الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ]
فَفِيهَا غَزَا الْوَلِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ الْعَبْسِيُّ أَرْضَ الرُّومِ.
وَفِيهَا قَتَلَ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ مَلِكَ التُّرْكِ الْأَعْظَمَ خَاقَانَ، وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أَسَدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَمِيرَ خُرَاسَانَ عَمِلَ نِيَابَةً عَنْ أَخِيهِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الْعِرَاقِ ثُمَّ سَارَ بِجُيُوشِهِ إِلَى مَدِينَةِ خُتَّلَ فَافْتَتَحَهَا، وَتَفَرَّقَتْ فِي أَرْضِهَا جُنُودُهُ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ وَيَغْنَمُونَ، فَجَاءَتِ الْعُيُونُ إِلَى مَلِكِ التُّرْكِ خَاقَانَ أَنَّ جَيْشَ أَسَدٍ قَدْ تَفَرَّقَ فِي بِلَادِ خُتَّلَ فَاغْتَنَمَ خَاقَانُ هَذِهِ الْفُرْصَةَ، فَرَكِبَ مِنْ فَوْرِهِ فِي جُنُودِهِ قَاصِدًا إِلَى أَسَدٍ وَتَزَوَّدَ خَاقَانُ وَأَصْحَابُهُ سِلَاحًا كَثِيرًا، وَقَدِيدًا وَمِلْحًا، وَسَارُوا فِي خَلْقٍ عَظِيمٍ، وَجَاءَتِ الْعَيْنُ الصَّافِيَةُ إِلَى أَسَدٍ فَأَعْلَمُوهُ بِقَصْدِ خَاقَانَ لَهُ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ كَثِيفٍ، فَتَجَهَّزَ لِذَلِكَ، وَأَخَذَ أُهْبَتَهُ، فَأَرْسَلَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى أَطْرَافِ جَيْشِهِ فَلَمَّهَا عَلَيْهِ، وَأَشَاعَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ خَاقَانَ قَدْ هَجَمَ عَلَى أَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَقَتَلَهُ وَأَصْحَابَهُ ; لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ خِذْلَانٌ لِأَصْحَابِهِ فَلَا يَجْتَمِعُوا إِلَيْهِ، فَرَدَّ اللَّهُ كَيْدَهُمْ فِي نُحُورِهِمْ، وَجَعَلَ تَدْمِيرَهُمْ فِي تَدْبِيرِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا سَمِعُوا بِذَلِكَ أَخَذَتْهُمْ حَمِيَّةُ الْإِسْلَامِ، وَازْدَادُوا حَنَقًا عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَعَزَمُوا عَلَى الْأَخْذِ بِالثَّأْرِ فَقَصَدُوا الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ أَسَدٌ فَإِذَا هُوَ حَيٌّ قَدِ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْعَسَاكِرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَسَارَ أَسَدٌ نَحْوَ خَاقَانَ حَتَّى أَتَى جَبَلَ الْمِلْحِ وَأَرَادَ أَنْ يَخُوضَ
نَهْرَ بَلْخَ، وَكَانَ مَعَهُمْ أَغْنَامٌ كَثِيرَةٌ، فَكَرِهَ أَسَدٌ أَنْ يَتْرُكَهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَأَمَرَ كُلَّ فَارِسٍ أَنْ يَحْمِلَ بَيْنَ يَدَيْهِ شَاةً عَلَى عُنُقِهِ، وَتَوعَّدَ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِقَطْعِ الْيَدِ، وَحَمَلَ هُوَ مَعَهُ شَاةً، وَخَاضُوا النَّهْرَ، فَمَا خَلَصُوا مِنْهُ جِيدًا حَتَّى دَهَمَهُمْ خَاقَانُ مِنْ وَرَائِهِمْ فِي خَيْلٍ دُهْمٍ، فَقَتَلُوا مَنْ وَجَدُوهُ لَمْ يَقْطَعِ النَّهْرَ وَبَعْضَ الضَّعْفَةِ، فَلَمَّا وَقَفُوا عَلَى حَافَّةِ النَّهْرِ أَحْجَمُوا، وَظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ لَا يَقْطَعُونَ إِلَيْهِمُ النَّهْرَ، فَتَشَاوَرَ الْأَتْرَاكُ فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَحْمِلُوا حَمْلَةً وَاحِدَةً - وَكَانُوا خَمْسِينَ أَلْفًا - فَيَقْتَحِمُوا النَّهْرَ، فَضَرَبُوا