الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عِيَالِي يَتَمَرَّغُونَ فِي الذَّهَبِ وَالْحَرِيرِ فِيهَا، وَقَدْ وَصَلَ إِلَيْهِمْ مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَكِتَابٌ فِيهِ تَمْلِيكُ الدَّارِ بِمَا فِيهَا، وَبِقَرْيَتَيْنِ جَلِيلَتَيْنِ لَهُمْ، فَكُنْتُ مَعَ الْبَرَامِكَةِ فِي أَطْيَبِ عَيْشٍ، فَلَمَّا أُصِيبُوا أَخَذَ مِنِّي عَمْرُو بْنُ مَسْعَدَةَ الْقَرْيَتَيْنِ، وَأَلْزَمَنِي بِخَرَاجِهِمَا، فَكُلَّمَا لَحِقَتْنِي فَاقَةٌ قَصَدْتُ دَوْرَهُمْ وَقُبُورَهُمْ فَبَكَيْتُ عَلَيْهِمْ. فَأَمَرَ الْمَأْمُونُ بِرَدِّ الْقَرْيَتَيْنِ عَلَيْهِ وَخَرَاجِهِمَا. فَبَكَى الشَّيْخُ بُكَاءً شَدِيدًا، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: أَلَمْ أَسْتَأْنِفْ بِكَ جَمِيلًا؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ هُوَ مِنْ بَرَكَةِ الْبَرَامِكَةِ. فَقَالَ الْمَأْمُونُ: امْضِ مُصَاحَبًا فَإِنَّ الْوَفَاءَ مُبَارَكٌ، وَحُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ.
[وَمِمَّنْ تُوُفِّيَ فِيهَا مِنَ الْأَعْيَانِ]
الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ،
أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، أَحَدُ أَئِمَّةِ الْعُبَّادِ، وَعَلَمُ الزُّهَّادِ، وَوَاحِدُ الْعُلَمَاءِ الْأَوْلِيَاءِ، وُلِدَ بِخُرَاسَانَ بِكَوْرَةِ أَبِيوَرْدَ، وَقَدِمَ الْكُوفَةَ وَهُوَ كَبِيرٌ، فَسَمِعَ الْأَعْمَشَ، وَمَنْصُورَ بْنَ الْمُعْتَمِرِ وَعَطَاءَ بْنَ السَّائِبِ، وَحُصَيْنَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَغَيْرَهُمْ، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى مَكَّةَ فَتَعَبَّدَ بِهَا، وَكَانَ حَسَنَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، كَثِيرَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، وَكَانَ سَيِّدًا كَبِيرَ الشَّأْنِ، ثِقَةً مِنْ أَئِمَّةِ الرِّوَايَةِ، رحمه الله، وَرَضِيَ عَنْهُ، وَلَهُ مَعَ الرَّشِيدِ قِصَّةُ مَوْعِظَتِهِ لَهُ، وَقَدْ رُوِّينَا ذَلِكَ
مُطَوَّلًا فِي كَيْفِيَّةِ دُخُولِ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ مَنْزِلَهُ، وَمَا قَالَ لَهُ الْفُضَيْلُ، وَعَرْضِ الرَّشِيدِ عَلَيْهِ الْمَالَ، فَأَبَى ذَلِكَ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ شَيْئًا، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ بِمَكَّةَ فِي هَذَا الْعَامِ، فِي الْمُحَرَّمِ مِنْهُ.
وَذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ شَاطِرًا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَكَانَ يَتَعَشَّقُ جَارِيَةً، فَبَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ لَيْلَةٍ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهَا جِدَارًا إِذْ سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] . فَقَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. وَأَقْلَعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ، وَرَجَعَ إِلَى خَرِبَةٍ، فَبَاتَ بِهَا فَسَمِعَ سِفَارًا يَقُولُونَ: إِنَّ فُضَيْلًا أَمَامَكُمْ يَقْطَعُ الطَّرِيقَ. فَأَمَّنَهُمْ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَوْبَتِهِ، حَتَّى كَانَ مِنْهُ مَا كَانَ مِنَ السِّيَادَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزَّهَادَةِ، ثُمَّ صَارَ عَلَمًا يُقْتَدَى بِهِ وَيُهْتَدَى بِكَلَامِهِ وَفِعَالِهِ، رحمه الله. قَالَ الْفُضَيْلُ: لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا حَلَالٌ لَا أُحَاسَبُ بِهَا، لَكُنْتُ أَتَقَذَّرُهَا كَمَا يَتَقَذَّرُ أَحَدُكُمُ الْجِيفَةَ إِذَا مَرَّ بِهَا أَنْ تُصِيبُ ثَوْبَهُ.
وَقَالَ: الْعَمَلُ لِأَجْلِ النَّاسِ شِرْكٌ، وَتَرْكُ الْعَمَلِ لِأَجْلِ النَّاسِ رِيَاءٌ، وَالْإِخْلَاصُ أَنْ يُعَافِيَكَ اللَّهُ مِنْهُمَا.
وَقَالَ لَهُ الرَّشِيدُ يَوْمًا: مَا أَزْهَدَكَ! فَقَالَ: أَنْتَ أَزْهَدُ مِنِّي ; لِأَنِّي زَهِدْتُ فِي الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَأَنْتَ زَهِدْتَ فِي الْآخِرَةِ الْبَاقِيَةِ.
وَمِنْ كَلَامِهِ: لَوْ أَنَّ لِي دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً لَدَعَوْتُ بِهَا لِإِمَامِ عَامَّةٍ ; فَإِنَّهُ إِذَا صَلَحَ أَمِنَتِ الْبِلَادُ وَالْعِبَادُ.
وَقَالَ: إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ فَأَعْرِفُ ذَلِكَ فِي خُلِقِ حِمَارِي وَخَادِمِي.
وَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] . قَالَ: يَعْنِي أَخْلَصَهُ وَأَصْوَبَهُ ;إِنَّ الْعَمَلَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ خَالِصًا لِلَّهِ، وَصَوَابًا عَلَى مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَفِيهَا تُوُفِّيَ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، وَعَبْدُ السَّلَامِ بْنُ حَرْبٍ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ
مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، وَعَبْدُ الْعَزِيزِ الْعَمِّيُّ، وَعَلِيُّ بْنُ عِيسَى الْأَمِيرُ بِبِلَادِ الرُّومِ مَعَ الْقَاسِمِ ابْنِ الرَّشِيدِ فِي الصَّائِفَةِ، وَمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، وَأَبُو شُعَيْبٍ الْبَرَاثِيُّ الزَّاهِدُ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ سَكَنَ بَرَاثَا فِي كُوخٍ لَهُ يَتَعَبَّدُ فِيهِ، فَهَوِيَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ الرُّؤَسَاءِ، فَانْخَلَعَتْ مِمَّا كَانَتْ فِيهِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالْحِشْمَةِ، وَتَزَوَّجَتْهُ وَأَقَامَتْ مَعَهُ يَتَعَبَّدَانِ فِي ذَلِكَ الْكُوخِ حَتَّى مَاتَا، رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَيُقَالُ إِنَّ اسْمَهَا جَوْهَرَةُ.