الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَمِائَةٍ]
[الْأَحْدَاثُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا]
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ خَمْسٍ وَمِائَةٍ
فِيهَا غَزَا الْجَرَّاحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَكَمِيُّ بِلَادَ اللَّانِ، وَفَتَحَ حُصُونًا كَثِيرَةً، وَبِلَادًا مُتَّسِعَةَ الْأَكْنَافِ مِنْ وَرَاءِ بَلَنْجَرَ 72، وَأَصَابَ غَنَائِمَ جَمَّةً، وَسَبَى خَلْقًا مِنْ أَوْلَادِ الْأَتْرَاكِ.
وَفِيهَا غَزَا مُسْلِمُ بْنُ سَعِيدٍ بِلَادَ التُّرْكِ، وَحَاصَرَ مَدِينَةً عَظِيمَةً مِنْ بِلَادِ الصُّغْدِ فَصَالَحَهُ مَلِكُهَا عَلَى مَالٍ كَثِيرٍ يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ.
وَفِيهَا غَزَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِلَادَ الرُّومِ، فَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ سِرِّيَّةً أَلْفَ فَارِسٍ فَأُصِيبُوا جَمِيعًا.
وَفِيهَا لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْهَا تُوَفِّيَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بِأَرْبَدَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَعُمْرُهُ مَا بَيْنَ الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ، وَهَذِهِ تَرْجَمَتُهُ:
هُوَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَبُو خَالِدٍ الْقُرَشِيُّ الْأُمَوِيُّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأُمُّهُ عَاتِكَةُ
بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ. بُويِعَ لَهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي رَجَبٍ مِنْ سَنَةِ إِحْدَى وَمِائَةٍ، بِعَهْدٍ مِنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ أَنْ يَكُونَ الْخَلِيفَةَ بَعْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رحمه الله، يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَجَبٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ: حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: كَانَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، فَلَمَّا وَلِيَ مُعَاوِيَةُ وَرَّثَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْكَافِرِ، وَلَمْ يُورِّثِ الْكَافِرَ مِنَ الْمُسْلِمِ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ الْخُلَفَاءُ مِنْ بَعْدِهِ، فَلَمَّا قَامَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَاجَعَ السُّنَّةَ الْأُولَى، وَتَبِعَهُ فِي ذَلِكَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمَّا قَامَ هِشَامٌ أَخَذَ بِسُّنَّةِ الْخُلَفَاءِ. يَعْنِي أَنَّهُ وَرَّثَ الْمُسْلِمَ مِنَ الْكَافِرِ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ جَابِرٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ مَكْحُولٍ إِذْ أَقْبَلَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَهَمَمْنَا أَنْ نُوَسِّعَ لَهُ، فَقَالَ مَكْحُولٌ: دَعُوهُ يَجْلِسُ حَيْثُ انْتَهَى بِهِ الْمَجْلِسُ، يَتَعَلَّمُ التَّوَاضُعَ.
وَقَدْ كَانَ يَزِيدُ هَذَا يُكْثِرُ مِنْ مُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ، فَلَمَّا وَلِيَ عَزَمَ أَنْ يَتَأَسَّى بِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَمَا تَرَكَهُ قُرَنَاءُ السُّوءِ، وَحَسَّنُوا لَهُ الظُّلْمَ، كَمَا قَالَ حَرْمَلَةُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: لَمَّا وَلِيَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: سِيرُوا بِسِيرَةِ عُمَرَ. فَمَكَثَ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَأُتِيَ بِأَرْبَعِينَ شَيْخًا، فَشَهِدُوا لَهُ أَنَّهُ مَا عَلَى الْخُلَفَاءِ مِنْ حِسَابٍ وَلَا عَذَابٍ.
وَقَدِ اتَّهَمَهُ بَعْضُهُمْ فِي الدِّينِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، إِنَّمَا ذَاكَ وَلَدُهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ كَمَا سَيَأْتِي، أَمَّا هَذَا فَمَا كَانَ بِهِ بَأْسٌ، وَقَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لَا أُرَانِي إِلَّا لِمَا بِي، وَمَا أَرَى الْأَمْرَ إِلَّا سَيُفْضِي إِلَيْكَ، فَاللَّهَ اللَّهَ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ; فَإِنَّكَ عَمَّا قَلِيلٍ مَيِّتٌ، فَتَدَعُ الدُّنْيَا لِمَنْ لَا يَحْمَدُكَ، وَتُفْضِي إِلَى مَنْ لَا يَعْذِرُكَ، وَالسَّلَامُ.
وَكَتَبَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ إِلَى أَخِيهِ هِشَامٍ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ بَلَغَهُ أَنَّكَ اسْتَبْطَأْتَ حَيَاتَهُ، وَتَمَنَّيْتَ وَفَاتَهُ، وَرُمْتَ الْخِلَافَةَ. وَكَتَبَ فِي آخِرِهِ:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ
…
فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ
وَقَدْ عَلِمُوا لَوْ يَنْفَعُ الْعِلْمُ عِنْدَهُمْ
…
مَتَى مِتُّ مَا الْبَاغِي عَلَيَّ بِمُخْلَدِ
مَنِيَّتُهُ تَجْرِي لِوَقْتٍ وَحَتْفُهُ
…
يُصَادِفُهُ يَوْمًا عَلَى غَيْرِ مَوْعِدِ
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْغِي خِلَافَ الَّذِي مَضَى
…
تَهَيَّأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدِ
فَكَتَبَ إِلَيْهِ هِشَامٌ: جَعَلَ اللَّهُ يَوْمِي قَبْلَ يَوْمِكَ، وَوَلَدِي قَبْلَ وَلَدِكَ، فَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَكَ.
