الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى اسْتِخْدَامِ الرِّجَالِ؟ وَلَزِمَ مَنْزِلَهُ، فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى قُتِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ. وَبَعَثَ مُحَمَّدٌ الْحَسَنَ بْنِ مُعَاوِيَةَ فِي سَبْعِينَ رَجُلًا وَنَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ فَوَارِسَ وَاسْتَنَابَهُ عَلَى مَكَّةَ إِنْ هُوَ دَخَلَهَا، فَسَارُوا إِلَيْهَا، فَلَمَّا بَلَغَ أَهْلَهَا قُدُومُهُمْ خَرَجُوا إِلَيْهِمْ فِي أُلُوفٍ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ، فَقَالَ لَهُمُ الْحَسَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: عَلَامَ تُقَاتِلُونَ وَقَدْ مَاتَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ؟ فَقَالَ السَّرِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ زَعِيمُ أَهْلِ مَكَّةَ: إِنَّ بُرُدَهُ جَاءَتْنَا مِنْ أَرْبَعِ لَيَالٍ، وَقَدْ أَرْسَلْتُ إِلَيْهِ، فَأَنَا أَنْتَظِرُ جَوَابَهُ إِلَى أَرْبَعٍ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَ حَقًّا سَلَّمْتُكُمُ الْبَلَدَ، وَعَلَيَّ مُؤْنَةُ رِجَالِكُمْ وَخَيْلِكُمْ. فَامْتَنَعَ الْحَسَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنَ الِانْتِظَارِ وَأَبَى إِلَّا الْمُنَاجَزَةَ، وَحَلَفَ لَا يَبِيتُ اللَّيْلَةَ إِلَّا بِمَكَّةَ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ. وَأَرْسَلَ إِلَى السَّرِيِّ أَنِ ابْرُزْ مِنَ الْحَرَمِ إِلَى الْحِلِّ حَتَّى لَا تُرَاقَ الدِّمَاءُ فِي الْحَرَمِ. فَلَمْ يَخْرُجْ، فَتَقَدَّمُوا إِلَيْهِمْ فَصَافُّوهُمْ، فَحَمَلَ عَلَيْهِمُ الْحَسَنُ وَأَصْحَابُهُ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَهَزَمُوهُمْ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَحْوَ سَبْعَةٍ، وَدَخَلُوا مَكَّةَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا خَطَبَ الْحَسَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ النَّاسَ، وَعَزَّاهُمْ فِي أَبِي جَعْفَرٍ، وَدَعَا لِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ الْمُلَقَّبِ بِالْمَهْدِيِّ.
[خُرُوجُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ]
وَظَهَرَ بِالْبَصْرَةِ أَيْضًا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَجَاءَ الْبَرِيدُ إِلَى أَخِيهِ
مُحَمَّدٍ بِذَلِكَ، فَانْتَهَى إِلَيْهِ لَيْلًا، فَاسْتُؤْذِنَ لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ بِدَارِ مَرْوَانَ، فَطَرَقَ بَابَهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ طَوَارِقِ اللَّيْلِ إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ. ثُمَّ خَرَجَ فَأَخْبَرَهُ عَنْ أَخِيهِ بِذَلِكَ، فَاسْتَبْشَرَ جِدًّا، وَفَرِحَ كَثِيرًا، وَكَانَ يَقُولُ لِلنَّاسِ بَعْدَ صَلَاتَيِ الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ: ادْعُوا اللَّهَ لِإِخْوَانِكُمْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَلِلْحَسَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِمَكَّةَ، وَاسْتَنْصِرُوهُ عَلَى أَعْدَائِكُمْ.
