الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ]
[الْأَحْدَاثُ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا]
فَفِيهَا كَانَ مَقْتَلُ زَيْدُ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ الْبَيْعَةَ مِمَّنْ بَايَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، أَمَرَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السَّنَةِ بِالْخُرُوجِ وَالتَّأَهُّبِ لَهُ، فَشَرَعُوا فِي أَخْذِ الْأُهْبَةِ لِذَلِكَ، فَانْطَلَقَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: سُلَيْمَانُ بْنُ سُرَاقَةَ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ نَائِبِ الْعِرَاقِ فَأَخْبَرَهُ - وَهُوَ بِالْحِيرَةِ يَوْمَئِذٍ - خَبَرَ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَبَعَثَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ يَطْلُبُهُ وَيُلِحُّ فِي طَلَبِهِ، فَلَمَّا عَلِمَتِ الشِّيعَةُ ذَلِكَ اجْتَمَعُوا عِنْدَ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالُوا لَهُ: مَا قَوْلُكَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، فِي أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ اللَّهُ لَهُمَا، مَا سَمِعْتُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يَتَبَرَّأُ مِنْهُمَا، وَأَنَا لَا أَقُولُ فِيهِمَا إِلَّا خَيْرًا. قَالُوا: فَلِمَ تَطْلُبُ إِذًا بِدَمِ أَهْلِ الْبَيْتِ؟ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَلَكِنَّ الْقَوْمَ اسْتَأْثَرُوا عَلَيْنَا بِهِ وَدَفَعُونَا عَنْهُ، وَلَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِهِمْ كُفْرًا، قَدْ وَلُوا فَعَدَلُوا، وَعَمِلُوا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالُوا: فَلِمَ تُقَاتِلُ هَؤُلَاءِ إِذًا؟ قَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا كَأُولَئِكَ، إِنَّ هَؤُلَاءِ ظَلَمُوا النَّاسَ، وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، وَإِنِّي أَدْعُو إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإِحْيَاءِ السُّنَنِ وَإِمَاتَةِ الْبِدَعِ، فَإِنْ تَسْمَعُوا يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ وَلِي، وَإِنْ تَأْبَوْا فَلَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ. فَرَفَضُوا وَانْصَرَفُوا عَنْهُ، وَنَقَضُوا بَيْعَتَهُ وَتَرَكُوهُ، فَلِهَذَا سُمُّوا
الرَّافِضَةَ مِنْ يَوْمِئِذٍ، وَمَنْ تَابَعَهُ مِنَ النَّاسِ عَلَى قَوْلِهِ سُمُّوا الزَّيْدِيَّةِ وَغَالِبُ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِنْهُمْ رَافِضَةٌ وَغَالِبُ أَهْلِ مَكَّةَ إِلَى الْيَوْمِ عَلَى مَذْهَبِ الزَّيْدِيَّةِ وَفِيهِ حَقٌّ ; وَهُوَ تَعْدِيلُ الشَّيْخَيْنِ، وَبَاطِلٌ ; وَهُوَ اعْتِقَادُ تَقْدِيمِ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا، وَلَيْسَ عَلِيٌّ مُقَدَّمًا عَلَيْهِمَا، بَلْ وَلَا عُثْمَانُ عَلَى أَصَحِّ قَوْلَيْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْآثَارِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رضي الله عنهما.