وَقَدْ كَانَ يَزِيدُ هَذَا يُحِبُّ حَظِيَّةً مِنْ حَظَايَاهُ يُقَالُ لَهَا: حَبَّابَةُ - بِتَشْدِيدِ
الْبَاءِ الْأُولَى، وَالصَّحِيحُ تَخْفِيفُهَا - وَاسْمُهَا الْعَالِيَةُ، وَكَانَتْ جَمِيلَةً جِدًّا، وَكَانَ قَدِ اشْتَرَاهَا فِي زَمَنِ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِينَارٍ، مِنْ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ فَقَالَ أَخُوهُ سُلَيْمَانُ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَحْجُرَ عَلَى يَزِيدَ. فَبَاعَهَا يَزِيدُ فَلَمَّا أَفْضَتْ إِلَيْهِ الْخِلَافَةُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ سَعْدَةُ يَوْمًا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ بَقِيَ فِي نَفْسِكَ مَنْ أَمْرِ الدُّنْيَا شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، حَبَّابَةُ. فَبَعَثَتِ امْرَأَتُهُ، فَاشْتَرَتْهَا لَهُ وَلَبَّسَتْهَا وَصَنَّعَتْهَا وَأَجْلَسَتْهَا مِنْ وَرَاءِ السِّتَارَةِ، وَقَالَتْ لَهُ أَيْضًا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ بَقِيَ فِي نَفْسِكَ مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ؟ قَالَ: أَوَمَا أَخْبَرْتُكِ؟ فَقَالَتْ: هَذِهِ حَبَّابَةُ وَأَبْرَزَتْهَا لَهُ، وَأَخْلَتْهُ بِهَا، وَتَرَكَتْهُ وَإِيَّاهَا، فَحَظِيَتِ الْجَارِيَةُ عِنْدَهُ، وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ أَيْضًا، فَقَالَ يَوْمًا: أَشْتَهِي أَنْ أَخْلُوَ بِحَبَّابَةَ فِي قَصْرٍ مُدَّةً مِنَ الدَّهْرِ لَا يَكُونُ عِنْدَنَا أَحَدٌ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَجَمَعَهَا إِلَيْهِ فِي قَصْرٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ مَعَهَا عَلَى أَسَرِّ حَالٍ وَأَنْعَمِ بَالٍ، إِذْ رَمَاهَا بِحَبَّةِ رُمَّانٍ - وَيُرْوَى: بِعِنَبَةٍ - فِي فَمِهَا وَهِيَ تَضْحَكُ، فَشَرِقَتْ بِهَا فَمَاتَتْ، فَمَكَثَ أَيَّامًا يُقَبِّلُهَا وَيَرْشُفُهَا وَهِيَ مَيِّتَةٌ، حَتَّى أَنْتَنَتْ وَجَيَّفَتْ، فَأَمَرَ بِدَفْنِهَا، فَلَمَّا دَفَنَهَا أَقَامَ أَيَّامًا عِنْدَ قَبْرِهَا هَائِمًا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَنْزِلِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى قَبْرِهَا، فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ:
فَإِنْ تَسْلُ عَنْكِ النَّفْسُ أَوْ تَدَعِ الصَّبَا
…
فَبِالْيَأْسِ تَسْلُو عَنْكِ لَا بِالتَّجَلُّدِ
وَكُلُّ خَلِيلٍ زَارَنِي فَهُوَ قَائِلٌ
…
مِنْ أَجْلِكِ هَذَا هَامَةُ الْيَوْمِ أَوْ غَدِ
ثُمَّ رَجَعَ، فَمَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ حَتَّى خُرِجَ بِنَعْشِهِ، وَكَانَ مَرَضُهُ بِالسُّلِّ، وَذَلِكَ بِالسَّوَادِ سَوَادِ الْأُرْدُنِّ، يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ،
أَعْنِي سَنَةَ خَمْسٍ وَمِائَةٍ.
وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ أَرْبَعَ سِنِينَ وَشَهْرًا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ. وَكَانَ عُمْرُهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسًا - وَقِيلَ: سِتًّا. وَقِيلَ: ثَمَانِيًا. وَقِيلَ: تِسْعًا - وَثَلَاثِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ بَلَغَ الْأَرْبَعِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكَانَ طَوِيلًا جَسِيمًا أَبْيَضَ مُدَوَّرَ الْوَجْهِ، أَفْقَمَ الْفَمِ، لَمْ يَشِبْ. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ بِالْجَوْلَانِ. وَقِيلَ: بِحَوْرَانَ. وَصَلَّى عَلَيْهِ ابْنُهُ الْوَلِيدُ بْنُ يَزِيدَ وَعُمْرُهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةٍ، وَقِيلَ: بَلْ صَلَّى عَلَيْهِ أَخُوهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ، وَحُمِلَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ حَتَّى دَفُنِ بَيْنَ بَابِ الْجَابِيَةِ وَبَابِ الصَّغِيرِ بِدِمَشْقَ، وَكَانَ قَدْ عَهِدَ بِالْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ لِأَخِيهِ هِشَامٍ وَمِنْ بَعْدِهِ لِوَلَدِهِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ فَبَايَعَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِهِ هِشَامًا.