وَأَمَّا أَبُو جَعْفَرٍ، فَإِنَّهُ جَهَّزَ الْجُيُوشَ إِلَى مُحَمَّدٍ صُحْبَةَ عِيسَى بْنِ مُوسَى أَرْبَعَةَ آلَافِ فَارِسٍ مِنَ الشُّجْعَانِ الْمُنْتَخَبِينَ، مِنْهُمْ; مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْعَبَّاسِ السَّفَّاحِ، وَحُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَجَعْفَرُ بْنُ حَنْظَلَةَ الْبَهْرَانِيُّ، وَكَانَ الْمَنْصُورُ قَدِ اسْتَشَارَهُ فِيهِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ادْعُ مَنْ شِئْتَ مِمَّنْ تَثِقُ بِهِ مِنْ مَوَالِيكَ، فَيَنْزِلُ وَادِيَ الْقُرَى فَيَمْنَعُهُ مِيرَةَ الشَّامِ، فَيَمُوتُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ جُوعًا، فَإِنَّهُ بِبَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ مَالٌ وَلَا رِجَالٌ وَلَا كُرَاعٌ وَلَا سِلَاحٌ. وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ كُثَيِّرَ بْنَ الْحُصَيْنِ الْعَبْدِيَّ، وَقَدْ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ لِعِيسَى بْنِ مُوسَى حِينَ وَدَّعَهُ: يَا عِيسَى، إِنِّي أَبْعَثُكَ إِلَى مَا بَيْنَ جَنْبَيَّ هَذَيْنِ، فَإِنْ ظَفِرْتَ بِالرَّجُلِ، فَشِمْ سَيْفَكَ، وَنَادِ فِي النَّاسِ بِالْأَمَانِ، وَإِنْ تَغَيَّبَ فَضَمِّنْهُمْ إِيَّاهُ حَتَّى يَأْتُوكَ بِهِ، فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ بِمَذَاهِبِهِ. وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا إِلَى رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَدْفَعُهَا إِلَيْهِمْ خُفْيَةً، يَدْعُوهُمْ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ
عِيسَى بْنُ مُوسَى مِنَ الْمَدِينَةِ بَعَثَهَا مَعَ رَجُلٍ، فَأَخَذَهُ حَرَسُ مُحَمَّدٍ فَوَجَدُوا مَعَهُ تِلْكَ الْكُتُبَ، فَدَفَعُوهَا إِلَى مُحَمَّدٍ فَاسْتَحْضَرَ جَمَاعَةً مِنْ أُولَئِكَ، فَعَاقَبَهُمْ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَقُيُودًا ثِقَالًا، وَأَوْدَعَهُمُ السِّجْنَ، ثُمَّ إِنَّ مُحَمَّدًا اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي الْمُقَامِ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى يَأْتِيَ عِيسَى بْنُ مُوسَى، فَيُحَاصِرَهُمْ بِهَا، أَوْ أَنْ يَخْرُجَ بِمَنْ مَعَهُ فَيُقَاتِلَ أَهْلَ الْعِرَاقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَشَارَ بِهَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَشَارَ بِذَاكَ، ثُمَّ اتَّفَقَ الرَّأْيُ عَلَى الْمُقَامِ بِالْمَدِينَةِ - لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَأَسَّفَ يَوْمَ أُحُدٍ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا - وَعَلَى حَفْرِ خَنْدَقٍ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْأَحْزَابِ، فَأَجَابَ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَحَفَرَ مَعَ النَّاسِ فِي الْخَنْدَقِ بِيَدِهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ لَبِنَةٌ مِنَ الْخَنْدَقِ الَّذِي كَانَ حَفَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرُوا وَكَبَّرُوا وَبَشَّرُوهُ بِالنَّصْرِ. وَكَانَ مُحَمَّدٌ حَاضِرًا عَلَيْهِ قَبَاءٌ أَبْيَضُ، وَفِي وَسَطِهِ مِنْطَقَةٌ، وَكَانَ شَكِلًا ضَخْمًا، أَسْمَرَ عَظِيمَ الْهَامَةِ.
وَلَمَّا نَزَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى الْأَعْوَصُ، وَاقْتَرَبَ مِنَ الْمَدِينَةِ، صَعِدَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَ النَّاسَ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْجِهَادِ وَنَدَبَهُمْ إِلَيْهِ - وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ أَلْفٍ - فَقَالَ لَهُمْ فِي جُمْلَةِ مَا قَالَ: إِنِّي جَعَلْتُكُمْ فِي حِلٍّ مِنْ بَيْعَتِي، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتْرُكَهَا فَلْيَفْعَلْ. فَتَسَلَّلَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرُهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا شِرْذِمَةٌ مِنَ النَّاسِ، وَخَرَجَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
بِأَهْلِيهِمْ مِنْهَا لِئَلَّا يَشْهَدُوا الْقِتَالَ بِهَا، فَنَزَلُوا الْأَعْرَاضَ وَرُءُوسَ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَ مُحَمَّدٌ أَبَا الْقَلَمَّسِ لِيَرُدَّهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ، فَلَمْ يُمْكِنْهُ ذَلِكَ فِي أَكْثَرِهِمْ، وَاسْتَمَرُّوا ذَاهِبِينَ. وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدٌ لِرَجُلٍ: أَتَأْخُذُ سَيْفًا وَرُمْحًا وَتَرُدُّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِنْ أَعْطَيْتَنِي رُمْحًا أَطْعَنُهُمْ بِهِ وَهُمْ بِالْأَعْرَاضِ، وَسَيْفًا أَضْرِبُهُمْ بِهِ وَهُمْ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ فَعَلْتُ. فَسَكَتَ مُحَمَّدٌ، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ! إِنَّ أَهْلَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ قَدْ بَيَّضُوا - يَعْنِي لَبِسُوا الْبَيَاضَ - مُوَافَقَةً لِي وَخَلَعُوا السَّوَادَ. فَقَالَ: وَمَا يَنْفَعُنِي أَنْ لَوْ بَقِيَتِ الدُّنْيَا زُبْدَةً بَيْضَاءَ وَأَنَا فِي مِثْلِ صُوفَةِ الدَّوَاةِ، وَهَذَا عِيسَى بْنُ مُوسَى نَازِلٌ بِالْأَعْوَصِ؟ ! ثُمَّ جَاءَ عِيسَى بْنُ مُوسَى، فَنَزَلَ بِجَيْشِهِ قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ، عَلَى مِيلٍ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ دَلِيلُهُ ابْنُ الْأَصَمِّ: إِنِّي أَخْشَى إِذَا كَشَفْتُمُوهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ سَرِيعًا قَبْلَ أَنْ تُدْرِكَهُمُ الْخَيْلُ. ثُمَّ ارْتَحَلَ بِهِ فَأَنْزَلَهُ الْجَرْفَ عَلَى سِقَايَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ يَوْمَ السَّبْتِ لِصُبْحِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ، وَقَالَ: إِنَّ الرَّاجِلَ إِذَا هَرَبَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْهَرْوَلَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِيلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، فَتُدْرِكُهُ الْخَيْلُ.
وَأَرْسَلَ عِيسَى بْنُ مُوسَى خَمْسَمِائَةِ فَارِسٍ فَنَزَلُوا عِنْدَ الشَّجَرَةِ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ، وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ إِنْ هَرَبَ فَلَيْسَ لَهُ مَلْجَأٌ إِلَّا مَكَّةَ فَاقْتُلُوهُ وَحُولُوا
بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا. ثُمَّ أَرْسَلَ عِيسَى إِلَى مُحَمَّدٍ يَدْعُوهُ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْمُبَايَعَةِ لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ; فَإِنَّهُ قَدْ أَعْطَاهُ الْأَمَانَ لَهُ وَلِأَهْلِ بَيْتِهِ إِنْ هُوَ أَجَابَ إِلَى ذَلِكَ. فَقَالَ مُحَمَّدٌ لِلرَّسُولِ: لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَقَتَلْتُكَ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى يَقُولُ لَهُ: إِنِّي أَدْعُوكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، فَاحْذَرْ أَنْ تَمْتَنِعَ فَأَقْتُلَكَ فَتَكُونَ شَرَّ قَتِيلٍ، أَوْ تَقْتُلَنِي فَتَكُونَ قَدْ قَتَلْتَ مَنْ دَعَاكَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمَّ جَعَلَتِ الرُّسُلُ تَتَرَدَّدُ بَيْنَهُمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، يَدْعُوهُ فِيهَا عِيسَى بْنُ مُوسَى إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الْجَمَاعَةِ، وَجَعَلَ عِيسَى يَقِفُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ عَلَى الثَّنِيَّةِ عِنْدَ سَلْعٍ فَيُنَادِي: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، إِنَّ دِمَاءَنَا عَلَيْنَا حَرَامٌ، فَمَنْ جَاءَ فَوَقَفَ تَحْتَ رَايَتِنَا فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ خَرَجَ مِنَ الْمَدِينَةِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى سِلَاحَهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَلَيْسَ لَنَا فِي قِتَالِكُمْ أَرَبٌ، وَإِنَّمَا نُرِيدُ مُحَمَّدًا وَحْدَهُ لِنَذْهَبَ بِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ. فَجَعَلُوا يَسُبُّونَهُ وَيَنَالُونَ مِنْ أُمِّهِ، وَيَتَكَلَّمُونَ مَعَهُ بِكَلَامٍ شَنِيعٍ، وَيُخَاطِبُونَهُ مُخَاطَبَةً فَظِيعَةً، وَقَالُوا: هَذَا ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَنَا وَنَحْنُ مَعَهُ، وَنُقَاتِلُ دُونَهُ.
فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ أَتَاهُمْ فِي خَيْلٍ وَرِجَالٍ وَسِلَاحٍ وَرِمَاحٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، فَنَادَاهُ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمَرَنِي أَنْ لَا أُقَاتِلَكَ حَتَّى أَدْعُوَكَ إِلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَإِنْ فَعَلْتَ أَمَّنَكَ، وَقَضَى دَيْنَكَ، وَأَعْطَاكَ أَمْوَالًا وَأَرَاضِيَ، وَإِنْ أَبَيْتَ قَاتَلْتُكَ، فَقَدْ دَعَوْتُكَ غَيْرَ مَرَّةٍ. فَنَادَاهُ مُحَمَّدٌ: إِنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي إِلَّا الْقِتَالُ.
فَنَشِبَتِ الْحَرْبُ حِينَئِذٍ بَيْنَهُمْ، وَكَانَ جَيْشُ عِيسَى بْنِ مُوسَى فَوْقَ الْأَرْبَعَةِ آلَافٍ، عَلَى الْمُقَدِّمَةِ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ مُحَمَّدٌ ابْنُ السَّفَّاحِ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ دَاوُدُ بْنُ كَرَّازٍ، وَعَلَى السَّاقَةِ الْهَيْثَمُ بْنُ شُعْبَةَ، وَمَعَهُمْ عُدَدٌ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا، وَفَرَّقَ عِيسَى أَصْحَابَهُ، فِي كُلِّ قُطْرٍ طَائِفَةً، وَكَانَ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى عِدَّةِ أَهْلِ بَدْرِ وَاقْتَتَلَ الْفَرِيقَانِ قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا، وَتَرَجَّلَ مُحَمَّدٌ إِلَى الْأَرْضِ فَيُقَالُ: إِنَّهُ قَتَلَ بِيَدِهِ مِنْ أُولَئِكَ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَأَحَاطَ بِهِمْ أَهْلُ الْعِرَاقِ، فَقَتَلُوا طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ، وَاقْتَحَمُوا عَلَيْهِمُ الْخَنْدَقَ الَّذِي كَانُوا حَفَرُوهُ، وَعَمِلُوا أَبْوَابًا عَلَى قَدْرِهِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ رَدَمُوهُ بِحَدَائِجِ الْإِبِلِ حَتَّى أَمْكَنَهُمْ أَنْ يَجُوزُوهُ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ، وَهَذَا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمْ يَزَلِ الْقِتَالُ نَاشِبًا بَيْنَهُمْ مِنْ بُكْرَةِ النَّهَارِ حَتَّى صُلِّيَتِ الْعَصْرُ، فَلَمَّا صَلَّى مُحَمَّدٌ الْعَصْرَ نَزَلَ إِلَى مَسِيلِ الْوَادِي بِسَلْعٍ، فَكَسَرَ جَفْنَ سَيْفِهِ، وَعَقَرَ فَرَسَهُ، وَفَعَلَ أَصْحَابُهُ مِثْلَهُ، وَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْقِتَالِ وَحَمِيَتِ الْحَرْبُ حِينَئِذٍ جِدًّا، فَاسْتَظْهَرَ أَهْلُ الْعِرَاقِ، وَرَفَعُوا رَايَةً سَوْدَاءَ فَوْقَ سَلْعٍ، ثُمَّ دَنَوْا إِلَى الْمَدِينَةِ فَدَخَلُوهَا وَنَصَبُوا رَايَةً سَوْدَاءَ فَوْقَ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ تَنَادَوْا: دُخِلَتِ الْمَدِينَةُ. وَهَرَبُوا وَبَقِيَ مُحَمَّدٌ فِي شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ جِدًّا. ثُمَّ بَقِيَ وَحْدَهُ وَفِي يَدِهِ سَيْفٌ صَلْتٌ يَضْرِبُ بِهِ مَنْ تَقَدَّمَ
إِلَيْهِ، فَلَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَئِذٍ ذُو الْفَقَارِ. ثُمَّ تَكَاثَرَ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ تَحْتَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ الْيُمْنَى فَسَقَطَ مُحَمَّدٌ لِرُكْبَتَيْهِ، وَجَعَلَ يَحْمِي نَفْسَهُ، وَيَقُولُ: وَيْحَكُمُ ابْنُ نَبِيِّكُمْ مَجْرُوحٌ مَظْلُومٌ. وَجَعَلَ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ يَقُولُ: وَيْحَكُمْ دَعُوهُ لَا تَقْتُلُوهُ. فَأَحْجَمَ عَنْهُ النَّاسُ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ حُمَيْدُ بْنُ قَحْطَبَةَ، فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَذَهَبَ بِهِ إِلَى عِيسَى بْنِ مُوسَى، فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَكَانَ حُمَيْدٌ قَدْ حَلَفَ أَنْ يَقْتُلَهُ مَتَى رَآهُ، فَمَا أَدْرَكَهُ إِلَّا كَذَلِكَ.
وَكَانَ مَقْتَلُ مُحَمَّدٍ عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ، وَقَدْ قَالَ عِيسَى بْنُ مُوسَى لِأَصْحَابِهِ حِينَ وُضِعَ رَأْسُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ: مَا تَقُولُونَ فِيهِ؟ فَنَالَ مِنْهُ أَقْوَامٌ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: كَذَبْتُمْ وَاللَّهِ، لَقَدْ كَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا، وَلَكِنَّهُ خَالَفَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَشَقَّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ. فَسَكَتُوا حِينَئِذٍ.
وَأَمَّا سَيْفُهُ ذُو الْفَقَارِ فَإِنَّهُ صَارَ إِلَى بَنِي الْعَبَّاسِ يَتَوَارَثُونَهُ بَيْنَهُمْ حَتَّى جَرَّبَهُ بَعْضُهُمْ، فَضَرَبَ بِهِ كَلْبًا، فَانْقَطَعَ السَّيْفُ. ذَكَرَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ.
وَقَدْ بَلَغَ الْمَنْصُورَ فِي غُبُونِ هَذَا الْأَمْرِ أَنَّ مُحَمَّدًا فَرَّ مِنَ الْحَرْبِ، فَقَالَ: لَا، إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَفِرُّ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَاشِدٍ، حَدَّثَنِي أَبُو الْحَجَّاجِ قَالَ: إِنِّي لَقَائِمٌ عَلَى رَأْسِ الْمَنْصُورِ، وَهُوَ مُسَائِلِي عَنْ مَخْرَجِ مُحَمَّدٍ، إِذْ بَلَغَهُ أَنَّ عِيسَى قَدْ هُزِمَ - وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ - فَضَرَبَ بِقَضِيبٍ مَعَهُ مُصَلَّاهُ وَقَالَ: كَلَّا، فَأَيْنَ لَعِبُ صِبْيَانِنَا بِهَا عَلَى الْمَنَابِرِ وَمَشُورَةُ النِّسَاءِ؟ مَا أَنَى لِذَلِكَ بَعْدُ!