ثُمَّ إِنَّ زَيْدًا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ بِمَنْ بَقِيَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَوَاعَدَهُمْ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءَ مُسْتَهَلَّ صَفَرٍ مِنْ هَذِهِ السُّنَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ فَكَتَبَ إِلَى نَائِبِهِ عَلَى الْكُوفَةِ وَهُوَ الْحَكَمُ بْنُ الصَّلْتِ يَأْمُرُهُ بِجَمْعِ النَّاسِ كُلِّهِمْ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ، فَجَمَعَ النَّاسَ لِذَلِكَ فِي يَوْمِ الثُّلَاثَاءِ سَلْخَ الْمُحَرَّمِ، قَبْلَ خُرُوجِ زَيْدٍ بِيَوْمٍ، وَخَرَجَ زَيْدٌ بِمَنْ مَعَهُ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ فِي بَرْدٍ شَدِيدٍ، وَرَفَعَ أَصْحَابَهُ النِّيرَانَ، وَجَعَلُوا يُنَادُونَ: يَا مَنْصُورُ يَا مَنْصُورُ. فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ إِذَا قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مِائَتَانِ وَثَمَانِيَةَ عَشْرَ رَجُلًا، فَجَعَلَ زَيْدٌ يَقُولُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَيْنَ النَّاسُ؟ فَقِيلَ: هُمْ فِي الْمَسْجِدِ مَحْصُورُونَ. وَكَتَبَ الْحَكَمُ بْنُ الصَّلْتِ إِلَى يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ يُعْلِمُهُ
بِخُرُوجِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فَبَعَثَ إِلَيْهِ سِرِّيَّةً إِلَى الْكُوفَةِ، وَرَكِبَتِ الْجُيُوشُ مَعَ نَائِبِ الْكُوفَةِ، وَجَاءَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ أَيْضًا فِي طَائِفَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ النَّاسِ، فَالْتَقَى زَيْدٌ بِمَنْ مَعَهُ جُرْثُومَةً مِنْهُمْ فِيهِمْ خَمْسُمِائَةِ فَارِسٍ فَهَزَمَهُمْ ثُمَّ أَتَى الْكُنَاسَةَ، فَحَمَلَ عَلَى جَمْعٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَهَزَمَهُمْ، ثُمَّ اجْتَازَ بِيُوسُفَ بْنِ عُمَرَ وَهُوَ وَاقِفٌ فَوْقَ تَلٍّ وَزَيْدٌ فِي مِائَتَيْ فَارِسٍ، وَلَوْ قَصَدَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ لَقَتَلَهُ، وَلَكِنْ أَخْذَ ذَاتَ الْيَمِينِ، وَكُلَّمَا الْتَقَى بِطَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ هَزَمَهُمْ، وَجَعَلَ أَصْحَابَهُ يُنَادُونَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ اخْرُجُوا إِلَى الدِّينِ وَالْعِزِّ وَالدُّنْيَا، فَإِنَّكُمْ لَسْتُمْ فِي دِينٍ وَلَا عِزٍّ وَلَا دُنْيَا. ثُمَّ لَمَّا أَمْسَوُا انْضَافَ إِلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَدْ قُتِلَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي اقْتَتَلَ هُوَ وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَانْصَرَفُوا عَنْهُ بِشَرِّ حَالٍ، وَأَمْسَوْا فَعَبَّأَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ جَيْشَهُ جِدًّا، ثُمَّ أَصْبَحُوا فَالْتَقَوْا مَعَ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فِي أَصْحَابِهِ، فَكَشَفَهُمْ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى السَّبْخَةِ ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِمْ حَتَّى أَخْرَجَهُمْ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ ثُمَّ تَبِعَهُمْ فِي خَيْلِهِ وَرَجِلِهِ حَتَّى أَخَذُوا عَلَى الْمُسَنَّاةِ، ثُمَّ اقْتَتَلُوا هُنَاكَ قِتَالًا شَدِيدًا جِدًّا، حَتَّى كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ رُمِيَ زَيْدٌ بِسَهْمٍ، فَأَصَابَ جَانِبَ جَبْهَتَهُ الْيُسْرَى، فَوَصَلَ إِلَى دِمَاغِهِ، فَرَجَعَ وَرَجَعَ أَصْحَابُهُ، وَلَا يَظُنُّ أَهْلُ الشَّامِ أَنَّهُمْ رَجَعُوا إِلَّا لِلْمَسَاءِ وَاللَّيْلِ، وَأُدْخِلَ زَيْدٌ فِي دَارٍ فِي سِكَّةِ الْبَرِيدِ وَجِيءَ بِطَبِيبٍ فَانْتَزَعَ ذَلِكَ السَّهْمَ مِنْ جَبْهَتِهِ، فَمَا عَدَا أَنِ انْتَزَعَهُ حَتَّى مَاتَ مِنْ سَاعَتِهِ، رحمه الله.
فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ أَيْنَ يَدْفِنُوهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَلْبِسُوهُ دِرْعَهُ وَأَلْقُوهُ فِي الْمَاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: احْتَزُّوا رَأْسَهُ وَاتْرُكُوا جُثَّتَهُ فِي الْقَتْلَى. فَقَالَ ابْنُهُ: لَا وَاللَّهِ لَا تَأْكُلُ أَبِي الْكِلَابُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ادْفِنُوهُ فِي الْعَبَّاسِيَّةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ادْفِنُوهُ فِي الْحُفْرَةِ الَّتِي يُؤْخَذُ مِنْهَا الطِّينُ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَأَجْرَوْا عَلَى قَبْرِهِ الْمَاءَ ; لِئَلَّا يُعْرَفَ، وَانْفَتَلَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ رَأْسٌ يُقَاتِلُونَ بِهِ، فَمَا أَصْبَحَ الْفَجْرُ وَلَهُمْ قَائِمَةٌ يَنْهَضُونَ بِهَا، وَتَتَبَّعَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ الْجَرْحَى هَلْ يَجِدُ زَيْدًا بَيْنَهُمْ، وَجَاءَ مَوْلًى لِزَيْدٍ سِنْدِيٌّ، قَدْ شَهِدَ دَفْنَهُ، فَدَلَّ عَلَى قَبْرِهِ، فَأُخِذَ مِنْ قَبْرِهِ، فَأَمَرَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بِصُلْبِهِ عَلَى خَشَبَةٍ بِالْكُنَاسَةِ وَمَعَهُ نَصْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ، وَمُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ الْأَنْصَارِيُّ، وَزِيَادٌ النَّهْدِيُّ وَيُقَالُ: إِنَّ زَيْدًا مَكَثَ مَصْلُوبًا أَرْبَعَ سِنِينَ، ثُمَّ أُنْزِلَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأُحْرِقَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ أَنَّ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ لَمْ يَعْلَمْ بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ حَتَّى كَتَبَ لَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ يَقُولُ لَهُ: إِنَّكَ لَغَافِلٌ، وَإِنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ غَارِزٌ ذَنَبَهُ بِالْكُوفَةِ يُبَايَعُ لَهُ، فَأَلِحَّ فِي طَلَبِهِ وَأُعْطِهِ الْأَمَانَ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَقَاتِلْهُ. فَتَطَلَّبَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَى قَبْرِهِ حَزَّ رَأْسَهُ، وَبَعَثَ بِهِ إِلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَنَصَبَهُ عَلَى بَابِ دِمَشْقَ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَسَارُوا بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ حَتَّى نَصَبُوهُ عَلَى أَحَدِ أَبْوَابِهَا، وَأَمَّا جُثَّتُهُ فَلَمْ تَزَلْ مَصْلُوبَةً تُحْرَسُ لَيْلًا وَنَهَارًا حَتَّى انْقَضَتْ دَوْلَةُ هِشَامٍ وَقَامَ مِنْ بَعْدِهِ الْوَلِيدُ بْنُ
يَزِيدَ فَأَمَرَ بِهِ، فَأُنْزِلَ وَحُرِّقَ فِي أَيَّامِهِ، قَبَّحَ اللَّهُ الْوَلِيدَ هَذَا. وَأَمَّا ابْنُهُ يَحْيَى بْنُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ فَاسْتَجَارَ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرِ بْنِ مَرْوَانَ فَبَعَثَ إِلَيْهِ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ يَتَهَدَّدُهُ حَتَّى يَحْضُرَهُ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ بِشْرٍ: مَا كُنْتُ لِأُؤْوِيَ مِثْلَ هَذَا الرَّجُلِ وَهُوَ عَدُوُّنَا وَابْنُ عَدُوِّنَا. فَصَدَّقَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فِي ذَلِكَ. وَلَمَّا هَدَأَ الطَّلَبُ عَنْهُ سَيَّرَهُ إِلَى خُرَاسَانَ، فَخَرَجَ يَحْيَى بْنُ زَيْدٍ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الزَّيْدِيَّةِ إِلَى خُرَاسَانَ فَأَقَامُوا بِهَا هَذِهِ الْمُدَّةَ.
