الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ذِكْرُ دُخُولِ مَرْوَانَ الْحِمَارِ دِمَشْقَ فِيهَا وَوِلَايَتِهِ الْخِلَافَةَ وَعَزْلِهِ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْوَلِيدِ عَنْهَا]
لَمَّا أَقْبَلَ مَرْوَانُ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ مِنْ عَيْنِ الْجَرِّ وَاقْتَرَبَ مِنْ دِمَشْقَ وَقَدِ انْهَزَمَ أَهْلُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ بِالْأَمْسِ، هَرَبَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَمَدَ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَفَتَحَهُ وَأَنْفَقَ مَا فِيهِ عَلَى أَصْحَابِهِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْجُيُوشِ، وَثَارَ مَوَالِي الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ إِلَى دَارِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْحَجَّاجِ فَقَتَلُوهُ فِيهَا وَانْتَهَبُوهَا، وَنَبَشُوا قَبْرَ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ وَصَلَبُوهُ عَلَى بَابِ الْجَابِيَةِ وَدَخَلَ مَرْوَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ دِمَشْقَ فَنَزَلَ فِي أَعَالِيهَا، وَأُتِيَ بِالْغُلَامَيْنِ الْحَكَمِ، وَعُثْمَانَ مَقْتُولَيْنِ، وَكَذَلِكَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فَأَمَرَ بِهِمْ فَدُفِنُوا، وَأُتِيَ بِأَبِي مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيِّ وَهُوَ فِي كُبُولِهِ، فَسَلَّمَ عَلَى مَرْوَانَ بِالْخِلَافَةِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: مَهْ! فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ جَعَلَاهَا لَكَ مِنْ بَعْدِهِمَا. ثُمَّ أَنْشَدَهُ قَصِيدَةً قَالَهَا الْحَكَمُ فِي السِّجْنِ، وَهِيَ طَوِيلَةٌ، فَمِنْهَا قَوْلُهُ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ مَرْوَانَ عَنِّي
…
وَعَمِّي الْغَمْرَ طَالَ بِهِ حَنِينَا
بِأَنِّي قَدْ ظُلِمْتُ وَصَارَ قَوْمِي
…
عَلَى قَتْلِ الْوَلِيدِ مُشَايِعِينَا
فَإِنْ أَهْلَكْ أَنَا وَوَلِيُّ عَهْدِي
…
فَمَرْوَانٌ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَا
ثُمَّ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ السُّفْيَانِيُّ لِمَرْوَانَ: ابْسُطْ يَدَكَ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ بَايَعَهُ بِالْخِلَافَةِ
مُعَاوِيَةُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ حُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ ثُمَّ بَايَعَهُ رُءُوسُ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ وَحِمْصَ وَغَيْرِهِمْ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ مَرْوَانُ: اخْتَارُوا أُمَرَاءَ نُوَلِّيهِمْ عَلَيْكُمْ. فَاخْتَارَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ أَمِيرًا، فَوَلَّاهُ عَلَيْهِمْ، فَعَلَى دِمَشْقَ زَامَلُ بْنُ عَمْرٍو الْحُبْرَانِيُّ وَعَلَى حِمْصَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَجَرَةَ الْكِنْدِيُّ وَعَلَى الْأُرْدُنِّ الْوَلِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَرْوَانَ، وَعَلَى فَلَسْطِينَ ثَابِتُ بْنُ نُعَيْمٍ الْجُذَامِيُّ.
وَلَمَّا اسْتَوْسَقَ الشَّامُ لِمَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ رَجَعَ إِلَى حَرَّانَ، وَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ مِنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ الَّذِي كَانَ خَلِيفَةً وَابْنُ عَمِّهِ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ الْأَمَانَ، فَآمَنَهُمَا، وَقَدِمَ عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ فِي أَهْلِ تَدْمُرَ فَبَايَعُوهُ.