وَبَعَثَ عِيسَى بِالْبِشَارَةِ إِلَى الْمَنْصُورِ مَعَ الْقَاسِمِ بْنِ الْحَسَنِ، وَبِالرَّأْسِ مَعَ ابْنِ أَبِي الْكِرَامِ، ثُمَّ أَذِنَ فِي دَفْنِ جُثَّةِ مُحَمَّدٍ فَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ، وَأَمَرَ بِأَصْحَابِهِ الَّذِينَ قُتِلُوا مَعَهُ فَصُلِبُوا صَفَّيْنِ ظَاهِرَ الْمَدِينَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ طُرِحُوا عَلَى مَقْبَرَةِ الْيَهُودِ عِنْدَ سَلْعٍ، ثُمَّ نُقِلُوا إِلَى خَنْدَقٍ هُنَاكَ، وَأَخَذَ أَمْوَالَ بَنِي حَسَنٍ كُلَّهَا، فَسَوَّغَهَا لَهُ الْمَنْصُورُ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ رَدَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ. حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَنُودِيَ فِي أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِالْأَمَانِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَتَرَفَّعَ عِيسَى بْنُ مُوسَى إِلَى الْجَرْفِ مِنْ مَطَرٍ أَصَابَ النَّاسَ يَوْمَ قَتْلِ مُحَمَّدٍ، وَجَعَلَ يَنْتَابُ الْمَسْجِدَ مِنَ الْجَرْفِ، وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ إِلَى الْيَوْمِ التَّاسِعَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا قَاصِدًا مَكَّةَ، وَكَانَ بِهَا الْحَسَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مِنْ جِهَةِ مُحَمَّدٍ، وَكَانَ قَدْ كَتَبَ إِلَيْهِ لِيَقْدَمَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَكَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، تَلَقَّتْهُ الْأَخْبَارُ بِقَتْلِ مُحَمَّدٍ، فَاسْتَمَرَّ فَارًّا إِلَى الْبَصْرَةِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، الَّذِي كَانَ قَدْ خَرَجَ بِهَا، ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ أَخِيهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَلَمَّا جِيءَ الْمَنْصُورُ بِرَأْسِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنٍ فَوُضِعَ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَمَرَ فَطِيفَ بِهِ فِي طَبَقٍ أَبْيَضَ، ثُمَّ طِيفَ بِهِ فِي الْأَقَالِيمِ بَعْدَ ذَلِكَ. ثُمَّ شَرَعَ الْمَنْصُورُ فِي اسْتِدْعَاءِ مَنْ خَرَجَ مَعَ مُحَمَّدٍ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَضْرِبُهُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْفُو عَنْهُ.
وَلَمَّا تَوَجَّهَ عِيسَى بْنُ مُوسَى إِلَى مَكَّةَ اسْتَنَابَ عَلَى الْمَدِينَةِ كُثَيِّرَ بْنَ حُصَيْنٍ، فَاسْتَمَرَّ شَهْرًا حَتَّى بَعَثَ الْمَنْصُورُ عَلَى نِيَابَتِهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الرَّبِيعِ فَعَاثَ جُنْدُهُ فِي الْمَدِينَةِ فَسَادًا، وَاشْتَرَوْا مِنَ النَّاسِ أَشْيَاءَ لَا يُعْطُونَهُمْ ثَمَنَهَا، وَإِنْ طُولِبُوا بِذَلِكَ ضَرَبُوا الْمُطَالِبَ، وَخَوَّفُوهُ بِالْقَتْلِ، فَثَارَ عَلَيْهِمْ طَائِفَةٌ مِنَ السُّودَانِ; وَاجْتَمَعُوا وَنَفَخُوا فِي بُوقٍ لَهُمْ، فَاجْتَمَعَ عَلَى صَوْتِهِ كُلُّ أَسْوَدٍ فِي الْمَدِينَةِ وَحَمَلُوا عَلَيْهِمْ حَمْلَةً وَاحِدَةً وَهُمْ ذَاهِبُونَ إِلَى الْجُمْعَةِ، لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ - وَقِيلَ: لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ شَوَّالٍ مِنْهَا - فَقَتَلُوا مِنْهُمْ طَائِفَةً كَثِيرَةً وَهَرَبَ نَائِبُ الْمَدِينَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ، وَتَرَكَ صَلَاةَ الْجُمْعَةِ، وَكَانَ رُؤَسَاءُ السُّودَانِ; وَثِيقٌ، وَيَعْقِلُ، وَرُمْقَةُ، وَحَدْيَا، وَعُنْقُودٌ، وَمِسْعَرٌ وَأَبُو قَيْسٍ، وَأَبُو النَّارِ، فَرَكِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الرَّبِيعِ فِي جُنُودِهِ وَالْتَقَى مَعَ السُّودَانِ فَهَزَمُوهُ، وَمَضَى فَلَحِقُوهُ بِالْبَقِيعِ، فَأَلْقَى لَهُمْ دَرَاهِمَ شَغَلَهُمْ بِهَا، حَتَّى نَجَا بِنَفْسِهِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ، فَلَحِقَ بِبَطْنِ نَخْلٍ عَلَى لَيْلَتَيْنِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَوَقَعَ السُّودَانُ عَلَى طَعَامٍ لِلْمَنْصُورِ كَانَ