قَالَ أَبُو مَخْنَفٍ: وَلَمَّا قَتَلَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ زَيْدَ بْنَ عَلِيٍّ خَطَبَ أَهْلَ الْكُوفَةِ، فَتَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ وَشَتَمَهُمْ وَأَنَّبَهُمْ ; قَالَ فِيمَا قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَأْذَنْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَتْلِ خَلْقٍ مِنْكُمْ، وَلَوْ أَذِنَ لِي لَقَتَلْتُ مُقَاتَلَتَكُمْ، وَسَبَيْتُ ذَرَارِيَّكُمْ، وَمَا صَعِدْتُ هَذَا الْمِنْبَرَ إِلَّا لِأُسْمِعَكُمْ مَا تَكْرَهُونَ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَطَّالُ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِأَرْضِ الرُّومِ. وَلَمْ يَزِدِ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى هَذَا، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الرَّجُلَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ، فَقَالَ:
عَبْدُ اللَّهِ أَبُو يَحْيَى الْمَعْرُوفُ بِالْبَطَّالِ.
كَانَ يَنْزِلُ أَنْطَاكِيَةَ، حَكَى عَنْهُ أَبُو مَرْوَانَ الْأَنْطَاكِيُّ.
ثُمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ حِينَ عَقَدَ لِابْنِهِ مَسْلَمَةَ عَلَى غَزْوِ بِلَادِ الرُّومِ وَلَّى عَلَى رُؤَسَاءِ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ وَالشَّامِ الْبَطَّالَ وَقَالَ لِابْنِهِ مَسْلَمَةَ: صَيِّرْهُ عَلَى طَلَائِعِكَ، وَأْمُرْهُ فَلْيُعَسَّ بِاللَّيْلِ الْعَسْكَرَ، فَإِنَّهُ أَمِينٌ ثِقَةٌ مِقْدَامٌ شُجَاعٌ. وَخَرَجَ مَعَهُمْ عَبْدُ الْمَلِكِ يُشَيِّعُهُمْ إِلَى بَابِ دِمَشْقَ.
قَالَ: فَقَدَّمَ مَسْلَمَةُ الْبَطَّالَ عَلَى عَشَرَةِ آلَافٍ يَكُونُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ تُرْسًا مِنَ الرُّومِ أَنْ يَصِلُوا إِلَى جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ الدِّمَشْقِيُّ: ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنِي أَبُو مَرْوَانَ - شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ - قَالَ: كُنْتُ أَغَازِي الْبَطَّالَ وَقَدْ أَوْطَأَ الرُّومَ ذُلًّا، قَالَ الْبَطَّالُ: فَسَأَلَنِي بَعْضُ وُلَاةِ بَنِي أُمَيَّةَ عَنْ أَعْجَبِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي فِيهِمْ، فَقُلْتُ لَهُ: خَرَجْتُ فِي سِرِّيَّةٍ لَيْلًا، فَدَفَعْنَا إِلَى قَرْيَةٍ، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي: أَرْخُوا لُجُمَ خُيُولِكُمْ وَلَا تُحَرِّكُوا أَحَدًا بِقَتْلٍ وَلَا بِسَبْيٍ حَتَّى تَشْحَنُوا الْقَرْيَةَ فَإِنَّهُمْ فِي نَوْمَةٍ. فَفَعَلُوا وَافْتَرَقُوا فِي أَزِقَّتِهَا، فَدَفَعْتُ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِي إِلَى بَيْتٍ يَزْهَرُ سِرَاجُهُ، وَإِذَا امْرَأَةٌ تُسَكِّتُ ابْنَهَا مِنْ بُكَائِهِ وَهِيَ تَقُولُ: لَتَسْكُتْنَّ أَوْ لَأَدْفَعَنَّكَ إِلَى الْبَطَّالِ يَذْهَبُ بِكَ. وَانْتَشَلَتْهُ مِنْ سَرِيرِهِ وَقَالَتْ: أَمْسِكْ يَا بِطَّالُ. قَالَ: فَأَخَذْتُهُ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي مَرْوَانَ الْأَنْطَاكِيِّ عَنِ الْبَطَّالِ قَالَ: انْفَرَدْتُ مَرَّةً عَلَى فَرَسِي، لَيْسَ مَعِي أَحَدٌ مِنَ الْجُنْدِ، وَقَدْ سَمَّطْتُ خَلْفِي
