، وَذَكَرْنَا فَضْلَ سَلَفِكُمْ، فَجَعَلْتَ ذَلِكَ حُجَّةً عَلَيْنَا، وَظَنَنْتَ أَنَّا إِنَّمَا ذَكَرْنَا فَضْلَهُ تَقْدِمَةً مِنَّا لَهُ عَلَى حَمْزَةَ وَالْعَبَّاسِ وَجَعْفَرٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