ثُمَّ لَمَّا اسْتَقَرَّ مَرْوَانُ بِحَرَّانَ أَقَامَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، فَانْتَقَضَ عَلَيْهِ مَا كَانَ انْبَرَمَ لَهُ مِنْ مُبَايَعَةِ أَهْلِ الشَّامِ، فَنَقَضَ أَهْلُ حِمْصَ وَغَيْرُهُمْ، فَأَرْسَلَ إِلَى حِمْصَ جَيْشًا، فَوَافَوْهُمْ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَدِمَ مَرْوَانُ إِلَيْهَا بَعْدَ الْفِطْرِ بِيَوْمَيْنِ، فَنَازَلَهَا مَرْوَانُ فِي جُنُودٍ كَثِيرَةٍ، وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمَخْلُوعُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ وَهُمَا عِنْدَهُ مُكَرَّمَانِ خِصِّيصَانِ لَا يَجْلِسُ إِلَّا بِهِمَا وَقْتَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ، فَلَمَّا حَاصَرَ حِمْصَ نَادَوْهُ: إِنَّا عَلَى طَاعَتِكَ. فَقَالَ: افْتَحُوا بَابَ الْبَلَدِ. فَفَتَحُوهُ، ثُمَّ كَانَ مِنْهُمْ بَعْضُ الْقِتَالِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ نَحْوَ الْخَمْسِمِائَةٍ أَوِ السِّتِّمِائَةِ. فَأَمَرَ بِهِمْ فَصُلِبُوا حَوْلَ الْبَلَدِ، وَأَمَرَ بِهَدْمِ بَعْضِ سُورِهَا.
وَأَمَّا أَهْلُ دِمَشْقَ فَإِنَّ أَهْلَ الْغُوطَةِ حَاصَرُوا أَمِيرَهُمْ زَامَلَ بْنَ عَمْرٍو وَوَلَّوْا
عَلَيْهِمْ يَزِيدَ بْنَ خَالِدٍ الْقَسْرِيَّ وَثَبَتَ فِي الْمَدِينَةِ نَائِبَهَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَرْوَانُ مِنْ حِمْصَ عَسْكَرًا نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ، فَلَمَّا اقْتَرَبُوا مِنْ دِمَشْقَ خَرَجَ النَّائِبُ فِيمَنْ مَعَهُ، وَالْتَقَوْا هُمْ وَالْعَسْكَرُ بِأَهْلِ الْغُوطَةِ فَهَزَمُوهُمْ وَحَرَّقُوا الْمِزَّةَ وَقُرًى أُخْرَى مَعَهَا، وَاسْتَجَارَ يَزِيدُ بْنُ خَالِدٍ الْقَسْرِيُّ، وَأَبُو عِلَاقَةَ الْكَلْبِيُّ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمِزَّةِ مِنْ لَخْمٍ فَدَلَّ عَلَيْهِمْ زَامَلُ بْنُ عَمْرٍو فَأُتِيَ بِهِمَا، فَقَتَلَهُمَا وَبَعَثَ بِرَأْسَيْهِمَا إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مَرْوَانَ وَهُوَ بِحِمْصَ.