بِكُوسَاتِهِمْ ضَرْبًا شَدِيدًا، حَتَّى ظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ مَعَهُمْ فِي عَسْكَرِهِمْ، ثُمَّ رَمَوْا بِأَنْفُسِهِمْ فِي النَّهْرِ رَمْيَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَجَعَلَتْ خُيُولُهُمْ تَنْخِرُ أَشَدَّ النَّخِيرِ، وَخَرَجُوا مِنْهُ إِلَى نَاحِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَثَبَتَ الْمُسْلِمُونَ فِي مُعَسْكَرِهِمْ، وَكَانُوا قَدْ خَنْدَقُوا حَوْلَهُمْ خَنْدَقًا لَا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِمْ مِنْهُ، فَبَاتَ الْجَيْشَانِ تَتَرَاءَى نَارَاهُمَا، فَلَمَّا أَصْبَحَا مَالَ خَاقَانُ عَلَى بَعْضِ الْجَيْشِ الَّذِي لِلْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَأَسَرَ أُمَمًا، وَأَخَذَ أَمْوَالًا كَثِيرَةً وَإِبِلًا مُوْقَرَةً، ثُمَّ إِنَّ الْجَيْشَيْنِ تَوَاجَهُوا فِي يَوْمِ عِيدِ الْفِطْرِ، حَتَّى خَافَ جَيْشُ أَسَدٍ أَنْ يُصَلُّوا صَلَاةَ الْعِيدِ، فَمَا صَلَّوْهَا إِلَّا عَلَى وَجَلٍ، ثُمَّ سَارَ أَسَدٌ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى نَزَلَ مَرْجَ بَلْخَ، حَتَّى انْقَضَى الشِّتَاءُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ عِيدِ الْأَضْحَى خَطَبَ أَسَدٌ النَّاسَ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِي لِقَاءِ خَاقَانَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَتَحَصَّنُ بِبَلْخَ وَنَبْعَثُ إِلَى خَالِدٍ وَالْخَلِيفَةِ. وَمِنْ قَائِلٍ يُشِيرُ بِالذَّهَابِ إِلَى مَرْوَ، وَأَشَارَ آخَرُونَ بِمُلْتَقَاهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، فَوَافَقَ ذَلِكَ رَأْيُ أَسَدِ الْأُسْدِ، فَقَصَدَ بِجَيْشِهِ نَحْوَ
خَاقَانَ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا، ثُمَّ دَعَا بِدُعَاءٍ طَوِيلٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ يَقُولُ: نُصِرْتُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. ثَلَاثًا. ثُمَّ سَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَالْتَقَتْ مُقَدِّمَتُهُ بِمُقَدَّمَةِ خَاقَانَ، فَقَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ خَلْقًا، وَأَسَرُوا أَمِيرَهُمْ وَسَبْعَةَ أُمَرَاءَ مَعَهُ، ثُمَّ سَاقَ أَسَدٌ فَانْتَهَى إِلَى أَغْنَامِهِمْ فَاسْتَاقَهَا، فَإِذَا هِيَ مِائَةُ أَلْفٍ وَخَمْسُونَ أَلْفَ شَاةٍ، ثُمَّ الْتَقَى مَعَهُمْ، وَكَانَ خَاقَانُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إِنَّمَا مَعَهُ أَرْبَعَةُ آلَافٍ أَوْ نَحْوُهَا، وَمَعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ خَامَرَ إِلَيْهِ، يُقَالُ لَهُ: الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ فَهُوَ يَدُلُّهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا اقْتَتَلَ النَّاسُ هَرَبَتِ الْأَتْرَاكُ فِي كُلِّ جَانِبٍ، وَانْهَزَمَ خَاقَانُ، وَمَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ الْمَذْكُورُ يَحْمِيهِ وَيُثَبِّتُهُ، فَتَبِعَهُمْ أَسَدٌ فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الظَّهِيرَةِ انْخَذَلَ خَاقَانُ فِي أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، عَلَيْهِمُ الْخَزُّ، وَمَعَهُمُ الْكُوسَاتُ، فَلَمَّا أَدْرَكَهُ الْمُسْلِمُونَ أَمَرَ بِالْكُوسَاتِ فَضُرِبَتْ ضَرْبَ الِانْصِرَافِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا الِانْصِرَافَ، فَتَقَدَّمَ الْمُسْلِمُونَ، فَاحْتَاطُوا عَلَى مُعَسْكَرِهِمْ، فَاحْتَازُوهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْتِعَةِ الْعَظِيمَةِ، وَالْأَوَانِي مِنَ النَّقْدِ، وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنَ الْأَتْرَاكِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأُسَارَى مِنَ الْمُسْلِمَاتِ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوصَفُ، لِكَثْرَتِهِ وَعِظَمِ قِيمَتِهِ وَحُسْنِهِ، غَيْرَ أَنَّ خَاقَانَ كَانَ قَدْ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ بِخِنْجَرٍ فَقَتَلَهَا، فَوَصَلَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْعَسْكَرِ، وَهِيَ فِي آخِرِ رَمَقٍ تَتَحَرَّكُ، وَوَجَدُوا قُدُورَهُمْ تَغْلِي بِأَطْعِمَاتِهِمْ، وَهَرَبَ خَاقَانُ بِمَنْ مَعَهُ حَتَّى دَخَلَ بَعْضَ الْمُدُنِ، فَتَحَصَّنَ بِهَا، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ لَعِبَ بِالنَّرْدِ مَعَ بَعْضِ أُمَرَائِهِ،
فَغَلَبَهُ الْأَمِيرُ، فَتَوَعَّدَهُ خَاقَانُ بِقَطْعِ الْيَدِ، فَحَنِقَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمِيرُ، ثُمَّ عَمِلَ عَلَى قَتْلِهِ فَقَتَلَهُ، وَتَفَرَّقَتِ الْأَتْرَاكُ فِرَقًا يَعْدُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَنْهَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَبَعَثَ أَسَدٌ إِلَى أَخِيهِ خَالِدٍ يُعْلِمُهُ بِمَا وَقَعَ مِنَ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِخَاقَانَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ بِطَوْقِ خَاقَانَ، وَشَيْءٍ كَثِيرٍ مِنْ حَوَاصِلِهِ وَأَمْتِعَتِهِ، فَوَفَّدَهَا خَالِدٌ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ هِشَامٍ فَفَرِحَ بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا جِدًّا، وَأَطْلَقَ لِلرُّسُلِ أَمْوَالًا جَزِيلَةً كَثِيرَةً مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ فِي أَسَدٍ يَمْدَحُهُ عَلَى ذَلِكَ:
لَوْ سِرْتَ فِي الْأَرْضِ تَقِيسُ الْأَرْضَا
…
تَقِيسُ مِنْهَا طُولَهَا وَالْعَرْضَا
لَمْ تَلْقَ خَيْرًا مَرَّةً وَنَقْضَا
…
مِنَ الْأَمِيرِ أَسَدٍ وَأَمْضَى
أَفْضَى إِلَيْنَا الْخَيْرَ حِينَ أَفْضَى
…
وَجَمَعَ الشَّمْلَ وَكَانَ رَفْضَا
مَا فَاتَهُ خَاقَانُ إِلَّا رَكْضَا
…
قَدْ فَضَّ مِنْ جُمُوعِهِ مَا فَضَّا
يَا بْنَ سُرَيْجٍ قَدْ لَقِيتَ حَمْضَا
…
حَمْضًا بِهِ يُشْفَى صُدَاعُ الْمَرْضَى
وَفِيهَا قَتَلَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ الْمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ وَجَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ تَابَعُوهُ عَلَى بَاطِلِهِ، وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ سَاحِرًا فَاجِرًا شِيعِيًّا خَبِيثًا.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ
الْمُغِيرَةَ بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: لَوْ أَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يُحْيِيَ عَادًا وَثَمُودَ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا لَأَحْيَاهُمْ.
قَالَ الْأَعْمَشُ وَكَانَ الْمُغِيرَةُ يَخْرُجُ إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَيَتَكَلَّمُ، فَيُرَى مِثْلُ الْجَرَادِ عَلَى الْقُبُورِ. أَوْ نَحْوَ هَذَا مِنَ الْكَلَامِ.
وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى سِحْرِهِ وَفُجُورِهِ. وَلَمَّا بَلَغَ خَالِدًا أَمْرُهُ أَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، فَجِيءَ بِهِ فِي سِتَّةِ نَفَرٍ أَوْ سَبْعَةِ نَفَرٍ، فَأَمَرَ خَالِدٌ فَأُبْرِزَ سَرِيرُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِ أَطْنَانِ الْقَصَبِ، وَالنِّفْطِ فَصَبَّ فَوْقَهَا، وَأَمَرَ الْمُغِيرَةَ أَنْ يَحْتَضِنَ طُنًّا مِنْهَا، فَامْتَنَعَ فَضُرِبَ حَتَّى احْتَضَنَ مِنْهَا طُنًّا وَاحِدًا، وَصَبَّ فَوْقَ رَأْسِهِ النِّفْطَ، ثُمَّ أَضْرَمَ بِالنَّارِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ بِبَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ، قَبَّحَهُمُ اللَّهُ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ خَرَجَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: بُهْلُولُ بْنُ بِشْرٍ. وَيُلَقَّبُ بِكُثَارَةَ، وَاتَّبَعَهُ جَمَاعَاتٌ مِنَ الْخَوَارِجِ دُونَ الْمِائَةِ، وَقَصَدُوا قَتْلَ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ فَبَعَثَ إِلَيْهِمُ الْبُعُوثَ، فَكَسَرُوا الْجُيُوشَ، وَاسْتَفْحَلَ أَمْرُهُمْ جِدًّا ; لِشَجَاعَتِهِمْ وَجَلَدِهِمْ، وَقِلَّةِ نُصْحِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ مِنَ الْجُيُوشِ، فَرَدُّوا الْعَسَاكِرَ مِنَ الْأُلُوفِ الْمُؤَلَّفَةِ، الْمُوقَرَةِ
بِالْأَسْلِحَةِ وَلَمْ يَبْلُغُوا الْمِائَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ رَامُوا قُدُومَ الشَّامِ لِقَتْلِ الْخَلِيفَةِ هِشَامٍ فَقَصَدُوا نَحْوَهَا، فَاعْتَرَضَهُمْ جَيْشٌ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ فَاقْتَتَلُوا مَعَهُمْ قِتَالًا عَظِيمًا، فَقَتَلُوا عَامَّةَ أَصْحَابِ بُهْلُولٍ الْخَارِجِيِّ ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنْ جَدِيلَةَ يُكَنَّى أَبَا الْمَوْتِ ضَرَبَ بُهْلُولًا ضَرْبَةً فَصَرَعَهُ، وَتَفَرَّقَ بَقِيَّةُ أَصْحَابِهِ، وَكَانُوا جَمِيعُهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَقَدْ رَثَاهُمْ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ فَقَالَ:
بُدِّلْتُ بَعْدَ أَبِي بِشْرٍ وَصُحْبَتِهِ
…
قَوْمًا عَلَيَّ مَعَ الْأَحْزَابِ أَعْوَانَا
بَانُوا كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا مِنْ صَحَابَتِنَا
…
وَلَمْ يَكُونُوا لَنَا بِالْأَمْسِ خُلَّانَا
يَا عَيْنُ أَذْرِي دُمُوعًا مِنْكِ تَهْتَانَا
…
وَابْكِي لَنَا صُحْبَةً بَانُوا وَإِخْوَانَا
خَلَّوْا لَنَا ظَاهِرَ الدُّنْيَا وَبَاطِنَهَا
…
وَأَصْبَحُوا فِي جِنَانِ الْخُلْدِ جِيرَانَا
ثُمَّ تَجَمَّعَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أُخْرَى عَلَى بَعْضِ أُمَرَائِهِمْ، فَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا وَقَتَلُوا، وَجُهِّزَتْ إِلَيْهِمُ الْعَسَاكِرُ مِنْ عِنْدِ خَالِدٍ الْقَسْرِيِّ وَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَبَادَ خَضْرَاءَهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ بَاقِيَةٌ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَفِيهَا غَزَا أَسَدٌ الْقَسْرِيُّ بِلَادَ التُّرْكِ فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَلِكُهُمْ بَدْرُ طَرْخَانُ أَلْفَ أَلْفٍ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، وَأَخَذَهُ قَهْرًا، فَقَتَلَهُ صَبْرًا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَخَذَ مَدِينَتَهُ وَقَلْعَتَهُ وَحَوَاصِلَهُ وَنِسَاءَهُ وَأَمْوَالَهُ.
وَفِيهَا خَرَجَ الصُّحَارِيُّ بْنُ شَبِيبٍ الْخَارِجِيُّ وَاتَّبَعَهُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ نَحْوٌ مِنْ
ثَلَاثِينَ رَجُلًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ جُنْدًا، فَقَتَلُوهُ وَجَمِيعَ أَصْحَابِهِ، فَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْهُمْ رَجُلًا وَاحِدًا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
وَحَجَّ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَبُو شَاكِرٍ مَسْلَمَةُ بْنُ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَحَجَّ مَعَهُ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ لِيُعَلِّمَهُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَكَانَ أَمِيرَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالطَّائِفِ مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، وَأَمِيرَ الْعِرَاقِ وَالْمَشْرِقِ بِكَمَالِهِ خَالِدٌ الْقَسْرِيُّ وَنَائِبُهُ عَلَى خُرَاسَانَ بِكَمَالِهَا أَخُوهُ أَسَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ تُوُفِّيَ فِي هَذِهِ السَّنَةِ. وَقِيلَ: فِي سَنَةِ عِشْرِينَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَنَائِبُ إِرْمِينِيَّةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَرْوَانُ الْمُلَقَّبُ بِالْحِمَارِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.