مِخْلَاةً فِيهَا شَعِيرٌ، وَمَعِي مَنْدِيلٌ فِيهِ خُبْزٌ وَشِوَاءٌ، فَبَيْنَا أَنَا أَسِيرُ لَعَلِّي أَلْقَى أَحَدًا مُنْفَرِدًا أَوْ أَطَّلِعُ عَلَى خَبَرٍ، إِذَا أَنَا بِبُسْتَانٍ فِيهِ بُقُولٌ حَسَنَةٌ، فَنَزَلْتُ وَأَكَلْتُ مِنْ ذَلِكَ الْخَبْزِ وَالشِّوَاءِ مَعَ الْبَقْلِ، فَأَخَذَنِي إِسْهَالٌ عَظِيمٌ قُمْتُ مِنْهُ مِرَارًا، فَخِفْتُ أَنْ أَضْعُفَ مِنْ كَثْرَةِ الْإِسْهَالِ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَالْإِسْهَالُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى حَالِهِ، وَجَعَلْتُ أَخْشَى إِنْ أَنَا نَزَلْتُ عَنْ فَرَسِي أَنْ أَضْعُفَ عَنِ الرُّكُوبِ، وَأَفْرَطَ بِي الْإِسْهَالُ فِي السَّرْجِ، حَتَّى خَشِيَتُ أَنْ أَسْقُطَ مِنَ الضَّعْفِ، فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ الْفَرَسِ، وَنِمْتُ عَلَى وَجْهِي لَا أَدْرِي أَيْنَ يَسِيرُ الْفَرَسُ بِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا بِقَرْعِ نِعَالِهِ عَلَى بَلَاطٍ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَإِذَا دَيْرٌ، وَإِذَا قَدْ خَرَجَ مِنْهُ نِسْوَةٌ صُحْبَةَ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ جَمِيلَةٍ جِدًّا، فَجَعَلَتْ تَقُولُ لَهُنَّ بِلِسَانِهَا: أَنْزِلْنَهُ. فَأَنْزَلْنَنِي، فَغَسَلْنَ عَنِّي ثِيَابِي وَسَرْجِي وَفَرَسِي، وَوَضَعْنَنِي عَلَى سَرِيرٍ، وَعَمِلْنَ لِي طَعَامًا وَشَرَابًا فَمَكَثْتُ يَوْمًا وَلَيْلَةً مَسْبُوتًا، ثُمَّ أَقَمْتُ بَقِيَّةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ حَتَّى تُرَادَّ إِلَيَّ حَالِي، فَبَيْنَا أَنَا كَذَلِكَ إِذْ قِيلَ: جَاءَ الْبِطْرِيقُ. فَأَمَرْتُ بِفَرَسِي فَحُوِّلَ، وَغُلِّقَ عَلَيَّ الْبَابُ الَّذِي أَنَا فِيهِ، وَإِذَا هُوَ بِطْرِيقٌ كَبِيرٌ فِيهِمْ قَدْ جَاءَ لِخِطْبَتِهَا، فَأَخْبَرَهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ هُنَاكَ بِأَنَّ هَذَا الْبَيْتَ فِيهِ رَجُلٌ وَلَهُ فَرَسٌ، فَهَمَّ بِالْهُجُومِ عَلَيَّ، فَمَنَعَتْهُ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَلِكَ، وَأَرْسَلَتْ تَقُولُ لَهُ: إِنْ فَتَحَ عَلَيْهِ الْبَابَ لَمْ أَقْضِ حَاجَتَهُ. فَثَنَاهُ ذَلِكَ عَنِ الْهُجُومِ عَلَيَّ، وَأَقَامَ إِلَى آخِرِ النَّهَارِ فِي ضِيَافَتِهِمْ، ثُمَّ رَكِبَ فَرَسَهُ، وَرَكِبَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ وَانْطَلَقَ. قَالَ الْبَطَّالُ: فَنَهَضْتُ فِي أَثَرِهِمْ، فَهَمَّتْ أَنْ تَمْنَعَنِي خَوْفًا عَلَيَّ مِنْهُمْ فَلَمْ أَقْبَلْ، وَسُقْتُ حَتَّى لَحِقْتُهُمْ، فَحَمَلْتُ عَلَيْهِ، فَانْفَرَجَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَأَرَادَ الْفِرَارَ، فَأَلْحَقُهُ فَأَضْرِبُ عُنُقَهُ وَاسْتَلَبْتُهُ وَأَخَذْتُ رَأْسَهُ مُسَمَّطًا عَلَى فَرَسِي، وَرَجَعْتُ إِلَى الدَّيْرِ، فَخَرَجْنَ إِلَيَّ
وَوَقَفْنَ بَيْنَ يَدَيَّ، فَقُلْتُ: ارْكَبْنَ. فَرَكِبْنَ مَا هُنَالِكَ مِنَ الدَّوَابِّ، وَسُقْتُ بِهِنَّ حَتَّى أَتَيْتُ أَمِيرَ الْجَيْشِ، فَدَفَعْتُهُنَّ إِلَيْهِ، فَنَفَّلَنِي مَا شِئْتُ مِنْهُنَّ، فَأَخَذْتُ تِلْكَ الْمَرْأَةَ الْحَسْنَاءَ بِعَيْنِهَا، فَهِيَ أَمُّ أَوْلَادِي. وَكَانَ أَبُوهَا بِطْرِيقًا كَبِيرًا فِيهِمْ، وَكَانَ الْبَطَّالُ بَعْدَ ذَلِكَ يُكَاتِبُ أَبَاهَا وَيُهَادِيهِ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ عَنِ الْوَلِيدِ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَاشِدٍ مَوْلَى خُزَاعَةَ يُخْبِرُ عَمَّنْ سَمِعَهُ مِنَ الْبَطَّالِ أَنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ لَمَّا وَلَّاهُ الْمِصِّيصَةَ بَعَثَ الْبَطَّالُ سَرِيَّةً إِلَى أَرْضِ الرُّومِ فَغَابَ عَنْهُ خَبَرُهَا فَلَمْ يَدْرِ مَا صَنَعُوا، فَرَكِبَ بِنَفْسِهِ وَحْدَهُ عَلَى فَرَسٍ لَهُ، وَسَارَ حَتَّى وَصَلَ إِلَى عَمُّورِيَّةَ، فَطَرَقَ بَابَهَا لَيْلًا، فَقَالَ لَهُ الْبَوَّابُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ الْبَطَّالُ: فَقُلْتُ: أَنَا سَيَّافُ الْمَلِكِ وَرَسُولُهُ إِلَى الْبِطْرِيقِ فَخُذْ لِي طَرِيقًا إِلَيْهِ. فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ إِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ، فَجَلَسْتُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ إِلَى جَانِبِهِ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ جِئْتُكَ فِي رِسَالَةٍ، فَمُرْ هَؤُلَاءِ فَلْيَنْصَرِفُوا. فَأَمَرَ مَنْ عِنْدَهُ فَذَهَبُوا. قَالَ: ثُمَّ قَامَ فَغَلَقَ بَابَ الْكَنِيسَةِ عَلَيَّ وَعَلَيْهِ، ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ، فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي، وَضَرَبْتُ بِهِ رَأَسَهُ صَفْحًا، وَقُلْتُ لَهُ: أَنَا الْبَطَّالُ فَاصْدُقْنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ وَإِلَّا ضَرَبْتُ عُنُقَكَ. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: السَّرِيَّةُ الَّتِي بَعَثْتُهَا مَا خَبَرُهَا؟ فَقَالَ: هُمْ فِي بِلَادِي يَنْتَهِبُونَ مَا تَهَيَّأَ لَهُمْ، وَهَذَا كِتَابٌ قَدْ جَاءَنِي يُخْبِرُ أَنَّهُمْ فِي وَادِي كَذَا وَكَذَا، وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقْتُكَ. فَقُلْتُ: هَاتِ الْأَمَانَ. فَأَعْطَانِي الْأَمَانَ، فَقُلْتُ: ائْتِنِي بِطَعَامٍ. فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَجَاءُوا بِطَعَامٍ، فَوُضِعَ لِي، فَأَكَلْتُ ثُمَّ قُمْتُ لِأَنْصَرِفَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: اخْرُجُوا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ الْمَلِكِ. فَانْطَلَقُوا يَتَعَادُّونَ بَيْنَ يَدَيَّ، وَانْطَلَقْتُ إِلَى ذَلِكَ الْوَادِي
الَّذِي ذُكِرَ، فَإِذَا أَصْحَابِي هُنَالِكَ، فَأَخَذَتْهُمْ وَرَجَعْتُ إِلَى الْمِصِّيصَةِ. فَهَذَا أَغْرَبُ مَا جَرَى.
قَالَ الْوَلِيدُ: وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ شُيُوخِنَا أَنَّهُ رَأَى الْبَطَّالَ وَهُوَ قَافِلٌ مَنْ حَجَّتِهِ، وَكَانَ قَدْ شُغِلَ بِالْجِهَادِ عَنِ الْحَجِّ، وَكَانَ يَسْأَلُ اللَّهَ دَائِمًا الْحَجَّ ثُمَّ الشَّهَادَةَ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إِلَّا فِي السَّنَةِ الَّتِي اسْتُشْهِدَ فِيهَا، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَانَ سَبَبُ شَهَادَتِهِ أَنَّ لِيُونَ مَلِكَ الرُّومِ خَرَجَ مِنَ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ فِي مِائَةِ أَلْفِ فَارِسٍ، فَبَعَثَ الْبِطْرِيقُ - الَّذِي الْبَطَّالُ مُتَزَوِّجٌ بِابْنَتِهِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَمْرَهَا - إِلَى الْبَطَّالِ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ فَأَخْبَرَ الْبَطَّالُ أَمِيرَ عَسَاكِرِ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ مَالِكَ بْنَ شَبِيبٍ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْمَصْلَحَةَ تَقْتَضِي أَنْ نَتَحَصَّنَ فِي مَدِينَةِ حَرَّانَ، فَنَكُونُ بِهَا حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيْنَا سُلَيْمَانُ بْنُ هِشَامٍ فِي الْجُيُوشِ. فَأَبَى عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَدَهَمَهُمُ الْجَيْشُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا وَالْبَطَّالُ يَجُولُ بَيْنَ يَدَيِ الْأَبْطَالِ، وَلَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ أَنْ يُنَوِّهَ بِاسْمِهِ ; خَوْفًا عَلَيْهِ مِنَ الرُّومِ فَاتَّفَقَ أَنْ نَادَاهُ بَعْضُهُمْ، وَذَكَرَ اسْمَهُ غَلَطًا مِنْهُ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ فُرْسَانُ الرُّومِ حَمَلُوا عَلَيْهِ حَمْلَةً وَاحِدَةً، فَاقْتَلَعُوهُ مَنْ سَرْجِهِ بِرِمَاحِهِمْ، فَأَلْقَوْهُ إِلَى الْأَرْضِ، وَسَاقُوا وَرَاءَ النَّاسِ يَقْتُلُونَ فِيهِمْ وَيَأْسِرُونَ، وَقُتِلَ الْأَمِيرُ الْكَبِيرُ مَالِكُ بْنُ شَبِيبٍ وَانْكَسَرَ الْمُسْلِمُونَ، وَانْطَلَقُوا إِلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ الْخَرَابِ فَتَحَصَّنُوا بِهَا، وَأَصْبَحَ لِيُونُ فَوَقَفَ عَلَى مَكَانِ الْمَعْرَكَةِ، فَإِذَا الْبَطَّالُ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَقَالَ لَهُ لِيُونُ مَا هَذَا يَا أَبَا يَحْيَى؟ فَقَالَ: هَكَذَا تُقْتَلُ الْأَبْطَالُ. فَاسْتَدْعَى لِيُونُ بِالْأَطِبَّاءِ لِيُدَاوُوهُ فَإِذَا جِرَاحُهُ قَدْ نَفَذَتْ إِلَى مَقَاتِلِهِ، فَقَالَ لَهُ لِيُونُ: هَلْ مِنْ حَاجَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَأْمُرُ مَنْ مَعَكَ مِنْ
أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَلُوا غَسْلِيَ وَالصَّلَاةَ عَلَيَّ وَدَفْنِي. فَفَعَلَ، وَأَطْلَقَ لِأَجْلِ ذَلِكَ أُولَئِكَ الْأُسَارَى، وَانْطَلَقَ لِيُونُ إِلَى أُولَئِكَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ تَحَصَّنُوا فَحَاصَرَهُمْ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الْبُرُدُ بِقُدُومِ سُلَيْمَانَ بْنِ هِشَامٍ فِي الْجُيُوشِ الْإِسْلَامِيَّةِ، فَفَرَّ لِيُونُ فِي جَيْشِهِ رَاجِعًا إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، قَبَّحَهُ اللَّهُ.
قَالَ خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: كَانَتْ وَفَاةُ الْبَطَّالِ وَمَقْتَلُهُ بِأَرْضِ الرُّومِ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ.
وَقَالَ أَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ: قُتِلَ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ. قُلْتُ: وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ، وَأَنَّهُ قُتِلَ هُوَ وَالْأَمِيرُ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ بُخْتٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَةٍ، كَمَا ذَكَرْنَا ذَلِكَ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَكِنَّ ابْنَ جَرِيرٍ لَمْ يُؤَرِّخْ وَفَاتَهُ إِلَّا فِي هَذِهِ السَّنَةِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قُلْتُ: فَهَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ الْبَطَّالِ مَعَ تَقَصِّيهِ لِلْأَخْبَارِ وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَا يَذْكُرُهُ الْعَامَّةُ عَنِ الْبَطَّالِ مِنَ السِّيرَةِ الْمَنْسُوبَةِ إِلَى دَلْهَمَةَ، وَالْبَطَّالِ، وَالْأَمِيرِ عَبْدِ الْوَهَّابِ، وَالْقَاضِي عُقَبَةَ فَكَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ، وَوَضْعٌ بَارِدٌ، وَجَهْلٌ كَبِيرٌ، وَتَخْبِيطٌ فَاحِشٌ، لَا يَرُوجُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى غَبِيٍّ أَوْ جَاهِلٍ رَدِيٍّ، كَمَا يَرُوجُ عَلَيْهِمْ سِيرَةُ عَنْتَرَةَ الْعَبْسِيِّ الْمَكْذُوبَةُ، وَكَذَلِكَ سِيرَةُ الْبَكْرِيِّ، وَالدَّنَفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْكَذِبُ الْمُفْتَعَلُ فِي سِيرَةِ الْبَكْرِيِّ أَشَدُّ إِثْمًا وَأَعْظَمُ