وَخَرَجَ ثَابِتُ بْنُ نُعَيْمٍ فِي أَهْلِ فِلَسْطِينَ عَلَى الْخَلِيفَةِ، وَأَتَوْا طَبَرِيَّةَ فَحَاصَرُوهَا، فَبَعَثَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ جَيْشًا، فَأَجْلَوْهُمْ عَنْهَا وَاسْتَبَاحُوا عَسْكَرَهُمْ، وَفَرَّ ثَابِتُ بْنُ نُعَيْمٍ هَارِبًا إِلَى فِلَسْطِينَ فَأَتْبَعَهُ الْأَمِيرُ أَبُو الْوَرْدِ فَهَزَمَهُ ثَانِيَةً، وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَأَسَرَ أَبُو الْوَرْدِ ثَلَاثَةً مِنْ أَوْلَادِهِ، فَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى الْخَلِيفَةِ وَهُمْ جَرْحَى، فَأَمَرَ بِمُدَاوَاتِهِمْ، ثُمَّ كَتَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نَائِبِ فِلَسْطِينَ وَهُوَ الرُّمَاحِسُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْكِنَانِيُّ يَأْمُرُهُ بِطَلَبِ ثَابِتِ بْنِ نُعَيْمٍ حَيْثُ كَانَ، فَمَا زَالَ يَتَلَطَّفُ بِهِ حَتَّى أَخَذَهُ أَسِيرًا، وَذَلِكَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ، فَبَعَثَهُ إِلَى الْخَلِيفَةِ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَكَذَلِكَ جَمَاعَةٌ كَانُوا مَعَهُ، وَبَعَثَ بِهِمْ إِلَى دِمَشْقَ، فَأُقِيمُوا عَلَى بَابِ مَسْجِدِهَا ; لِأَنَّ أَهْلَ دِمَشْقَ كَانُوا قَدْ أَرَجَفُوا بِأَنَّ ثَابِتَ بْنَ نُعَيْمٍ ذَهَبَ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ فَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ نَائِبَ مَرْوَانَ فِيهَا، فَأَرْسَلَ بِهِ إِلَيْهِمْ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ; لِيَعْرِفُوا بُطْلَانَ مَا كَانُوا بِهِ أَرَجَفُوا.
وَأَقَامَ الْخَلِيفَةُ مَرْوَانُ بِدِيرِ أَيُّوبَ عليه السلام، مُدَّةً حَتَّى بَايَعَ لِابْنَيْهِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثُمَّ عَبْدِ اللَّهِ وَزَوَّجَهُمَا ابْنَتَيْ هِشَامٍ وَهُمَا أُمُّ هِشَامٍ وَعَائِشَةُ وَكَانَ مَجْمَعًا حَافِلًا، وَعَقْدًا هَائِلًا، وَبَيْعَةً عَامَّةً، وَلَكِنْ لَمْ تَكُنْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ تَامَّةً، وَقَدِمَ الْخَلِيفَةُ إِلَى
دِمَشْقَ وَأَمَرَ بِثَابِتٍ وَأَصْحَابِهِ بَعْدَ مَا كَانُوا قُطِعُوا أَنْ يُصْلَبُوا عَلَى أَبْوَابِ الْبَلَدِ، وَلَمْ يَسْتَبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا وَاحِدًا، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ الْكَلْبِيُّ وَكَانَ عِنْدَهُ - فِيمَا زَعَمَ - عِلْمٌ بِوَدَائِعَ كَانَ ثَابِتُ بْنُ نُعَيْمٍ أَوْدَعَهَا عِنْدَ أَقْوَامٍ.
وَاسْتَوْسَقَ أَمْرُ الشَّامِ لِمَرْوَانَ مَا عَدَا تَدْمُرَ فَسَارَ مِنْ دِمَشْقَ فَنَزَلَ الْقَسْطَلَ مِنْ أَرْضِ حِمْصَ وَبَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ تَدْمُرَ قَدْ عَوَّرُوا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مِنَ الْمِيَاهِ، فَاشْتَدَّ غَضَبُهُ عَلَيْهِمْ، وَمَعَهُ جَحَافِلُ مِنَ الْجُيُوشِ، فَتَكَلَّمَ الْأَبْرَشُ بْنُ الْوَلِيدِ - وَكَانُوا قَوْمَهُ - وَسَأَلَ مِنْهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أَوَّلًا لِيُعْذِرَ إِلَيْهِمْ، فَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ الْوَلِيدِ أَخَا الْأَبْرَشِ فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، وَلَا سَمِعُوا لَهُ قَوْلًا، فَرَجَعَ، فَهَمَّ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمُ الْجُنُودَ، فَسَأَلَهُ الْأَبْرَشُ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِمْ بِنَفْسِهِ، فَأَرْسَلَهُ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمُ الْأَبْرَشُ كَلَّمَهُمْ وَاسْتَمَالَهُمْ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَأَجَابَهُ أَكْثَرُهُمْ، وَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ، فَكَتَبَ إِلَى الْخَلِيفَةِ يُعْلِمْهُ بِمَا وَقَعَ، فَأَمَرَهُ الْخَلِيفَةُ أَنْ يَهْدِمَ بَعْضَ سُورِهَا، وَأَنْ يُقْبِلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، فَفَعَلَ، فَلَمَّا حَضَرُوا عِنْدَهُ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْجُنُودِ نَحْوَ الرُّصَافَةِ عَلَى طَرِيقِ الْبَرِّيَّةِ، وَمَعَهُ مِنَ الرُّءُوسِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمَخْلُوعُ وَسُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ وَلَدِ الْوَلِيدِ، وَيَزِيدَ، وَسُلَيْمَانَ فَأَقَامَ بِالرُّصَافَةِ أَيَّامًا، ثُمَّ شَخَصَ إِلَى الرَّقَّةِ فَاسْتَأْذَنَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ أَنْ يُقِيمَ هُنَاكَ أَيَّامًا ; لِيَسْتَرِيحَ وَيُجِمَّ ظَهْرَهُ، فَأَذِنَ لَهُ، وَانْحَدَرَ مَرْوَانُ فَنَزَلَ عِنْدَ وَاسِطَ عَلَى شَطِّ الْفُرَاتِ فَأَقَامَ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَضَى إِلَى قَرْقِيسِيَا وَابْنُ هُبَيْرَةَ بِهَا ; لِيَبْعَثَهُ إِلَى الْعِرَاقِ لِمُحَارَبَةِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الشَّيْبَانِيِّ الْخَارِجِيِّ الْحَرُورِيِّ وَاشْتَغَلَ مَرْوَانُ بِهَذَا الْأَمْرِ.
وَأَقْبَلَ عَشَرَةُ آلَافِ فَارِسٍ مِمَّنْ كَانَ مَرْوَانُ قَدْ بَعَثَهُمْ فِي بَعْضِ السَّرَايَا، فَاجْتَازُوا بِالرُّصَافَةِ وَفِيهَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الَّذِي كَانَ اسْتَأْذَنَ الْخَلِيفَةَ فِي الْمُقَامِ هُنَاكَ لِلرَّاحَةِ، فَدَعَوْهُ إِلَى الْبَيْعَةِ لَهُ وَخَلْعِ مَرْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُحَارَبَتِهِ، فَاسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَخَلَعَ مَرْوَانَ وَسَارَ بِالْجُيُوشِ إِلَى قِنَّسْرِينَ، وَكَاتَبَ أَهْلَ الشَّامِ، فَانْفَضُّوا إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَكَتَبَ سُلَيْمَانُ إِلَى ابْنِ هُبَيْرَةَ الَّذِي جَهَّزَهُ مَرْوَانُ لِقِتَالِ الضَّحَّاكِ بْنِ قَيْسٍ الْخَارِجِيِّ يَأْمُرُهُ بِالْمَسِيرِ إِلَيْهِ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ نَحْوٌ مَنْ سَبْعِينَ أَلْفًا، وَبَعَثَ مَرْوَانُ إِلَيْهِمْ عِيسَى بْنَ مُسْلِمٍ فِي نَحْوٍ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا أَيْضًا، فَالْتَقَوْا بِأَرْضِ قِنَّسْرِينَ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، وَجَاءَ مَرْوَانُ وَالنَّاسُ فِي الْحَرْبِ، فَقَاتَلَهُمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ فَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ وَكَانَ أَكْبَرَ وَلَدِهِ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ نَيِّفًا عَلَى ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَذَهَبَ سُلَيْمَانُ مَفْلُولًا، فَأَتَى حِمْصَ، فَالْتَفَّ عَلَيْهِ مَنِ انْهَزَمَ مَنْ جَيْشِهِ، فَعَسْكَرَ بِهِمْ فِيهَا، وَبَنَى مَا كَانَ مَرْوَانُ هَدَمَ مِنْ سُورِهَا، فَجَاءَهُمْ مَرْوَانُ فَحَاصَرَهُمْ بِهَا، وَنَصَبَ عَلَيْهِمْ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ مَنْجَنِيقًا، فَمَكَثَ كَذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ يَرْمِيهِمْ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَيَخْرُجُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَيُقَاتِلُونَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ. هَذَا وَقَدْ ذَهَبَ سُلَيْمَانُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْجَيْشِ مَعَهُ إِلَى تَدْمُرَ وَقَدِ اعْتَرَضُوا جَيْشَ مَرْوَانَ فِي الطَّرِيقِ، وَهَمُّوا بِالْفَتْكِ بِهِ وَأَنْ يُبَيِّتُوهُ فَلَمْ يُمْكِنْهُمْ ذَلِكَ، وَتَهَيَّأَ لَهُمْ مَرْوَانُ فَقَاتَلَهُمْ، فَقَتَلُوا مِنْ جَيْشِهِ قَرِيبًا مِنْ سِتَّةِ آلَافٍ وَهُمْ تِسْعُمِائَةٍ، وَانْصَرَفُوا إِلَى تَدْمُرَ وَلَزِمَ مَرْوَانُ
مُحَاصَرَةَ حِمْصَ كَمَالَ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا تَتَابَعَ عَلَيْهِمُ الْبَلَاءُ، وَلَزِمَهُمُ الذُّلُّ، سَأَلُوهُ أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِهِ، ثُمَّ سَأَلُوهُ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ وَابْنَيْهِ مَرْوَانَ، وَعُثْمَانَ وَمِنَ السَّكْسَكِيِّ الَّذِي كَانَ مَعَهُ عَلَى جَيْشِهِ، وَمِنْ حَبَشِيٍّ كَانَ يَشْتُمُهُ وَيَفْتَرِي عَلَيْهِ، فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَأَمَّنَهُمْ وَقَتَلَ أُولَئِكَ.
ثُمَّ سَارَ إِلَى الضَّحَّاكِ الْخَارِجِيِّ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَائِبُ الْعِرَاقِ قَدْ صَالَحَ الضَّحَّاكَ الْخَارِجِيَّ عَلَى مَا بِيَدِهِ مِنَ الْكُوفَةِ وَأَعْمَالِهَا، وَجَاءَتْ خُيُولُ مَرْوَانَ قَاصِدَةً إِلَى الْكُوفَةِ فَتَلَقَّاهُمْ نَائِبُهَا مِنْ جِهَةِ الضَّحَّاكِ، مِلْحَانُ الشَّيْبَانِيُّ فَقَاتَلَهُمْ فَقُتِلَ مِلْحَانُ فَاسْتَنَابَ الضَّحَّاكُ عَلَيْهَا الْمُثَنَّى بْنَ عِمْرَانَ مِنْ بَنِي عَائِذَةَ وَسَارَ الضَّحَّاكُ فِي ذِي الْقِعْدَةِ إِلَى الْمَوْصِلِ، وَسَارَ ابْنُ هُبَيْرَةَ إِلَى الْكُوفَةِ، فَانْتَزَعَهَا مِنْ أَيْدِي الْخَوَارِجِ وَأَرْسَلَ الضَّحَّاكُ جَيْشًا إِلَى الْكُوفَةِ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الضَّحَّاكُ بْنُ قَيْسٍ الشَّيْبَانِيُّ وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِهِ أَنَّ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: سَعِيدُ بْنُ بَهْدَلٍ - وَكَانَ خَارِجِيًّا - اغْتَنَمَ غَفْلَةَ النَّاسِ وَاشْتِغَالَهُمْ بِمَقْتَلِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، فَثَارَ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْخَوَارِجِ بِالْعِرَاقِ وَالْتَفَّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ - وَلَمْ تَجْتَمِعْ قَبْلَهُ لِخَارِجِيٍّ - فَقَصَدَتْهُمُ الْجُيُوشُ، فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ، فَتَارَةً يَكْسِرُونَ، وَتَارَةً يُكْسَرُونَ، ثُمَّ مَاتَ سَعِيدُ بْنُ بَهْدَلٍ فِي طَاعُونٍ أَصَابَهُ،
وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْخَوَارِجِ مِنْ بَعْدِهِ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ هَذَا، فَالْتَفَّ أَصْحَابُهُ عَلَيْهِ، وَالْتَقَى هُوَ وَجَيْشٌ كَثِيرٌ، فَغَلَبَتِ الْخَوَارِجُ وَقَتَلُوا خَلْقًا كَثِيرًا، مِنْهُمْ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَخُو أَمِيرِ الْعِرَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَرَثَاهُ بِأَشْعَارٍ. ثُمَّ قَصَدَ الضَّحَّاكُ بِطَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مَرْوَانَ، فَاجْتَازَ بِالْكُوفَةِ، فَنَهَضَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا، فَكَسَرَهُمْ وَدَخَلَ الْكُوفَةَ، فَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، وَاسْتَنَابَ بِهَا رَجُلًا اسْمُهُ حَسَّانُ ثُمَّ اسْتَنَابَ مِلْحَانَ الشَّيْبَانِيَّ فِي شَعْبَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَسَارَ هُوَ فِي طَلَبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ نَائِبِ الْعِرَاقِ فَالْتَقَوْا، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَتَفْصِيلُهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ اجْتَمَعَتْ جَمَاعَةٌ مِنَ الدُّعَاةِ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْإِمَامِ وَمَعَهُمْ أَبُو مُسْلِمٍ الْخُرَاسَانِيُّ، فَدَفَعُوا إِلَيْهِ نَفَقَاتٍ كَثِيرَةً، وَأَعْطَوْهُ خُمْسَ أَمْوَالِهِمْ، وَلَمْ يَنْتَظِمْ لَهُمْ أَمْرٌ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لِكَثْرَةِ الشُّرُورِ الْمُنْتَشِرَةِ، وَالْفِتَنِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ بِالْكُوفَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَدَعَا إِلَى نَفْسِهِ، فَحَارَبَهُ أَمِيرُ الْعِرَاقِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَجَرَتْ بَيْنَهُمَا حُرُوبٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، ثُمَّ أَجْلَاهُ عَنْهَا، فَلَحِقَ بِالْجِبَالِ، فَتَغَلَّبَ عَلَيْهَا.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ الَّذِي كَانَ لَحِقَ بِبِلَادِ التُّرْكِ وَمَالَأَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالْهِدَايَةِ، وَوَفَّقَهُ حَتَّى خَرَجَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ ذَلِكَ عَنْ دُعَاءِ يَزِيدَ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَخَرَجَ إِلَى
خُرَاسَانَ فَأَكْرَمَهُ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ نَائِبُهَا، وَفَرِحَ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ وَجَاءُوا لِتَهْنِئَتِهِ، ثُمَّ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ خُصُومَةٌ، وَاسْتَمَرَّ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَطَاعَةِ الْإِمَامِ، وَعِنْدَهُ بَعْضُ الْمُنَاوَأَةِ لِنَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ، وَأَبُو مَعْشَرٍ: وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَمِيرُ الْحِجَازِ وَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ.
وَأَمِيرُ الْعِرَاقِ النَّضْرُ بْنُ سَعِيدٍ الْحَرَشِيُّ وَقَدْ خَرَجَ عَلَيْهِ الضَّحَّاكُ الْحَرُورِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَأَمِيرُ خُرَاسَانَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ، وَقَدْ خَرَجَ عَلَيْهِ الْكَرْمَانِيُّ، وَالْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ.
وَمِمَّنْ تُوفِّي فِي هَذِهِ السَّنَةِ بُكَيْرُ بْنُ الْأَشَجِّ، وَسَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، وَعَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مَالِكٍ الْجَزَرِيُّ، وَعُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ، وَمَالِكُ
بْنُ دِينَارٍ، وَوَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، وَأَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ.